6-عيد بأي حال عدت يا عيد... لم تستطع جوسلين الصمود في الليلة الأولى وفي الليلة الثانية اكتشفت حقيقة أذهلتها وعادت في جيب رجراج إلى المزرعة...
في اليوم التالي, عشية العيد, قالت كاميليا:
-تعرفين, يا جوسلين, فكرت كثيراً بما قالته البصارة عني. انها على حق, نعم, لديّ موهبة. لن يصبح جان-مارك أبداً رجلاً ثرياً, لأنه ليس من النوع الوصولي. بل أنا من سيربح الأموال الطائلة.
-كيف؟ في مجال الموضة النسائية؟
-كلا، في الديكور الداخلي, تذكرت ما قلته عن مزرعة آل دورانس وكيف هي منظمة. فديكورها مأخوذ عن الأسلوب الانكليزي الريفي. وحسب رأي سيلين, الأثاث الانكليزي ذو شهرة كبيرة في هذا العصر. هكذا, عندما نستقر في مرسيليا, سأفتح مخزن ديكور : كاميليا و شركاؤها... ما رأيك؟
-هل نسيت بأنك مقبلة على تربية طفل رضيع؟
-آه, بإمكاني أن أوظف خادمة و مربية أطفال. لا تبدئي بإرشادي, فأنا لست من نوع الأمهات اللواتي يدللن أولادهن. صحيح سأكون فرحة بأن أصبح أماً, لكنني لا أريد أن أكرس لولدي كل وقتي. في الحقيقة أرى رضاعة الطفل أمراً غير ضروري, هل صدمتك كلماتي؟
-ستغيرين رأيك عندما تنجبين طفلك.
-ربما. لكنني أشك بذلك. في كل حال, من الممكن للمرأة ان تكون أماً صالحة حتى و لو عملت خارج المنزل في الوقت نفسه. وهذه حال معظم نساء اليوم.
-لكنك لست مهنية أو حرفية! و من سيهتم بالمحاسبة؟
-آه, جان-مارك, في المساء, إلى أن يصير بإمكاني توظيف محاسب دائم اختصاصي. أما من الناحية الديكورية البحتة, فأنا متأكدة بأن ذوقي في هذا المجال جيد و رفيع. عيناي تريان الألوان المناسبة بدقة و ذكاء. شقتي السابقة صممتها بنفسي, و نالت اعجاباً كبيراً لدى جميع اصدقائي.
-نعم, معك حق. أنا موافقة على النجاح. لكن من أين لك المال, يا كاميليا؟ من دون رأسمال معين المشروع مستحيل.
-لدي من المال ما يكفي لاستئجار مكان واسع و شراء المعدات الأولية, بانتظار أن أبدأ بالكسب و الادخار.
-وهل ناقشت هذا الأمر مع زوجك؟
-آه، نعم. أمضينا نصف الليل في الحديث عن هذا المشروع. و جان-مارك موافق. لم يذهب إلى عمله اليوم بل فضل الذهاب إلى مرسيليا للبحث عن شقة مناسبة لنا.
عاد جان-مارك بعد الغداء، عندما كانت جوسلين و كاميليا جالستين في ساحة المنزل. دخلت الفتاة إلى المطبخ لتحضر له كأس ليموناضة, ولما عادت قالت لها ابنة عمها بحماس:
-وجد جان-مارك ما نتوق إليه يا جوسلين! منزل قرب الساحة العامة. في الطابق الأرضي سيكون محلي, القبو مستودع, و نسكن في الطابق الاول.
سألت جوسلين الرجل:
-هل المبنى بحالة جيدة؟ وهل الايجار معقول؟
-ليس المبنى في حال جيدة كما يجب. لكن كاميليا تصر على السكن في وسط المدينة. الايجار ليس عالياً, لأن الطلاء قديم و المنزل بحاجة إلى تصليحات عدة. فتشت كل انحاء مرسيليا و لم أجد مكاناً آخر قرب المحلات و المقاهي.
-ولماذا لا تفكران بالضاحية؟
هتفت كاميليا تقول بحدة:
-لا, لا. يجب أن نسكن في حي جيد و هذا أمر أساس و حيوي. لا أهمية ان كان وضع المنزل سيئاً, يا حبيبي. فسنقوم بالتصليحات الضرورية و نزينه على ذوقنا. بعد ذلك لن يستطيع المالك أن يتعرف إليه.
-لكن هناك مسألة التأمين. علينا أن ندفع مبلغاً قيمته مئة ألف فرنك, ونحن لا نملك هذه القيمة.
قالت كاميليا بهدوء:
-بإمكاننا أن نطلب من جيرفيه مساعدتنا. هذا أقل ما يستطيع فعله من أجلنا. فهو لا يدفع لك فلساً واحداً من مدخول المزرعة.
-لكنني لا أعمل في المزرعة, يا حبيبتي ولا سبب لكي يدفع لي شيئاً. الا يكفي أنه يؤوينا و يطعمنا؟
-لكن المزرعة ملكك كما هي ملكه.
-جيرفيه الصبي البكر, و هو الذي ورث المزرعة. لو لم يشتري الماشية من جديد, بعد الحرب, لما ملكنا شيئاً الآن.
