المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
الفراشات والغيلان عز الدين جلاوجي
[frame="1 80"]هذه ثاني مشاركة لي ....واتمنى ان تنال اعجابكم.......
****الفراشات والغيلان****
عز الدين جلاوجي*******
فاتحة
أيتها الشمس المهربة من عيون النخيل...
من شرايين العراجين...
في حقائب القراصنة اللئام...
إلى مدائن الضباب والظلام...
ها قد عادت حمحمات الخيول...
في أرضنا المكابرة...
أرض الرجال السمر...
أرض الكرام...
فانتظرينا يا شمسنا...
نحررك من قيد الأفول...
من غرب الزنادقة الطغام...
فلا إشراق لك إلا في عيون النخيل...
في شرايين العراجين...
في أفقنا الذي لا يضام...
-1-
أجري... أتعثر... أنـهض... أعدو... أتعثر... تنـهش الحجارة زبدة ركبتي... نباح جنود يلسع قلبي الصغير خوفا... أغمض عيني أو أكاد... تغرق مقلتي في نـهر من الدموع.
أجري... أتعثر... أسيج لعبتي الصغيرة بذراعي النحيلتين... أضمها إلى صدري.
أجري... أتعثر... تبكي ركبتاي دما... يحاصرني نباح الجنود... يغتال الهواءَ من حولي... أحس بالاختناق... تزداد دقات قلبي... يكاد يطير مني... يكاد ينفجر.
خطوات وألج البيت... تطول المسافة... يبْعُدُ الباب كبعد القمر... أرجوك اقترب... أرجوك انفتح... إنـهم خلفي تكاد أشداقهم تلتهمني… أحس أنيابـهم تنغرز في لحمي الطري... لحم ساقيَّ وإليتيَّ.
تمتد القهقهات عالية تلسع قلبي المرتجف كسوط إقطاعي جبار... تلتف حول ساقي تشلهما عن الحركة تماما... أتعثر... أنـهض … أضم لعبتي إلى صدري... أغرسها تجاويف القلب النابض.
أقاوم... أتحدى... أعدو بسرعة أشد... تستمر قهقهات الكلاب أصيح ملء فمي:
- مـا..مـ..ا.. مـ..ا.. مـا. . مـ...ا. .
يقهقه الكلاب... مازالوا يعدون خلفي... أياديـهم تمتد تمسكني من رقبتي... لا مازالت بعيدة عني لن يصلوا إلي... سألج الباب قبلهم... سأغلقه خلفهم... سأضع عليـه كل ما في بيتنا من متاع ثقيل... خزائن... طاولات... أسرة... سيتصدى لهم أبي... سيقتلهم... يقتلهم جميعا.
أعدو... ألهث... تنقطع أنفاسي... يجف ريقي... أمد ذراعي اليمنى إلى أقصى نقطة... شبر واحد يفصلني عن الباب تفزعني قهقهاتـهم... صرخاتـهم... وقع أقدامهم الغليظة.
لن ألتفت خلفي... سألج الباب بسرعة، ثم أغلقه بسرعة ولن يمسكوا بي... أمفتوح هو أم مغلق؟ أفي البيت أهلي أم غادروا؟ وإلى أين؟ هل يمكن أن تكون الكلاب قد افترستـهم قبلي؟
يضعضع الرعب أركان جسدي المتـهاوية... تصطك ركبتاي... أشد لعبتي إلى صدري لن يخطفها الكلاب مني... لن يدوسوا عليـها بأقدامهم الغليظة… لن يأخذوها لأطفالهم.
تفتح أمي الباب على مصراعيـه... يتوهج النور... يتسلل إلى شغاف القلب... يغتال عنـه الخوف...
تخطفني من العتبة...
تضمني إلى صدرها كالبرق...
تسقط لعبتي إلى الأرض تتدحرج بعيدا... بعيدا...
أصـــرخ.
يقترب نباح الجنود وقهقهاتـهم... وقع أقدامهم يزلزل تحتنا الأرض... يكاد يدك البيت فوق رؤوسنا...
أصـــرخ.
-لعبتي أمي... أرجوك... لعبتي... لعبتي.
أجهد نفسي لأتملص منـها … لابد أن أنقذ لعبتي... لن يدوسوها بأقدامهم الخشنة... بحوافرهم البغيلة... لن يبتزوها مني.
ورميت بنفسي على الأرض... تدلت يداي وجذعي كله... لكن أمي بقيت تمسك وسطي بقوة... أوصدت الباب خلفها... غلَّقه أبي... وابتلعتنا أحضان البيت...
رعب يستولي على الجميع... رعب لم أره في عيون أفراد أسرتي من قبل أبدا... عيونـهم تدور في محاجرها تكاد تنفجر… ينبعث منـها بريق منكسر... متخاذل... حائر.
يصلون... يشرعون في التـهام الباب... يغتال الخوف الجميع فيركنون إلى زوايا الحجرة... يشرنق الهلع أمي... تبتلعنا في حضنـها أنا وأختي الصغيرة عائشة ذات العام ونصف العام.
كنت أجهش بالبكاء ولاشيء بقي في نفسي إلا لعبتي، ماذا فعلوا بـها؟ هل اغتنموها...؟ استولوا عليـها كما يستولي اللص على ممتلكات غيره...؟ هل داسوها بأقدامهم فمزقوها... فشتتوا أجزاءها؟ وخلتـها تصرخ فيَّ... تناديني... تستغيث بي...
أتململ في مكاني أحاول أن أتملص من الحصار الرهيب القوي الذي فرضتـه علي والدتي... لم تكن تريدني أن أبكي، ولا أن أجهش، ولا أن أنطق بكلمة واحدة... فقط يجب أن ألزم الصمت.
ولم أكن أدري ما الذي وقع؟ ماذا فعلت حتى يعدو خلـفي هؤلاء؟ ماذا فعلت أسرتي؟ لماذا يـهاجمون منزلنا؟
لماذا تخاف أسرتي وتستسلم بـهذا الشكل؟ وبـهذه الطريقة؟ لماذا لم يخرج أبي لمواجهتـهم وقد كان دائما يظهر أمامي بمظهر الرجل الشجاع الذي لا يخاف؟
الآن يجب أن استفسر عن الأمر...
يجب أن أجلو الحقيقة الغامضة...
سألت بصوت خافت:
- أمي...
ردت بصوت خافت أيضا
- اسكت إنـها الغيلان... الغيلان ستلتـهمنا جميعا... فقط يجب أن تسكت لكي لا تتفطن إلينا.
قطعت أختي الصغيرة أنفاسها في الوقت الذي كنت أسمع دقات قلبـها الصغير بوضوح.
لزمت أنا الصمت أيضا نزولا عن رغبة أمي وخوفا من هاتـه الغيلان... هل هذه هي التي كانت تخوفنا بها جدتي ليلا كلما أمعنا في إثارة غضبها؟
لقد صدقت أمي... لقد رأيتهم... إنهم مزيج من بشر وكلاب وخنازير... طوال عراض يحملون قطعا حديدية تلمع... يلبسون أحذية ثقيلة... مخالب أياديـهم طويلة حادة... مناخيرهم مدببة... آذانـهم ممتدة إلى الأعلى أصواتـهم نباح وتكشير.
التهمت الغيلان بمخالبها نصف الباب، وبدأت الزمجرات تصل آذاننا بوضوح.
ضغطت أمي على فمي بيدها المرتجفة... هممت أن أسألها عن أمر خطر بذهني ثم صرفت بالي عن ذلك ومددت يدي فأحطت يد أختي الصغيرة، ولزمت الصمت...
الصمت وحده سيد الموقف...
الصمت وحده سبيل النجاة... طريق النجاح.
ومن تحت إبط والدتي كنت أرقب الأحداث كلها... كل ما يدور في الحجرة... مازالت العيون تدور في محاجرها خوفا... ومازال الهلع فرسا محمحما يعدو جموحا فوق وجوه الجميع... كانت جدتي العجوز متكورة في الزاوية الأخرى وعن يمينـها ابنتـها الصغرى عمتي فاطمة، وعن شمالها ابنتـها المعوقة، أقصد عمتي ذات الخامسة والعشرين ربيعا، وقد اصفر وجهها فذهبت حمرتـه تماما... وذهبت إشراقتـه الفاتنة... لقد غطته سحب داكنة سوداء.
وكانت أمي تُكبر هذا الحسن في عمتي المعوقة فتقعدها أمامها الزمن الطويل لتنجب مثلها... وما أكثر ما كانت تمازحنا قائلة !
- لا تخافوا إذا انقطعت الكهرباء... عمتكم شمس تبدد كل ظلام مهما اشتدت حلكتـه.
لكن عمتي للأسف الشديد كانت عمياء بكماء... وما أشد الجمال في عينيـها وما أشده في فمها... !!
كانت عيناها بحريتين هادئتين صافيتين...
وكان فمها زهرة أقحوان...
الله! ما أعظمك وما أقدرك !
لم يركن أبى كما ركنا، ولم يـهرب رغم إصرار أمي في أن يفتح كوة في السقف ويفر من الجهة الأخرى لأنـها كانت تعتقد أنه المستهدف، لكنـه رفض ذلك بشدة.
ليس رجلا من يسلم أهله للأعداء وينجو بنفسه، فإن أرادوا قتلنا فسيكون أول من يموت.
هكذا قال أبي وراح يسند الباب بكل ما وجده أمامه... الخزانة... السرير الصغير... الكراسي... وحتى الثياب... وكان يصيح بأعلى صوتـه حتى يكاد يبح.
- إننا أبرياء... لم نفعل شيئا... ماذا تريدون منا؟ ماذا تطلبون؟
والتهموا الجزء الباقي وامتدت مخالبهم تدفع ما كوم خلفه... وامتدت أرجلهم تلجه بسرعة.
ضغطت أمي على فمي بقوة أشد وهي تقول:
- ضيعتكم يا أولادي... ضيعتكم، رحماك يارب، رحماك
وأحسستها تضغطنا حتى تكاد تدخلنا صدرها... وسمعت عمتي تجهش مذعورة تقول لجدتي:
- من هؤلاء الوحوش أمي؟ ماذا يريدون؟ لماذا كسروا الباب؟ ماذا فعلنا؟
وفجأة اندفعت جدتي النحيفة وقد كاد المرض يهدها تردهم عن أبي وقد اجتمعوا عليه كالطيور الجارحة، وعاجلوا جدتي بضربة قوية على خدها الأيمن فأسقطوها أرضا دون حراك.
وهمَّ والدي أن يوقفها من سقطتها فأفرغ فيه أحدهم وابلا من رصاص تقيأتـه حديدتـه اللماعة الطويلة، وملأ الحجرة وميض شديد.
تـهاوى أبي جثة هامدة فوق جدتي وانفجر الدم من جسده يرسم على وجه الأرضية خطوطا حمراء... وفي الوقت الذي ارتفعت قهقهات الغيلان... ارتفع عويل عمتي ذات العشرين عاما... تكورت عمتي البكماء المكفوفة... أما أمي فقد سمعتها تنتحب بشدة، وراحت تشدنا إليـها بقوة، وتشدد قبضتـها في هستيرية على فمينا...
لم تكن تريدنا أن ننطق... لم تكن تريد الغيلان أن تتفطن إلينا... ستقتلها هي وحدها وينتهي أمرها كما انتهى أمر أبي، ولكن المهم عندها أن ننجو نحن.
ومد أحدهم يده إلى رجل جدتي العجوز، وكانت قد فطنت فراحت تئن أنات متقطعة، فحملها كما يحمل النسر فريسته، دار بها عدة مرات ثم أطلق سراحها ليرتطم رأسها بالجدار، ويتهشم، وتتطاير منه بعض الأجزاء، ويتراذذ منها مخها ودمها هنا وهناك.
ارتفع تصفيقهم مهللين لفعلة صديقهم... ولمحنا أحدهم متكومين في ركن الحجرة كأننا متاع بال مهمل، فأشار إلى زميله بطرفه... تقدم زميله نحونا في الوقت الذي أشهر هو فوهة موته... ركل أمي... جذبها، لم تتحرك من مكانها كأنما شدت إليه بمسامير... شحذ رشاشه وأفرغ نارا كاوية في ظهر أمي حتى تقيأت فوقنا، لكن يديها مازالتا تشدان بقوة على فمي وفم أختي الصغيرة ذات العام والنصف... سمعت عمتي تصيح وقد التصقت بأختـها المكفوفة التي كانت تلزم الصمت المطبق، ولم أعد أرى شيئا، لقد غطاني الدم... غطى وجهي... رأسي... جسدي... وتسرب حتى بين شفتي... وداخل ثيابي كان الدم ينزف من فم والدتي، ومن أنفها ومن جراحاتها بقوة كأنه نهر يتدفق ماء معدنيا.
دوى الرصاص وسمعت عمتي البكماء تصيح... أدركت أنـهم قتلوا عمتي الصغرى.
خرجت الغيلان من بيتنا، لكن نباحها مازال يصلني ممزوجا بصيحات عمتي المذعورة المتألمة، وتمنيت لو كانت ناطقة مثلنا فأفهم ما تقول.
ولم أستطع أن أنهض من مكاني كان جسد أمي متهالكا ثقيلا على صدري رغم ارتخاء يدها عن فمي، وكان دمها الحار المتدفق ما يزال يغسل جسدي كله ويتسلل إلى البلاط من تحتي... ومازال الخوف يكبلني بقوة.
دوت في سمعي رصاصات اخترقت قلبي المترع بالخوف... ثم هدأ كل شيء... أصغيت السمع جيدا دون أن أخرج من الحضن الدافئ... لقد ذهبوا... لم يعد يصل سمعي شيء، لا نباحهم ولا تكشيراتهم، ولا دوي رشاشاتهم، ولا حتى صوت عمتي المذعورة المتألمة... قتلوها ربما... أو ربما أخذوها معهم... لست أدري.
وتدافعت من تحت والدتي حتى خرجت وقد احمرت كل ثيابي...
لاشيءَ في البيت...
جثث مبعثرة هنا وهناك...
اشتد ذعري...
يالهول الفاجعة!!
جدتي وقد تهشم رأسها... والدي وقد غطى الدم صدره... قريبا منه عمتي تتكئ جثتـها على الحائط وقد فغرت فاها وتسايل الدم من ثقب في جبهتها... أمي وقد تكومت في بركة كبيرة حمراء...
خضني دوار شديد... فجأة أجهشت ببكطاء مرعوب وقد راحت كل جوارحي تصطك...
شيئا فشيئا تماسكت... مددت يدي فسحبت أمي إلى جانب والدي… نظرت إلى السقف كان مثقوبا بالرصاص… وكذا كانت الجدران… داهمني موج من القشعريرة… فجأة هرعت إلى الباب… حين وضعت قدمي الصغيرة على عتبته تناهى إلى أذني أنين ضعيف ينبعث في الدار... اقشعر جلدي... أخرج أشواكا طويلة حادة... ارتعدت فرائصي... اصطكت ركبتاي... أسناني... ارتجفت أصابعي.
إنها أرواح الموتى... يا رب حفظك واندفعت خارجا... وتسمرت رجلاي حيث وصلت... كبَّلهما الشلل وشدهما إلى الأرض كأنما وقعت فريسة عنكبوت أسطوري عملاق..
مسحت العرق المتصبب على جبيني... استرجعت أنفاسي وتذكرت ماغاب عن بالي طول هذه المدة... تذكرت أختي الصغيرة... أماتت هي أيضا؟
حولت بصري ببطء تأملتها كانت ممددة حيث كانت، وقد تلونت كلية باللون الأحمر... لقد تجمد الدم على وجهها وشعرها الحريري وثيابـها الزاهية...
ماتت... ما الذي أزهق روحها الصغيرة البريئة!! ثقل أمي فوق جسدها الضعيف؟ ضغط اليد على فمها؟ تسلل الدم بغزارة إلى تضاريس وجهها؟ أم أصابتها رصاصة غادرة؟
ورجعت القهقرى عجلا ناسيا كل ما تملكني من ذعر، غير مبال ببرك الدم الذي بدأ يتجمد على أرضية الحجرة.
مددت إليـها يدين مذعورتين… مسحت وجهها بيدي… ثم بمنديل كان في جيبي… لقد أشرق وجهها... غدا شمس الأصيل تعصبـها سحابات حمراء.
لاحظت صدرها يعلو ويـهبط قليلا قليلا... كذَّبت عيني... حدقت جيدا لم أستطع أن أتأكد... وضعت يدي على أنفها إنها تتنفس تنفسا رقيقا يعْبُر أنفها داخلا خارجا... وضعت أذني على صدرها، جاءتني دقات قلبها البريء تعزف سنفونية الحياة بصعوبة.
حملتها بين ذراعي، الحمد لله أن لم تكن بدينة وإلا تركتها حيث هي تلفظ أنفاسها الأخيرة.
لفتت انتباهي محفظتي ملقاة على الأرض، ترددت قليلا ثم حملتها بيدي الأخرى.
شدتني أمي إليها شدا قويا... ما أعظمك أيتها الأم!! سامحيني إن أخطأت يوما في حقك… إن تجاوزت حدي في الشقاوة معك… لم أكن أدرك أبدا أن الأمومة عظيمة إلى هذا الحد الكبير… لم أكن أدرك أبدا أن الأمومة يمكن أن تسعد بالموت لتـهب أولادها الحياة...
لن أنساك أيا أمنا...
ستعيشين دوما في قلبي الصغير...
في قلبي الذي سيكبر...
يكبــر...
يكبـــر...
وأين سيكبر؟ لقد هدَّ الغيلان العش الدافئ…
هدوا أسرتي…
اغتالتها سهام الغدر اللعينة...
إلى أين سنلجأ؟ من يضمنا إلى حضنه؟ من يرضعنا حنانا كنا نرضعه هنا
وفررت من سبحاتي، لا بد أن أخرج... لا بد أن أغادر، لعل الغيلان ستعود، واندفعت عند الباب... اجتزت العتبة... خطوة واحدة وتسمرت رجلاي مرة أخرى، لم أقو على الحركة، وضعت أختي جانبا، وقد بدأت تستعيد وعيها... جثوت على ركبتي... مددت يدي... حملت أشلاء لعبتي، كانت محطمة قطعا صغيرة... حاولت جمعها من هنا وهناك، لم أستطع... لقد تطايرت أجزاءها كأنما سقطت فوقها قنبلة ففجرتـها تفجيرا.
