كانت الفتاة تخشى ألا يستطيع روبرت تحمل سلطة والدها, خاصة لأنه يجتاز في هذه المرحلة سناً صعبة. فما زال يعلق صورة والده في غرفته ولا شك أنه ما زال يتذكره لأن ايان راندل مات عندما كان الصبي في الثامنة من عمره.
في حوالي منتصف الليل, صعدت جوسلين إلى غرفتها بعدما اعدت حقيبتها لرحيلها باكراً في اليوم التالي. لكنها لم تنم بسهولة. الخوف و الاثارة و المجهول, كل هذا جعلها متوترة الاعصاب. و لما افاقت في الصباح على صوت المنبه شعرت بتقلص حاد في معدتها, فلامت نفسها قائلة: " كم أنا حمقاء! لم أعد فتاة صغيرة, ولست ذاهبة إلى آخر العالم ".
عندما انتهت من الاغتسال و ارتداء ملابسها, نزلت إلى المطبخ و اعدت الشاي و حملته على صينية إلى غرفة والدها. أحست بشعور غريب لرؤية إليزابيث قربه بشعرها المشعث. فتحت الستائر و قالت:
-آسفة لإيقاظكما بكاراً, لكن طوم سيصل قريباً جداً ليوصلني إلى المحطة, و لا أحب الذهاب من دون أن أودعكما.
قالت إليزابيث باستغراب و فرح:
-آه, الشاي! يا لهذا الترف! شكراً, يا جوسلين. أظن بأنك متوترة قيلاً. لا تنسي أن تتصلي بنا هاتفياً, حين وصولك.
قالت الفتاة معترفة:
-لم أعد أشعر برغبة في الذهاب. آمل ألا ينتابني الغثيان خلال الرحلة.
طمأنتها زوجة والدها قائلة:
-طبعا لا. هذا نادر حصوله في الطائرة. آه, ترتدين بزة جميلة, هل هي جديدة؟
-لا لكنني لا أرتديها إلا نادراً. لا يسعني التصديق بأن غداً, في مثل هذا الوقت, سأفيق في فرنسا. كما اتساءل أي نوع من الاستقبال سيخصني به آل سانتون.
قال الطبيب ناصحاً:
-في كل حال, لا تقفي دائما إلى جانب كاميليا, ولا تقفزي إلى الاستنتاجات بسرعة. ربما تكون ابنة عمك فتاة طائشة. لكنها تكبرك بثلاث سنوات وباستطاعتها أن تدافع عن نفسها وحدها. كوني حذرة, يا ابنتي!
وبينما كانت ساعة الحائط في الصالون تدق دقاتها السبع, سمع زمور سيارة طوم. خرج الطبيب مع ابنته, وضع حقيبتها في الصندوق, ثم قبلها لآخر مرة قائلاً:
-إلى اللقاء, يا حبيبتي. استمتعي بوقتك كثيراً.
-إلى اللقاء, يا أبي, إلى اللقاء. . . إلى اللقاء.
في المحطة, اصر طوم أن ينتظر القطار معها. و خلال الطريق إلى المحطة لم يقل شيئاً, لكن جوسلين كانت تشعر بأنه لا بد أن يظهر عن أحاسيسه في اللحظة الأخيرة. لما دخل القطار إلى محطته, صعد طوم مع الفتاة و اختار لها مقعدا قرب النافذة, فقالت له:
-لا ضرورة لانتظار إقلاع القطار, شكرا لك على كل شيء, يا طوم.
ضمها إليه بشدة وقال:
-سأشتاق إليك كثيراً, يا جوسلين.
-لن أغيب سوى ثلاثة أسابيع.
-لا تنسي أن تكتبي لنا بعد وصولك إلى فرنسا.
-طبعاً
ثم أضافت بابتسامة ساخرة:
-أنا لم أعد تلميذة مدرسة.
قال مازحاً:
-مهما يكن, فلا تتحدثي إلى أشخاص تجهلينهم.
-هذا لا أستطيع فعله بطبيعة الأحوال. ولغتي الفرنسية ليست جيدة, لكنني آمل في تحسينها.
-إياك أن تقعي في غرام شاب فرنسي!
-آه, يا طوم, انزل من القطار. انهم يغلقون الأبواب. إلى اللقاء. سأرسل إليك بطاقات بريدية.
منتديات ليلاس
أطلقت الفتاة تنهيدة ارتياح عندما نزل طوم. لكنه سرعان ما عاد وصعد القطار و أخذها بين ذراعيه و عانقها.
من محطة فيكتوريا في لندن, استقلت جوسلين سيارة أجرة نقلتها إلى مطار هيثرو الدولي. وهناك, في جناح شركة الخطوط الجوية الفرنسية سجلت بطاقتها و صعدت مع الركاب في طائرة الكارافيل التي أقلعت في الحادية عشرة وهبطت في مطار أورلي ظهراً. بعد نحو ساعة استراحة, انطلقت الطائرة من جديد لتهبط في الثانية و النصف في مطار سنريتيان ومن هناك استقلت باص شركة الطيران فأوصلها وبقية الركاب إلى قلب مارسيليا.
توجهت جوسلين في الحال إلى محطة القطارات لتستعلم عن مواعيد الاقلاع إلى مدينة آلرز, فقيل لها أن موعده في الخامسة. كان لديها ساعتان لبعض التجوال السياحي, و ضعت الفتاة حقيبتها في أمانة المحطة, وانطلقت في شوارع مارسيليا, إلى ساحة الكاتوبيار, المكتظة بالمقاهي و المحلات. فامتلأ قلبها فرحاً.
