قبل ثواني قليلة كانت مسترخية و الابتسامة تتلألأ على شفتيها, والآن, وجهها الشاحب أصبح حذراً و متخوفاً. أجاب جيرفيه شارحاً:
-أنا آسف, لم أكن أنوي مفاجأتك. جئت أطلب من الآنسة بيشوب إذا كانت لا تجد مانعاً من تناول الغذاء معنا. هكذا لن تحضر عمتي إلا صينية واحدة, صينيتك طبعاً.
سألت جوسلين الرجل:
-هل حان وقت الغذاء, يا سيد سانتون؟
-كلا, علينا أن نغتسل الآن. انزلي بعد عشر دقائق و سأعرفك بالآخرين.
سألت الفتاة ابنة عمها:
-سيعرفني إلى من؟
-رجاله. انهم حوالي الدزينة. معظمهم ينامون في الملحقات و يتناولون وجبات الطعام هنا. ليس من سبب كي تتناولي طعامك معهم.
-لا يهمني هذا الأمر. لا أريد أن أفرض على العمة عملاً إضافياً. لا شك أنها تمضي وقتها في المطبخ لتطعم هذه الأفواه العديدة. هل تهتم بالمنزل وحدها؟
-طبعاً. انها تتمتع بقوة الحصان. بالنسبة إليها, هذا هو دور المرأة. فبإمكانها بسهولة أن تحضر صينيتين.
-لا يهم. حين ينتهي الغداء, أعود إليك.
كانت تجربة مزعجة للفتاة, أن تدخل غرفة مليئة بالفرنسيين يسلطون عليها عيونهم الغامقة. و شعرت بارتياح عندما تقدم جيرفيه منها و عرفها إلى جماعته, قبل أن يدلها على الكرسي الموضوعة خصيصاً لها, في طرف الطاولة.
-لكن, أليس هذا مكانك؟
-أفضل لكِ أن تجلسي على الكرسي بدل البنك. و أسمحي لي أن أعرفك إلى رئيس الحراس مارسيل روجيه, هناك... الآنسة بيشوب.
ابتسمت الفتاة وهمست تقول:
-أنا سعيدة للتعرف إليك, يا سيد.
جلست على الكرسي, وتبعها الجميع.
بدأت السيدة سانتون تقدم يخنة الخضار بالخروف من قدر فخارية واسعة, و تنقلت الصحون من يد إلى يد أخرى.
و باستثناء جيرفيه, الجميع يرتدون قبعاتهم, يأكلون و يشربون بشهية, انهم عمال نهضوا من نومهم منذ الفجر. و تساءلت جوسلين إن كان وجودها يجعلهم صامتين, أم أنهم هكذا عادة. كانت تشعر بالانزعاج, عيناها محدقتان بصحنها, كأنها دخيلة أو جاسوسة.
و حسب تقاليد البلدة, مسحت صحنها بقطعة خبز. في تلك الأثناء, أحد الحراس أطلق زفرة استغراب و أخرج من جيبه زوج نظارات شمسية وقال:
-هاتان النظارتان للفتاة يا معلم جيرفيه!
سأل جيرفيه الفتاة:
-هل هذا صحيح؟
هزت رأسها موافقة, فناولها حارس شاب إياهما و قالت له:
-شكراً, يا سيد.
شرع جيرفيه يخبر رجاله كيف أضاعت الفتاة نظارتيها, فشعرت بالإزعاج حتى الأعماق.
ولما علم الرجال بأنها اعتبرت الثيران المتوحشة السوداء قطيعا من البقر الداجن, راحوا يقهقهون بصوت مرتفع, هازئين و ساخرين. في مواقف أخرى, كانت شاركتهم جوسلين الضحك, لكنها أدركت أن جيرفيه يحاول الهزء منها عن سابق قصد. فاستطاعت كبت انزعاجها و ابتسمت بخجل و ظلت تحدق في القرويين, ويداها مشدودتان و وجهها أحمر. لم يزعجها تصرفهم العفوي, لكن قلبها انجرح من نظرات جيرفيه الهازئة. لم يخطئ حدسها, عندا لاحظت عدائية جيرفيه اتجاهها منذ البداية. فكاميليا إذن على حق: آل سانتون لا يحبون الأجانب.