وتسمرت عيناي على المشهد المريع...
ياللفضاعة! يالهول الفاجعة!!
ياللجريمة النكراء!!
ماذا فعلت عمتي المسكينة حتى يفعلوا بها هذا؟!!
كانت عارية تماما... مُـدّدت على ظهرها والدم القاني ينزف بطيئا بين نهديها وتحت سرتها... ويتسلل مضمخا وجه بساط الحشيش الأخضر.
وأسرعت نحوها... نزعت معطفي وغطيتها… غطيت جزء منها... ثم جمعت بعض ثيابها الممزقة المرماة هنا وهناك فوضعتها فوقها كانت أحب إلي من كل أفراد أسرتي... وكانت تحبنا أكثر من نفسها... تلبي رغباتنا مهما كانت مستحيلة... وتمنع عنا غضب والدينا... وتدخلنا حضنـها حين ننام ليلا.
انتبـهت إلى نفسي... خطفتُ أختي عائشة من الأرض، وضعتـها فوق ظهري، كان بكاؤها قد تحول من النحيب والنشيج إلى الصياح... لم تكن تدرك المسكينة الخطر المحدق بنا... حاولت إسكاتـها لم أفلح... ودعت عمتي آخر مرة بنظرة فيـها دموع... وودعتني بتوهج احمرار بشرتـها المشرقة كالشمس، وانطلقت على غير هدى.
كان منزلنا على سفح الجبل بالضبط، منعزلا عن منازل القرية... لم يكن بعيدا جدا عنـها إن هي إلا مسافة دقائق قطعتـها هرولة تطاردني المأساة التي خلفتـها في بيتي، لابد أن أخبر السكان بما جرى... لابد أن أطلعهم على الحقيقة المرة... ألهذا الحد يغيب عنـهم الحدث؟ أتشغلهم أمور الدنيا فلا يفطنون إلى مجزرة وقعت في وضح النـهار؟
ورنوت ببصري إلى منارة المسجد، لا شك أن الناس قد بدأوا يتجمعون هناك... الآن وقت صلاة الظهر... سأصيح فيهم جميعا فإذا انتبهوا أخبرتهم... لا بل سأخبر الشيخ الإمام وهو بدوره سيخبر الجميع.
وبدرت مني التفاتة إلى الأرض... ما هذا المزروع على تضاريس وجهها؟ ياالله إني أخطو فوق جثث الأموات... عشرات هنا وهناك... مقطوعو الرؤوس... مقصوصو الأيدي... مثقوبو الصدور والبطون... أطفال فوق نساء... ونساء فوق عجائز، جثث تهالك بعضها فوق بعض.
تملكني الرعب… دق قلبي بسرعة عجيبة … وضعت أختي جانبا وقد علا بكاؤها ونواحها وجلست حيث أنا… لم أكن أطيق نطقا... لم أكن أجرؤ على أن أخطو خطوة واحدة.
ما ذنب هؤلاء؟ ماذا فعلوا؟ من هؤلاء الذين قتلوهم؟ لماذا لم يدافعوا عن أنفسهم؟ متى وقع كل هذا البلاء؟
اقتربت مني عائشة مرعوبة باكية، غرست رأسها في صدري، لقد هالها ماكانت ترى... ضممتها إلى صدري مهدئا، ورحت أتجول بعيني بين الجثث... مناظر مريعة... مشاهد مرعبة... كانت النيران تلتـهم معظم المنازل والأشجار، وكان الأثاث مكوما بالقرب مني يحترق بأناة.
تركت أختي حيث هي غير مبال بإصرارها على أن أبقى معها، ولا بيديها اللتين امتدتا تمسكان بي، لقد دفعني الفضول إلى أن أتأمل كومة الأثاث... سرت خائفا ارتجف... اقتربت منها لفحتني النار، وملأ منخري الدخان، فتراجعت القهقرى.
أمام عتبة باب المسجد الذي مازال يحترق كانت تتمدد جثة الإمام في عباءته البيضاء، وقد أحرقوا لحيته الحمراء، وسلخوا جزء من جلد رأسه.
لم أتحمل المنظر المفزع... بدرت مني صرخة رددتـها منازل القرية وجنبات المسجد ثم ذهبتْ أدراج الرياح.
وضعت كفيَّ الصغيرين على عيني فزعا، وتراجعت إلى الوراء فاتكأت على جدار المسجد باكيا.
امتدت إلي يد... أمسكت ثيابي... اقشعر بدني... صرخت... فتحت عيني... كانت أختي قد لحقت بي وعلى محياها ملامح الألم والفزع... لم يبق لها في الوجود صدر حنون تلجأ إليـه وتحتمي بـه إلا أنا.
جلست على الأرض... وضعتها في حضني... قبلت خدها المتورد... أشارت إلي أنها تريد ماء... ثم أشارت إلى ألم بفخذها الأيمن... فحصتها... ياإلهي لقد أصابتها رصاصة طائشة والدم مازال ينزف منها... عاينت الجرح بدقة، كان الدم ينزف ببطء شديد لم يكن الجرح عميقا بل كان سطحيا جدا.
أخرجت منديلي لففت لها الجرح وهي تتألم... دخلت الجامع... جئتـها بشيء من ماء... شربتْ وشربتُ... وانطلقنا لابد أن أرحل عن هذه القرية، ليس من اللائق أن أبقى أطول مما بقيت، سيكون هذا المكان محج الوحوش المفترسة... ولعل الغيلان ستعود لمهمة أخرى، وإذا وقعتُ في قبضة أحد الفريقين فلن تكون عاقبتي ولا عاقبة أختي حسنة.
حملت أختي وانطلقت أتخطى الجثث التي بدأت تتناقص كلما تركت القرية خلفي... دخلت دربا متعرجا بين الأشجار التي كانت تنتشر مشرعة أذرعها للسماء كأنما متصوفة يتضرعون إلى الله.
راحت رجلاي الصغيرتان تتسابقان، لم أكن أعرف إلى أين أسير... ولا إلى أين أتجه... ذهني كان خاليا من كل شيء المهم أن الدرب مازال يمتد أمامي كالحلم، وهأنذا أصر إصرارا قويا على مواصلة السير فوقه.
عند واد صغير أحسست من بعيد حركة غير عادية... حركة شخص خلف الأشجار... أو لعله صوت حيوان مفترس أو أليف، لست أدري... خففت من سرعتي خوفا ورحت أرقب الجهة بدقة... فاجأني صوت من خلف الأعشاب الملتفة كأنما هو صوت مكروب وجد فجأة من ينقذه من خطبـه الجسيم:
ـ محمد... محمد... نجوت من الذبح؟
عرفتـه من صوتـه إنـه عثمان تربي وصديقي في المدرسة.
عجبت أنني لم أشاهده في القرية... أنجا وحده... أم نجا معه بعض أفراد عائلتـه وبعض سكان القرية؟
حين رأيته عاد إلي شيء من الأمل، وأحسست كأن جسمي الذي كان متضعضعا قد بدأ يجتمع ويلتم.
وحدثني عثمان عن كل شيء، كان بيتـهم وسط القرية بالضبط، وقد رأى بعينيـه كل ما وقع بالتفصيل.
حدثني كيف بدأ الهجوم المباغت على السكان العزل... وكيف وجدوا معظم الرجال مجتمعين في الساحة العامة قرب المسجد... وكيف ساقوا النساء والأطفال ونزلوا فيهم تذبيحا وخنقا وحرقا... وكيف صبوا على عشرات منهم البنزين، وأحرقوهم بعد أن كبلوهم بالأسلاك.
لم يفزعني هذا كثيرا لأني كنت قد رأيت آثاره واضحة جدا للعيان، لكن الذي ذبح فيَّ ما تبقى من شجاعتي وتماسكي حكايتـه عن أختـه الصغيرة ذات العام الواحد، حين عمد أحدهم فحملها من سريرها، وضرب رأسها بخنجره فأطاره ثم حملها من رجلها كما يحمل الصياد الأرنب بالضبط.
- بـها.. بـها.. ماذا..سـ..يفعلون؟
سألت... وأسناني تصطك... وبدني يرتجف... وجبيني يتفصد عرقا... فجاءت جملي مبعثرة... وحاول أن يرد لكن الخوف ألجمه وأفحمه.
كنت أتـأمله يجهد نفسه كيف ينطـق دون جدوى… احمر وجهه... انتفخت أوداجه... وانفجر باكيا وهو يدفن رأسه في صدري فيكاد يسقطني
وفهمت ماذا يفعلون بها... وما سيفعلون بها؟؟ سيأكلونها طبعا... هؤلاء الوحوش يأكلون لحوم البشر إذن؟ هؤلاء هم الغيلان الذين كانت جدتي تحدثني عنـهم دائما.
أمسكته من يده أجره خلفي وقد بدأت أختي عائشة تتثاقل فوق ظهري، وتثقل كاهلي، قلت لعثمان :
- لا أحد يمكنه أن يرد... الغيلان وحدها تستطيع أن تحقق ماتريد... تدخل إلى أي مكان تريد... وتتحدى كل مخلوق... وتتشكل في كل الصور والأشكال.
ورد علي وفي كلامه كثير من السخرية:
- عن أي غيلان تتحدث يامحمد؟ لقد رأيتهم رأى العين … كنت مختبئا في حديقة منزلنا ورأيتهم بوضوح... كانوا بشرا مثلنا تماما... إنهم الصرب يامحمد... الصرب الذين يكرهوننا... الصرب الذين عملوا قرونا على مسخنا و تدجيننا فلما عجزوا هاهم ينكلون بنا... آخر وسيلة بقيت لهم هي ترهيبنا ثم تشريدنا...
وفهمت عندئذ الأمر... هل يمكن للإنسان أن يصل إلى هذه الدرجة من الوحشية فيقتل أخاه، بمجرد أنه يختلف معه في لغة أو دين أو جنس...؟؟؟
وما كان يلقنـه لنا معلمنا في المدرسة من الفضائل الإنسانية التي يجب أن تتميز بـها... ألم يكن يقول لنا: أن الإنسان أخو الإنسان مهما اختلف معه؟ ألم يقل لنا أن الاختلاف رحمة؟ فكيف صار في لحظة نقمة وهلاكا ودمارا؟
وأين معلمي الوسيم صاحب الابتسامة العذبة التي كان يلقانا بـها عند كل صباح وعشية؟ هل قتلوه أيضا؟ هل نكلوا بـه كما نكلوا بكل سكان القرية؟ وهل يمكن أن تضيع معه كل تلك القيم والمبادئ؟
ومد عثمان يده وهو يحس أنني بدأت أتعب فأخذ عني أختي التي سرقها النوم من الواقع حولها... وضعها فوق كتفه كما كنت أحملها، وانطلقنا بسرعة.
كنا نخطف أرجلنا عن الأرض خطفا ونتلفت للوراء... وذات اليمين وذات الشمال في كل لحظة... كنا نحس كأن الغيلان ينهبون الأرض خلفنا نهبا، وإن لحقوا بنا فسيكون مصيرنا كمصير أهلنا وذوينا...
وقصصت على عثمان قصة أسرتي كاملة، منذ مطاردتي وأنا أحلم مع لعبتي عند المنحدر، إلى أن خطفتني والدتي عند عتبة الباب... وكيف فجروا رأس جدتي فانفجر وتراذذت عظامه ومخه... وكيف أردوا والدي صريعا وهو يدفع عنا عدوانهم... وحين وجدت عمتي الخرساء عارية والدم يطبع قبلاتـه ما بين نهديها وتحت سرتها.
وتراءت لي الغيلان ذات أشكال غريبة... أذان طويلة... وعيون كثيرة... مناخير... خراطيم... مخالب... ذيول... وأشعار.
ونظرت خلفي حيث القرية بدأت تغيب بناياتـها بين الأشجار العالية... قزعات بيضاء كانت تحوم في صفحة السماء، ومازال الدخان يلف القرية وقد اشتد سوادا وكثافة، ومنارة الجامع وحدها مازالت تقف شامخة وسط المأساة.
سألني عثمان حائرا:
- إلى أين ستذهب يا محمد؟ إننا نسعى على غير هدى لقد ضيعت كل أهلي وأقاربي ليس لي من أعرفه خارج قريتي... ولا أحد يمكن أن يأويني أو يقوم على أمري.
- لا تحمل هما نحن نسعى إلى هذه القرية التي تراها أمامك... فيـها خالتي وستكون لنا حضنا دافئا... إنـها تشبـه أمي في كل شيء.
ولاحظت أن الدم مازال ينزف من فخذ أختي، وأن المنديل قد احمر تماما وذهب بياضه، فأنزلتها من فوق ظهر عثمان... لابد أن أجدد لها الضمادة... مددتها أرضا... قطعت كم قميصي ولففت لها الجرح، ثم انطلقنا سريعا.
على مشارف القرية التقانا جمع من الناس... رجال ونساء وجدناهم متجمهرين كانوا بانتظارنا، وما إن رأونا حتى هرعوا نحونا وفي عيونـهم تتراقص آلاف الأسئلة.
حمل زوج خالتي أختي عائشة، واندفعت خالتي تضمني إلى صدرها تمسح رأسي الذي تجمد الدم فوقه، ثم ارتعشت باكية، وهي تقول، والكلمات تتزاحم عند شاطئ فمها:
- محمد ولدي العزيز... أخبرني أسرع أخبرني أين أمك؟ أين أمك؟
وأُلجمت عن الكلام، لقد أصبت بالخرس... لم أقو إلا على النحيب الشديد... اندلقت دلاء عيني... انفجرت أبكي بشدة كأنني بركان انكتم ثم انفجر يدفع حممه الملتـهبة... لم أبك من قبل... مذ بدأت المجرزة لم أبك... أين كانت هذه الدموع؟ هل جبنت هي أيضا عن المواجهة؟ هل كانت تخشى أن تغتال أيضا؟
والتصقت في خالتي لا أريد أن أبرحها... طوقت رقبتـها بذراعي الصغيرتين لم أكن أريد كلاما... لم أكن أريد أن أنطق ولا أن أسمع...
أريد فقط أن أبكي.
أدركت خالتي أن ورائي فاجعة... فأبعدتني عنها ملحة على السؤال عن أمي فقط دون غيرها.
- أخبرني أين أمك؟ هل تركتـها بخير؟
وأنقذني عثمان من الحرج الكبير الذي وضعتني فيـه خالتي، ماذا سأقول لها؟ كيف أنقل إليـها الكارثة؟
- قتلوهم جميعا.
هكذا نطقها عثمان مبتورة... مختصرة... مضغوطة...
- جميعا؟ من تقصد؟
هكذا علق زوج خالتي وهو يوجه نظره إلى عثمان الذي رد بمرارة شديدة
- كلَّ سكان القرية لم ينج أحد إلا أنا ومحمد وعائشة الصغيرة.
وفتح الجميع أفواههم مندهشين، وراح بعضهم يردد.
- يا للوحشية !!يا للوحشية!!
وعلق شيخ عبث الشيب بلحيته وتراخت أعصابه فارتعشت يداه.
-لقد تنبأت بـهذا منذ سنوات طويلة فلم تصدقوني… إنـهم أعداؤنا... بل أعداء البشرية قاطبة، كل مصائب الإنسانية جاءت منهم... إنهم وحوش بلا قلب ولا رحمة... التاريخ يحدثنا عن ذلك... والتاريخ يعيد نفسه... والتاريخ أصدق القائلين... والله...
وقاطعتـه خالتي متأففة ضجرة من خطبته التي لا محل لها.
- صحيح يا محمد ما قال رفيقك؟
لم تكن خالتي لتصدق ما وقع... هكذا في لحظات عابرة تقفر قرية عامرة... هكذا في لحظات يفترس الموت كل حي... هكذا في لحظات يسدل الستار... وينتـهي كل شيء.
كانت أسئلة الجمع الغفير تتزاحم على أذني صديقي عثمان.
-كم كان عددهم؟ متى قدموا؟ ماذا كانوا يحملون؟
وألحت خالتي مرة ثانية علي في سؤالها، فقصصت عليها الحكاية من أولها إلى آخرها.
وارتفع عويل خالتي، وارتمت أرضا تضمني إليها، وتقبلني بهستيرية وجنون.
انتزعني منها الرجال ودفعوها أمامهم عائدين، وكالفرس الجموح تملصت من بين أيديهم، واندفعت إلى قريتنا تحصد الدرب فيستسلم أمام خطواتها.
ولحق بها بعضهم فأعادوها جرا، وهي تصرخ وتصيح، وقد تبعثر شعرها واغبر وجهها وتَرِبَت ثيابها
وعاد الجميع إلى القرية في موكب جنائزي صامت إلا من عويل خالتي وصراخها، والرجال يجرونها من يديها جرا عنيفا
دخلنا بيت خالتي، وبدأ سكان القرية يتوافدون… يتطلعون إلى الحقيقة… امتلأت الحجرات وكذا الفناء... وارتفعت الجلبة، واختلطت الأحاديث... بعضهم يمطرنا بعشرات الأسئلة وينتظر الرد... بعضهم الآخر كان ينصت... تشرئب أعناقهم من بين أعناق من تقدمهم، أو من نافذة الحجرة التي حرمت ضوء الشمس الخافت.
وكان أكثرهم يتبادلون، الحديث في الفناء، ينخفض حينا ويتعالى حينا آخر حتى يكاد يغطي على حديثنا.
وكان الجميع يشترك في شيء واحد... شيء واحد كان القاسم المشترك... الفجيعة تستحم في المآقي... الحيرة تطل على شرفات العيون... حيرة مرعبة مخيفة.
كنت أرى وجوههم صفراء ممتقعه علاها الشحوب... وعيونهم تدور في محاجرها لامعة براقة.
