-تستهجنني, كما تفعل مع كاميليا.
كتف يديه و أتكأ على الجدار وقال:
-وماذا كنت تتوقعين؟ قصة حب بيننا؟
احمر وجه الفتاة و صرخت:
-طبعاً لا!
ارتسمت ابتسامة غليظة على شفتي الرجل الذي قال:
-لا تنزعجي. عندما جئت إلى فرنسا, لا شك أنك نت تأملين أن تعيشي مغامرة عاطفية, وهذا أمر طبيعي جداً. لكنك لاحظت أن لا شيء يهمك هنا, فخاب ظنك و أصبحت تملين.
أدارت جوسلين وجهها, لا تعرف ماذا تفعل تجاه هذا الأسلوب الهجومي الجديد. وقبل أن يتسنى لها الوقت للرد عليه, تابع يقول:
-ماذا بك هنا؟ هل ارتطمت بشيء؟
أشار إلى ركبتها المحتقنة من الاحتكاك بسرج الحصان. غطت الفتاة ركبتها بطرف فستانها و حاولت القول:
-هذا لا شيء يذكر...
انحنى نحوها وقال:
-دعيني أرى...
-لقد قلت لك... إنه لا شيء يذكر...
-يا إلهي! ليست قلة تهذيب أن تظهري ركبتك. لقد سبق و شاهدتها.
عضت الفتاة على شفتها و رفعت تنورتها لتريه الزرقة على ركبتها وتقول:
-إنها لا تؤلمني أبداً. ارتطمت ركبتي بالسراج, يوم الأحد.
-ولماذا لم تخبريني بذلك, كنت أعطيتك مرهماً.
-ليس هذا ضرورياً.
ثم لمح كدمة صغيرة, على ذراعها, فوضع اصبعه عليها وقال:
-وهذه الكدمة... من أين جاءت؟
-من حادث قديم, عندما كنت صغيرة... لكنني أكيدة بأن ذلك لا يهمك.
نهضت الفتاة بسرعة و قالت بصوت مسموم:
-أعذرني, سأدخل الآن إلى المنزل.
ولشدة سرعتها, أوقعت قلمها, فانحنى جيرفيه يلتقطه, قالت له, قبل أن تدير له ظهرها:
-آه, شكراً.
-جوسلين...
توقفت على مضض ونظرت إليه من فوق كتفها وقالت:
-نعم؟
-أنت مخطئة إذا كنت تفكرين بأنني لا أراك جميلة. طبعاً, أنا أعي ذلك, ولو كنت أكبر سناً و أكثر خبرة... لكنك صغيرة و غير مجربة و تريدين إظهار العكس. من الأفضل ألا تعقدي هذا الوضع الصعب, أليس كذلك؟
و بإشارة صغيرة من رأسه, ابتعد باتجاه الاسطبل. فبقيت جوسلين مكانها مندهشة, مصدومة, كأنها تلقت دوشاً بارداً, لم يسعها تصديق ما سمعته. شعرت بالغصب يحتلها, فأسرعت تقفل باب غرفتها وتقول لنفسها: " يا لرباطة جأشه... يا لهذه العجرفة التي لا تحتمل, و التي لا تغفر! يا للوقاحة... آه, يا للعجب و التفاخر!"
لم يظهر جيرفيه على مائدة الطعام, وأخبرت العمة جان-مارك بأنه ذهب إلى مزرعة آل دورانس. فشعرت جوسلين بالارتياح. ولم تتذكر الرسالتين إلا عندما آوت إلى فراشها. كانت واحدة من والدها و الثانية من طوم كاليه. و بتأسف أدركت أنها لم تفكر فيه منذ وصولها إلى فرنسا. كانت رسالته مملة, يتحدث فيها عن الطقس و مشاكل محرك سيارته. و يقول بأن الجميع مشتاقون إليها.
لكن مهما يكن, أشعلت هذه الرسالة فيها الحنين إلى الوطن. وقالت لنفسها: "عزيزي طوم. يا لك من شاب لطيف و أكيد من نفسه. معك, لا توجد أي مشكلة".
