كيـف نتـذوق اللـوحـة؟
إلى متى تستمر حيرة المشاهد أمام بعض اللوحات التشكيلية؟ ومتى يمكن لمن يستطيع تذوق الشعر والقصة والمسرح
والسينما أن يتفاعل مع الفن التشكيلي،، الذي أصبحت بعض معروضاته في السنوات الأخيرة لغزاً محيراً؟
في زحمة المدارس الفنية التشكيلية المتعددة، وتنوع أساليبها، وتضارب أفكارها ورؤاها، بحثاً عن الجديد في عالم
الفن وسحره، وسعياً حثيثاً وراء اللوحة الفنية المثال، ومع تحلل كثير من روّاد هذه المدارس من الأصول والقواعد
العلمية والأكاديمية التي كانت سائدة وهجرهم لعلم التشريح، وإهمالهم لعلم المنظور، وتحطيمهم لعلمي الجمال واللون،،
بحجة التحلل من القيود، والعودة إلى ينابيع العواطف الفطرية والطفولية والتلقائية، اندس في هذا الزحام الفني الهائل
عدد كبير من أدعياء الفن التشكيلي ومنتحليه. مستفيدين من هذا التحلل وهذا الإنفلات إلى أقصى الدرجات. وبدأنا نشاهد
عدداً كبيراً من المعارض والعارضين حتى فاق عدد المشاهدين والمتذوقين، وبدت الحيرة تظهر على وجوه أغلب زوار
هذه المعارض. والضياع يلفهم، وأسئلة شتى تنفر من أفواههم
ما هذه اللوحة؟ إني لم أستطع أن أفهمها, أين الجمال فيها؟
أين الإبداع؟ أين المضمون؟ ماذا تعني لنا؟ وماذا تقدم لنا نحن جماهير المشاهدين والمتذوقين؟
في زحمة هذه التساؤلات والاستفسارات، وجدت أنه من المفيد وضع بعض الخطوط العريضة للدخول إلى عمق اللوحة
التشكيلية والتعايش معها وتذوقها إن أمكن. وتحقيق ذلك يتطلب توافر عنصرين:
الأول: الفنان التشكيلي الذي يمتلك موهبة الإبداع والخلق والابتكار والمسلّح بالوعي والإدراك لما يبدع، والذي
شحذ موهبته وصقلها بالدراسة والإطلاع على تجارب الآخرين وثقافاتهم، والقادر في نهاية المطاف على خلق اللوحة
الفنية التشكيلية. لأننا لا نستطيع أن نصف كل مَن تصدى لملء فراغ أو مسطح أبيض بالخطوط والأشكال والألوان فناناً.
كما لا نستطيع أن نصف كل قطعة عُلّقت على جدار أو في صالة عرض لوحة فنية تشكيلية.
والثاني: المتذوق والمتلقي لهذه اللوحة الفنية التشكيلية والذي يُفترض فيه أن يكون مهتماً بالفنون الجميلة متابعآً
لمسيرتها مسلّحاً بأرضية ثقافية معينة تؤهله للدخول إلى عوالم اللوحة الفنية، ومستعداً للتحاور معها. لأننا لا نستطيع أن
نصف كل مشاهد أو عابر سبيل أراد أن يزجي وقت فراغه في صالة عرض ذوّاقاً أو متذوّقاً. حتى ولو كان من حملة
الشهادات الجامعية العليا. لأن تذوق اللوحة الفنية يحتاج إلى تربية معينة وتدريب مستمر وثقافة متنامية وليس مجرد متعة وتسلية.
إذن .. عندما يتوافر الفنان التشكيلي المبدع القادر على خلق لوحة فنية بما فيها من عناصر ومقومات اللوحة الفنية،، ويتوافر
المشاهد الذوّاقة المهتم بهذه اللوحة والمؤهل للتحاور معها،، يمكن الدخول إلى عوالم هذه اللوحة.