في انكلترا, شوارع القرية في مثل هذا الوقت لا شك أنها فارغة. الرجال ينعسون قرب موقد النار أو يتنزهون في الحديقة. الأولاد يعودون من المدرسة, ومعظم النساء يسترحن بعد الانتهاء من غسل الصحون أو يحضرون الشاي.
و جوسلين, الآن, على بعد ألف كيلومتر من انكلترا. هذه المدينة تعج بالحياة و الحركة المستمرة. خدم المقاهي, بصوانيهم المليئة قهوة و مقبلات ينتقلون من طاولة إلى طاولة. البحارة بالقبعات الحمراء يصفرون و يتحرشون بالفتيات الجميلات اللواتي يقدن الدراجات... رسام متشرد, ملتح, ذو شعر طويل, يحاول بيع لوحاته التجريدية, ذات الألوان الفاقعة, إلى المارة و الاجانب.
مشت جوسلين حتى المرفأ القديم, ثم سلكت الرصيف المواجه نحو الكانويبار. استجمعت شجاعتها و دخلت إلى أحد المقاهي و اختارت طاولة على الشرفة, بانتظار قدوم الخادم. شعرت الفتاة بانزعاج, لكن لا أحد ينظر إليها. فهم الخادم ما طلبته. بسرعة أحضر الخادم فنجان قهوة مع الكريما و قطعة حلوى باللوز.. و كتذكار, وضعت الفتاة الزرقة الملفوفة على قطعة السكر, في حقيبتها, بسبب وجود عنوان واسم المقهى عليها.
بقيت هناك حتى موعد ذهابها إلى محطة القطار. جلست تنظر إلى حركة السير المزدحمة و الناس, تصغي إلى أحاديثهم علها تفهم ما يقولون. . . إنها حرة, مستقلة, تكتشف العالم, هي التي لم تعش حتى الآن سوى حياة رتيبة اعتيادية.
في السادسة وصلت إلى مدينة آلرز, ساعدها الحمال على رفع حقيبتها و سألها:
-هل تريدين سيارة أجرة, يا آنسة.
وبلغة فرنسية مترددة, أجابت:
-كلا, شكراٍ. هناك من ينتظرني.
بقيت على رصيف المحطة, تنظر إلى المارة, متوقعة قدوم جان-مارك في أي لحظة. تعرفه من صورة ارسلتها كاميليا منذ فترة قصيرة. لكن, لم يأت أحد. ربع ساعة مضت وهي واقفة قرب حقيبتها, قلقة و متوترة و خائفة جداً. أخيراً سمعت صوتاً يقول:
-آنسة بيشوب.
انتفضت في مكانها والتفتت لترى رجلاً, ممشوق القامة, يرتدي سترة جلدية قديمة و قبعة رمادية واسعة,’ لم ينتزعها عندما قدم نفسه قائلا:
-أنا جيرفيه سانتون. آسف لتأخري. من فضلك أن تتبعيني. . .
انحنى مرحبا و حمل الحقيبة و سبق الفتاة, خارجاً من المحطة.
ريح عنيفة عصفت في الخارج, وهنأت الفتاة نفسها لأنها ارتدت معطفا سميكاً راقياً. وضع الرجل الحقيبة في صندوق سيارة الجيب, ثم ساعد الفتاة على الصعود و الجلوس في المقعد الأمامي, و وضع فوق ركبتيها بطانية صوفية, فأجابته بخجل:
-شكراً, يا سيد.
نظر إليها الرجل مفصلاً, وهو يدور حول السيارة ليجلس أمام المقود. خف الازدحام و الشمس تشرف على المغيب, وبرد الهواء.
خارج المدينة, الريح تعصف بقوة يؤرجح سيارة الجيب بعنف. من حين إلى آخر, تهب الرياح دافعة بالسيارة نحو الحفر. فالطريق غير معبدة, و مليئة بالحجارة المتطايرة. تهيأ للفتاة أن عظامها تفككت. فجأة عم الظلام ولم يعد باستطاعتها تأمل القرى الريفية المجاورة. قالت بصوت مرتفع كي يسمعها الرجل, المنصب بكل اهتمامه على الطريق:
-كم يبقى من مسافة حتى نصل إلى مزرعتك؟
-حوالي 25 كيلومتراً.
ارتعبت الفتاة و خارت قدماها. لا شك أنهما يجتازان منطقة مليئة بالمطبات, تمسكت الفتاة بمقعدها, متقلصة اليدين وقالت لنفسها: " يا كاميليا المسكينة! أفهم الآن لماذا تري هذا المكان منعزلاً!".
بدت الطريق كأنها بلا نهاية. السيارة تجتاز من حين إلى آخر جسوراً خشبية تدفع الفتاة إلى الأمام باستمرار. و الرجل لا يعتذر عن صعوبة الرحلة, ربما لأنه اعتاد عليها.
أخيراً توقفت السيارة أمام منزل مضاء, فحمل الرجل حقيبة الفتاة بيد و تأبط ذراعها باليد الثانية وساعدها على اجتياز الساحة المعبدة, حتى وصلا إلى مدخل المنزل.
لم يسمع أحد صوت محرك السيارة لشدة الريح القوية. دق الجرس, فتحت الباب امرأة, بلباس أسود, وبيدها قنديل غاز. انسلت الريح إلى الداخل, فأغلق السيد سانتون الباب في الحال و أحكم اقفاله, ثم قال كلمات سريعة للعجوز, دافعا الفتاة إلى الممر, فإلى غرفة واسعة يشتعل الموقد في داخلها. جلست الفتاة على كرسي قرب النار, سمعت الرجل يقول لها:
-سأحضر الشاي في الحال.