خلال الأيام الأربعة الأولى, لم تغادر الفتاة غرفة كاميليا, إلا عندما تتناول وجبات الطعام من العمال. لو كانت في انكلترا لمدت يد المساعدة إلى العمة في توضيب مائدة الطعام و غسل الصحون, لكن لا شك أن العجوز تعتبر ذلك تحدياً, و لرفضت مساعدتها بوقاحة.
بدأت صحة كاميليا تتحسن بوجود ابنة عمها, و استعادت شهيتها على الطعام, وكذلك نشاطها و عافيتها. غير أن جوسلين ما زالت قلقة عليها. فهذا المنزل المنعزل, الخالي من جميع وسائل الراحة, من الكهرباء و ماء ساخنة... هذا المنزل البدائي لا يناسب امرأة ستضع طفلها عما قريب. لكنها لم تخبر كاميليا بقلقها, بعدما قررت فتح هذا الموضوع مع جان-مارك لدى عودته من ليون.
ونهار الجمعة, بعد الغداء, قررت كاميليا أن تنام في فترة القيلولة. فشعرت جوسلين بحاجة إلى المشي. الطقس جيد ولا ترغب في قضاء وقتها بين أربعة جدران.
وما إن اصبحت جوسلين خارج عتبة المنزل, حتى سمعت أصواتاً وصهيل خيول. بفضول ذهبت نحو المستودع فرأت عمالاً و أولاداً, جالسين على الحواجز. اقتربت قليلاً و لمحت في أحد العنابر صاحب الماشية مع أحد حراسه, يضعان الرسن على حصان صغير.
بعد قليل, انسحب الحارس, فامتطى جيرفيه المهر- وفي الحل, تجمد الحيوان, رفع اذنيه إلى الوراء وابيضت عيناه, ثم قفز محدثاً صيحة رهيبة ارعبت الفتاة كثيراً. لم يسبق لها أن رأت مقل هذا المنظر من قبل. هل هذا ما يسمونه ترويض الحصان؟ كيف بإمكان فارسه أن يظل على ظهر لا يتوقف ثانية عن الهيجان و الوثوب. لكن جيرفيه ظل يتبع حركات الحصان. الغبار يرتفع, الأولاد يصفقون و العمال يطلقون أصواتاً مشجعة للفارس الماهر.
دامت المبارزة خمس دقائق, خلالها كانت الفتاة تشعر بالإعجاب لصبر و مكابدة أهل هذا البلد.
ولما بدا على الحيوان التعب, انحرف جانباً, فعلت أصوات التحذير من قبل الحضور, وما كاد يرتمي الحيوان على ظهره, رافعاً حوافره الأربعة في الهواء, حتى سحب جيرفيه رجليه و ابتعد. لو تأخر نصف ثانية لتحطمت ساقه. انبطح الرجل على الأرض المغبرة, ثم نهض, غير مصاب بأذى.
نفض الرجال الغبار عن ملابسه وتبادل كلمات المديح و النكات مع عماله, ثم تقدم من الحيوان و راح يداعب عنقه.
وبينما كان الحراس يضعون الرسن على حصان آخر, لمح جيرفيه الفتاة, فقفز فوق الحاجز و اقترب منها و سألها:
-هل ترغبين في رؤيتي, آسنة بيشوب؟ هل هناك مشاكل؟
-كاميليا تنام, و أنا سمعت ضجة, فجئت أرى ماذا يحصل. هل يزعجك إن بقيت أشاهد من هنا.
-لا, أبداً.