وكأنما أحس الجميع أنهم قد استنفدوا كل شيء يريدون قوله... أو يسألون عنه فسكتوا دفعة واحدة، وتركزت نظراتهم على شيخ في الستين من عمره، يجلس بالقرب مني، قوي البنية مشرق الوجه، يلبس عباءة بيضاء، غزا الشيب معظم شعر لحيته، فزاد وسامة ملامحه وسامة، وزاده هيبة ووقارا.
وفهمت أنه إمام القرية لأن التقاليد عندنا تقتضي أن نرجع إليه جميعا في كل شيء، وفي كل حين... مواسمنا... أعيادنا... أفراحنا... أتراحنا.
وخاصة في الأوقات الحرجة، فهو أحكمنا، وأعلمنا، وأقدرنا على حل المعضلات.
وأحس الشيخ الإمام أن الجميع يريده أن يفصل ليخرجهم من حيرتـهم التي وقعوا فيـها
كانت خالتي تجلس بجانبي تحتضن عائشة الصغيرة نائمة في حجرها... وكنت أنا أسند رأسي على جنبها الأيمن، في حين كان صديقي عثمان يجلس عن يميني وعلى وجهه تشعبت الحيرة مخيفة.
تنحنح الشيخ ثم نطق وهو يشبك أصابعه وقد علت وجهه سحابة من الحزن الشديد... قرأ شيئا من القرآن الكريم لا أحفظه ولا أدرك معناه، ولكني أدركت حقيقتـه لأن الشيخ كان يقرأه بعناية ويرسله عذبا مجلجلا.
وذكر الشيخ أن هؤلاء الذين ماتوا هم في الجنة خالدين أحياء لأنـهم مظلومون.
ثم دعا سكان القرية إلى مرافقته حيث المجزرة لدفن الموتى والدعاء لهم، فهذا من أهم واجبات الأخ على أخيـه، واشترط أن لا يذهب النساء والأطفال.
وهب الناس ملبين النداء، واتكأ الشيخ على يديه يهم بالنهوض فأمسكته خالتي من عباءتـه تنتحب.
- أرجوك شيخنا إلا أنا يجب أن أذهب معكم... يجب أن أرافقكم... أريد أن أرى أختي... ابنة أمي وأبي، أريد أن أراها قبل أن توارى التراب... ليس لي غيرها يا شيخنا...
وضمها الشيخ إليـه وهو يقول:
- لا يا بنيتي العزيزة ليس من مصلحتك الذهاب… دورك الآن عظيم… الوفاء لأختك هو أن تحفظي ابنـها وابنتـها... وفي هذا خير كثير... ليس هناك أعظم عند الله من كفالة اليتيم والعناية بـه.
ولزمت خالتي الصمت، إنها لا تجرؤ على مناقشة الشيخ أكثر من ذلك... وانكفأت أنا على نفسي، لقد تغلغلت كلمة يتيم في قلبي خنجرا صدئا.
كان الرجال قد انصرفوا تماما... ولم يبق إلا حشد من النساء اللواتي أحطن بالشيخ يسألنـه... قالت إحداهن:
- ونحن ماعسانا نفعل؟ هل سنبقى هنا حتى يدهمنا الوحوش فيفعلوا بنا كما فعلوا بإخواننا؟
وردت أخرى كانت بجوارها.
- يجب أن نرحل، لن......
وقاطعها صوت شاب مازال وجهه أمرد
- بل يجب أن نقاوم... نموت جميعا ولا نترك أرضنا... نموت جميعا ولا نستسلم... هؤلاء لا يفهمون إلا لغة القوة.
وارتفع ضجيج الجميع... كل يدلي بدلوه وكل يبدي رأيـه... واختلطت الأصوات... ولم أعد أفهم شيئا.
وأسكتـهم الشيخ بإشارة من يده فتوقفوا جميعا دفعة واحدة.
- حين نعود من دفن شهدائنا سنقرر ما نفعل، عودوا إلى بيوتكم ساكنين.
واندفع الناس عائدين إلى بيوتـهم فيما لحق الشيخ بالرجال الذين كانوا يحملون الفؤوس والمعاول والمجرفات، واتجهوا جميعا عبر الدرب الملتوي إلى القرية الشهيدة.
ما إن ساد السكون والهدوء حتى أسرعت ابنة خالتي زينب فأخذتنا إلى غرفة الحمام واغتسلنا أنا وعثمان أولا... ثم عائشة ثانيا وبدلت ألبستنا جميعا.
ضمدت خالتي جرح عائشة بشيء من المراهم والضمادات، وأحضرت لنا طعاما فأكلنا واستسلمنا لنوم عميق... يجب أن نستريح... لقد تعبنا... لقد سرقت منا الفاجعة كل جهد.
-2-
وقع أقدام تقترب... ضجيج لا يكاد يفهم... غبش يغازل عيني المثقلتين تعبا... المتعبتين نعاسا... رؤوس تتراقص على ضوء مصباح خافت... تتداخل الرؤوس... تتدافع... تنزل... تعلو... تظهر... تختفي...
بدأت الرؤيا تتضح... راحت عضلات جفني تنسحب بقوة للأعلى... انفتحت نوافذ عيني على مصراعيهما... اتضحت الرؤيا.
لقد عادوا... هاهم أمامي يتدافعون والصمت سيد الموقف... هل أنجزوا المهمة؟ هل نجحوا فيما ذهبوا من أجله؟ أعادوا جميعا أم عاد بعضهم ومنع البعض الآخر؟ كانت مغامرة صعبة محفوفة بالمخاطر.
هذا الشيخ وقد شحب وجهه وتبرج التعب عليـه يفتح عينين محمرتين تدوران في حيرة شديدة، عن يمينه زوج خالتي وابنه خالد وحوله رجال... شباب وكهول لا أعرفهم، وإن كنت أعرف ملامح بعضهم إذ طالما زرت خالتي في المواسم والأعياد والعطل...
وطالما رأيت هذه الوجوه الجامحة كوجوه الخيل...
المتعالية كرؤوس السرو...
المكابرة كهذه الأرض...
المستعصية كهذه الجبال الشواهق الشوامخ...
البريئة كعيون الأطفال...
السمحة كلون الحمام الوديع...
ذلك الكهل المفتول العضلات هو الذي سلخ كبش العيد الأقرن في بيت خالتي المرة السابقة...
الأصلع صاحب النظارة بجواره معلم في مدرسة القرية والحكواتي الذي يجتمع إليه السكان كل مساء فيقص عليهم القصص الممتعة.
ودون أن أتحرك من مكاني... دون أن ألفت الأنظار إلي سألت نفسي... لماذا عاد الرجال بهذه السرعة؟ ماذا وقع؟ أنا متيقن أني لم أنم إلا دقائق قد لا تتجاوز النصف ساعة هل قدروا على دفن الموتى بهذه السرعة العجيبة؟ مستحيل...
هل هاجمهم جنود الصرب فعادوا أدراجهم؟ يمكن ذلك.
وسرت قشعريرة الخوف في جسدي كله فانكمشت تحت الغطاء وسحبتـه ليتجاوز رأسي...
لم تغادر الصورة الفضيعة ذاكرتي، كانت تظهر بوضوح أمام مخيلتي، حاولت جهدي أن أبعدها، وضعت كفي الصغيرين فوق عيني لكن دون جدوى... كان القلب يقظا... وعيناه مفتحتين.
هاهي أمي في بركة دمها الأحمر القاني...
وهاهي جدتي مهشمة الرأس...
وها والدي متهالك بالقرب من عمتي الأصغر...
وها هي عمتي الخرساء شمسا مغتالة فوق تراب الأرض وقد سال نجيعها المتألق...
وها هم الجنود ينبحون في أذني بقوة كأنهم كلاب مسعورة.
وكبح الشيخ جماح خيالي وهو يرد في أسى على سؤال خالتي التي ألحت في طرحه ربما للمرة العاشرة.
- لقد سبقنا أعداؤنا إلى هناك... حفروا حفرة عميقة بالحافرة وألقوا كل الجثث فيها ثم أهالوا عليها التراب ودكوها دكا... إنها مقابر جماعية... إنهم يطمسون آثار جرائمهم... يخفون معالم توحشهم.
هكذا يا بنيتي يفعل البشر حين يتجردون من إنسانيتـهم...
هكذا يفعلون حين يتجرأون على القيم... ويغتالون المبادئ...
هكذا يفعلون حين ينـهض وحش الأنانية في نفوسهم ويقتل صوت ضمائرهم.
لسنا الأُوَل يابنيتي ولن نكون الآخيرين... والنصر دوما يا بنيتي للشعوب الصامدة المكافحة الرافضة للذل... وليس ما وقع لإخواننا في البوسنة بالذي يخفى...
ها الزمان يمر...
وها التاريخ يلعن المتوحشين ويدين الكلاب المسعورة...
وها أبناء البوسنة لم تزدهم الجرائم إلا عزما وكبرياء…
لا تبك بنيتي هؤلاء الأبرياء الذي دفنوا في رحم الأرض... سينبتون زهورا للخير والحب والتسامح نواجه بـها غيلان الشر والأنانية.
كنت أسبح في عالم الملائكة... عالم الطهر والنقاء والمحبة... وأنا أسمع هذه الخطبة الطويلة.
وكانت خالتي المجروحة تجلس القرفصاء تنتحب قرب أختي الصغيرة المستغرقة في نوم عميق.
لم أر خالتي من قبل في الحالة التي رأيتها فيها الآن...لقد تلبد شعرها الحريري اللماع... واكفهر وجهها... وتشققت شفتاها... وزاغت عيناها المسيجتان بقضبان من اليأس والحزن العميق... العميق.
وضعت زينب صينية الشاي وسط الدار وملأت الكؤوس فأترعتها... قليلون مدوا أيديهم لارتشاف الشاي ساخنا... كثيرون كفوا أيديهم... ليس هناك شيء ألذ ولا أحلى وقد عصرت الفاجعة مرارتها في فم الجميع…
وأحسست أن كلامهم قد قلَّ... جمل يلقيـها الحاضرون هنا وهناك فتخرج متـهالكة متعبة تتأرجح على الشفاه الجافة اليابسة... الواقع أبلغ من الكلام وأشد وطء وأكثر قيلا... الواقع الآن جبار يتعفرت... يشهر خطر الفناء... وأنَّى للكلمات يصنعها اللسان أن تجبر الخاطر، أو تبلسم الجراح، أو تضمد الرعب والخوف؟
ولعل أكثرهم حماسا وحديثا سليمان ابن خالتي حتى كاد يتحول في الجمع خطيبا فيسرق الأضواء من الشيخ.
وابن خالتي فتى قارب الثلاثين يميل إلى الطول والنحافة، فيه كثير من صفات أمه… لونها... خضرة عينيها... جمال ملامحها... بريق شعرها... جمالها الفياض البالغ حد العنف أحيانا.
وهو فوق ذلك متعلم متفوق في تعلمه زار كثيرا من بقاع الأرض وخبـر الشعوب والأمم... درس بمدينة الرسول ومسجده ونحن نحب مثل هؤلاء المتعلمين ونقدرهم... وزار أمريكا وأنجلترا واليابان، لقد كان دوما قدوة الشباب ومضرب أمثالهم.
كان يدعو الجميع للثورة والمقاومة، فإما النصر وإما الاستشهاد... لابديل عنهما... كان مصرا على التحاق الجميع بالجبال المجاورة... الشيوخ والأطفال والنساء والرجال... الجميع دون استثناء يجب أن يقاتلوا ليس هناك خيار.
أرض كوسوفا كما قال أرضنا...
من تربتـها نبتنا...
من أريجها أينعنا وأزهرنا...
وعليـها... فيـها يجب أن نموت...
بين شغاف قلبـها الدافق ندفن...
وهل نحن أول من مات من أجل هذه الأرض..؟
ولن نكون آخر من يموت طبعا...
هذه الأرض قادرة على الإنجاب دائما... ولن نكون أقل شأنا من أجدادنا... ولن نترك العار لأبنائنا وأحفادنا... لابد أن نقاوم، وما سنخسر بعد خسران الأرض... الأمِّ... الثدي... الحضن... القلب... الشريان... الوريد... الدمِّ...
الدمِّ الأحمر الفوار المتدفق...
النجيع الطاهر الهادر...؟
وهل هناك ما هو أثمن من ذلك وأعز وأغلى؟ وماذا نساوي نحن دون الأرض غير كتلة لحم بلا جذور... بلا انتماء... تتقاذفها الحوادث لتنتهي في مكان ما... في زمان ما... وتنتـهي إلى الأبد؟؟؟
أعجبني كلامه كثيرا فازددت حبا له وتقديرا... وتمنيت في قرارة نفسي لو كنتـه.
وأضاءت وجوه الشباب حوله، وأسفرت سماؤها عن إشراقة كادت تبدد سُحب العبوس والقنوط، وكذا ظهر وجه الشيخ وهو يضرب على كتف سليمان ويقول :
- بوركت سليمان.
لكن الشيخ عاد فدعا للتروي وتحكيم العقل حتى لا يقع شعبنا في فخ العدو الماكر الذي يسعى إلى أن يدفع بنا إلى مواجهة غير متكافئة، وبالتالي إلى الموت الجماعي، أي الانتحار حمقا وغباء.
وسكت الجميع مقلبين أبصارهم بين الشيخ والفتى، لقد هزتـهم فتوة سليمان وفاتتـهم حكمة الشيخ.
وارتفع آذان العشاء فقطع حيرتهم، وقام الشيخ من مكانه، وهو يقول:
- بعد صلاة العشاء نجتمع في المسجد لابد أن نخرج بقرار هذه الليلة يخرجنا من حيرتنا هذه، ويفوت الفرصة على أعدائنا.
واندفع الشيخ خارجا، فاندفع الجمع خلفه، لم يبق في البيت إلا خالتي وابنتها ونحن الأطفال... يضاجع عثمان وعائشة نوما عميقا... ونسامر نحن صمتا رهيبا مفزعا.
حاولت أن أعود إلى النوم لكني لم أستطع، كنت تعبان... منهك القوى... خائر النفس... مذعور القلب... تتلاعب أمام عيني كوابيس القتلى والنار والدخان والبيوت المخربة.
وبينما اتكأت زينب لتنام كان نحيب خالتي مازال يشق سكون الليل البهيم، ربابة حزينة الإيقاع … يتيمة الدمع... لم تستطع أن تتماسك ولا أن تفطن من الصدمة التي وقعت على قلبها الرقيق.
وخالتي شبيـهة أمي في كل شيء... قدَّها... امتلاء جسدها... إشراقة وجهها... احمرار وجنتيـها... غزارة شعرها الأشقر الطويل الذي تعودت أن ترسله غدائر... وعاطفتـها الجياشة.
كانت أمي – رحمها الله- تبكي لكل شيء حتى للفرحة... تشرق على تضاريس وجهها المتألق... وتعبق على شفتيـها الرقيقتين.
وكانت تحرم نفسها حتى من ألذ ما تشتـهي لتؤثر بـه الآخرين مهما كان هؤلاء الآخرون... ومهما كانت درجة قربـهم أو بعدهم عنـها.
وكانت كلما حل يوم الجمعة أعدت طعاما كثيرا لتأخذه معها إلى الجامع حيث تؤدي صلاة الجمعة مع والدي وجدتي، فتعطي ذلك الطعام للفقراء والمعوزين.
ولأنها كانت ماهرة في إعداد أكلاتها الشعبية كانت مضرب المثل في القرية كلها، يستهوي طعامها كل من يذوقه.
وكثيرا ما سمعت أولئك المعوزين الضعفاء المستفيدين من أكلاتـها يرفعون أكف التضرع إلى الله داعين لـها بالخير والحفظ.
وهاهي تموت مقتولة قتلة شنيعة... لعل الله لم يقبل دعوات أولئك المساكين.
وتحركت أختي الصغيرة عائشة تئن أنينا ضعيفا متقطعا... فمسحت خالتي دموعها... استدارت إليها... ثم أدخلتها حضنها محاولة إعادتها للنوم.
عاد زوج خالتي من صلاة العشاء مهموما، لم يحرك شفتيه، ولم ينطق حتى بالتحية... انزوى فوق كرسي كان في ركن الحجرة وغرق في التفكير.
ذبحت خالتي صمتـه وهي تسأله.
-ماذا قررتم؟
واصل زوجها طقوس السكوت الحزين فزادت دقات قلبي... كنت أخشى قرارا مهلكا رغم أني كنت أضع كل ثقتي في الشيخ وحكمتـه.
ولكن أيًّا كان القرار سيكون مفزعا... ليس لنا خيار، إما المقاومة، وبالتالي التشرد في الجبال المجاورة، ودخـول حرب شرسة، وأعداؤنا يـملكون العدد والعدة... طائرات... مزمجرات... شاحنات... مدافع... وجنودا متوحشين مات فيـهم الضمير الإنساني.
وماذا نملك نحن غير هؤلاء البسطاء الذين يفيضون حماسا وتعلقا بالأرض؟
وإما الهجرة... الهجرة إلى المجهول المخيف المرعب حيث قد نضيِّع كل شيء حتى كرامتنا.
ومزق زوج خالتي شرنقة الصمت، فحدثها أن كل رجال القرية قد اجتمعوا واستقروا على رأي واحد.
وسكت مليا يبتلع ريقه ويعبث بشعر وجهه الذي أطل إلى النور منذ أيام ولم يحلقه... وخلت هذا المَلِيَّ دهرا، ماذا قرروا؟... بـماذا حكموا؟
وضجرت خالتي فسبقتني للسؤال.
-انطق، لماذا تقتلنا بصمتك؟
وانتبه زوج خالتي من شروده كأنما لسعتـه أفعى
-أجمعنا على رأي واحد... الهجرة والمقاومة.
ودخلتُ من جديد دوامة الحيرة... هذان أمران لا أمر واحد.
وأحس هو بالحيرة في نفوسنا، فأسرع يقطعها، وهو يركز نظراتـه صوب خالتي
-يهاجر الأطفال والنساء والعجزة وبعض الكهول، ويتطوع الباقي للمقاومة... لا يجوز أن يقول عنا الأعداء أننا تنازلنا عن عمقنا وجذورنا.
