المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
د. نبيل فاروق يكتب : نسيم الحرية
السلام عليكم
رمضان كريم
و عودة لنا لمقالات الدكتور نبيل
فـــــــــــــــــي
الد. نبيل فاروق يكتب :
نســــــــــيم الحرية
************************
منذ وعت عيناي، وأنا أسعى، بكل ما استطعت من جهد؛ لتنسم نسيم الحرية..
حاربت من أجل هذا كثيراً وطويلاً في حداثتي، وعانيت من أجل هذا كثيراً وطويلاً أيضاً..
كانت المشكلة هي أن نسيم الحرية عليل..
ولكنه عسير..
فكل من حولي كان لديهم مفهوم خاطئ للحرية..
مفهوم يقتصر على حريتهم..
وحريتهم وحدهم..
ومن منظوري، كنت أرى الحرية شاملة، كاملة، لا تصلح لأن تكون منقوصة، بأي حال من الأحوال، وإلا فهي تصبح أي شيء آخر.. سوى الحرية..
فالحرية ليست أبداً حريتي..
إنها حرية الجميع..
أنا حر في أن أؤمن بما أشاء، وأعتنق ما أشاء، وأن أؤمن أكثر بحرية من يخالفني، في أن يؤمن بما يشاء، ويعتنق ما يشاء، وينادى بما يشاء..
الحرية كانت، وستظل دوماً في نظري، هي الحرية الشاملة..
حرية الفكر..
والرأي..
والرؤية..
والعقيدة..
ومن يتابع كتاباتي، منذ رزقني الله بقلم في يدي، وعيون تقرأ ما أكتبه، ورؤوس تسعى لاستيعابه، سيجد أنني كنت وسأظل دوماً، منادياً بالحرية، محارباً من أجلها، محتملاً كل نتائجها، راضياً بأي ثمن أدفعه في سبيلها..
في بداية إصدارات سلسلة "كوكتيل 2000"، حاولت أن أرسم صورة لمفهوم الحرية، عن طريق نشر الرسائل، التي ترد إلىَّ، في باب "عزيزي القارئ..." بها..
ومراجعة سريعة، ستثبت أنني حرصت أشد الحرص، على نشر الرسائل التي تهاجمني، وربما أكثر من الرسائل التي تمتدحني..
ولم أهاجم من هاجموني..
أو أحجر على آرائهم..
أو أحذف كلماتهم..
أو حتى حرف واحد منها..
كنت فقط أبعد بكل الكلمات، التي يمكن أن تؤذي المشاعر العامة، أو تتجاوز حدود الأخلاقيات، وحتى في هذه الحالة، كنت أترك مكانها قوسين فارغين، وعدة نقاط؛ للإشارة إلى أنها كانت موجودة..
فهذه هي الحرية كما أراها..
كل إنسان حر..
كل إنسان من حقه أن يقبل أو يرفض..
فهذا حقه..
وهذه حريته..
مرة واحدة فقط، اضطررت للرد؛ ليس لأن الرسالة حملت اتهاماً لي، ولكن لأنها حملت اتهاما وإساءة للوطن..
لـ (مصر)..
اضطررت للرد؛ لأن الأمر تجاوز حقي الشخصي، إلى حق الوطن، الذي أتنسم هواه، وأحيا على ترابه، وأستظل بعَلَمه..
في تلك الحالة، لم يكن من حقي أن أصمت..
أو حتى أن أحتمل..
وحتى في هذا، التزمت التهذيب في الرد؛ لأنه من أهم قواعد الحرية، ألا تنهال بالطعنات على من يخالفك الرأي..
ولكن النفس البشرية أمَّارة بالسوء..
أن تثور على من يخالفك، فهذا هو ما تدفعك إليه نفسك، وأن تحترم خلافك معه، فهذا ما تدعوك إليه حضارتك..
وثقافتك..
وحريتك..
فنسيم الحرية، كما سبق وأن قلت نسيم عليل..
ولكنه عسير..
نسيم الحرية عليل جميل، لمن يعرف كيف يتنفسه، وعسير ثقيل، لمن يرفض أن يعايشه..
وكما تقول الحكمة الأثيرة: "على الباغي تدور الدوائر"..
فإما أن تؤمن بالحرية، وتتعامل بها، أو سيأتي يوم، تنتزع فيه حريتك، فلا تملك استردادها أو استرجاعها..
أما أن تتعامل بها، أو لا يعاملك الآخرون بها..
وكما يقول رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلَّم: "أفعل ما شئت؛ فكما تدين تدان" صدق رسول الله..
وكل ينال ما يسعى إليه..
تسعى للحرية، فتنال الحرية..
وتسعى للديكتاتورية، فتنال القمع والطغيان والذل..
ولكل أوانه..
المسألة إذن أكبر بكثير مما يتصوَّر البعض، وتنسُّم نسيم الحرية، ليس أمراً سهلاً أو بسيطاً، فهو يحتاج إلى حكمة، وتبصُّر، وتروٍّ..
يحتاج إلى هدوء النفس..
وعفة اللسان..
ورجاحة العقل
لذا فستجد العديدين يطالبون بالحرية، ويصرخون لنيلها، وهم أبعد من يكونون عنها، وعن مفرداتها..
وستجد الكثيرين يطالبون بالديمقراطية، بأسلوب غاية في الديكتاتورية..
وغاية في التعسف..
وغاية في التجاوز..
قديماً قالوا: الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية..
وطوال الوقت تسمع من يردّد هذا..
وقليل جداً، أن تجد من ينفذه، على أرض الواقع..
فإننا حرمنا من الحرية والديمقراطية، لستة عقود كاملة من الزمن، لم نعد ندري أو نعرف كيف نمارسهما، لو أننا حصلنا عليهما بالفعل..
ففي مجتمعاتنا، صار الخلاف في الرأي مفسداً لكل ود، وكل قضية..
وهنا تكمن المأساة..
ولكن التاريخ علّمنا الكثير في هذا الشأن، وعلمنا أن الحرية دوماً لها ثمن، فعبره لقي الآلاف تعسفات كبيرة، بلغت حد القتل، لمجرد أنهم نادوا بحرية حقيقية..
آلاف دفعوا الثمن من أرزاقهم، وحياتهم، وأرواحهم..
فشجرة الحرية، مثلها مثل أية شجرة أخرى، لا بد أن تُروى..
وهي، بخلاف أية شجرة أخرى، لا تروى بالماء..
بل بالدم..
ترويها دوماً دماء من قاتلوا وحاربوا من أجلها..
ومن طالبوا بها، في أزمنة غلب عليها الغضب والانفعال..
وهذا ما جعلها تنمو، وتترعرع، وتتمايل؛ ليهبّ علينا منها أجمل نسيم في الوجود..
نسيم الحرية..
قاتلت طيلة عمري لأتنسمه، وسأظل أقاتل ما بقي لي من عمر، حتى يتنسمه كل فرد آخر في الدنيا..
وبالذات من عارضوني وخالفوني..
هذا لأن الحرية مثل الماء والهواء، لا يصح أن يتمتع بهما شخص واحد، ولا أن تتمتع بهما فئة واحدة..
لا بد وأن نحيا جميعاً في ذلك النسيم الجميل العليل..
نسيم الحرية.
|