كان يقف أمامها, يداه على وركيه و قبعته منحرفة إلى الوراء, يلهث بشدة. ابتسم و قال:
-ابنة عمك لا تحب هذه المشاهد. و اقنعت أخي بعدم مساعدتي.
سألته جوسلين باهتمام و تهذيب:
-كم من الوقت يحتاج الحصان للترويض؟
-نحن هنا نعلم الحصان أن يفعل ما نطلبه منه. ولا يمكن لأحد في هذا المكان أن يروض حصاناً يولد و ينمو في منطقة الكامارغ.
-حتى أنت, لا تستطيع ترويض الحصان, يا سيد سانتون؟
-لم أحاول ذلك أبداً, آنسة بيشوب. انني أعرف تماماً قيمة حريتي. و الآن, أرجو معذرتي.
ابتعد الرجل وقفز فوق الحاجز.
في هذا المساء, وفي الوقت الذي كانت الفتاة تستعد فيه للنهوض عن مائدة العشاء, قال لها جيرفيه:
-سأذهب في الغد إلى مدينة آلرز, آنسة بيشوب. هل يمكنك أن تسألي ابنة عمك إذا ما كانت تحتاج لشيء اشتريه لها. سأغادر في الصباح البكار... قبل نهوضها من النوم.
-سأذهب في الحال, يا سيد.
فرحت كاميليا بهذا الخبر وقالت لأبنة عمها:
-آه, نعم, هناك أشياء كثيرة أنا بحاجة ماسة إليها.
تناولت المرأة مفكرتها الجديدة الزرقاء المطعمة بأحرف اسمها, و المبطنة بالحرير المموج, ثم سحبت من طرفها قلم حبر ذهبي, و راحت تدون عليها ما يلي.
-صابون... قطن... سكاير انكليزية... هذا لا يعجب جيرفيه. فهو لا يحب النساء اللواتي يدخنن.
-بنظري, يجب أن تحاولي الاقلاع عن التدخين. فهو مضر بصحة الجنين.
-آه, أنت أيضاً, بدأت تنهالين علي بالنصائح. يكفيني النصائح الصادرة من جيرفيه و عمته. اسمعي, لماذا لا تذهبين معه و تقومي عنه بشراء هذه الأغراض. هكذا توفرين عليه وقتاً و ستتاح لك فرصة زيارة الآثار و المتاحف هناك. لقد أمضيت هنا اسبوعاً مملا, حابسة نفسك في هذه الغرفة معي.
ذكرتها جوسلين قائلة:
-جئت إلى هنا لأبقى بجانبك. لكن, ربما من الأفضل أن أقوم بهذه المشتريات بنفسي, إذا كان السيد سانتون لا يرى في ذلك مانعاً.
استقبل جيرفيه الخبر بقلة حماس. لكن بعد تفكير و تحليل, أعلن قائلاً:
-حسناً, آنسة بيشوب. سنغادر في الثامنة صباحاً.
وفي صباح اليوم التالي, ارتدت جوسلين فستاناً قطنياً معرقاً, و رأت جيرفيه على مائدة الفطور عندما دخلت غرفة الجلوس. نهض و تأمل فستانها و حذاءها ولم تعرف إذا أعجبه منظرها أم لا. أما هو, فكان يرتدي قميضاً زرقاء و سروالاً ضيقاً, كاكي اللون. و انتعل فوق حزمته الجلدية غطاء من الكاوتشوك الواق.
وما ان انتهت من تناول الفطور حتى صعدت في سيارة الجيب. نظرت إليهما العمة وهما راحلان دون أن ترد على ابتسامة الفتاة و وداعها.
ران الصمت في الدقائق العشر الأولى, قطعه جيرفيه أخيراً عندما سألها فجأة:
-أخبريني يا آنسة بيشوب, ما هي مهنتك؟ هل أنت عارضة أزياء مثل ابنة عمك؟
-لا, شكراً يا إلهي! لماذا أخذت هذه الفكرة عني؟
-عمتي تساءلت الشيء نفسه. فكاميليا لم تخبرنا بشيء.