قالت جوسلين مقترحة:
-لكن بإمكانك أن تطلب قرضاً من المصرف.
-لا حاجة للمصرف من أجل مبلغ ضئيل كهذا. جيرفيه سيساعدنا. أنا سأحدثه بالأمر شخصياً إذا رفضت يا جان-مارك ان تقوم بالمبادرة هذه بنفسك.
-لا تبكي, يا حبيبتي. هذا يضر الطفل. اطمئني سأحدث جيرفيه بالأمر.
-هل تعدني بذلك؟ نحن في حاجة إلى هذا المبلغ من المال في الحال. إذا تأخر, سيستأجر المكان أحد غيرنا.
غضبت جوسلين من ابنة عمها و فضلت الدخول إلى المنزل. غسلت شعرها و خرجت تجففه في الشمس, و جدت جان-مارك وحده فقال لها بأن زوجته تنام في غرفتها. بدا الهم كثيفاً على وجهه, فقالت له جوسلين:
-اسمعني جيداً, يا جان-مارك. منذ أن جئت إلى هنا, لم أصرف المال الذي أملكه. و أريد مساعدتكما, أنت و كاميليا.
احمر وجه الرجل و أجاب بخجل:
-لا, لا. هذا لطف منك, لكن لن أسمح بذلك. لا تقلقي علينا, أرجوك. لقد وجدت حلاً.
-من دون أن تطلب من جيرفيه مساعدتك؟
-تماماً. لست خائفاً أن يرفض طلبي, لكنه دائماً كريم معي, و أنا اليوم زوج و يجب أن أتحمل مسئولياتي وحدي.
-هذا أمر طبيعي, يا جان-مارك. لكن ما هو الحل؟ ماذا ستفعل؟
-لا تخافي, سأجد حلاً.
تذكرت جوسلين بأن الرجل وعد زوجته عدم الاشتراك في سباق الثيران الحر, فنظرت إليه متشككة و سألته:
-هل تنوي كسب هذا المبلغ من المال؟ أقصد تريد ربحه؟
من اندهاشه, ادركت أنها أصابت جيداً, فتابعت تقول:
-آه, لا, يا جان-مارك وماذا لو أصبت بجروح خطيرة؟ النفقة تفوق الثمن.
قال الرجل مبتسماً:
-لكن, ليس في الأمر أي مخاطرة, يا صغيرتي. لا تخافي, لن أصاب بجروح. في مدينة آلرز, سباق حر كبير بعد ثلاثة أيام. إذا حالفني الحظ, سأربح المال الكافي لدفع التأمين و شراء بعض الأثاث.
-و إذا لم يحالفك الحظ, ربما تجد نفسك في المستشفى. من زمان ولم تتمرن, و الخطر موجود, لا تقل العكس. آه, أرجوك, يا جان-مارك, كن متعقلاً. سيجن جنون كاميليا إذا عرفت بالأمر.
-لن أخبرها... و أنت أيضاً. هذا سرنا, يا جوسلين. أقسمي لي بألا تخبري أحداً بالأمر.
-حسناً. أعدك بذلك. لكن بنظري, هذا التصرف من قبلك جنوني. هل ستقول لكاميليا بأن جيرفيه هو الذي أعطاك المال, في حال ربحت المباراة؟ ربما تذهب و تشكره و يفضح أمرك.
-كلا, سأطلب منها ألا تفتح الموضوع معه, لأن مثل هذه القضية من شؤون الرجال فقط.
قبل العشاء, التقت جوسلين بجان-مارك في الممر, فقال لها:
-تحدثت مع جيرفيه عن مشروعنا الجديد, فاعتبرنا مجنونين، زوجتي و أنا, لكنه لا يستطيع منعنا.
بعد العشاء. ذهبت جوسلين إلى الساقية. و للمرة الأولى منذ مجيئها, ترى السماء ملبدة بالغيوم الكثيفة السوداء و تسمع الرعد يعصف من بعيد. كان الجو ثقيلاً ولا نسمة في الأفق.
جلست على الجسر الخشبي و خلعت صندلها و وضعت رجليها في الماء. في هذه الأثناء يجري الاستعداد للعيد. أما هي, فأصبحت جاهزة تقريباً: كوت فستانها و فستان كاميليا و لم يبق سوى تجعيد شعرها قبل الايواء إلى النوم.
منتديات ليلاس
بعد قليل, لمحت جيرفيه يخرج من المزرعة و يتجه نحوها. ماذا يريد؟ احمر وجهها لدى تذكرها كلماته بالأمس. لكن كيف عرف بانها وقعت في حبه؟ ما الذي قالته أو فعلته, حتى فهم حقيقة مشاعرها؟ لو كان فعلاً عالماً بكل شيء، و يرى ما يدور في ذهن وقلب الآخرين, لماذا لا يرى اذن بأن سيلين تحبه كثيراً؟
عندما اقترب منها, سألته:
-هل ستمطر غداً, حسب رأيك؟
-ربما... دائماً تمطر أثناء العيد. ربما تهب العاصفة في الليل, و قد يكون الطقس جيداً.
