2-ما هذه المزرعة؟ من هؤلاء الناس؟ ولماذا على جوسلين أن تحتمل ظلفة راعي الماشية هذا؟ لولا حمل كاميليا لما حلمت يوماً بالمجيء إلى هنا.
منذ أن استيقظت جوسلين من نومها في صباح اليوم التالي, شعرت بتغيير واضح؛ توقفت رياح الميستوال و الهدوء هم المكان.
قفزت من سريرها, وعلى رؤوس أصابعها, تقدمت من النافذة, فتحت مصراعيها الخشبيين, فأطلت الشمس بزهوها ملأت الغرفة بأشعتها القوية, الساعة تشير إلى السادسة و النصف, صحيح أنها أفاقت باكراً, لكنها نامت باكراً أيضاً, و أضمت ليلة عميقة هادئة في سرير مريح و دافئ.
على الطاولة أبريق يحتوي على ماء المطر العذب. اغتسلت, و فركت اسنانها, ثم أفرغت الماء المستعملة في دلو وضع تحت الطاولة. وراحت بعدئذ تفرغ محتوى حقيبتها. علقت الفساتين و الألبسة على حبل مخصص لهذه الغاية, و في الدرج وضعت كتبها و صورة والدها, فأصبحت الغرفة حميمة. الأحذية و الحقيبة وجدت مكانها تحت السرير.
منتديات ليلاس
وبينما كانت ترتدي سروالاً وقميصاً متناسقين, سمعت لأول مرة في حياتها غناء العندليب, فتحت الستائر, فانقطعت أنفاسها أمام المنظر الممتد أمامها: سهل واسع, لا نهاية له, تملأ الشمس بأشعتها الصباحية الدافئة. تهيأ أنها تسكن صحراء واسعة, هي التي اعتادت العيش في منطقة تلالية, محمية بالأشجار والأغصان الشائكة. لم يسبق أن رأت مثل هذا المدى الواسع, اللانهائي. فهذا الأفق الصامت, تتخلله أحياناً مسافات مائية براقة. ولا شجرة واحدة تكسر رتابة هذه الأرض, اللامحدودة لها.
لم تسمع أي صوت عندما خرجت بهدوء من غرفتها. وجدت باب المدخل مفتوحاً, فاستنتجت بأن جيرفيه و عمته لا بد أن يكونا في الاسطبل. فقررت القيام بنزهة صغيرة قبل موعد الفطور, متأكدة بأن كاميليا ما تزال نائمة في هذا الوقت.
أشجار الدلب تظلل ساحة المنزل, والشمس قوية تعمي النظر. بعد عشر دقائق, ندمت الفتاة لأنها لم تجلب معها قبعة تقيها الحر اللاهب, نظاراتها السوداوان السميكتان لا تكفيان لحماية عينيها الحساستين من وهج الشمس القوية.
كانت تتبع طريقاً مقبرة, تحدها المستنقعات والمساحات الموحلة حيث تنمو بعض النباتات البرية الخضراء. لا نسيم في الأفق, ورائحة الجو مالحة. لا شك إذن أن البحر على مقربة من هنا.
كانت تسير منذ نصف ساعة عندما انعطفت الطريق. على بعد مئة متر, لمحت قطيعاً يرعى. رفعت الحيوانات رأسها باتجاهها, ثم بدأت تتوجه نحوها.
لم تعرها جوسلين انتباهاً, لأنها معتادة على السير في الحقول المسكونة بالبقر و الحيوانات الداجنة. لفتت سمعها أصوات عصافير آتية من حوض قصب, وبينما كانت تسير نحو الحوض, أطلقت إحدى الحيوانات خواراً, ضاربة الأرض بحوافرها. ارتعبت الفتاة و أدركت حينئذ بأن هذه الحيوانات ليست من النوع الوديع, بل ربما تكون ضاربة و مؤذية.
لو كانت في انكلترا, لأسرعت في الاختباء وراء حاجز شائك, أو تسلقت إحدى الأشجار الوارفة. لكن هنا, في هذا المكان الصحراوي, لا وجود لأي ملجأ. ارتعبت و راحت تنظر حولها بيأس علها تجد منقذاً, و إلا داستها الحيوانات المفترسة.