بصوت عال أجابت:
-أنا مدبرة منزل.
-تقصدين ربة منزل.
-نعم, أهتم بوالدي. انه طبيب.
-فهمت. اذن كيف استطعت المجيء إلى فرنسا هل لديك خدام يحلون مكانك؟
-تزوج أبي من جديد, و لولا ذلك لما استطعت المجيء.
-وهل ستستمرين في إدارة المنزل.
-آه, لا. هذا دور زوجته الآن. سأبحث عن عمل, لكنني لا أعرف نوعيته. لا أستطيع أن أعمل شيئاً خارج ادارة المنزل.
-ابنة عمك لا تعرف شيئاً في هذا المجال.
-هذه حال معظم الفتيات, في أيامنا هذه. يتعلمون إدارة المنزل في حينه. و كاميليا ستتعلم ذلك بسرعة متى اسست لعائلتها منزلاً. سيكون ذلك صعباً عليها, كونها فتاة أجنبية. الفتاة الفرنسية تعاني المشاكل إياها إذا تزوجت من رجل انكليزي.
-نساؤنا لديهن غريزة طبيعية لهذا النوع من الأعمال.
آه, إنه يتكلم عن النساء كما في القرن التاسع عشر!
لم يتسن لها الوقت لإيجاد رد مناسب, لأنها رأت فجأة عصافير يرتفع فوق المستنقع الممتد على طول الطريق, و يحلق في السماء الزرقاء مثل غيمة وردية. لم يسبق أن رأت بجمال هذا المنظر و سحره المفاجئ. فقبل لحظة كان الجبل صحراوياً...
-آه, هذا رائع جداً. ما هذا النوع من العصافير؟
كبح الرجل فرامل سيارته و أوقفها جانباً و أجاب:
-إنها طيور طويلة الساق و العنق, كما ترين و تدعى النحاميات. نحن هنا نسميها " الزهور الطائرة".
نزلت جوسلين من السيارة لتتأمل منظر هذه العصافير الجميلة, ثم قالت باستغراب:
-عصفور النحام في فرنسا؟ كنت أعتقد بأنها موجودة فقط في المناطق الاستوائية. انظر إن عددها يتجاوز الألف.
-لا يجود مثل هذه العصافير, هنا في فرنسا, إلا في منطقتنا, في الكامارغ. هل تهتمين بالعصافير, آنسة بيشوب.
-كلا, ليس تماما. انها عصافير غريبة. و العندليب عصفور غريب أيضاً. و وجوده كثير هنا, كالشحرور في انكلترا. هل زرت بلادي, يا سيد سانتون. اخبرتني كاميليا بأنك سافرت كثيراً.
أجاب باختصار وهو يقلع:
-لقد مررت بلندن.
-تتكلم الانكليزية بطلاقة.
نظر إليها ساخراً وقال:
-تعلمت اللغة الانكليزية في ليون, خلال دراستي الجامعية. هل هذا يدهشك يا آنسة بيشوب؟
-لماذا؟ لا سبب كي أندهش.
كان ينظر إلى الطريق, فلمحت الفتاة تقلص فمه في ابتسامة متعجرفة ثم قال بجفاف:
-تفعلين قدر مستطاعك كي تخفي عني نظرتك بي. لكنني أعرفها. أنت تعتبرينني انساناً غليظاً, أليس كذلك؟
لم تتوقع الفتاة ذلك منه, لكنها أجابت بحذر:
-بالكاد أعرفك, يا سيد. لكنني لست ساذجة لأصدق كل ما يقال عن الفرنسيين بأنهم جميعاً لطفاء و محبين.