وفي سريرها, ظلت تفكر بطوم و بالمستقبل وتقول:
"ليس لدي هدف في الحياة سوى الزواج, وهذه هي مشكلتي. فأنا منطوية على مغالطة تاريخية. الشيء الوحيد الذي أرغب فيه, هو أن أستمر في إدارة المنزل. و إذا توظفت, فسيكون ذلك لفترة مؤقتة, بانتظار أن أصبح سيدة فلان. لماذا الانتظار؟ لماذا اضاعة الوقت؟ لماذا لا أصبح زوجة طوم كاليه؟"
ورددت لنفسها: حسناً, لست واقعة في حبه حتى الجنون. لكن ما هو الحب؟ هل يجب أن يكون الحب دائما من أول نظرة؟ أليس الاتفاق أهم من الحب؟ لننظر إلى كاميليا و جان-مارك : إنهما يحبان بعضهما, لكن كم سيدوم هذا قبل أن يعالجا الاختلافات التي تفرقهما؟ بينما طوم وهي يتقاسمان الاشياء نفسها, ولا شك أنهما يناسبان بعضهما تماماً...
وفي الأسام التالية, نادراً ما التقت بجيرفيه أو رأته. و أشرفت عطلتها على النهاية, لكن كاميليا كانت تصر عليها أن تمددها.
-حتى ولادة الطفل... أرجوك, يا جوسلين.
كما أصر عليها جان-مارك قائلاً:
-بعد اسبوعين, يقع عيد السيدة سارة. ولا يجب أن تفوتك هذه المناسبة النادرة.
-كلا سأذهب في الموعد المتفق عليه.
قالت كاميليا ناحبة:
-لكنني بحاجة إليك. لو كنت مكانك لما ذهبت. هذا أقل ما أطلبه منك.
-كاميليا, لا تتحمسي كثيراً, فحماسك لن يجدي شيئاً. لن تتم ولادتك قبل شهر, و أنا لا يمكنني أن أبقى طويلاً.
-أنت فتاة شريرة. لا أحد يجبرك على الذهاب, و لا تريدين البقاء هنا بكل بساطة. إذا كان هذا المكان لا يعجبك, فكيف بالأحرى أنا؟
... كلما جرى مثل هذا الحديث, تمتلئ عينا كاميليا بالدموع السخية, و يسرع جان-مارك لمؤاساتها. لكن جوسلين ما زالت مصرة على عدم الاستسلام لهذا النوع من التهديد التي تبرع فيه ابنة عمها. لم تعد تشفق عليها خصوصاً منذ عرفت بأنها تمضي وقتها في السرير, من دون سبب صحي, و تطلب من الآخرين الاهتمام بها. عبست كاميليا ولم تعد تحدث جوسلين ليوم بأكمله. فقالت لها هذه الأخيرة:
-اسمعي, يا كاميليا, حان لك أن تهزي نفسك. على الأقل كوني لطيفة مع زوجك, الذي يشغل باله عليك باستمرار.
-على الأقل, ليس جان-مارك مثلك.
-بالي مشغول عليكما معاً. بصراحة, يا كاميليا, انك لا تقدمين شيئا من نفسك.
-وماذا تريدينني أن أفعل؟
-في البداية تناولي طعامك مع بقية أفراد العائلة.
-ماذا؟ مع كل هؤلاء الرجال؟
-لا تكوني حمقاء. إن تصرفاتهم لطيفة ومحببة. وكلما اصغيت إلى حديثهم, تتعلمين اللغة الفرنسية بسهولة, حان لك أن تتقني لغة زوجك.
-إذا كنت تقفين إلى جانبهم, فمن الأفضل عليك أن ترحلي من هنا ابتداء من نهار الغد.
كانت جوسلين تحاول جهدها أن ترشدها, لكن من دون جدوى, فكاميليا امرأة عنيدة جداً. تبكي من جديد وتضع كل اللوم على ابنة عمها.
لو كان الاتصال الهاتفي ممكناً, لاتصلت جوسلين بوالدها تطلب منه نصيحة. ربما يقول لها أن تبقى. لكنها تذكرت نصيحة الطبيب يوم مغادرتها انكلترا حين قال لها:" لا تقفي دائما إلى جانب كاميليا, ولا تقفزي إلى الاستنتاجات بسرعة. ربما تكون ابنة عمك طائشة لكنها تكبرك بثلاث سنوات وباستطاعتها أن تدافع عن نفسها وحدها...".
بعد ظهر اليوم التالي, أي قبل يومين من موعد سفرها, كانت جوسلين تنظف صندلها في غرفتها عندما سمعت صراخاً جعلها تركض إلى غرفة كاميليا, لكن ابنة عمتها كانت تغط في نوم عميق.
أغلقت الباب بهدوء, وسمعت نحيباً آتياً من طرف الممر. فأسرعت إلى المطبخ مذعورة ورأت السيدة سانتون ممددة على الأرض. فاعتقدتها ميتة و انصدمت. الرجال كلهم في العمل, وليس في المنزل غيرها.