وتمنيت لو أن خالتي تسأله عن سليمان... أين هو الآن..؟ هل سيفارقنا ليلتحق بالمقاومين؟ هذا احتمال قوي جدان بل لعله سيكون أول من يتطوع، وهو أمر بقدر ما يثير في نفسي العزة والافتخار، بقدر ما يزرع فيـها أشواك الخوف واليأس.
لكن خالتي لم تبرح محراب صمتها، نصبت ذراعها اليمنى... وضعت رأسها في كفها كأنه، رأس تمثال يقف على قاعدته، ومدت ذراعها الأخرى تحتضن عائشة الصغيرة، وسافرت في دروب من التفكير.
لعلها الآن في القرية حيث ماتت أسرتي وكل السكان...
لعلها في المنفى حيث التشرد والجوع والبرد والضياع...
لعلها في الجبال مع ابنـها فلذة كبدها سليمان... سليمان ابنـها الأكبر الوحيد.
لم تسأل خالتي، أنا أعرفها جيدا، كانت تحمل بين جوانحها نهرا دفاقا من العواطف، ومعه إعصار من الكبرياء والعزة والأنفة.
وبادرها زوجها يخبرها أن ابنهما سليمان سيلتحق بجيش التحرير مع غيره من الشباب، ولقد تم الاتصال والاتفاق على كل الخطوات.
أما هو فسيرافق العائلة حتى الحدود الألبانية طلبا للنجاة... ليست النجاة من أجل النجاة... بل من أجل المقاومة... ليست النجاة من أجل نجاة الأبدان... بل من أجل نجاة الوطن...
لا بد من الخروج ليكون الشعب بمنأى عن التقتيل والتنكيل.
يجب أن نستمر لنبقى غصة في حلوق الظالمين...
يجب أن نستمر لنبقى حصنا أمام عواصف الشر...
وانفجرت خالتي منتحبة، لم تتفوه بكلمة واحدة تماما، لكن بكاءها كان رسالة واضحة... كانت رسالة رفض مغادرة الأرض التي امتزجت تربتها المعطاء بدمها وعرقها... بذكرياتـها وآمالها… بآلامها وأحلامها.
وداهمها زوجها بسيل من الشروحات والتحليلات الكثيرة المعقدة التي لم يهضمها عقلي الصغير، فانفصلت عنهما، وعادت بي الذكرى إلى قريتي الصغيرة الآمنة الوديعة.
تذكرت بكورنا كل صباح نسابق الطير إلى الطبيعة...
تذكرت بقرتنا الحلوب التي أقبلها كل صباح كما أقبل أفراد أسرتي...
تذكرت أصدقائي حين نتجمع عند الساحة العامة وننطلق كالعصافير... كالفراشات... نعدو... نسابق... نقفز... تتعالى ضحكاتنا وأحلامنا وآمالنا...
تذكرت المعلم داخل القسم وهو يحرضنا على التنافس... ترى أين هو معلمي الآن؟ وأين هم أولئك الأصدقاء؟ أمات الجميع حقا فلم ينج إلا عثمان؟ أم نجا غيره؟
وتراقصت بين عيني صورة لعبتي المهشمة، والحوافر البغلية تدوسها فتتطاير أجزاؤها هنا وهناك.
مازالت خالتي تركن إلى الصمت... ومازال زوجها يروي قصصا مفزعة عن جرائم الصرب في القرى المجاورة، أما الآخرون فكانوا جميعا يغطون في نوم عميق... عميق...
أحسست بتيار بارد يلسع رأسي فتدثرت بالغطاء وغرقت في النوم.
-3-
تناهى إلى سمعي وقع أقدام وأصوات وحركات وهمسات تملأ الحجرة... فركت عيني، يظهر أني شبعت نوما هذه المرة... تأملت ساعة الحائط على الضوء الخافت الذي كان ينبعث في استحياء شديد داخل الحجرة كان العقرب الصغير عند مشارف الخامسة، في حين راح الكبير يلهث متسلقا المرتفع ما بين السابعة والثامنة.
خالتي... زوجها... سليمان ابنهما... أخته زينب... كلهم كانوا هناك يعملون... يكومون الأمتعة والأثاث واللباس وسط الحجرة.
أدركت أنـه الرحيل وقد أزفت ساعة الهجرة… من هنا تبدأ… وإلى أين تنتـهي...؟؟ الله أعلم... كل الذي نعلم أنـها مغامرة صعبة سنخوض خلالـها عباب بحر مارد جبار... أين ومتى سترسوا قواربنا؟ لسنا ندري... الأمر موكل للمقادير... الله وحده يعلم غيبنا.
كان الظلام لا يزال يخيم على القرية... ونسمات هواء بارد تتسرب من النافذة التي فتحت قليلا.
اكتشفت أن العيون قد اكتشفت يقظتي، فانسللت من فراشي حتى لا أوقظ عائشة... قمت... حيَّيْتُهم... وقصدت المغسل... ثم عدت فأنهضت صديقي عثمان، وقدمتـه إلى المغسل أيضا...
هناك عادت إلى مخيلتي ذكريات الأيام الماضية الحلوة حين كنت أقصد بيت صديقي عثمان كل صباح لنصطحب معا إلى المدرسة...
كانت أمه - رحمها الله - توصينا خيرا ببعضنا البعض، ثم لا تدعنا ننصرف حتى تملأ محافظنا طعاما خفيفا... حلوى... كعكا... وفواكه.
كنا فرسي رهان، يسبقني تارة، وأسبقه تارة أخرى... وكان هذا التنافس الحاد يعجب معلمنا فيشجعنا عليـه، ويفخر بنا أمام زملائه المعلمين، وأمام السيد المدير... وكان الجميع يمطروننا بغيث من التشجيعات والجوائز.
وتذكرت الجوائز... كل الجوائز التي حصدتها على مدار السنوات الدراسية احتفظ بها في خزانة الكتب في قسم سميته قسم الجوائز... ماأتعسني! نسيت كل ذلك... صوري... جوائزي... كتبي... نسيتـها في البيت... احترقت... نهبت؟؟ لست أدري... ووجدت نفسي أخطو خارجا.
وأثناني عن اندفاعي صديقي عثمان وهو يسأل :
- إلى أين تريد؟
واحترت بماذا أجيبه؟؟؟ هل أخبره أني عائد إلى قريتنا لأحضر جوائزي وصوري...؟؟ سيضحك مني ويعتبر التصرف عبثا أو ربما سيصر على مرافقتي ليحضر هو أيضا جوائزه... هل أكذب عليـه لأتخلص مما وقعت فيـه؟
وأنقذني من حيرتي وهو يطرح سؤالا آخر.
- قل لي يا محمد، على أي شيء استقر رأي الكبار؟ منذ أن نمت لم أفطن حتى الساعة... كنت متعبا جدا ونمت كالميت تماما تماما.
وباختصار شديد أعلمته حقيقة الهجرة الشاقة المتعبة نحو المجهول فتقبل ذلك بامتعاض شديد ولم يعقب... ثم عدنا حيث الجميع وانـهمكنا في تناول فطورنا... دعانا زوج خالتي إلى الاستعداد... لابد أن نكون رجالا أشداء... إن الرحلة ستكون طويلة شاقة بدون شك... وستكون محفوفة بالمخاطر الجسام... مخاطر الأمراض والصرب وتقلب الطقس... إن الفصل شتاء والبرد شديد والزاد قليل.
وبسرعة ارتدينا ملابسنا وظهرنا في كامل الاستعداد... من هذه اللحظة يجب أن نذبح الطفولة والبراءة... يجب أن نكون رجالا... القوة والصلابة والصرامة هي السبيل إلى نجاتنا وبقائنا أحياء... فلنكن رجالا.
أذَّن الفجر... خرج زوج خالتي وابنه سليمان إلى الجامع، فيما بقينا نحن نرتقب ساعة الانطلاق.
كانت زينب تحاول أن تجمع أكبر قدر ممكن من حوائج البيت... أما خالتي فقد جلست إلى كرسي واتكأت على طاولة تعيش سبحاتها الحزينة، مازالت تبكي... دموعُها نهر عظيم تفجر في عينيها، وليس غريبا عليـها لقد ذكرتُ أن عاطفتها مضطرمة مشبوبه دائما، تشبـه إلى حد بعيد عاطفة والدتي- رحمها الله -
وتلاعبت بين بصري صور المجزرة الرهيبة... دخان ونار وجثث متـهالكة فوق بعضها بالعشرات... هنا رؤوس بلا أجساد... هناك أجساد دون رؤوس... هنالك أجسام عارية وأخرى مكسوة.
وانكمشت على نفسي فزعا وأنا أذكر والدتي تضمنا إليـها في حضنـها الدافئ... وأحسست بالدفء يغمر كامل جسمي.
أيـها الحنان ضمني إليك...
أيـها الشوق ذوبني فيك...
أيتـها الفرحة الراقصة...
يا ألوان القوزح في عيون الأطفال...
يا حلم الثوار الأبطال...
علت شفتي ابتسامة حلوة... تكورت على نفسي... دحوت جسمي كله... وفجأة اندفعت واقفا صارخا وصوت الرصاص يلعلع فوق ظهر أمي فيحفر فيه خنادق للحقد... تتدفق براكين دم يفيض فوق جسدي ساخنا دافئا كالحلم
هرعت إلي خالتي فضمتني إليـها محاولة تـهدئتي
- ولدي العزيز، لا تخف أنا معك.
وتماسكت ثم انفجرت باكيا... كانت عائشة ترقبني في حيرة، وبقربها كان يقف عثمان تمثالا مرمريا ينحدر الدمع من عينـه حبات لؤلؤ.
ولمعت على شاشة ذاكرتي صورة الطفلة الأرنبة أخت عثمان… عسكري ثخين بدين… أصابعه مخالب… أذناه طويلتان… أسنانـه تلمع خارجة بين شفتيـه... أنفه خرطوم ممتد كجذع شجرة مجتثة يابسة... كسن فأس... والمسكينة ذات العام الواحد مقطوعة الرأس محمولة في يده اليمنى من ساقها الأيسر والدم ينزف من رقبتها... هي أرنب... لا بل طفلة... لا بل أرنب... واختلطت الصور أمام عيني تستفز عواطفي... أرنب مسلوخة... وطفلة عارية مقطوعة الرأس.
بدأت الحركة تدب في القرية... وتناهت إلى مسامعنا أصوات جرارات وشاحنات... عجلنا بإخراج الأمتعة... وضعناها في عربة يجرها حصانان... هي كل ما يملك زوج خالتي المزارع البسيط
مازال النـهار لم يسفر عن وجهه لقد كاد يرفع برقع الليل لتتجلي ملامحه...
من هنا...
في هذه اللحظة ستبدأ الرحلة...
الهجرة...
الهروب...
التيـهان...
سيرسم التاريخ مأساة بشرية أخرى...
رتبنا الأمتعة وأسرعنا نركب... تكومنا جميعا على خشبة العربة إلا خالتي التي كانت تتمسح بالجدران... تتمرغ على الأرض... تعفر وجهها بالتراب في هستيرية وجنون... وحين هرع إليـها زوجها ليأخذها نفرت غزالة شاردة إلى شجرة عالية متعرشة… احتضنتـها وراحت تقبلها... تدخلها قلعة الحب... تجلسها عرش الرباط المقدس... الميثاق الغليظ.
يقال أن هذه الشجرة المباركة قد زرعتـها مع زوجها حين اقترنا… ورعياها معا… يخشيان عليـها هبوب الرياح... ووقع البرد... وحتى النمل حين يتسلق أغصانها وأوراقها... يغسلانها كل عام فننا فننا… ورقة ورقة … برعما برعما.
وها هي ذي شامخة ذات أغصان وأفنان… وذات ورق وثمار… يجمعان كل عام ثمارها… ويأكلون منها شهيا طيبا احتفاء بذكرى الزواج.
وتذكرت الأيام الخوالي حين كنت أجيء مع والدتي لنحضر هذا الاحتفال، ونأكل من ثمار هذه الشجرة المباركة كما تسميـها خالتي.
ووجدتني أتسلل بعيدا عن الجميع اعتلي أكمة صغيرة... ورحت أتطلع بعيني الصغيرتين إلى القرية... إلى مهدي الدافئ حيث نبت لحمي، وأينعت ذكرياتي، وأزهرت آمالي الصغيرة الحلوة.
كانت آخر أردية العتمة قد تهلهلت، وغدت خرقة رثة بالية تهاوت شراشيفها...
وها الفجر راح يمد خيوطه يسعى على الأرض في كبرياء..
وها ملامح القرية تظهر من بعيد عروسا تنام في حضن الجبل، تجللها الأشجار الخضراء الوارفة من كل جهة...
ولم يكن يظهر بجلاء إلا منارة المسجد تشمخ بقامتها، تبكي في حزن رجالا اجتمعوا متطوعين لبنائها ذات صيف وأقاموا عندها حفلا جليلا.
أتصمدين أيتـها المنارة لتبقي شاهدا على أهل القرية؟؟؟ تحكين لكل من يمر بك قصتـهم...
براءتـهم...
جريمة مقتلهم؟ ؟؟
أم أنك ستكتفين برفع الشكوى إلى السماء... ثم تخرين متـهاوية إلى الأرض...
وأحسست بيد كبيرة تمسكني بحنو كبير من ذراعي اليمنى وتجرني إليـها قائلة :
- لا تحزن إنك عائد إليـها يوما.
كان زوج خالتي قد تبعني حيث أنا... كانت ملامحه توحي بالتعب الشديد... تَعِبَ في جمعنا... وتعب في تضميد آلامنا... وتعب أيضا في كبت جرحه النازف...
الرجال لا يبكون من عيونـهم بل من ملامحهم... الرجال لا يبكون دمعا... وإنما يركمون سحابا أسود قاتما على وجوههم.
تكومنا في العربة الخشبية الباردة رغم ما فرشتـه خالتي تحتنا... كان الجميع قد حضر نساء ورجالا... أطفالا وعجزة... اختلطت أصواتـهم مع نباح الكلاب، وثغاء النعاج، وصياح الديكة.
وأعطى الشيخ إشارة الانطلاق فهرع الجميع في صف كبير تاركين قريتـهم وأرضهم وديارهم ميممين شطر المجهول... شطر التشرد والضياع.
كل الرؤوس كانت تتمايل ذات اليمين وذات الشمال... كان الطريق وعرا مليئا بالحفر الصغيرة والحجارة... وكل العيون كانت تعانق خلفها تضاريس القرية تضمخها بأريج المآقي.
دس عثمان رأسه في حضني فضممته إلي وغطيته... لقد فقد هذا المسكين كل شيء ولم يعد له من صدر حنون يتكئ عليه… ولعله لن ينام في حضني… لعل خواطره ستذهب بـه بعيدا بعيدا... إلى أسرته... إلى ذكرياتـه... إلى القرية... إلى المدرسة... إلى مستقبله المظلم المجهول... لست أدري.
أثار فضولي زوج خالتي الذي كان يقود العربة لم يكن ينظر أمامه... كان الحصانان يتبعان الطريق بغريزتـهما... بل يتبعان العربات التي قبلهما...
لم يكن زوج خالتي يقطع بصره خلفه إلى القرية... أليست هي مهده وحضنـه ومنشأه؟؟ أليست هي مغرسه ومعرسه؟؟
في كل شبر منها شيء من ذكرياته... من آلامه وآماله... ليس أصعب من أن يترك المرء كل ذلك خلفه... لقد انسلخ من عمره... بل انسلخ من أجمل أيام عمره التي يعجز عن إعادتـها فيستحضرها بالذاكرة.
وتركت زوج خالتي لأكتشف أن الجميع قد تعلقت أبصارهم بالقرية في صمت مطبق لا يقطعه إلا أزيز المحركات وصرير العربات.
في المقدمة كان الشيخ ومعه بعض القادرين من الرجال على المشي، كانوا يقطعون المسافة كلها من رأس القافلة إلى آخرها... يعينون من يحتاج إعانة... ويوجهون من يحتاج توجيها... ويبعثون في الجميع الأمل... الأمل الذي لم يجد قلوبا قادرة على احتضانـه... ولا وجوها قادرة إلى إشراقه.
على وجوه الجميع كان الحزن يتربع إمبراطورا جبارا يلسعها بسياط الحيرة والأسى... ومن عيون الجميع كانت تتـهاطل الدموع… دموع متبرجة ودموع متحجبة.
بدأت القافلة الآن تغوص وتتوغل بين الجبال الشامخة… جبال اكتست حلة خضراء من الأشجار الملتفة السامقة… وكللت رؤوسها عمائم بيضاء من الثلج… كانت تظهر كالشيوخ يجلسون في وقار… ماذا تخفي هذه القمم العالية خلفها؟؟ أي سر دفين في أعماق هذه الغابات القاهرة؟ لعل رجال جيش التحرير يتخذون من هذه الأماكن مأمنا وملجأ.
وأحسست بالنشوة والعزة...
مازال في شعبنا الأبي من يقاوم...
وحين نكبر سنقاوم...
وحين يبزغ الأبناء والأحفاد نقاوم...
حتى نسترد عزتنا وكرامتنا.
وخطر في بالي خاطر مفزع، ألا يمكن أن يكون في هذه الغابات أعداؤنا؟؟ وسرت في جسدي قشعريرة وأنا أتخيلهم يباغتوننا... ويعملون فينا أسلحتهم... مخالبهم... أنيابهم...
يقطعون رؤوسنا...
يغتالون الأمل من قلوبنا.
نظرت إلى الجبال... تأملتها... حاولت أن أتنبأ بأسرارها... لا شيء فيها سوى حزن عميق… عميق.