كبح فرامله فجأة ليتحاشى السقوط في حفرة عميقة, اضطرت الفتاة التمسك في مقعدها كي لا ترتطم بنوافذ السيارة الأمامية. فقال لها:
-عفواً, آنسة بيشوب. طرقنا رجراجة. آمل ألا تكوني منزعجة من الرجة.
احمر وجهها و ظلت صامته. لكنها كانت مضطربة منذ أن بدأت فهم التأثير الذي يفعله بالنساء عامة, متى أراد ذلك. عم الصمت بقية الطريق. أخيراً وصلا إلى مدينة آلرز. أوقف جيرفيه سيارته أمام مقهى في جادة الأمراء و سألها:
-هل تحبين احتساء مرطب منعش؟
هزت رأسها مواقفة و تبعته إلى داخل المقهى. احتسيا الليموناضة المثلجة بسرعة, ثم دف الرجل فاتورة الحساب, ونهض قائلاً:
-هل باستطاعتك تدبير أمرك وحدك؟
-لغتي الفرنسية تكفي لأن أقوم بالشراءات من دون صعوبة.
-في هذه الحال, موعدنا هنا عند الظهر. إلى اللقاء يا آنسة.
رأته يبتعد, من طريقة مشيته, يفهم الآخرون أنه واثق من نفسه, كأنه يملك المدينة كلها. لم تستطع منع نفسها من التساؤل, لماذا هذا الرجل, الذي سافر وقام بدراسات جامعية, اختار أن يكون صاحب ماشية, في غضون ساعة انهت الفتاة مشترياتها, و وضعتها في سلة داخل المقهى, ثم راحت تجوب المدينة كسائحة. الجادة الكبيرة التي يحدها شجر الصفصاف هادئة تماماً. الكنائس الموحية بالهيبة و المقابر الضخمة, ذكرت الفتاة بالرومان و ثوبهم يتمايل مع خطواتهم الإيقاعية, في حركة وضجيج العربات. أغمضت جوسلين عينيها برهة, فتهيأ لها أنها تعيش في تلك العصور القديمة.
وصلت أخيراً إلى قلب المدينة, الشوارع تكتظ بحركة مستمرة. إنه يوم السبت, يوم المزارعين الذين يأتون إلى المدينة لعقد صفقات أعمالهم.
وجدت المقهى مليئاً, لكن خلال ثوانِ معدودة أخلت إحدى العائلات طاولة فشعرت جوسلين بارتياح و جلست أمام تلك الطاولة تحتسي شراب الليموناضة. أمامها نصف ساعة قبل عودة جيرفيه.
لم يعد وحده. بل مع فتاة شابة, سمراء, قصيرة, ترافقه متأبطة ذراعة باسترخاء.
-الآنسة بيشوب... الآنسة دورانس. الآنسة بيشوب ابنة عم كاميليا, يا سيلين. تمضي بضعة أيام عندنا في المزرعة.
نهضت جولين و مدت يدها تسلم على الفتاة الفرنسية, قائلة:
-تشرفت بمعرفتك. كيف الحال؟
ابتسمت سيلين مظهرة عن أسنان ناصعة جميلة, طلاء أظافرها يشبه لون حمرة شفتيها. ترتدي قميصاً وردياً وتنورة مكسرة كحلية خصرها نحيف و رأسها بالكاد يصل إلى كتف جيرفيه. قال هذا الأخير شارحاً:
-دعيت سيلين لتناول طعام الغداء معنا.
خرج الجميع إلى شرفة المقهى بعدما أخلى لهم الخادم طاولة واسعة مطلة. وبعد قليل, سألت سيلين جوسلين:
-هل هذه رحلتك الأولى إلى فرنسا يا آنسة بيشوب؟
-نعم.