ماهية اللوحة الفنية
اللوحة الفنية التشكيلية -اصطلاحاً- هي كل مساحة مسطحة رسمت فيها يد الفنان خطوطاً وأشكالاً وسكبت فيها روحه
وعواطفه ألواناً وضمنّها عقله قيماً وأفكاراً وأهدافاً. تتحدث مع المتذوقين بلغة العيون والأبصار. مترجمة لهم أحاسيس
الفنان ومشاعره ورؤاه في فترة زمنية معينة. فهي نتاج عمل عقلي وعاطفي مشترك ومتماسك. كل منهما محرّض للآخر
ومكمل له في حركة كروية دؤوبة. فهي ليست نتاج عمل عاطفي بحت، ولا نتاج عمل عقلاني بحت.. لأن الفن عصارة
عمل حضاري. والحضارة لا تقوم بالعاطفة وحدها، ولا بالعقل وحده. بل هي نتاج انصهار الإثنين معاً في بوتقة الإنسان
المبدع الخلاّق.
مقومات اللوحة
لكل لوحة فنية تشكيلية أيّاً كان انتماؤها المدرسي،، شكل ومضمون.
أولا: الشكل في اللوحة الفنية التشكيلية:
يتكون الشكل في أي لوحة تشكيلية من مجموعة مفردات وعناصر متكاملة ومترابطة،، هي:
أ- مساحة فارغة محاطة بإطار عام يحدد شكلها الخارجي أبعادها ونسبها.
ب - مجموعة الخطوط المتعانقة والمتشابكة والمتقاطعة المرسومة في هذا الفراغ.
جـ - مجموعة الأشكال والتكوينات التي تخلقها هذه الخطوط والفراغات المحيطة بها.
د - مجموعة الألوان المفروشة على سطح هذا الفراغ.
هذه بشكل عام عناصر الشكل في اللوحة الفنية التشكيلية أيّاً كانت المدرسة التي تنتمي إليها. ما عدا بعض الأعمال
التي حاول بعض الفنانين إضافة مواد جديدة عليها مأخوذة من الورق أو القماش أو سطوح جذوع بعض الأشجار أو
النباتات المجففة أو الحشرات المصبرة. ولصقها على سطح اللوحة وهي ما تسمى بطريقة القص واللصق (الكولاّج)..
يعتبر اختيار هذه العناصر بشكل دقيق ومدروس وواع واتقان توظيفها بما يخدم مضمون اللوحة، أهم ركيزة في بناء
اللوحة الفنية التشكيلية وخلقها. لأن لكل عنصر من هذه العناصر المتقدمة وظيفته الجمالية والتعبيرية والعلمية والرمزية.
وكلما أدرك المتذوق ذلك واستوعبه وتشرّبه تبدّت له جماليات هذه اللوحة وروعتها. أو تبدّى له قبحها ورداءتها وانحطاط مستواها.
أ- المساحة الفارغة والشكل الخارجي العام:
لكل لوحة نسبها وأبعادها وشكلها الخارجي العام. فمنها المستطيلة والمربعة والمستديرة، ومنها الكبيرة والصغيرة،
ولكل شكل من هذه الأشكال الموضوع الذي يناسبه ويتلاءم معه. وعلى سبيل المثال،، إن اللوحات التي تعبّر عن
الطبيعة الخلوية البحرية تختلف نسبها وأبعادها عن اللوحات التي تمثل الطبيعة الصامتة أو تلك التي تعبّر عن الصور
الشخصية (البورتريه) أو تلك التي تعبّر عن الملاحم والبطولة. وكلما استشعر المتذوق الانسجام التام والتوافق
بين المفردات والصيغ المرسومة داخل هذا الفراغ والمساحة الإجمالية لهذا الفراغ، شعر بالمتعة والألفة لما يشاهد.
والع** صحيح،، وهذا يتطلب التدريب المستمر للعين بإعتبارها الحاسّة التي نرتشف بواسطتها الملامح الجمالية
للأشكال المرئية. سعياً للارتقاء بعملية التذوق، وعلى سبيل المثال أيضاً: يستطيع المشاهد الذوّاقة أن يحكم من النظرة
الأولى على أثاث غرفة بأنه غير منسجم مع مساحة هذه الغرفة وفراغها -رغم فخامة هذا الأثاث وجماله- في حين ينبهر
مشاهد آخر بفخامة هذا الأثاث وجماله دون أن يفطن إلى عدم انسجامه مع مساحة الغرفة وفراغها لافتقار هذا المشاهد إلى العين المدرّبة وحس التذوق العام.