أحسست بحركة غير عادية… تعالت الأصوات محدثة ضجيجا… هتكت ستار الصمت السميك… وقفت داخل العربة… نظرت إلى مقدمة القافلة… لقد اعترض طريقنا جنود مدججون بالأسلحة… وخفق قلبي فزعا !! تراءت لي المخالب والأنياب… والخراطيم المدببة… والآذان الطويلة… والوجوه المكسوة شعرا… ولمحت الشيخ ومن معه من رجال يحثون الخطو نحوهم في غير خوف… وبدأت ملامحهم تتبين لي… كانوا رجالا عاديين من البشر تماما... كيف كنت أتخيلهم على ذلك الشكل المفزع الرهيب؟ لم تكن تظهر على وجوههم علائم الشر... وهدأت نفسي تماما، وأنا أرى الشيخ يعانقهم، ومثله يفعل الرجال...
هؤلاء إذن رجالنا... أبطالنا...
ماأسعدني بملاقاتهم ورؤيتهم!
وشرع الشباب ينفصلون عن القافلة يودعون أهليهم في حرارة وينظمون إلى الجنود حتى شكلوا كوكبة كبيرة... لمحت سليمان يحث الخطى نحو عربتنا، ونزلت خالتي وزينب وبدأ العناق الشديد بينـهما حتى كادوا جميعا يكونون شيئا واحدا.
وحضر زوج خالتي وراح يؤنب زوجتـه في تشجيع لابنـه.
- ابنك رجل يا امرأة، هو الآن أدرك واجبه نحو وطنه وأمته، فلا تحزني ولا تبكي، بل افرحي واسعدي، سليمان مفخرتنا ومفخرة الأمة جمعاء.
ومد سليمان أنامله يكفكف دموع أمه، وهو يقول لأبيـه:
- اهتموا بأنفسكم… طريقنا كلانا سيكون صعبا... محفوفا بالمخاطر... ولكن نهايته ستكون مزروعة بالورود الندية الفواحة
سكت لحظات ثم أردف يقول:
- الله معنا... كل أحرار العالم معنا... لا تخافوا لسنا وحدنا... ارحلوا... ستصلكم رسائلنا وأخبارنا، أينما تكونوا وحيثما تحلوا.
والتحق برفاقه لنصعد العربة حيث كنا، وما هي إلا لحظات حتى انطلقت القافلة من جديد دون أن يبرح الفتية أماكنهم، يرموننا بالحلوى والزهور... ونرميهم نحن بالدعوات، وتلويح الأيادي، والدموع الممزوجة بأفراح الأمل.
استمر سيرنا ذلك اليوم النـهار كله... قطعنا وديانا وجبالا ووهادا وسهولا... كنا نتوقف من حين لآخر يستطلع الدليل الطريق أمامنا ثم يوحي إلينا بمواصلة المسيرة.
الطريق محفوفة بالمخاطر الجسيمة... والأعداء يتربصون بنا في كل مكان، ولعل قنابل قد وضعت تحت التراب في مكان ما، وهي الآن تتربص بنا لتنقض علينا فتغتال ما تبقى في قلوبنا من بسمات وآمال.
الليل الحالك المظلم وحش مفترس يلهث خلف النـهار فيلتـهم أطرافه التـهاما... تعبت البـهائم... وتعبنا نحن أيضا، وزاد عددنا... صرنا أضعافا، لقد انظم إلى القافلة مئات من الفارين شيوخ وعجائز... رجال ونساء... كبار وصغار... اختلفت أعمارهم وأشكالهم، واتفقوا جميعا في ملامح الحزن والأسى التي كانت تعربد فوق الوجوه الشاحبة الصفراء المتعبة.
توقفت القافلة... تفرق الناس فملأوا سفح الجبل المعشوشب الندي... تهالكت العجائز والشيوخ والأطفال يطلبون بشيء من الراحة، لقد أنهكهم السفر.
وشرع القادرون في إعداد أماكن النوم وإشعال النار وتحضير الطعام.
دبت حركة غير عادية... وتعالت ألسنة اللهب ووهيج الجمر... وارتفعت روائح أطعمة مختلفة متنوعة.
انزويت بعيدا بمعية عثمان، ورحت أرقب المشهد بصمت... تذكرت أيام الصيف حيث كنت أقصد والعائلة شواطئ البحر، فنتمتع برماله الذهبية ومياهه الدافئة الناعمة، أو حين نقصد غاباتنا العذراء المفعمة بالعذوبة والفتنة.
وكيف كانت العائلات تلتقي على الطعام الواحد...
ننضجه جميعا...
ونأكله جميعا...
نغني... ونرقص إلى آخر الليل...
ثم ننام لنقوم صباحا...
إن سحر تلك الأماكن لا يقاوم أبدا.
عين الشيخ رجالا للحراسة والتناوب عليـها واجتمع الباقون معه يتسامرون... يتعارفون... ويتحدثون عن واقعهم ومستقبلهم... ويروون قصصا خيالية عن مجازر اقترفها أعداؤنا في حق العزل من العجزة والرضع والنساء خاصة... واقترب منا زوج خالتي فطلب منا أن نذهب للعشاء.
تركنا جمع الرجال، وقطعنا جموع الناس حتى عربتنا... كانت عائشة تنام في حضن أغطية دافئة، بينما جلست خالتي وزينب وفتاة أخرى لم أرها من قبل يتناولن العشاء في صمت... جلست مع عثمان... قدمت خالتي لنا الطعام، فأكلنا وكلي فضول إلى معرفة سر هذه الفتاة... أهي من أبناء القرية قصدت عائلة خالتي للزيارة فحسب؟؟ أم هي من قرى أخرى طوح بها التشريد كما طوح بنا؟؟ ولماذا قصدتنا نحن بالذات إن كان الأمر كذلك؟ وما السر الذي تحمله؟؟
وهممت أن أسألها عن كل ما دار في خلدي لكني تراجعت وكتمت الأمر في نفسي... ليس كل ما يعلم يقال... كما كان يوصينا معلمنا دائما.
حين اكتفينا من الأكل دعتنا خالتي أن نركن للنوم لقد كان السفر متعبا وإن تعب يوم الغد سيكون أشد.
نظرت إلى عثمان، فهمت من عينه أنه لا يريد النوم، وتلك كانت رغبتي... لابد أن نعود حيث الرجال... يجب أن نستمع منـهم...
كان الجمع قد اكتمل... مئات الرجال والشباب والشيوخ يتبادلون أطراف الحديث مجموعات مجموعات، ومنـهم من انفرد بمذياع راح ينتقل من إذاعة إلى أخرى يسمع آخر الأنباء.
انجذبنا إلى حلقة الشيخ حيث كان زوج خالتي فقعدنا بجانبـه.
ذكر الشيخ أن الشعوب العظيمة هي التي تصمد في الملمات والخطوب، وهذا الأمر الجلل ليس جديدا على شعبنا العظيم، لقد عرف على مر التاريخ والأزمان هزات عنيفة أشد وأنكى من هذه الهزة، وكان دائما يخرج من ذلك منتصرا بفضل الله وبفضل أبنائه المخلصين.
ليس لنا طريق إلا الشهادة أو الانتصار، ومرحى بالاثنين يا إخوتي، ماأحلى الانتصار مضمخا بدماء الشهداء الأباة الرافضين للذل... الرافضين عبودية الإنسان لأخيـه الإنسان… العبودية لا تكون إلا لله.
سيكون الانتصار حليفنا بحول الله مهما اشتد تكالب الظالمين وطغيانـهم، صبرا آل كوسوفا فإن موعدكم النصر.
راحت هذه الجملة تتردد في أذني بينما بدأ النعاس يغشاني… وراح جسدي يتخدر… ورأسي يثقل… تمددت بجوار صديقي عثمان على فخذ زوج خالتي ونمت…
-4-
حين انتصف ليلنا الأسود الحزين، بين نعسان ويقظين... بين نائم وآرقين... هطلت أمطار غزيرة كأنما السماء اندلقت صهاريجها فأفرغت حمولتـها.
هرع الجميـع وحبات المطر الأولى تلسـع أجسادنا... أيقظتني مريم التي كانت تنام بجواري ففزعت وفي أذني هرج ومرج وصياح وصراخ، لم أتبين منها إلا بكاء أختي الصغيرة عائشة، وصوت الشيخ يصيح في الجميع.
- احموا الأطفال والعجزة
وهرعنا نحتمي بالعربات والجرارات وبالأغطية البلاستيكية تتكاتل أجسادنا وتتلاحم... نتبادل حرارة الجلود والقلوب.
وسط العربة تكومنا أنا وخالتي ومريم وزينب وعثمان حتى صرنا جسدا واحدا لا فاصل بين الواحد والآخر... كنا نحن الصغار في الوسط بينما تحلق الثلاثة الكبار حولنا وغطينا أنفسنا بحائكين وقطعتين كبيرتين من البلاستيك.
نامت عائشة في حضن خالتي الدافئ، وبقيت أنا يقظا أنصت للأمطار تعزف فوق رؤوسنا موال الحزن... سنفونية الضياع والتشرد...
ولست أدري أكان عثمان قد نام أم هو الآن يتجرع مثلي مرارة هذا الكابوس المرعب... لا شيء بقي لهذا الصغير... ضيع كل شيء فكيف ينام؟؟ وهل ينام الصغير إلا في الحضن الدافئ؟؟ في العش الملتهب؟؟
تناهى إلى سمعي بكاء مكتوم... إنـها خالتي كأنما تخلق الدمع خلقا... الدمع وحده قادر على التطهير... الدمع وحده قادر على كبح جماح الانفجار... صدرها يمور غيظا... صدرها يتحرق غضبا...
أي بركان تحمله هذه المرأة العظيمة في نفسها؟؟
لك الله أيتـها المرأة العظيمـة !!
أحسست بعاطفة موارة في صدري الصغير... مددت يدي... أمسكت في الظلمة يدها... قربتها من فمي... طبعت على ظاهرها قبلة طويلة عميقة...
فهمت خالتي الرسالة فقدمتني منـها كما يقدم الطير فراخه... حركت أصابعها على شعر رأسي فدغدغت أوتار القلب... وفهمت رسالتـها أيضا
أيـها الليل طل ما شئت...
أيتـها السماء أمطري ما بدا لك...
أيتها الدروب الوعرة تمددي إلى سدرة المنتهى...
في قلوبنا...
في صدورنا براكين التحدي...
في جوانحنا حرارة الاستمرار...
وراح وقع أقدام يقترب منا... التصـق بعضنا ببعض أكثر من قبل... سمعت زينب تقول :
– أقدام من هذه التي تضرب في الوحل والماء؟
أمسكتني مريم من رجلي الدافئتين... فضمتـهما إلى صدرها وقالت:
- أقدام تخيف، فماذا ترين يا خاله؟
ردت خالتي بلهجة الواثق مطمئنة.
- أقدام رجالنا... لن يصل الأعداء إلى الحريم إلا على جثثهم.
وصلت الأقدام إلينا... اتضح لي صوت الشيخ، وصوت زوج خالتي.
- أنتم بخير؟ لقد بدأ المطر ينسحب وسيصفو الجو لا تخافوا.
وردت خالتي على زوجها
- نحن بخير.
قال الشيخ مطمئنا
- الحمد لله الجميع بخير، هيا لنعد حيث الرجال.
حين بدأ الفجر يطارد ظلمة الليل نحو الغروب خرجنا من مخابئنا... لقد توقف المطر... وبدأ يوم جديد من مأساتنا.
كان المنظر مريعا حزينا... وجوه متعبة... عيون مثقلة دامعة... أجساد مبللة... لم نكن لنستطيع أن نتحمل جميعا... ظهر عند الكثيرين سعال حاد وزكام متعب.
وبدأ الجميع يلمون الشعث... بعد لحظات ستنطلق القافلة... الطريق مايزال طويلا، ولابد أن نجدَّ لنصل... نحن الآن في صراع مع الزمن... ومع المسافة... ومع عدونا... ومع أنفسنا... كثير هم أعداؤنا.
أتظل براكين التحدي تمور في صدورنا موارا حتى نحقق المبتغى ثم ننفجر في أعدائنا شواظا من نار ونحاس... أم ستخور القوى في الطريق؟
وتذكرت سليمان ابن خالتي أين تراه يكون الآن؟ في أي بقعة من هذه الأرض الطيبة هو؟ ماذا يفعل؟ منذ أن فارقنا وأنا وخالتي النقيضان تماما... أزداد إعجابا به وإكبارا لشهامته وبطولته... وتزداد هي حزنا وأسى على فراقه حتى كادت تذوي... وتحول احمرار وجهها إلى اصفرار مخيف كأنما مرض خبيث ينهش باطنـها... ولم تبق إلا عيناها تدوران في محجـريها كحبتي زيتون أخضر.
حين أكملنا العدة للرحيل وبدأت العجلات تطلق صريرها إيذانا بالانطلاق ارتفع غير بعيدا عنا عويل نساء يندبن... جمدنا حيث نحن وهرع الشيخ وبعض الرجال، واشرأبت أعناق البعض تستجلي الحقيقة... وكانت الحقيقة مرة.
ها هي المأساة توغل في ذبحنا...
تقطع الأوردة والشرايين...
ها هي المأساة تمد أصابعها المعروقة...
مخالبـها المتوحشة...
أذرعها الأخطبوطية...
لقد فارق صبي الحياة، وها هي أمه الثكلي تصيح متحدية وجه المأساة الكالح.
داهم الحزن الوجوه فلبست أقنعة سوداء... وأطرقت دامعة حزينة تتجرع مرارة الأسى... وعادت السماء للتلبد من جديد بالغيوم القاتمة فذهبت الشمس وكاد الجو يظلم.
إذن لابد أن نتأخر... هنا في هذا المكان بالضبط لابد أن نترك أحد أعضائنا... لابد أن نسلمه للتراب حيث لن ينـهض أبدا... لن يرى الحياة مطلقا...
وأي بأس في ذلك مادام تراب الوطن هو الذي سيحتضنه بحنو في جوفه وإلى الأبد؟؟ وأي تراب سيحتضننا نحن؟؟ كيف؟؟ ومتى؟؟ وأين نموت؟
لم يستمر انتظارنا طويلا كما كنا نتوقع... بسرعة حفر قبر صغير تحت شجرة عالية... بسرعة ووري الصبي التراب... وصلى عليه الشيخ وبعض الرجال، ثم حملوا أمه الثكلى يدفعونها دفعا، وهي لا تكف عن العويل والنواح...
كانت فتاة في مقتبل العمر ولعل هذا هو مولودها الأول...
وأعطى الشيخ إشارة الانطلاق، فاندفعت القافلة تشق طـريقها نحو الشرق...
الشرق الذي ظل دائما يمثل لنا الجذور الممتدة التي يجب أن تبقى وطيدة قوية... منـها نستمد وجودنا واستمرارنا...
ولماذا ندفع نحن هذا الثمن الباهظ؟ أليس كما قال الشيخ:
- لأن أعداءنا أرادوا قطعنا عن جذورنا… وإلا فالعقاب هو الموت والتشريد… وماذا يساوي المرء حين ينقطع عن جذوره تماما...؟؟ أو ينتمي إلى جذر أخر... ليست له نهاية إلا الموت أو المسخ، ولقد ظل أجدادنا على مر القرون يقاومون النتيجتين معا، ويجب أن نستمر نحن على نفس الدرب؟
حين راحت القافلة تشق طريقها، كانت السماء ما تزال ملبدة تكظم دمعا وحزنا، وكان النحيب من الأم الثكلى يرتفع ضعيفا يشبه الأنين، وكنا جميعا في العربة نلوك صمتا قاتلا
إلا مريم الشريدة...
مريم اليمامة المجروحة...
إلا هي كانت تقص مأساتـها...
فاجعتـها …
...قريتنا في الشمال، على منبسط من سهل خصب... فيها نشأت وتلقيت تعليمي الأول... رحلت بعدها إلى المدينة حيث أكملت دراستي... هناك تعرفت على شاب أغرم بي حد الجنون، وبادلته الشعور نفسه... وماكادت سنوات الدراسة تنتـهي حتى لحق بي ومعه أبوه فخطباني من والدي المزارعين.
كانت فرحتي لا توصف... لاتحد... وأنا وهو نحلم ببناء عشنا قشة قشة...
ومنذ أسبوع كان موعد الزفاف... كان العرس كبيرا، اجتمع إليـه الأقارب والأصدقاء من كل مكان... بل وكل سكان القرية... لأول مرة أرى تجمعا من ذلك النوع وذلك الحجم في قريتنا.
كنت ألبس ثيابي البيضاء... أتـهادى أمامه نورسة تحيطنا عيون المعجين والمحبين، خاصة عيني أمي اللتين كانت الفرحة ترقص مستحمة في بؤبؤيـهما …
وكانت تصوب نحونا عدسات الكاميرات… لا بد لهذا الحفل أن يسجل ليبقى ذكرى نسترجعها كلما أردنا… ولا بد أن يطلع عليـها أولادنا الكثيرون... كانت هذه رغبة أبيـه الملحة.
- لابد أن تنجبوا كثيرا من الأولاد، ذكورا وإناثا...
كان يريد أن يعوض ما فاته... ليس له إلا هذا الابن... ماتت زوجته... ولما يتجاوز الأربعين وبقي وفيا لحبـها لا يقدر أن يتزوج... وهو نفسه أشرف على تربية صغيره حتى صار رجلا... و ها هو يفرح بعرسه... ويصر على أن ننجب له بنين وبنات... يملأون عليـه البيت.
وكان أبي يضحك عاليا معجبا بـهذا الاقتراح ويقول:
- أنا أربي نصفا... وأنت تربي النصف الآخر.
وتتشابك الأيدي وترتفع الضحكات... لقد تم الاتفاق... حتى أبوي ليس لهما إلا ذكر أكبر مني سنا... وآخر أقل مني وأخذ الموت منـهما ولدين... ثم مرضت أمي فلم تنجب مذ ذك.
حان وقت اللقاء الأكبر... وقت الخلوة... الوقت الذي يرمي فيـه كل منا الهموم بعيدا لنبني معا عشا للفرح والحب والسعادة.
بدأ المدعوون يغادرون... راحت الأصوات تقل وتخف.
ليس في القاعات إلا وجوه قليلة مازالت ترشف الشاي والقهوة...
ومصابيح تشع فوق رؤوسنا مبتسمة تشاركنا فرحنا وحلمنا الجميل.