ركعت قرب العجوز و لمست يدها, فسمعت نبضها. وبعد ثوان معدودة, فتحت العمة عينيها ناحبة.
عندما عاد جيرفيه إلى المزرعة, بعد مرور ساعة على الحادث, اسرعت جوسلين إلى الخارج صارخة:
-شكراً, يا إلهي, أنت هنا. جرى حادث و يجب استدعاء الطبيب.
قفز عن حصانه وقال:
-ماذا جرى لكاميليا؟
-كلا, كلا... إنها عمتك, وقعت في المطبخ. التوى كاحلها وارتطم رأسها. أخاف أن تكون مصابة بارتجاج في الدماغ, فقد ظلت فاقدة الوعي بضعة دقائق.
-أين هي؟
-في غرفتها, في السرير.
-هل حملتها من المطبخ إلى غرفتها؟
-كلا, حاولت ذلك, لكنها كانت ثقيلة. فاتكأت عليّ, لم أتمكن من تركها ممددة على الأرض. لو كانت مصابة بكسر, لما حركتها.
لما رأت العجوز ابن أخيها, حاولت الجلوس وشرح الحادث, فقال لها جيرفيه:
-على مهل... على مهل.
كانت جوسلين قد وضعت وسادة تحت الكاحل المتورم وكمادات باردة عليه. فقالت:
-يجب تصوير القدم على الاشعة, للتأكد بأنها حقاً ليست مكسورة.
لم يعلق جيرفيه على ما قالته, لكنه تفحص مكان الرضة في الرأس. وبعد أن طمأن عمته, أسار للفتاة أن تخرج و تتبعه. في الممر, قال لها:
-لا تقلقي, فالأمر غير خطير.
-هل يتطلب استدعاء الطبيب وقتاً طويلاً؟
-ليس هذا ضرورياً. عمتي تتمتع ببنية جيدة. ليست بحاجة سوى للبقاء في السرير بضعة أيام.
-لكنها تلقت ضربة على رأسها, ربما تكون خطيرة...
-أنا خبير بذلك.
-كل أصحاب المشاية على معرفة عميقة بالأمور الطبية, أحياناً, لا يمكننا انتظار الطبيب في بعض الحوادث. صدقيني, فلا خطر على عمتي.
تبعته حتى وصلا إلى المطبخ, ثم قالت:
-حسناً. إنها مسئوليتك. لكن لا شك أنها بحاجة إلى أسبوع راحة, على الأقل. من سيهتم بالمنزل مكانها؟ كاميليا لا تستطيع ذلك, طبعاً.
أغلق الباب قبل أن يتكئ عليه, مكتف اليدين, وقال ببرود:
-كنت أتوقع منك أن تتبرعي لنا بخدماتك, و تكوني أنت من يحل مكان عمتي.
-هل نسيت بأنني سأسافر بعد غد؟
-لكن بإمكانك أن تؤجلي موعد سفرك, في مثل هذه الحالة الطارئة.
-كلا... كلا...
سألها بلهجة ساخرة وببريق تحد في عينيه:
-هل تخافي أن تكوني غير قادرة على تحمل مثل هذه المسئولية؟
-ليس هذا هو الأمر. لا شك بأن نساء الحراس سيقدمن مساعدتهن للسيد...
-لم تصدقي بأنني كنت أتكلم بجدية, أليس كذلك؟ لا أريد أن أجرح شعورك, لكن...
هز كتفيه, فغضبت الفتاة وقالت:
-تريد أن تقول بأنني لا أستطيع تحمل هذه المسئولية, أليس كذلك؟
-لماذا؟ هل أنت قادرة على ذلك؟ هيا, تعقلي... و اعترفي لمرة واحدة بأنني على حق. كنت أناكدك, يا صغيرتي...
-أنت تقلل من شأني, يا سيد. فأنا بإمكاني أن أدير هذا المنزل, و سأبرهن لك ذلك و ستكتشف بأنك كنت مخطئاً.
بعد صمت, ابتسم وقال:
-حسناً... ما دمت تصرين, سنرى.
وغادر المكان. فهمت حينئذ بأنها وقعت في الفخ. لقد تحداها جيرفيه و نجح. و إذا غيرت رأيها الآن, ستدفع غالياً ثمن كلماتها المتهورة. ذلك لأنها أدركت في هذه اللحظة أنها لا تستطيع إدارة هذا المنزل وحدها: ثلاث وجبات كل يوم, لدزينة حراس جائعين... تلال من الصحون و الأواني للجلي, ضخ الماء وتسخينها في فرن قديم يشعل على الحطب... آه لا, هذا أمر غير وارد!
α α α α