ب - مجموعة الخطوط المتعانقة والمتقاطعة والمتوازية المرسومة داخل هذا الفراغ:
لكل خط من الخطوط دلالاته وإيحاءاته وقيمه الجمالية والتعبيرية: فالخط المن**ر يوحي بالحدّة والصرامة والقسوة
والشدة. بينما يوحي الخط المنحني بالليونة والطراوة والوداعة والمرونة. والخط المستقيم يوحي بالرسوخ والثبات
والاستقرار والاستقامة. بينما يوحي الخط الحلزوني بالحركة والإنعتاق والإتساع والتسامي والحرية. وكلما أدرك
المتذوق هذه الدلالات والإيحاءات والقيم الجمالية والتعبيرية لتلك الخطوط كان أكثر قرباً من اللوحة وأكثر قدرة على
الدخول إلى عوالمها. وعلى سبيل المثال،، تبدو الزهور أكثر جمالاً وفتنة عندما نؤطرها بالخطوط اللينة بينما تبدو
الصخور أكثر صلابة وقسوة وشدة عندما نحيطها بالخطوط
والمشاهد الذوّاقة هو الذي يحاول التحاور مع مفردات اللوحة وعناصرها ويلاحظ مدى الانسجام والتوافق بين خطوطها
وأشكالها وألوانها وموضوعها -ليصل إلى حالة من حالات النشوة والانبهار.
جـ - مجموعة الأشكال والتكوينات التي تخلقها هذه الخطوط والفراغات المحيطة بها:
يحاول كل فنان تشكيلي أن يوظف الخطوط والفراغات المحيطة بها ليخلق منها أشكالاً هندسية أو نباتية أو حيوانية
أو آدمية أو طبيعية أو تجريدية أو مزيجاً من بعض هذا وذاك، أو من كل هذا وذاك. ليصل بالنتيجة إلى مجموعة من
التكوينات المعمارية والبنائية الموزعة في أرجاء اللوحة وكل فنان تشكيلي مهما كان انتماؤه المدرسي يحاول جاهداً
المحافظة على التوازن في توزيع هذه التكوينات المعمارية والبنائية في أرجاء اللوحة. فلا تكون كثيفة جداً في زاوية
من زوايا اللوحة، بينما تخلو بقية أرجاء اللوحة منها. ولا يبعثرها في أرجاء اللوحة كيفما اتفق. بل يحاول أيضاً الربط
بين هذه التكوينات المعمارية بشكل فني ومدروس لتبدو لعين المشاهد كتلة واحدة يشد بعضها بعضاً. كما يحاول أن
يخلق من هذا التوزيع نوعاً من أنواع الإيقاع الحركي الذي يأسر عين المشاهد ويجعلها تنتقل من شكل لآخر بلهفة
وشوق ونشوة. دون أن يتطرق إليها السأم والملل. مبتعداً ما أمكن عن التناظر والتماثل. الذي يفقد العمل الفني بهجته وسحره
المتذوق المتابع لتطوّر الفنون الجميلة عبر مسيرتها الطويلة وما طرأ عليها من إضافات وإبداعات، وقفزات يستطيع
بحسّه السليم وعينه المدرّبة، إدراك المضامين الجمالية والتعبيرية والفكرية التي حاول الفنان تجسيدها في اللوحة
وارتشافها وتذوّقها.
وعلى سبيل المثال،، يستطيع المستمع الذوّاقة -صاحب الأذن المدرّبة- إدراك عبقرية العازف المبدع وهو ينتقل من
نغم إلى نغم، ومن مقام إلى آخر بسلامة وعذوبة وبراعة منتشياً معه محلقاً في عوالم الموسيقى. حتى ولو لم يكن هذا
المستمع يجيد العزف أو قراءة النوتة الموسيقية.