فجأة انطفأت المصابيح...
دوى الرصاص...
ارتفعت أصوات المستغيثين الخائفين، عاد كثير من المدعوين إلى بيتنا.
الوحوش يحاصرون القرية... إنـهم جنود الصرب يبتلعون القرية ابتلاعا...
خرجت وحبيبي إلى الحديقة عبر النافذة أحاطوا بالمنزل من كل مكان... اقتحموه... قذفوا من رشاشاتـهم حقدا في صدور الرجال والنساء الأبرياء.
أمام عيني سقط أبي وأمي... وسقط أبوه وفوقهم عشرات النساء والرجال... دفعنا الفزع إلى القفز على سور الحديقة... كان الجبل قريبا منا تسلقنا سفحه كأننا فرسين... أحسسنا بوقع أقدام تلاحقنا... اشتدت سرعتنا... لابد أن نفر بحلمنا... توقف وأمرني أن أواصل العدو ورفضت وأنا التصق بـه.
- حبيبي لابد أن نُـهَرِّب حلمنا الجميل.
- هربيـه أنت.
- بل أنتَ.
- لن أترككِ خلفي...أنت حلمي يا حبيبتي... إما أن نعيش معا أو يعيش أحدنا في الآخر...
ليس هناك خيار...
وأنت يا حبيبتي الشرف...
وأنت الغد المشرق...
يجب أن تفري... هيا... هيا...
ودفعني بقوة فاندفعت أتلفت خلفي... أذرف دموع الفزع... أية مصيبة هذه؟ يا رب لماذا تدعهم يقطفون حلمنا الجميل؟
أقدامهم تقترب… نباحهم يقترب… طلقات رصاصهم تقترب… وأنا وحدي أتعثر في فستاني الأبيض.
أقوم وأسقط... وصلتني صيحة مدوية من حبيبي...
لقد قتلوه...
وأحسست أن الصراع راح يغير مساره نحو الغرب... وراح وقع الأقدام الغليظة يبتعد عني... استرجعت أنفاسي لا شيءَ... الهدوء سيد الموقف... والليل جدارية سوداء تحاصرني من كل جهة... صدري يعلو... يـهبط بقوة... قلبي يدق بسرعة... هنا يجب أن أقضي ليلتي... وبت هناك أسامر حزنا ودمعا... وارتعاشة طاغية.
حين أشرق الفجر قمت متعثرة متعبة عائدة إلى القرية... وقفت على مشارفها... كان جنود الصرب مازالوا يحتلونها... ماذا أفعل؟ إلى أين سأذهب؟ هل يحرمني هؤلاء الوحوش من رؤية أمي وأبي وإخوتي وأبناء القرية الطيبين حتى وهم جثث هامدة؟
اندفعت إلى الأمام لابد أن أتحدى مهما كانت النتيجة... ثم جمدت مكاني... مغامرة وخيمة العواقب هذه التي أقدم عليـها...
وفاجأتني كلابة يد قوية تمسكني من رقبتي
- أنت هنا؟
ارتعدت فرائصي جميعا...
جمدت مكاني...
لم أستطع أن أنظر للخلف لأطل على الوجه...
ابتلعت ريقي بصعوبة، وارتميت في صدره انتحب كالأطفال، فضمني كأني قلبـه يخشى أن يضيع منـه.
ولمن هذا الصدر الدافئ الحنون...؟؟
إنه صدر عمي حِكْمَت، صديق أبي الحميم، وحارس مدرستنا الذي ظل يرعانا ونحن صغار... وظل يمنحنا الزهور والحلوى والألعاب...
وظل يحبني لأني كنت المتفوقة في دراستي...
وغصت في حضنـه أبكي، وهو يطوق جسدي المرتجف بباقات حبـه.
رجعت إلى نفسي... سألته في غباء وهو يكفكف دموعي بيديه الحانيتين.
- ماذا فعلوا في أهل القرية يا عمـي حكـمت؟؟
- انظري، لقد هدوا منارة الجامع... ولقد قتلوا كل من وجدوه يابنيتي... وهم الآن يحتلون القرية... يدفنون الموتى في مقابر جماعية... سيحرقون المعالم... يهدمون المنازل... لا أمل في العودة... لابد أن نفر... الهجرة هي الحل الوحيد.
واستدرنا دون أن أتفوه بكلمة واحدة... ورحنا نضرب في الجبال عبر الأراضي الوعرة... وبعد ثلاثة أيام اكتشفناكم فاندمجنا معكم.
وكانت مريم كالتفاحة الحمراء الطازجة... وجه مستدير أشرب حمرة، رائعة كالشمس عند المشرق تكتنـز فتنة وعذوبة رغم التعب والإعياء والحزن والسعال الذي بدأ يراودها منذ ليلة أمس.
اندفعت خالتي تشد على أوجاعها، تواسيها في مصابها الجلل قائلة:
- لك الله يا بنيتي، نحن أسرتك الجديدة، ولن تجدي عندنا إلا ماتريدين.
وظللت أنا قابعا في مكاني لا أبرحه... لا أتحرك قيد أنمله... أراقب حبات اللؤلؤ تتساقط متلاحقة من عيني مريم العروس.
وعادت بي الذكرى إلى قريتنا...
آه أيتـها الأم المفجوعة بأبنائها...
أيتها الثكلى ابتلعت ما أنجبت في بطنك، وجلست تندبين على ذكراهم.
وألحت صورة عمتي المعوقة على مخيلتي فرأيتـها مُمددة على الأرض والدم يضمخها... ما بين نهديها وتحت سرتها وقد تعرت من ثيابها... وترامت جديلتاها ذات اليمين وذات الشمال... وطبع الموت على شفتيها ابتسامة ألفتـها بـها دائما…
أحسست كأني المقصود بتلك النظرات وتلك الابتسامة فرحت أبادلها ذلك.
- 5 -
صارت الحدود الألبانية على مرمى العين... وبعدها سنعبر... وينتـهي السفر … والترحال … والتنقل.
وما ألبانيا هذه؟؟ لست أعرف عنها إلا ما كان يقوله لنا عنها معلمنا... "بلد صغير يقع على حدودنا... سكانه إخوان لنا... لكنهم فقراء ومتخلفون مثلنا تماما.
لم أك مطمئنا أبدا... لا يمكن أن نجد أرضا آمنة كأرض قريتنا الوادعة، تحتضننا في تحنان وحب... وتتجاوز عن حماقاتنا وطيشنا.
كان الحزن باد على وجوه الجميع رغم اقتراب الرحلة المرهقة من نـهايتـها... مددت بصري إلى مقدمة العربة، كانت عائشة تنام وادعة... تحركت نحوها... جلست بجوار خالتي... مدت أصابعها الدافئة إلى خصلات شعري المتدلية على جبيني، ثم طوَقَتْ رقبتي بذراعيـها وأنامتني على فخذها، ثم سألتني.
- محمد ولدي... هل أنت جوعان؟
ونفيت أن أكون كذلك، وإنما فقط جئت لأتفقد حالة عائشة، وطمأنتني خالتي بأن الرحلة ستنتهي، وإن هي إلا لحظات ونصل الحدود.
وحين نعبر الحدود، هل سنجد بيوتا كبيوتنا التي ألفناها؟؟ فتجمعنا من قر هذا الجو المتقلب وأمطاره التي روت أجسادنا ورؤوسنا كما روت الأرض؟؟
وحين نعبر الحدود هل نجد مدارس نجلس إلى طاولاتـها، ومعلمين نتلقى منـهم العلم والمعرفة؟؟
وحين نعبر الحدود هل نجد دفء الحب يحضن قلوبنا الصغيرة كما تحتضن الأعشاش فراخها؟ ؟
وحين...
هل...؟؟؟
وتذكرت محفظتي الصغيرة لقد أنقذتها من المجزرة... هي وحدها دون كل ما أملك أنقذتـها.
وسألت خالتي عنـها فأخبرتني أنـها محفوظة مع الأمتعة، وسأحصل عليـها بمجرد أن نستقر، وأكدت لي أنها ستسعى لإرسالي إلى المدرسة لأواصل دراستي وأكون مثل ابنـها سليمان، وجال كثيرا من بلدان العالم.
وأدخلني هذا الوعد فضاءات لا حدود لها من الأحلام الوردية... لقد نسيت كل متاعبي وهمومي.
حين كنت في قريتنا كان همي الأكبر أن أدرس... وكانت أمي دائما تلح علي قائلة:
- يجب أن تكون طبيبا لتعالجنا
وكنت أرد مازحا:
- لن أعالجكم حتى تنفدوني كثيرا من المال.
وتذكرت أمي فتلبدت سماء نفسي بالغيوم السوداء، وعاد الحزن من جديد يعربد على وجهي، وفي جسمي الصغير الذي لم يعد يحتمل.
وصلنا الحدود... وقفنا في عرباتنا نتطلع للآلاف... الآلاف يقيمون على أرض منبسطة في الخيام... وفي العراء... الآلاف يختلفون بين ذكور وإناث... بين صغار وكبار... ولكنهم جميعا يربطهم خيط واحد، خيط الحزن والأسى.
لم أكن أصدق... نحن كثيرون إلى هذه الدرجة؟؟!! من سيأوينا؟؟ من سيقوم على شؤوننا؟؟ أية مدينة ستكفينا؟؟ أين نسكن؟؟ أين سندرس؟؟
بدأ بعضنا يتركون عرباتهم، وينزلون باحثين عن مكان آمن يقضون فيه الليلة... ومن بعيد قدم الشيخ ومعه بعض الرجال، يطلبون من الجميع التزام أماكنهم، سنتمكن من العبور بسرعة وسهولة، لأننا جميعا نحمل أوراق هويتنا... السلطات تعطل الذين لا يحملون مثل هذه الوثائق خوف تسلل الجواسيس في الصفوف... العدو يمكنـه أن يفعل كل شيء.
ودفعني الفضول لأن أسأل زينب عن الأمر
- ولماذا لا يملكون وثائق الهوية... أنا عندي بطاقتي المدرسية.
وأفهمتني زينب أن العدو قد جرد الآلاف من الناس من بطاقاتـهم حتى تعم الفوضى في أوساطنا، ويتمكن من بث جواسيسه بيننا.
تجمعنا كلنا... انضمت العائلات إلى بعضها البعض، قام كل رائد بعدِّ أفراد مجموعتـه... حضر الجميع أوراق إثبات الهوية... وبدأنا العبور...
العبور على الأرض كان خطوات...
أما في الواقع...
في الذات...
في النفس...
فكان شيئا آخر مختلفا تماما...
كان يعني النجاة من وحشية الصرب وهمجيتـهم...
ولكن الكبار كانوا يبكون مرارة... الرجال مثل النساء، وسمعت خالتي تقول لزوجها باكية :
ـ اليوم بـهذه الخطوة الصغيرة وقعنا صك موتنا وإلى الأبد...
ماذا نساوي دون أرضنا؟؟
ماذا نساوي دون حضننا الدافئ؟؟
سنعيش أغرابا... ونموت أغرابا...
تعسا لي يومَ فرطت في أرضي وقريتي وبيتي...
تعسا لي يوم فرطت في ذاكرتي...
الموت خير لي...
خير لنا جميعا.
ولزمت الصمت العميق... إلى هذا الحد عظيم هو الوطن في نفوس أبنائه... كل الذين لاحظتـهم يبكون وينتحبون... كانوا يفعلون ذلك حبا في الوطن.
ورنوت بعيني إلى وجه زوج خالتي... لاحظت دموعا تتألق حائرة بين جفنيـه، وهو يرد على زوجتـه.
- سنعود... سنعود... يجب أن نعود غدا أو بعد غد... إن كنت لاتثقين بنا نحن الكبار فها هم (وأشار إلي) براعم الأمل... سيكبرون ويكبر معهم حب الوطن والتعلق بـه... سنبذر ذلك في قلوبـهم...
في عروقهم...
في كل قطرة دم منـهم...
في كل ذرة من ذرات أجسامهم...
تحرك الجميع... انتظمنا في طابور طويل... مثنى... مثنى... كنت أمام خالتي أحمل محفظتي فوق ظهري، وكانت ابنة خالتي تحمل عائشة، وقد زال عنها الرعب والهلع، وشفي الجرح بفخذها الأيمن... أما عثمان فقد كان مع زينب... ليس معهما وثائق... اتفقنا جميعا على كذبة واحدة... زينب وعثمان ولدا خالتي... وقد نسيا وثائقهما في غمرة الفرار من الموت والجميع شاهد على ذلك.
ولمحت بين رجال الحدود شخصا يشبـه معلمي فاندفعت هاتفا دون أن أشعر.
- معلمي؟
وشدتني خالتي إليـها وأعادتني حيث كنت.
- الزم الصمت والهدوء... الانضباط ضروري يامحمد... هذا رجل حدود، أما معلمك فقد... يخلق الله من الشبه أربعين.
ولم تكمل حديثها إلي...
ماذا تعني خالتي بقولها أما معلمك فقد... هل عندها نبأ بمقتله؟ ربما… ولماذا أشك أنا في ذلك؟؟ كل الناس هناك قتلوا... لقد لاحظتهم جثثا متهالكة فوق بعضها البعض... لقد لاحظت أمي وأبي... جدتي وعمتي... ورأيت جثة الإمام في عباءتـه البيضاء، وقد حرَّقوا لحيته، وسلخوا جزء من جلد رأسه.
وزملائي وأترابي الصغار خديجة وصفية... سلمى والأخـوان عمر وسليمان هل يعقل أن تموت تلك الزهور؟؟ أن تداس لتذوي وتذبل إلى الأبد؟؟ يمكن ذلك قطعا، إن وجوها كالتي رأيتـها لا تستطيع أن تميز بين الأزهار والأشواك.
والأشجار التي غرسناها بمعية معلمنا في فناء المدرسة فتعالت وعرشت ومدت أفنانها نظرة... أيمكن أن تكون قد أحرقت مع الكراسي والطاولات والخزائن...؟ ومعرض صورنا ال>ي علقناه حديثا في الباحة؟؟
لاشك أنـهم هدموا الجدران وصارت مدرستي الآن أطلالا.
ما عساني أفعل بـهذه المحفظة التي تثقل كاهلي؟؟ وهممت أن أرميـها بعيدا رغم تذكري وعد خالتي بأنـها ستدخلني وعثمان المدرسة بمجرد أن نعبر الحدود.
غير أن يدا ضخمة امتدت إلى كتفي في حنان، وسحبتني نحوها، إنها يد حارس الحدود... كان يبتسم لي في حب وعطف وهو يدعوني أن أخطو إلى اللاوطن.
واقشعر بدني وأنا أنتقل من نقطة لأخرى... آه ما أمرك أيها العبور… وما أحقرك؟؟ !!
وتمت الإجراءات بسرعة... وجدنا أنفسنا بعدها في العراء... حشود من الناس... آلاف على اختلافهم يتربصون عند بوابة مدينة كوكس.
حدد لنا المستقبلون مكانا معينا تجمعنا فيـه كلنا، وبدأنا نحط رحالنا... نصب زوج خالتي بسرعة خيمة من البلاستيك والأغطية، ثم غادر لمساعدة الآخرين... وضعت خالتي بعض الأفرشة قصد التمدد عليها، أما زينب ومريم فقد شرعتا في تحضير العشاء.
دغدغ دفء الفراش والغطاء أجسادنا الصغيرة، فاستسلمت أنا وعثمان وعائشة لنوم عميق.
- 6 -
في الصباح زارنا الشيخ... كان التعب باديا على وجهه والشحوب بدأ ينسج خيوطه على ملامحه لعله لم يذق النوم منذ يومين أو ثلاثة ورغم ذلك كان يفيض حيوية ونشاطا .
استقبلتـه خالتي عند باب خيمتنا وعلى محياها شيء من الابتسامة تحاول أن تظهر من بين سحابات الحزن... بادرها الشيخ بالسؤال:
- كيف أنتم بنيتي؟
ابتسمت خالتي بوضوح وقالت :
- كما ترى...
ورد الشيخ مقاطعا
- أراكم بخير... لا أريد أن تتمكن الانهزامية من نفوسكم... أعظم مانحرص عليه هي روح التفاؤل... لا بأس... الكل بخير... أحوالنا تتحسن، ألم تسمعي؟ لقد بدأ الحلفاء يقصفون دولة الصرب؟ لقد هدموا جسورا وإذاعات ومعامل... وقتلوا كثيرا من جندهم... وحتى مقر الطاغية رئيسهم... ولعلهم سيتدخلون بجيوشهم البرية... هم مصرون على أن يحقوا الحق.
لم تفرح خالتي بل رأيت ملامحها تعود لعادتـها... حزن شديد، وعبوس مخيف، وسألتِ الشيخ:
- وهل تعتقد أن الخير يأتي من خارجنا؟؟ نحن الذين يجب أن نصنع مصيرنا ومستقبلنا... النصر لا يأتي من خارجنا يا شيخ... وإلا جاء مشوها.
لعل الشيخ أدرك أن خالتي على حق، أو أدرك أنـها صعبة المراس، وأن النقاش معها ليس بالأمر السهل، أو لعله أدرك صدقها فمد يديـه... حمل عائشة... ودعانا أنا وعثمان إلى فسحة.
قمت ملبيا أنا وعثمان وفي نفسي سؤال محير أين نتجول؟
بين هذه الجثث المتـهالكة هنا وهناك؟؟
بين هذه الخيم المتـهرئة؟؟
بين هذه المناطر البائسة الحزينة؟
ما بال هذا الشيخ يريد رغم كل شيء أن يتعامى عن الحزن... عن البؤس... عن المأساة؟ ؟
سار الشيخ وسرنا بمحاذاتـه... كان يشق التجمعات البائسة، ونحن حوله لا ندري إلى أين يريد... كنا في طريقنا نرى عيونا باكية دامعة، ووجوها علاها الأسى والحزن... صفراء مقطبة.
صغار يبكون يسعلون... وعجزة متكئون... ومرضى يئنون... وتمنيت لو أني بقيت حيث كنت قريبا من خالتي، دون أن أرى هذه المشاهد المفزعة التي تزيد قلبي جراحا.