احتارت جوسلين. الشوارع مليئة بالفتيات الجميلات, لكن سيلين مختلفة عنهن. حقيبة يدها البسيطة و حذاؤها الفاخر, و عطرها الناعم, وملابسها الأنيقة, كل ذلك يشير إلى أنها فتاة باريسية. ماذا تفعل هنا في آلرز... مع رجل مثل جيرفيه سانتون؟
خلعت الفتاة الفرنسية نظارتيها و قالت:
-كيف حال ابنة عمك؟ التقيت بها مرة واحدة عندما كانت تسكن مع جان-مارك في شقتهما, شارع غانبيتا. هل ما تزال في صحة سيئة؟
-انها تتحسن قليلاً. هل تسكنين في مدينة آلرز, يا آنسة؟
-لدينا منزل في المدينة حيث امضي أشهر الشتاء. لكن, في الربيع, أعود إلى مزرعة والدي, انه صاحب ماشية, مثل جيرفيه. ومزرعتنا ليست بعيدة عن مزرعة سانتون, انما ماشيتنا اسبانية, بينما ماشية جيرفيه مؤلفة فقط من الثيران الأصلية التابعة لمنطقة الكامارغ, أليس كذلك, يا عزيزي؟
جاء الخادم, و بينما كان جيرفيه يختار الطعام مع سيلين, من دون استشارة جوسلين, تساءلت هذه الأخيرة إذا التقى سيلين صدفة, أم كان على موعد مسبق معها.
أخرجت سيلين من حقيبة يدها علبة سكائر و قالت:
-هل تدخنين يا آنسة بيشوب.؟ كلا؟
تناولت الفتاة الفرنسية سيكارة, وقبل أن تضعها في فمها, وضع جيرفيه يده على معصمها وهز رأسه و قال:
-ليس الآن... انتظري نهاية الغداء.
-آه, أنت مزعج مثل والدي...
أحضر الخادم المقبلات المؤلفة من الزيتون الأسود و الخيار و الفطر و الطماطم و البيض المسلوق. فجأة, قال جيرفيه:
-هل تمكنت من القيام بجميع الشراءات يا آنسة بيشوب؟
-نعم, شكراً. و قمت أيضاً بتجوال حول المدينة. الطقس منعش, تحت أشجار الحور و الصفصاف.
قالت سيلين:
-لا شك أنك تجدين مناخنا حاراُ, أنا أحب هذا الطقس. فرحي الوحيد, أن أكون طول النهار تحت الشمس... ان أمتطي حصاني و أجوب مسافة طويلة دون أن التقي أحداً... آه, هذا ما أفضله أكثر من أي شيء آخر.
قال جيريفيه بجفاف:
-ما دام الحال هكذا, لا أفهم لماذا تمضين أوقاتاً عديدة في باريس؟
ضحكت وقالت:
-و أحب باريس أيضاً. اذهب إليها لاختيار ملابسي. ألا تحب أن أبدو جميلة يا حبيبي؟
-أنت جميلة بطبيعتك.
-صحيح.
-طبعاً. هيا, أكملي طعامك, يا عصفورتي.
ذهلت جوسلين ولم تصدق ما سمعته, خاصة ما صدر عن جيرفيه سانتون. لا شك أن علاقة الرجل بالفتاة الفرنسية قديمة. لكن هل هي علاقة أخوة أم علاقة حب جدية؟
أحضر الخادم الوجبة الأساسية المكونة من فخذ غنم محمر بالفرن, وإلى جانبه البازلاء و البطاطا.
وبين الحر و الطعام الشهي, بدأ النعاس يتغلب على جوسلين, بينما بقيت سيلين في حيويتها ونشاطها. تتكلم باستمرار مع جيرفيه, وتبتسم, من حين إلى آخر إلى الفتاة الانكليزية التي, ظاهرياً, لا يبدو أنها تشارك الرجل كرهه و عدائيته للأجانب.
بعد القهوة, أشار جيرفيه للخادم أن يحضر الفاتورة, فاقترحت الفتاة الفرنسية قائلة:
-لماذا لا تمر علينا في المساء, يا جيرفيه. لم يرك والدي منذ شهر تقريباً. ربما تحب الآنسة بيشوب أن تأتي معك.