وكما أننا نستطيع تدريب الأذن على السماع والإرتقاء بها من النغم البسيط ذي الرتم الواحد إلى الأنغام والألحان
المعقدة والمتداخلة وصولاً إلى السوناتة والسمفونية. كذلك يستطيع المشاهد الذوّاقة تدريب عينه على مشاهدة
اللوحات الحديثة واكتشاف مواضع الجمال والإبداع فيها -إن وجدت- عن طريق المواظبة على حضور المعارض
الفنية التشيكلية والإحتكاك المستمر بالفنانين ومحاورتهم والاطلاع على الجديد في عالم الكتب الفنية.
د - مجموعة الألوان المفروشة على سطح هذا الفراغ:
الألوان: عالم غني، ساحر، واسع، فسيح الأرجاء، ثرّ الدلالات،،، عظيم القدرة التعبيرية منها المنسجم المتناغم،
ومنها المتنافر المتباين،، منها الحار، ومنها البارد.. منها ذو الشخصية القوية الطاغية، ومنها الحيادي الهادئ الوادع.
ولكل منها رمزه ودلالته وقوته التعبيرية،، فالأبيض: رمز النقاء والطهر والعفاف والبراءة. والأحمر رمز الثورة
والعنف والدم والحرارة والعواطف الجيّاشة. والأخضر رمز الخصب والغنى والأمل والسعادة. والأصفر: رمز
المرض والكراهية والحقد والنبل والنور... إلخ.
والضوء هو مصدر الألوان،، توجد بوجوده وتختفي باختفائه. ولذا فقد انبهر الانطباعيون بالضوء خاصة بعد
انتشار نظرية العالم اسحاق نيوتن حول تحليل ضوء الشمس واكتشاف ألوان الطيف، وبلغ عشقهم له حدّاً كبيراً
لدرجة أن روّادهم صاغوا معظم أعمالهم الفنية على شكل رعشات ضوئية لونية متناثرة في أرجاء اللوحة. وحدا
الاعجاب بالضوء بعضهم على تصوير الموضوع الواحد عدة مرات وفي فترات مختلفة من النهار، لإظهار اختلاف
الرعشات اللونية والضوئية بين فترة وأخرى ومدى تأثيرها على أحاسيس الفنان ومشاعره وعواطفه ورؤاه.
والإنسان مذ وجد على سطح هذا الكوكب مفتون بالألوان تسحره وتستهويه. ولذا كان يلجأ إلى تزيين وجهه وجسده
بها، ثم تطور فأخذ يزيّن ملابسه وأسلحته وأثاث منزله ومنزله بها.
ومازالت نساء هذا العصر يلجأن إلى مساحيق الألوان لتبديل ألوان بشراتهن وشعورهن وأظفارهن وملابسهن بقصد
إضفاء الجمال والفتنة عليهن. ولا نكاد نرى شيئاً في هذا العالم يخلو من عنصر اللون، ولذا فإن لعنصر اللون الدور
الأكبر في بناء اللوحة الفنية التشكيلية لما يحمله من شحنات نفسية وقيم جمالية وقدرة تعبيرية ورمزية وتأثير مباشر
على بصر المشاهد المتلقي ونفسه ووجدانه. والمتلقي الذوّاقة يحتاج إلى تدريب عينيه على كل ذلك وتثقيف نفسه بكل
جديد حول الألوان وما تتضمنه من قيم.. ومن الناس مَن يعتقد أن هناك ألواناً جميلة وأخرى غير جميلة. والحقيقة بخلاف
ذلك، فكل الألوان جميلة وممتعة عندما توضع في الأماكن المناسبة لها. وكلها تبدو غير جميلة عندما توضع في غير ذلك
وعلى سبيل المثال: اللون الأسود جميل جداً على العباءة السوداء والشعر الأسود والعينين الحوراوين، ولكنه قبيح جداً
عندما نطلي داخل غرفة الجلوس باللون الأسود. أو نطلي مبنى كاملا باللون الأسود. دون أن نحرّك هذا اللون ونخفف
من عتمته وكآبته بألوان أخرى أكثر زهواً. والمشاهد المواظب على زيارة المتاحف ومعارض الفنون الجميلة يستطيع
أن يرتقي بذوقه صعوداً حتى يصل إلى حالة من حالات النشوة والمتعة في ارتشاف الألوان وتذوّقها.