لم يكن الشيخ يمر على أي فرد أو أسرة إلا وينثر في وجوههم شذا ابتسامته الحلوة، ويبث في قلوبهم الأمل بالعودة إلى حضن الوطن.
صعدنا ربوة صغيرة بعيدة قليلا عن الجمع، كأنما كان الشيخ يعرفها من قبل... وقف فوقها... وجه وجهه نحو الغرب... وغرق في تأمل عميق طويل، ولم نك نحن نملك إلا أن نسكت تقديرا لصمتـه.
عصر الشيخ عينيه ماسحا دموعه التي انحدرت فوق لحيته… وتسلل إلى نفسي سؤال حائر.
ما الذي جعل الشيخ ينهار، بعد أن كان حصنا يتصدى لكل الأعاصير؟
طوى الشيخ ركبتيه، ومد ذراعيه على كتفينا أنا وعثمان، ومد سبابته اليمنى نحو الغرب خلف الحدود وقال:
- محمد... عثمان... انظرا هناك... رأيتما تلك القمم الشامخة التي تكسوها الثلوج؟؟
وترامت أعيننا إلى حيث أشار دون أن نفهم قصده... سكت مليا، ثم واصل:
- ذلك وطننا الذي مازلنا وسنبقى نحمله في قلوبنا أبدا... نحن لم نهاجر لنبقى هنا... بل هاجرنا لنعود... ولن تزيدنا الخطوب والأهوال إلا صلابة وقوة... والمصائب تزلزل الرجال لتشحذهم
أنتم هم المستقبل أيها الصغار... وإن لم نعد نحن الكبار، فالدور دوركم، والأمانة سنلقيـها على كواهلكم.
أحسست بالفخر والاعتزاز، وأنا أرى وطني تعانق قممه صفحة السماء...
وأحسست بالفخر والاعتزاز، والشيخ يعدنا من الرجال فيلقي على كواهلنا هذه الأمانة العظمى، وفي الآن نفسه سرى في كياني حزن عميق... عميق...
ماذا يقصد الشيخ بكلامه إن لم نعد نحن الكبار فالدور دوركم؟؟
وما معنى كل ذلك الأمل الذي كان يزرعه أينما حل؟؟
وما معنى ذلك الكلام المعسول الذي صبه في حلق خالتي رغما عنها؟؟
في طريق عودتنا عرجنا على كوخ مصنوع من الخشب، وأخبرنا الشيخ أن بـه مفاجأة يجب أن يطلعنا عليـها.
حلقت خيالاتنا دون أن نتمكن من معرفة حقيقة هذه المفاجأة، حينما وصلنا الكوخ وجدنا عجوزا طاعنة تجلس أمامه فوق حصير صغير، ترتجف عصاها بين يديها... مال الشيخ وقبل رأسها... ثم راح يداعبها ويخفف من مأساتـها.
علمنا من الحديث المتبادل أن اسمها شهيدة، وأنها ضيعت أهلها فجاءت مع آخرين، وحين عبرت الحدود أصرت على أن تبقى هنا قريبا من نقطة العبور، تراقب الخارجين، وكلها أمل في أن تلقى أفراد أسرتـها.
وكما جئنا عاد بنا الشيخ نقطع المخيمات البلاستيكية، ومئات أجساد الأحياء المتفرقة هنا وهناك...
وجدنا زوج خالتي قد عاد من مهمته، لقد ذهب إلى مدينة كوكس التي نقيم نحن بضواحيها، فاشترى شيئا من الطعام والجرائد، واستطلع عن بعض الأخبار.
ما إن جلسنا حتى راح زوج خالتي يخبر الشيخ أن الأمور تسير نحو الأسوإ، لأن الدولة الألبانية فقيرة وهي عاجزة كل العجز عن استقبال مئات الآلاف من المشردين، مما يعني انتشار الأوبئة والمجاعة، ومظاهر البؤس وتفشي الموت خاصة بين العجزة والأطفال، وبالتالي فناء الشعب بأكمله.
أطرق الشيخ حزينا وقد تغيرت ملامح وجهه، وعلاها هم وتقطيب كأنما ابتلعه وحش المأساة... وراح زوج خالتي يواصل كالواثق من نفسه
- لقد وضعنا شعبنا في فم أفعى... لقد نجحوا في تشريدنا وفي قتلنا قتلا باردا... أنا نادم كل الندم... لو كنت أعرف هذا لبقيت في وطني لأموت شريفا عزيزا لا ذليلا مهانا في أوطان الغير.
وفجأة انتفضت سحنة الشيخ رافضة سحائب القنوط، وأشرقت بشراها وهي تقول :
- لا بأس إن شاء الله... وإن مع العسر يسرا... لا تحزن إن الله معنا... جئت لأخبرك أنك مدعو لحضور اجتماع هذا المساء... هناك أمور عاجلة يجب مناقشتـها، وعلى رأسها توزيع المساعدات الأمريكية والأوروبية، ومساعدات الصليب الأحمر.
وانكمش قلبي وأنا أسمع كلمة الصليب، ما معنى أن يطردنا من أرضنا، ويشردنا في العراء، ثم يلحق بنا هنا ليساعدنا، فيكون في الآن نفسه العدو والصديق؟
ولم أستطع أن أتفوه بكلمة، فسجنت كل خلجات قلبي وراء قضبان صدري الصغير، لكن زوج خالتي كأنما أدرك همي فعلق قائلا :
- هذا جحر الأفعى.
وانصرف الشيخ على عجل دون أن يعلق... هو دون شك يدرك المؤامرة المحاكة، لكنه آثر أن يسكت.
واقتربت خالتي من زوجها فانهمكا في الحديث، أما أنا فقد لزمت مكاني لا أبرحه... لقد بدأت أخشى، بل وأضيق بتفاؤل الشيخ المفرط، وأنا أشاهد بأم عيني مظاهر البؤس تفترسنا... ها نحن ننام في العراء مشردين عرضة للجوع والموت والجهل.
طلبت منا خالتي أن نأتي بالماء من الحنفية المشتركة التي أقيمت خصيصا وسط المخيمات... حملنا دلاء مختلفة لا تصلح حتى لحمل الماء للحيوانات وانطلقنا... كنت أنا وعثمان وزوج خالتي الذي أصرت عائشة على مرافقتـه... حين وصلنا وجدنا طابورا متعرجا يبلغ مئات الأمتار...
متى سيحين دورنا لنحصل على قطرات ماء؟؟
هذا وجه آخر من المأساة، وبقائي هنا سيكون دون شك متعبا جدا.
وهممت أن أنظم إلى الصغار الذين تجمعوا غير بعيد يلعبون الكرة، ثم أحجمت... لا الملعب مهيأ... ولا نفسي مستعدة، فجمدت مكاني أتابع الأحداث بعينين زائغتين تائهتين حائرتين... وتسلل عثمان من مكانه لينظم إلى الصغار في لعبهم…
كان عثمان تربي له من العمر ثلاث عشرة سنة … نحيف الجسم ممتد القامة … تميل نفسه للشغب واللعب الخشن وهو بذلك يكاد يعاكسني في كل شيء، إلا في السن والاجتهاد في الدراسة... فأنا متوسط القامة يميل جسدي إلى البدانة... وتميل نفسي إلى الانطواء والانزواء... قلما ألاعب الآخرين لعبا هادئا لطيفا، وكثيرا ما ألعب وحدي.
تحرك الطابور بضع أمتار فتحركنا خلفه دون أن نغير اتجاه عيوننا... كنا نتابع المباراة باهتمام كبير، وكان صديقي عثمان أكثر اللاعبين حيوية ونشاطا، وأمهرهم لعبا...
علق شاب كان أمامنا في الطابور، يقف على عكازة، مقطوع الساق اليسرى حديثا:
- لقد بدأ الأطفال ينسون وقع المأساة.
رد زوج خالتي:
- قلوب الأطفال كسماء الصيف، قد تحضن قزعات من السحاب، ولكنها ماتفتأ أن تزول.
وتعلقت عيني بالشاب أنتظر منه ما يريد أن يقول... لكن دويا ضخما هز المكان... وعلا الغبار فحجب الرؤية... وعلا الصياح، وساد الهلع، وتفرق الناس لا يعرفون هدفا محددا يتجهون إليه كالقطيع داهمته ذئاب متوحشة.
وهرعت إلى المكان دون أن أشعر... لم يكن في بالي إلا صديقي عثمان... أليس هو الوحيد الذي بقي لي من ماضي الجميل الرائع؟؟
جثة طفل... لعله لم يبلغ الرابعة عشر من عمره تـهرأت أجزاء جسده السفلية إثر انفجار قنبلة كانت موضوعة تحت الأرض، وبالقرب منـه كان ينبطح عثمان...
دق قلبي هلعا... قفزت حيث هو... قلبته لا أثر للحياة في جسمه... احتضنته... كانت رائحة الدم تزكم أنفي بقوة...
أبعدني زوج خالتي، وأنا أصرخ باكيا في هستيرية... ومد يده يحمل عثمان وينـهض بـه... وهو يزجرني بقوة
- لا تبك هو بخير... إنه حي... يجب نقله إلى المستشفى حالا... فورا.
وتناهى إلى سمعنا جرس سيارة الإسعاف يرتفع عاليا... فتدافع الناس يفسحون الطريقن وبدأت أصوات استنكارهم تخفت رويدا رويدا...
وضعوه في النقالة وبجانبـه زوج خالتي وطفل آخر أصيب إصابات خفيفة وانطلقت سيارة الإسعاف تجلد من يعترض سبيلها بجرسها الحاد.
بعد نصف ساعة تقريبا كنت أقف عند رأس عثمان أبادله الابتسامة، كان مصابا في ذراعه إصابة بليغة... أما إصابة رأسه فكانت خفيفة، لا تبعث على القلق... والمهم أنه سيخرج بعد يومين أو ثلاثة... حالته لاتستدعي المكوث أكثر.
وكان المستشفى خلية نحل أصابها العطب… عشرات… بل مئات من الجرحى والمرضى… امتلأت بهم الأسرة فاضطروا إلى النوم على أفرشة فوق الأرض مباشرة.
تركنا خالتي وزوجها عند عثمان وسحبتني مريم بعيدا عنهما، كانت كلها رغبة في تَفَقُد المرضى والاطلاع على حالهم… نحن في المنفى أسرة واحدة، تجمعنا الآلام والآمال... ويجمعنا الشوق للوطن.
في كل حجرة تشاهد جداريات مأساوية تنغرز في القلب النابض سكينا صدئة... أشخاص فقدوا أرجلهم... آخرون فقدوا أيديهم... مرضى أنهكهم السقم... ومص كل رحيق من وجوههم... وآخرون كانوا معرضا للتشويه، بعضهم قص الصرب أنوفهم، أو آذانـهم، أو حتى شفاههم أو ألسنتـهم... وحشية ما تخيلتها في حياتي أبدا.
كانت مريم تسير بجواري منقبضة الوجه مرتعدة الجوارح لا تنطق إلا دمعا... وكيف لمثلها أن يفعل غير ما فعلت؟؟
ألم تقطف الغيلان حلمها الجميل حين أينع...؟؟
ألم يغتالوا البسمة من قلبـها البريء الجميل …؟؟
وفجأة رأيتـها تجمد في مكانـها تمثالا مرمريا لا تقدر على الحراك... جذبتها من يدها الرقيقة لم تتحرك... ثم فجأة تهاوت إلى الأرض جثة لاحراك بها.
هرع الطبيب والممرضون... بعد لحظات أعادوها إلى وعيها... رمت بكل ما حولها... وعادت إلى مكانـها وأنا أتبعها.
حينما دخلت عليـها الحجرة وجدتـها تنكفئ على شاب منتحبة فوق صدره.
جرها الممرضون بعيدا وأخبروني أن هذا الشاب عبر الحدود البارحة وهو في حالة يرثى لها... لقد سكنت رصاصة رئتـه اليسرى، وقد أجروا له العملية البارحة، ولعله سيتعافى بعد أيام، ولكنه سيعود إلى وعيه هذه الليلة.
وعلمت منـها بعد ذلك أنـه خطيبها الذي ضحى بنفسه من أجلها... وكانت ظنتـه قد مات... هاهي الأقدار تجمع بينهما من جديد... ماذا وقع له؟؟ كيف نجا من الموت؟؟ لا أحد يعرف.
انسحبنا عائدين إلى مأوانا... مريم رفضت ذلك رغم إلحاح خالتي وزوجها... منعوها من البقاء داخل المستشفى لكنـها قررت أن تبقى خارجه… تحتضن الجدار … وتعد الدقائق لتعود فترى حبيبها حيا يرزق... ماكانت تتوقع كل الذي وقع... الحياة قاسية حقا ولكن فيـها صدف حلوة.
وامتزجت في نفسي أحزان وأفراح...
ها صديقي عثمان ينجو بأعجوبة من الموت الذي ظل يطاردنا حتى خارج الوطن...
و ها مريم تبذر شذا البسمة على تضاريس وجهها...
وهذه هي الحياة دمعة وابتسامة... وكما تدمى عيوننا... لا يجوز أن نفوت فرصة للفرح.
-7-
أصبحت الشمس مشرقة دافئة... فدبت حركة غير عادية داخل مخيمات البؤس والشقاء والغربة... لعل الناس بدأوا يسترجعون أنفاسهم الآن ويستردون ما ضاع من قوتـهم وجلدهم...
كانت خالتي تغسل الثياب التي كومتها بجانبها، وبالقرب منها مريم تجثو على ركبتيها تغسل شعرها الكستنائي الطويل، وابنة خالتي زينب تساعدها على ذلك.
لم تعد مريم كما عهدتـها يوم ظهرت أول مرة في أسرتنا فتاة كئيبة حزينة دامعة العين والقلب، لقد بدأ الأمل يبزغ على تضاريس جسدها الفاتن، ويطل من شرفة عينيها اللتين عاد إليهما التألق.
لقد فقدت كل شيء وحين أوشك اليأس يغتالها أطل نجم سعدها من جديد، وخفق قلبا نابضا بالحب، ولعل المقادير ستمسح بيدها الحانية على جراحاتها فتبلسمها وتذهب ندوبـها وأتراحها...
وتصورتُ مريم بستانا افترسه وحش القحط فجف ويبس وسودت أزهاره وسنبلاته، فلما طمعت الريح في أن تعبث بالحياة فيه أدركه الغيث فأينع من جديد، ورقصت فوقه الأطيار والفراشات زاهية الألوان.
وحلق بي الخيال استرجع طفولتي المغتالة... قريتي التي أجهضوا حلمها البريء...
ما أجمل تلك الروابي التي أينعتُ بين جنباتـها زهرةَ أقحوان...
وغردتُ فوق أكماتـها شحرورا...
ورقصتُ فوق أزهارها وأعشابـها فراشة جميلة حالمة!!
وضعت لعبتي عند جذع شجرة البرتقال واندفعت أعدو خلف فراشة ظهرت للتو، تراقص الأزهار كأنـما تستعرض كفاءتـها في الرقص... كأنما تتحداني أن أمسكها، أو أتمكن من النظر إليها بإمعان وأكتشف دقائقها الفاتنة الجميلة.
مددت رجلي اليمنى فاليسرى... خطوة حذرة أخرى... ثالثة... وارتميت على الأرض لتلسعني أشواك زهرة مدت عنقها إلى السماء... أما الفراشة فقد تعالت راقصة ضاحكة من سذاجتي وفشلي...
طوى عثمان الكتاب الذي كان يتصفحه،وراح ينظر إلي باندهاش شديد، في عينيه تزاحمت أسئلة مختلفة،وأدركت للتو أنني تجاوزت حدي في الحلم،وبقدر ما أحسست بالخجل من صديقي عثمان،أحسست بالندم كأنما ارتكبت ذنبا لأننا أدركنا جميعا أن أحلامنا قد اغتيلت فلا حق لنا فيها.
وأردت أن أشرح الأمر لصديقي الذي مازال ينظر إلي مندهشا بعينين حائرتين براقتين تدوران في وجه أصفر نحيف رسمت عليه المأساة جداريات للبؤس والحزن.
لكن عثمان بادرني بالسؤال لينقلني إلى ضفة أخرى، يفتح في قلبي الصغير المكلوم هاوية للفجيعة.
- ماذا بشأن الدراسة...؟ ألم تعدك خالتك بأنها ستدخلنا المدرسة فور عبورنا الحدود؟
- أجل وعدتنا بذلك… لكني سمعت الشيخ يخبرها أن البعثة القطرية قد أقامت مدرسة كاملة التجهيزات، مع التكفل التام بالطلبة علاجا وغذاء ولباسا وتعليما، ولقد سجلت مريم نفسها فيها لتكون معلمة، ولعل زوجها سيلتحق بـها بمجرد أن يخرج من المستشفى صحيحا معافى.
وبقدر ما كان هذا القرار مفرحا سعيدا بقدر ما كان محرجا... أين الأتراب الذين عرفناهم وصادقناهم سنوات طويلة...؟ وأين المعلمون الذين تعودنا عليهم وتعودوا علينا خاصة معلمي المفضل؟
وفاجأني الشيخ كأنما هبط من السماء، ومباشرة سلمنا ورقتين وقلمين، وطلب منا طلبا عجبا.
- ارسما شمسا على وشك الشروق... شمس الفجر وقد بدأت تمد خيوطها تـهزم الظلام... وأي الرسمين يكون الأجمل تكون له الجائزة.
ودون أن نتفوه بكلمة واحدة شرعنا في التنافس وفي فضاء قلبي تشرق شمس قريتنا برتقالية على قمة الجبل، تدغدغ رؤوس أشجار السرو والزان والسنديان.
وأحسست بالغبطة تغمر كامل القلب الصغير، وأنا أتأمل صورتي التي أتقنتها، فرحت أفاخر بها صورة صديقي عثمان التي كنت أحسبها أحسن من صورتي، لكن أنانيتي أبت علي الاعتراف بذلك، فرحت أكشف عيوبه.