قالت جوسلين بتهذيب:
-هذا لطف منك, يا آنسة, لكنني أفضل البقاء مع كاميليا, خاصة انها أمضت هذا اليوم وحدها.
-آه, نعم, لم أفكر بذلك... جان-مارك في ليون, أليس كذلك لكن أنت, يا جيرفيه, هل ستأتي؟
-كلا, ليس هذا المساء, يا سيلين.
بدت الخيبة على وجه الفتاة الفرنسية, لكنها لم تصر, بل اكتفت بالقول:
-إذن, ربما لرؤيتك في الغد. لم أر العمة مادلون من زمان.
-أهلا وسهلاً بك دائماً, يا صغيرتي.
أمام المقهى, ودعتهما سيلين, وبصمت توجه جيرفيه و جوسلين نحو سيارة الجيب التي انطلقت عائدة إلى المزرعة. في منتصف الطريق أوقف جيرفيه سيارته ليتحدث مع سائق سيارة جيب أخرى, آتية بالاتجاه المعاكس. ثم عاد و أقلع من جديد. بعد قليل, قال بهدوء:
-الرجل الذي تحدثت معه منذ قليل, هو الطبيب الذي ذهب لرؤية ابنة عمك, كالمعتاد.
قالت الفتاة باندهاش:
-ولماذا لم تقل لي ذلك من قبل. كنت أرغب في أن أكلمه أنا أيضاً. آه, كان يجب عليك أن تقدمني إليه.
-ولماذا؟ انه لا يتكلم الانكليزية, وحال ابنة عمك مطمئنة.
قطب حاجبيه, ثم هز كتفيه وقال شارحاً:
-عامة, يأتي عندما يكون أخي هنا. طبعاً, لو كنت أعرف اصرارك على رؤيته لعرفتك به. لكن, لا حاجة للقلق الآن. انه طبيب جيد وله خبرة واسعة في مجال تطبيب النساء الحوامل.
-هل هو موافق على أن تسكن المزرعة؟
-هل هذا يعني بأنك تمانعين ذلك؟
عضت الفتاة على شفتيها وقالت:
-كنت أفضل لو تذهب إلى المستشفى, ماذا لو أصيبت باشتراكات...
قاطعها الرجل قائلاً:
-ولماذا سيحدث لها اشتراكات؟ انها شابة و بصحة جيدة و يراقبها الطبيب باستمرار. ويعتقد بأن ولادتها ستكون طبيعية.
احتجت الفتاة وقالت:
-لكنها نحيلة و واهنة.
-إذا كانت ترفض الأكل, فماذا باستطاعتنا أن نفعل. ان نجبرها؟
-انها غير معتادة على المطبخ الفرنسي... الثوم... الزيت...
-وأنت مثلها يا آنسة بيشوب. لكن يبدو أنك تأكلين طعامنا ولا تعاندين إلا إذا كنت تتصنعين ذلك.
-كلا. أرى طعامكم رائعاً. لكن, لا تنسى أن كاميليا امرأة حامل و...
قاطعها قائلاً:
-ابنة عمك ترفض التكيف. وهذه هي مشكلتها الأساسية. لن تساعديها إذا شجعتها في هذا التصرف. يكفي أن أخي متساهل معها كثيراً.
أجابت الفتاة ببرود:
-لأنه يحبها, ربما. معظم الرجال يدللون نساءهم عندما ينتظرن مولوداً سعيداً. لكن, ما دمت أنت غير متزوج, فلا تستطيع فهم ذلك.
-لا يحتاج الرجل أن يكون متزوجاً كي يفهم النساء. ابنة عمك بحاجة إلى بعض القسوة. النساء كالفرس, يطلبن الصلابة و الحزم.