وعلى سبيل المثال أيضاً: يميل الإنسان الريفي دائماً إلى الألوان البكر القوية الصارخة الطاغية كالأحمر القاني
والأصفر الفاقع والأخضر الزمردي والأزرق النيلي، لإرتباط ذلك بمشاعره البكر الجيّاشة العارمة التي لم تهذبها
يد المدنية. بينما يميل الإنسان الحضري إلى الألوان الهادئة الممزوجة والمطفية والم**ورة كالأبيض الحليبي والسكري
والسمني والبيج والعسلي والرمادي، ولو نقل ابن الريف إلى المدينة ليعيش فيها لتدرج بذوقه وتذوقه من الألوان البكر
الطاغية إلى الألوان الهادئة المطفية. ولا أريد أن يُفهم من هذا المثال أن الألوان الهادئة المطفية أكثر جمالاً أو رقيّاً من
الألوان البكر القوية لأن الألوان كلها جميلة ورائعة عندما توضع في أماكنها المناسبة وتوظف التوظيف الصحيح -كما
أسلفت- ولكني أردت أن أعطي مثالاً عن كيفية التدرج والارتقاء في ارتشاف الألوان وتذوّقها، من خلال المخالطة
والمعاشرة والدراسة والثقافة، وزيارة المعارض الفنية والاحتكاك بالفنانين، والاطلاع على كل جديد في عالم الفنون
الجميلة.... وهنا تحضرني حادثة الشاعر العربي البدوي الذي حضر إلى أحد الخلفاء مادحاً فقال له:
أنت كال*** في حفاظك للود .... وكالتيس في قراع الخطوب
**إلخ القصيدة.
فعرف الخليفة -بعقله الراجح وحسّه السليم- أن الشاعر لم يرَ خيراً من ال*** مثالاً للوفاء في باديته ومحيطه. ولم يرَ
أشجع من التيس في الصراع ومقارعة الخصوم. في تلك البيئة الجرداء القاحلة وأنه استخدم هذه العبارات الخشنة
الجافة لشدة ملازمته لأهل البادية وبعده عن أهل الحضر،،، فأمر له بدار حسنة ومتاع و**اء. وأمر بعضاً من حاشيته
أن يتعهده بالرعاية والعناية ومخالطة أهل الحضر ومجالستهم ومحاورتهم ليتأثر بهم ويأخذ عنهم ويقتبس من ألفاظهم
وعباراتهم وأحاديثهم في التعبير. حتى إذا ما مضت مدة من الزمن استدعاه الخليفة مجدداً لينشده فحضر وقال:
عيون المها بين الرصافة والجسر .... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري.
فتعجب الخليفة من رقة شعره ولطافته وعذوبة ألفاظه فقال: خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة.. وعلى الرغم من أن
هذه الحادثة تنسب إلى الشاعر العربي العباسي علي بن الجهم، وإلى الخليفة العباسي المتوكل،، وعلى الرغم من شكّنا
في صحة هذا النسب لأن الشاعر العربي علي بن الجهم لم يكن بدويا قط، بل عاش في أحضان المدينة ما بين مدن خراسان
وبغداد متقلّباً في بيوتات السلطة والسلطان،، ولكننا أوردنا هذه الحادثة كشاهد على تأثير البيئة والمحيط على عملية الذوق
والتذوق لدى الفنان والمتلقي على السواء. وأنه على المهتم بالفنون الجميلة الساعي إلى تذوّقها والتمتع بها أن يواظب على
زيارة المتاحف والمعارض وأن يحتك بالفنانين والعارضين والنقاد يحادثهم ويحاورهم وأن يطلّع على كل جديد في عالم
الثقافة الفنية لتتكون لديه ملكة التذوق الفني ليصل في نهاية المطاف إلى متعة تذوق اللوحة الفنية التشكيلية. بغض النظر
عن صحة هذه الحادثة، أو صحة نسبها. ولكي لا يظل المشاهد المتلقي سلبياً وهامشياً في عملية تذوق اللوحة الفنية.