وفجأة داهم مخيمنا صخب وضجيج كأنما هو رعد هادر... أمواج بشرية تقتحم ساحاتنا في غير انتظام.
واندفعت أنا وعثمان باتجاههم نستطلع الأمر، لكن خالتي أسرعت إلينا فأعادتنا حيث المخيم ومنعتنا من أن نتحرك قيد أنـملة.
لم يكن الوافدون وأكثرهم كانوا رجالا إلا لاجئين... لا ينقصهم شيء فهم يتلقون أرفع أنواع المساعدات المادية من لباس وغذاء ودواء، ولكنهم لم يستطيعوا تحمل مظاهر الاعتداء على الحرمات... بل وحتى عمليات الخطف... خطف الصغار خاصة الإناث، وتهريبهم عبر البحار لبيعهم حيث يستغلون لممارسة البغاء والدعارة.
اكفهرت نفسي وأنا أسمع هذه الأنباء المزعجة المخيفة، ما للمآسي تطاردنا أينما حللنا وحيثما ذهبنا؟
وإذا فررنا من أعدائنا هناك، فكيف نتمكن هنا من الفرار؟
وسمعت زوج خالتي يؤكد أن الكوسوفي قد يسمح في كل شيء إلا أن يدنس عرضه وشرفه... وأن يباع أبناؤه عبيدا في سوق النخاسة، ولذا لابد من احتجاج الجميع حتى تعطى الضمانات في حفظ الأعراض والكرامات.
وبدأ الضجيج يخفت رويدا رويدا وراح المحتجون ينسحبون... مما أثار في نفوسنا أسئلة وحيرة.
وأقبل الشيخ ليخبر زوج خالتي أن المشكلة قد حلت، وأن الإخوة في الكويت قد أسرعوا إلى المكان فور معرفتهم حقيقة هؤلاء اللاجئين، وقد قرروا استقبالهم منذ الغد في ملاجئ تليق بكرامتهم وتحفظ شرفهم.
كان هذا الموقف جبارا زرع في نفوسنا المكلومة حدائق الأمل، ولكن الأنباء التي مازالت تصلنا في كل حين كانت تحمل إلينا فجائع لايمكن تصورها أبدا... مجازر جماعية...انتهاك للحرمات... قتل للأطفال والرضع... حرق للمساجد والمعالم الأثرية...
وأعدت إلى ذاكرتي زوج خالي وهو يقص قصة تلك المرأة التي ذبحوا صغيرها، وأنضجوه أمامها، ثم أرغموها كي تأكل جزء منه حتى لا يفعلوا ذلك بكل أفراد أسرتـها.
وانكمشت على نفسي ارتعد خوفا وأنا أتذكر أخت عثمان أرنبا تقلى في التنور.
-8-
قام الناس هذا الصباح على تداول أخبار تفشي الحمى والإسهال مما نشر الرعب والفزع في قلوب الجميع، أتلك أعراض لداء خطير سيعصف بالأرواح كما تعصف الرياح العاتية بأوراق الأشجار الصفراء؟
واشتد هول الناس حين تبين أن الطعام المقدم إليـهم معونات من الدول الغربية ومن الصليب الأحمر الدولي هو الذي سبب هذا الإسهال الحاد.
ورأيت زينب ثائرة تقول:
إنهم يقتلوننا بطرق أخرى... فكيف سيدافعون عنا...؟ كيف يدافعون عنا؟
وترد عليها خالتي وقد انتفش شعرها وتطاير الزبد من بين شدقيها.
- من نجا من الموت المتوحش هناك يقتلونـه بالموت البطيء هنا... تعسا لهم... كلهم ملة واحدة.
وفجأة قدم الشيخ وعلى محياه ابتسامته المعهودة، وبجواره شخص اكتشفت من اللحظة الأولى من خلال ملامحه وملابسه أنـه من جمعيات الإغاثة الغربية.
قال الشيخ كأنـما يهدئ من روع خالتي :
- عهدي بك هادئة... فابقي هادئة... لا خوف... السيد فرانك أمريكي الجنسية... وهو ممثل جمعيات ومنظمات الإغاثة هنا في ألبانيا... وقد سمع بالذي وقع فجاء ليطمئنكم، ويؤكد أن الأمر لا يعدو أن يكون تغييرا لأنواع الطعام... نحن لم نألف هذه الأنواع من الأطعمة.
واندفع السيد فرانك يشرح ملوحا بيده دون أن نفهم من أنجليزيته شيئا، وكان الشيخ يتدخل من حين لآخر ليشرح ما يقول.
وحين سكت السيد فرانك لمحت الشيخ يشرق، وهو يخرج من جيبـه ظرفا أبيض يلوح به في الأعلى، وهو يقول:
- اطمأنت قلوبكم؟ وسأزيدكم فرحا، خذوا هذه الرسالة.
وهدأت ثورة خالتي فجأة بعد أن تأهبت لتنقض على السيد فرانك... هدأت تماما كالنار المستعرة تهاطل عليـها الغيث.
وواصل الشيخ كلامه وهو يتأمل هدوء خالتي بابتسامة وديعة.
- ممن؟؟ إنـها من سليمان...
وسكت يتصفح الوجوه التي انبسطت فرحا.
من سليمان... رسالة منه؟ كيف؟ ومع من بعثها؟ وامتدت الأيدي جميعا تتلقفها... وتفضها.
نشرتها زينب، وراحت تقرأ، ونحن جميعا خلفها نتأمل الخط، وزوج خالتي يقفز فرحان كطفل وجد لعبتـه الضائعة فجأة قائلا:
- إنه خطه، أجل إنـه خطه... واصلي القراءة... واصلي.
ولأول مرة ألمح شمس خالتي تشرق على كامل الوجه... لأول مرة يرحل الشتاء القاتم من فوق تضاريس محياها.
في الرسالة كثير من البشائر... هو والإخوان بخير... وصلابتـهم تزداد كل يوم قوة... خاصة حين بدأت قوات الأعداء تتراجع أمام ضربات جيش التحرير... وضربات الحلف الدقيقة... ولعلهم لن يصمدوا أكثر من أشهر ينتهي بعدها كل شيء... ويعود الجميع إلى ديارهم.
خطفت خالتي الرسالة من يد ابنتها... قبلتها... طوتها ثم أدخلتها صدرها.
وهل هناك مكان آخر لما يصدر من القلب إلا القلب؟؟ إلا القلب الدافئ النابض...؟؟
اقترب موعد الزيارة الثانية، لابد أن نطمئن على عثمان، وعلى زوج مريم التي لم تبرح مكانـها عند جدار المستشفى.
وقرر زوج خالتي بـهذه المناسبة العظيمة... مناسبة وصول رسالة من سليمان أن يكلف نفسه ويشتري هدايا لعثمان وزوج مريم.
تأخرنا قليلا في المدينة عن موعد الزيارة لقد انشغلنا باختيار الهدايا... حين وصلنا وجدنا الجميع قد سبقونا كان عثمان بخير إذ بمجرد أن وصلنا وسلمناه الهدية حتى قام معنا وفي يده تسريحه الطبي...
اتجهنا حينـها إلى الغرفة التي يرقد بـها خطيب مريم...
وجدناها عند سريره تشد يده إلى صدرها تعطرها بدموعها... كان هو هادئا يتحدث بصوت خافت... يبدو بخير رغم الإعياء الشديد الذي كان يظهر على محياه.
تراقص الفرح من عيني مريم، وراحت تقدمنا بمجرد أن وصلنا على أننا أسرتها التي فقدتها... أمها... أبوها... أخوها... أختها... أحسسنا جميعا بالغبطة الحميمية، وراح هو يرحب بنا بإماءة من رأسه، وبتمتمات تتسلل من بين شفتيـه خافتة.
حين عدنا أدراجنا إلى المخيمات وجدنا أنباء جديدة نزلت على قلوبنا بردا وسلاما... وانتشلتنا من ضياعنا وحيرتنا... وأعادت إلى نفوسنا كثيرا من الأمل.
لقد تكفل بعض الإخوة الألبان بكل الأطفال والعجزة... سيتم الإيواء في منازلهم... ولو اضطروا إلى تفريغ البيوت من أُسرهم.
وأسرعنا نجهز أنفسنا للرحيل... سأذهب أنا وعائشة وعثمان وستصحبنا خالتي لترعانا وتقوم على شؤوننا، وربما سيلتحق بنا زوج مريم حين يخرج من المستشفى... في المنزل ستكون الإقامة مريحة، وسنكون بمنأى عن لسعات البرد والمطر والمرض...
وما هي إلا ساعات حتى كنا في البيت الجديد... بيت مكون من ثلاثة طوابق ملأنا كل فراغ فيه... المستودعين... والحجرات... والأروقة كنا سبعين فردا أكثرنا أطفال ورضع، ورغم الاكتظاظ فقد كنا نحس بالغبطة والسعادة...
عند الغداء وزعوا علينا بانتظام شديد خبزا وجبنا وعلب عصير وقطع كعك وشيكولاطة... ولأول مرة أحس أني أكلت طعاما بأتم معنى الكلمة.
بعد سـاعة من ذلك أو أكثر حضـر الشيخ... اشرأبت إليـه الأعناق مستبشرة، كان عن يمينـه كهلان أحدهما يرتدي بذلـة والآخر يرتـدي لباسا عربيا... عباءة بيضاء وكوفية منقطة... شد انتباهي هذا الثاني... وهذا اللباس الجميل... وهذا المحيا الأسمر المشرق... لاشك أنـه من مدينة الرسول التي حدثتني عنـها جدتي الشهيدة -رحمها الله- وابن خالتي سليمان كثيرا.
نطق الشيخ فسكتنا جميعا دفعة واحدة... وجه التحية باسمنا جميعا إلى الألبانيين الذين فتحوا لنا صدور المحبة والأخوة، وانتشلونا من الضياع، وكرر شكره الأخوي للدكتور الحاج إبراهيم صاحب المنزل.
كان الحاج إبراهيم رجلا قارب الخمسين... طويل القامة... أحمر الشعر... ذا لحية خفيفة... يلبس بدلة سوداء ويضع ربطة عنق حمراء.
وفاجأنا الشيخ حين أخبرنا أن الدكتور إبراهيم قد نقل أسرتـه إلى أصهاره ولم يبق في البيت إلا هو... بل إلا نحن فقط... أما هو فإنـه ينام الآن في سيارتـه... وأنه يقضي كل نهاره في خدمة اللاجئين.
وتعلقت عيوننا وقلوبنا بـهذا الرجل الملائكة، وهمس عثمان في أذني:
- أرغب في تقبيله.
وكان شعوره كشعوري... كم وددت أن أرتمي في حضنـه وأقبله... أريد منه أن يضمني... ويضمني... ويضمني...
وتذكرت حضن والدي الدافئ، ولحظات المرح والسرور التي كنا نقضيها معا في الحقل أو في البيت… لا تنتهي قصصه أبدا ولا دعاباته... كلما أكمل واحدة جاء بأخرى، كالينبوع العذب يتفجر حياة وسعادة وحنانا.
وأخذ الحاج إبراهيم الكلمة مؤكدا أننا بين إخواننا وفي أرضنا، وأن كل شرفاء المعمورة يقفون معنا ويبكون لبكائنا، فالبشر اليوم صاروا أسرة واحدة لا تفرقها الأديان ولا الألسنة ولا الألوان، كلهم أبناء هذه الأرض منها خلقوا وإليها يعودون... ولا مناص لهم من التراحم والتآخي.
وعاد الشيخ يأخذ الكلمة من جديد... مد يده هذه المرة مصافحا مرافقه الثاني بحرارة وهو يقول لنا.
أنتم أيـها الشعب العظيم أغلى من كل غال... وأعظم من كل عظيم... هاهم (وأشار إلى مرافقه) أولاء إخوانكم العرب وقد فزعوا فزعة رجل واحد، وهبطوا هذه الأرض بطائراتـهم يحملون إليكم غذاءكم ولباسكم ودواءكم... والقادم القادم أعظم.
ورددنا في فوضى باسمة عبارات الشكر والتقدير، ونحن نودعهم على أمل أن نلقاهم دائما حين نحتاج إليهم.
ومنذ ذلك صارت تصلنا متطلباتنا كاملة... أطعمة رفيعة... ألبسة... أغطية... أدوية…
وبدأت حياتنا تتحسن شيئا فشيئا.
- 9 -
زرت هذا الصباح مع عثمان مأوانا الأول... كانت السماء صافية إلا من قزعات بيضاء تفرقت هنا وهناك... وكانت الشمس ترسل بدفء محتشم يلف أجسادنا ومخيماتنا... لاحظنا حركة غير عادية كأنـما الناس يجمعون أمتعتـهم استعدادا للرحيل... ما الذي وقع؟؟ إلى أين نحن ذاهبون؟؟ أهي العودة للوطن؟؟ أم هو رحيل آخر في دروب التشرد والضياع؟؟
الحقيقة أني لم أكن ألمح شيئا من الحزن والأسى على الوجوه كالذي كنت ألمحه من قبل.
وصلنا إلى مخيمنا، وجدنا زينب ومريم منـهمكتين في جمع الأمتعة والأثاث، ولاحظت كأنـما فاجأهما حضورنا على حين غرة فسألت مباشرة.
- إلى أين؟ ما هذا الاستعداد؟ أهو رحيل آخر؟
- أجل هو رحيل آخر.
هكذا أجابت زينب دون أن تنظر إلي، وقبل أن أواصل أسئلتي الملحاحة سمعت زوج خالتي يجيب من خلفي عما كان يدور في خلدي.
-إلى حيث تستريح... لقد تطوع الإخوة من الإمارات العربية بكل شيء... أقاموا للاجئين مخيمات حديثة بها كل ضروريات الحياة... وبقربها أقاموا أقساما للدراسة ومستشفى وملعبا صغيرا.
وقاطعته مريم مواصلة.
- من اليوم سنودع التشرد وإلى الأبد، لقد وفروا لنا كل شيء... حتى الحماية والأمن... طائراتهم لا تتوقف لحظة واحدة عن الهبوط هنا محملة بكل ما نريد وما نحتاج...
ورفعوا جميعا أكف الضراعة إلى الله أن يحفظ بلاد العرب من كل سوء...
أما أنا فقد هزتني الدهشة... كل هذا يفعله الإخوة العرب؟ ماأكرمهم؟ وأعظمهم؟ اللهم احفظهم لنا إخوانا
ولم يتركني زوج خالتي في دهشتي بل ضربني على كتفي ودعاني إلى العمل معهم استعدادا للرحيل.
مساء ذلك اليوم انتقلنا إلى مخيمنا الجديد... دخلنا بانتظام، كل أسرة لها خيمة حسب عدد أفرادها... ولها كل ما تحتاجه...
حين استقر بنا الأمر تمددت فوق مرقدي فرحا، هذا لأني ما عدت أحس في هذا الموطن بالغربة... لست أدري أشعور عابر؟ أم شعور دائم وأبدي؟
حين حضرت خالتي وعائشة رحت مع عثمان نتجول في هذه المدينة الجديدة... كانت اللافتات تملأ المخيم كله مكتوب عليها بكثير من اللغات، قرأت بعضها.
نعم للأخوة الكوسوفية العربية
مرحبا بالأميرة العربية
من تكون هذه المرأة؟ وما سبب مجيئها إلى هذا المكان...؟ لحق بنا الجميع، بدأت الحركة تشتد... تدافع الناس ورجال الأمن يعملون جهدهم من أجل تنظيمنا.
كان الشيخ على رأس الواقفين هناك ومعه بعض المسؤولين من شعبنا وآخرين من الألبان... وكان زوج خالتي بجوار الشيخ.
تدافعت بين الحاضرين لأصل حيث هم لكن رجال الأمن تدخلوا وأمروا الأطفال بالانسحاب إلى الملعب وتحت ضغطهم انسحبت مع عثمان.
كان الملعب ميدانا لكرة القدم... وللكرة الطائرة، وبجوارهما أرجوحات وقفت هنا وهناك فوق الحشيش.
وبدأت الخطوات تقترب منا... رنوت بعيني كان الوفد يزحف بتؤدة إلى الملعب تتقدمه الأميرة بطلعتها العربية السمراء، ترتدي وشاحها الأسود الذي زادها وقارا وجلالا.
توقف الأطفال جميعا دفعة واحدة عن اللعب… سكنت كل حركة فيّ، وبقيت جامدا حيث أنا فوق الأرجوحة، أنقِّل الطرف بين الأميرة وبين المحيطين بـها... زوج خالتي والشيخ وآخرون، وقد رفرفت الفرحة من عيونـهم وحلقت فوق تضاريس وجوههم.
توقفت الأميرة عندي فغمرني شعور من الفرحة العارمة، خاصة وهي تنحني فتطبع على جبهتي قُبلة، رحلت معها إلى الشرق حيث الجذور متينة قوية...
مسحت على رأسي وأخذت من مرافقها لعبة سلمتها إلي... ضممتها إلى صدري... أمرتْ المرافقين لها بتوزيع باقي اللعب على الأطفال الآخرين.
نطقت الأميرة بكلمات في الجميع، أدركت أنـها موجهة إلينا نحن معشر الأطفال أكثر من غيرنا... ترجمها الشيخ بسرعة :
نحن إخوانكم... والواجب يدعونا أن نقف معكم في السراء والضراء، الآن وحتى تعودوا إلى أرضكم منتصرين بإذن الله... وبعد العودة الميمونة لبناء صرح الوطن وتشييد حصونه، لترتفع عليها راية المحبة والسلام خفاقة كما خفقت منذ قرون...
علا التصفيق والهتاف... ثم تدافع الجميع مبتعدين عنا وتفرق الأطفال كل يمارس لعبته المفضلة... وفي الوقت الذي اندفع فيه صديقي عثمان للعب كرة القدم امتطيت أنا صهوة الأرجوحة، ورحت أدغدغها ببطء إلى الأمام وإلى الخلف، أغني أغنية الوطن الجميلة، وأتخيل الأطفال اللاعبين أمامي فراشات جميلة تدغدغ خد الأرض في براءة وتحلم بشروق الشمس. [/frame]
|