-آه, آمل ذلك, و إلا فسد العيد.
لم يرد عليها, فأخرجت قدميها من الماء و بدأت تجففهما بمنديلها, فجأة, سألها:
-لم تأكلي شيئاً تقريباً, خلال العشاء, و هذا ليس من عادتك. هل هناك شيء على غير ما يرام؟
-لم أكن جائعة, بكل بساطة.
-هل أنت قلقة يا ترى بسبب أفكار ابنة عمك الجنونية؟
انتعلت صندلها و أجابت:
-لا, أبداً.
-هل تشجعينها على مشروعها الجديد؟
-لا دخل لي في الأمر. الفكرة فكرتها و الأمر يتعلق بها.
نهضت الفتاة بغية العودة إلى المنزل, لكنه قام بخطوة إلى الامام وسد عليها الطرق و قال:
-لنقم بنزهة قصيرة. أريد أن أحدثك.
أجابته بلؤم:
-رغباتك أوامر, يا سيد سانتون.
-المعذرة.
ثم انحنى و قال:
-آه, ربما كان من المفروض أن أسألك, هل بإمكاني الحصول على شرف رفقتك الرائعة؟
صرفت الفتاة بأسنانها و مشت بخطوات واسعة, ثم خففت سرعتها, فقال لها:
-اذن, قررت تمديد فترة اقامتك, على ما سمعت؟
-نعم, بعد أن حصلت على اذن من عمتك, طبعاً. هل تجد في ذلك مانعاً؟
-أبداً. لكنني أفضل أن تعودي إلى انكلترا, مباشرة بعد ولادة الطفل.
فقالت بصوت متوتر خفيض:
-آسفة إذا كان وجودي هنا يزعجك.
انغلقت يد جيرفيه على كتفها, و أرغمها على التوقف عن المشي و النظر إليه مواجهة. دوى الرعد عن قرب, و لمع نور غريب فوق السهل. تكهرب الجو ثم قال جيرفيه بانزعاج:
-لا تكوني حمقاء. ليس هذا ما أقصد قوله. ألا ترين ماذا سيحدث ان بقيت؟ ستستغل ابنة عمك وجودك لتستخدمك... في البداية الطفل... ثم مشروع مرسيليا. فهي لا تتكلم الفرنسية و كيف باستطاعتها القيام بمثل هذه الأعمال؟ هل تعتقدين بأن كاميليا قادرة على جعل المنزل صالحاً للسكن؟ كلا, أنت من سيفعل ذلك. ستنظفين و تطهين و تهتمين بالطفل. تباً للشيطان! أنت تعرفينها, أليس كذلك؟ و ترين كيف هي أنانية؟
صرخت الفتاة بوجهه قائلة:
-كيف تجرؤ! أتركني! رأيك لا يهمني اطلاقاً, يا سيد سانتون. أنت, ربما تدير نصف منطقة الكامارغ, لكن أنا, ليس من واجبي أن أتلقى الأوامر منك.
حاولت التخلص من قبضته. في تلك اللحظة, لمع البرق في السماء. وعلى بعد عشرة أمتار منهما. اشتعلت شجرة عرعر. فوجدت جوسلين حالها بين ذراعي جيرفيه.
هل هو الذي تحرك نحوها أم هي؟ أو أنه انجذاب بدائي قذفهما عنواً إلى ذراعي بعضهما البعض؟
عصف الرعد و بدأت قطرات المطر الأولى تتساقط. وبعد دقيقة, بدأ الطوفان.
لا فائدة من الاختباء أو الالتجاء إلى مكان واق, بثوان معدودة, اصبحا مبللين حتى العظام, وتحولت الطريق المغبرة إلى مستنقع.
امسكها جيرفيه بذراعه و اتجه بها نحو المزرعة. لولاه, لوقعت أرضاً. بسرعة, امتلأت ركبتاها وحلاً. لما وصلا أمام الباب, بدأ المطر يخف. عندما دخلت إلى المطبخ, صرخت كاميليا قائلة:
-يا إلهي! شعرك... صندلك...
قال جيرفيه لكاميليا بلهجة آمرة:
-اذهبي و أحضري مئزراً و منشفة, من فضلك.
ثم دفع جوسلين إلى الكرسي و انحنى ليخلع صندلها الموحل, بينما كان جان-مارك يساعد عمته في ملء المغطس بالماء الساخنة, ويقول مبتسماً:
-رأيتكما عائدين. ماذا كنتما تفعلان خارجاً؟ كان عليك, يا جيرفيه, أن تعرف بأن العاصفة قريبة.
تجاهل الأخ هذه الملاحظة ثم ساعد الفتاة على الوقوف ثم حملها و وضعها على المجلى وقال:
-يجب أولاً نزع هذه الأوساخ عن رجليك قبل أخذ الحمام.
وراح يغسل رجليها و قدميها الموحلتين. ولما جهر المغطس و امتلأ بالماء الساخنة, انسحبت العمة و جان-مارك من الغرفة. عادت كاميليا و رفعت حاجبيها مصدومة أمام ما رأته, لكنها لم تجرؤ على قول شيء.