ثـانيـاً: المضـمـون في الـلـوحـة الفنية التشكيلية...
المضمون هو: تلك الأفكار والرؤى والعواطف التي تحاصر الفنان وتعشش في مخيلته ودخيلته زمناً. حتى تضطره
لتفريغها وسكبها على سطح اللوحة الفنية. محاولاً التعبير عنها بوساطة عناصر الشكل التي تقدم ذكرها. وهي نتاج
لثقافة الفنان وعقائده وعاداته وتقاليده ورؤاه في الحياة والمجتمع والطبيعة. فقد يكون مضمون اللوحة محاولة للتعبير
عن المرأة أو الحب أو السلام أو الحرب، أو الجمال أو الطبيعة،، إلخ.. ويمكننا القول: إن الأفكار والرؤى والعواطف
التي يسعى الفنانون للتعبير عنها وتجسيدها لا حصر لها. ولكن يستحسن هنا أن نذكر أنه ليس كل ما يجول بخاطر الفنان
من أفكار ورؤى وعقائد يمكن التعبير عنها بوساطة اللوحة الفنية التشكيلية. لأن لهذه اللوحة مساحة تعبيرية محدودة
ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتعبير عن القيم الجمالية البصرية. ولذا اندرج اسمها في فئة الفنون الجميلة كالنحت والعمارة
والزخرفة، أما بقية الأفكار والعواطف الأخرى التي تعجز اللوحة التشكيلية عن التعبير عنها يلجأ الفنانون إلى التعبير
عنها بوساطة أنماط أخرى من الفن, كالموسيقى والشعر والمسرح والقصة والرواية والسينما،،، إلخ..
فاللوحة الفنية التشكيلية أقدر على التعبير عن جماليات الألوان والخطوط والأشكال والفراغات لأنها قيم جمالية صوتية
مسموعة ولأن اللوحة الفنية التشكيلية ترتشف بوساطة العين بينما القطعة الفنية الموسيقية ترتشف بوساطة الأذن
وهكذا لكل لون من ألوان الفنون وسيلة ارتشافه والتواصل معه، وقدرته التعبيرية... ولذا فالفنان التشكيلي المبدع
هو الذي يحسن اختيار المواضيع والمضامين التي يمكنه التعبير عنها بوساطة اللوحة الفنية التشكيلية. وما تملكه
من عناصر ومقومات وقدرات تعبيرية.
والمتلقي المهتم الساعي إلى تذوّق اللوحة الفنية التشكيلية هو الذي يستطيع أن يرتقي بذوقه رويداً رويداً ليصل في نهاية
المطاف إلى الحالة التي تمكّنه من معرفة وإدراك مدى الانسجام والتوافق بين الشكل والمضمون في اللوحة الفنية التشكيلية.
ومثل هذه الحالة لا تأتي عفواً بل تحتاج إلى الاحتكاك الدائم بالمعارض والعارضين والاطلاع الدائم على الجديد في عوالم
الثقافة الفنية --->كما أسلفت .
وأخيراً،، يمكننا القول: إن اختيار أسمى المواضيع وأنبل العناوين والمضامين محوراً للوحة الفنية التشكيلية لا يرفع
من شأنها فنياً -إن كانت هابطة من حيث الشكل- في حين نجد كثيراً من اللوحات الفنية المتكاملة شكلاً، دون أن يكون
لها أيّ مضمون فكري أو عقائدي. ومع هذا، تظل لوحة فنـية آسرة ومدهشة. لأن عناصر الشكل في اللوحة الفـنية
التشكيلية تظل أهـم من المضـمون كثـيراً في بنائها، ولكن حين يزاوج الفنان المبدع بين الاثنين معاً فـي بناء اللوحة
التشكيلية بشكل متوازن ومتلائم ومبدع وخلاّق، نكون قد وصـلنا إلى اللوحة الفنية التشـكيلية المثالية