بدأ القطيع بكاملة يخور و ينخر. في تلك اللحظة, وصل فارس على حصانه, في غيمة من الغبار الكثيف, و اقترب من الفتاة, حملها بين ذراعيه, و بلمح البصر, وضعها على الحصان أمامه, و ظل يسير إلى الأمام, ممسكا إياها بزمار سروالها.
بعد مسافة كيلومتر تقريباً, توقف الرجل, هبط عن حصانه و حمل الفتاة و أوقفها على الأرض. إنه جرفيه سانتون بذاته, لقد أنقذها من موت محتوم. فجأة, شعرت بضعف في قدميها كأنها على وشك الإغماء.
ولما رآها الرجل تتأرجح, إبتلع غضبه و أمسكها بقوة. و سرعان ما اختفى الدوار من رأسها. دفعت شعرها إلى الوراء, أخذت نفساً عميقاً وقالت بتلعثم:
-شكراً, يا سيد. أنا آسفة جداً.
بذل الرجل جهداً واضحاً للتغلب على غضبه و قال:
-كيف تقولين بأنك بنت جبل, و أنت لا تعرفين تمييز البقر من الثيران؟
لم يسبق أن تلكم معها أحد بهذه اللهجة المشمئزة, القاسية. أحست بالذل و أحمر وجهها و قالت مرتجفة:
-تصورتها من النوع الداجن. ففي انكلترا غير مسموح لمثل هذه الثيران أن تتنزه بحرية.
أجابها بلهجة قاطعة:
-لكن, أنت الآن في فرنسا, آنسة بيشوب! لو لم أكن ماراً من هنا صدفة, لمزقتك قرون هذه الثيران و داست بقدميها عليك... ماذا كنت تفعلين هنا, في هذه الساعة؟
-كنت أتنزه. و لم أكن أنوي إيذاء أحد.
-مهما يكن, لن أسامح حماقتك. لا أريد أن ينزعج قطيعي بسبب فتاة بلهاء لا تعرف استعمال نظرها و عقلها.
آه, إلى هذا الحد؟ لقد اعتذرت منه و اعترفت بخطاها, لكنها لن تسمح له أن يعاملها بكراهية و احتقار. فأجابت بقسوة:
-صحيح. كيف باستطاعتي, يا سيد سانتون, أن أعرف مسبقاً بأنك سفاح و تسمح لثيران متوحشة أن تتنزه في الريف بحرية مطلقة دون حارس أو رقيب.
-إنها لا تسبب أي خطر إذا لم تتعرض لأي تحريض من أحد.
-أنا لم أحرضها!
-لا يجب أن يتقدم منها الانسان على قدميه. فهي لا تحب ذلك.
-لا تحب ذلك! و أنا, هل تعتقد بأنني أحببت ذلك. كنت مرتعبة. و فقدت نظارتي... وتمزقت قميصي... و أنت تهتم فقط بأحاسيس حيواناتك المتوحشة!
نظر إلى قميصها الممزق وقال:
-بإمكانك أن تقطبيها.
ثم أضاف وهو يناولها قبعته:
-من الأفضل لك أن تعتمري قبعتي.
رمقته بنظرة غاضبة وقالت:
-كلا, شكراً.
أمرها قائلاً:
-ضعيها, يا آنسة بيشوب. عمتي منهمكة بأعمال كثيرة, و يكفي ما تفعله من أجل كاميليا. فليس لديها وقت تضيعه للاهتمام بك. ضربات الشمس ليست بأمور ممتعة!
وضع القبعة على رأس الفتاة و راح يجلب حصانه الذي كان يرعى على حافة الطريق. وكان من دون سرج.
-هيا, هوب!
أمسك الفتاة من خصرها و وضعها على ظهر الحصان, وبقفز, كان جالساً و راءها. ثم قال:
-هيا, يا قيصر! سر!
قطع الرجل الطريق من جهة المستنقعات كي يتحاشى الثيران. ولم يبد أن الحصان يتألم من ثقل انسانين يمتطيانه. لكن, بالنسبة إلى الفتاة, كانت العودة أصعب تجربة في حياتها: يزعجها قربها من رجل, بالكاد تعرفه, و اضطرارها إلى الاستناد عليه ولمسه و سمع خفقات قلبه السريعة.