-صحيح لا عجب أن تكون عازباً في سنك, يا سيد سانتون.
-أنت لا توافقينني الرأي تفضلين الأزواج اللينين؟
-نظرتي إلى الزواج تختلف كلياً عن نظرتك, على ما يبدو. كما لن أتزوج رجلاً لا يرى بأنني على درجة معينة من الذكاء.
-صحيح بأن النساء كائنات غريزيات, لكن هذا لا يعني بأنهن غير ذكيات. أنت ما زلت صغيرة, يا آنسة, وربما لا تعرفين بعد نوعية مزاجك و شخصيتك الكاملة. عندما تكونين لنفسك خبرة أكبر, ستفهمين بأن النساء خلقن للطاعة, ولا يمكن للطبيعة أن تتغير.
احتجت ببرود قائلة:
-الأيام تتغير. أنت رجل تقليدي, أليس كذلك؟
ظهرت المزرعة من بعيد, جدرانها البيضاء تلمع تحت الشمس.
-هذا ممكن, لكن هذا لا يغير طبيعة العلاقة الموجودة بين الرجل والمرأة. ألا تجدين أن ابنة عمك تأخرت في الندم على زواجها.
-لكنها ليست نادمة على شيء. إنها تحب أخاك كثيراً. ومهما يكن, كيف باستطاعتك أن تطلب منها أن تكون سعيدة, بينما أنت و العمة لا تظهران نحوها محبة معينة, ولا أي حظ للتكيف الصحي.
-هل تتهميني و تتهمين عمتي بعدم التلاطف مع ابنة عمك؟
قالت الفتاة لنفسها: مهما فعلت و قلت, لن أتوصل إلى جعله فهم شيء مما أريد. فقالت معتذرة:
-كلا, طبعاً, يا سيد. ليس هذا ما أقصده. لكن بامكنكما أن تكونا متسامحين معها أكثر. كاميليا فتاة شديدة الحساسية, تعرف بأنكما لا تحبانها, وهذا يجعلها فتاة تعيسة. أخوك أيضاً ليس في وضع سهل. لكن لا جدوى في معارضة زواجهما. ربما من الأفضل لو تقف إلى جانب أخيك و تساعد كاميليا على التكيف.
أوقف جيرفيه سيارة الجيب. خبع قفازيه و رماهما إلى الوراء, ثم التفت نحو الفتاة وقال:
-مساعدتها؟ بأي طريقة؟
-آه, بطرق عديدة.
كانت الفتاة تعي بأن فستانها مجعلك و وجهها عابق من شدة الحر, لكن نظرات جيرفيه المحدقة بها, و دنو يده السمراء من كتفها, وترتاها , فشعرت بالتقلص فجأة. ماذا لو لمسها من دون وعي. كانت تخاف. انه مختلف عن بقية الرجال. لكنها لا تعرف لماذا تشعر بذلك. سألها:
-مثلاً؟
-بتشجيع الآنسة دورانس أن تأتي لزيارتها, مثلاً. كاميليا بحاجة إلى صديقات, و يبدو أنهما تتبادلان الاهتمامات نفسها.
-طبعاً, هذا اقتراح مليء بالوحي!
اضطربت جوسلين لتعبير وجهه الهازئ وقالت:
-لا أفهم.
-هناك أشياء كثيرة لا تفهمينها. أنت هنا منذ أسبوع و دعيني أقدم لك نصيحة, يا آنسة, عليك بالترفيه عن ابنة عمك. قريباً, ستلد و سيملأ الطفل أوقات فراغها.
احمرت جوسلين وقالت مدافعة:
-كنت أريد فقط مساعدتها.
-أنا أكيد من ذلك. و معك حق أن تعتقدي أن سيلين و كاميليا تتبادلان الاهتمام نفسه. لأن سيلين كانت الفتاة التي كان أخي سيتزوج منها, لو لم يذهب إلى باريس العام الفائت.
α α α α