5-وكان لابد لها أن تشهد الجانب العنيف من حياة الكامارغ فبعد وقت لطيف على الشاطئ جاء عراك و بعد العراك جاءت البصّارة...
قبل التاسعة وصلا إلى الشاطئ, النهار ما زال ساطعاً مع أن الشمس بدأت تختفي وراء الأفق. المكان رائع ولا أحد في الجوار. ارتدت جوسلين بزة السباحة وراء شجرة صغيرة, قم وافت رفاييل إلى البحر. لعبا معاً في الماء الدافئة, الشفافة لمدة نصف ساعة, و لما عادا إلى الشاطئ الرملي, كانت جوسلين قد استعادت حيويتها, فارتمت فوق منشفتها و قالت:
-آه, انها الجنة!
جلس رفاييل قربها على منشفته, ثم انتشل من كيس صغير لوح شوكولاتة و ناولها اياه, فقالت له:
-آه, رائع! أنا جائعة حقاً. و كان يجب عليّ أن أتذكر و أجلب بعض الخبز على الأقل.
قطعت لوح الشوكولاتة نصفين و ناولته جزءاً, فقال لها:
-كلا, اللوح كله لك, أنا سأدخن سيكاره.
بقيا صامتين قليلاً, الفتاة تقضم بشهية و تتأمل الأمواج تصفق على الرمل, و الشاب ممدد على ظهره, مغمض العينين, يدخن سيكارته بكسل. نسيت الفتاة وجوده كلياً, عندما نهض فجأة وسألها:
-هل لديك صديق في انكلترا, يا جوسلين؟
أجابت و هي تنظر إلى البحر قلقة:
-أنا لست مخطوبة لأحد, إذا كان هذا ما تريد معرفته.
-لكن, هل هناك رجل تحبينه كثيراً و تفضلينه عن الآخرين؟
تذكرت طوم, لو لم تسافر لربما عقدا خطبتهما؟ طوم العزيز... اللطيف... الواثق من نفسه... ربما لقيت السعادة معه... لو لم تأت إلى فرنسا.
أجابت الفتاة:
-كلا, كلا, لا أحد.
اطفأ رفاييل سيكارته و قال:
-أنا, تعرفت على العديد من الفتيات, لكن لم يحصل شيء جدي حتى الآن. في كل حال, لا أنوي الزواج قبل أن أبلغ الثلاثين من عمري, على الأقل.
نظرت إليه مبتسمة و قالت:
-إذا انتظرت حتى ذلك الوقت, ربما انقرضت الفتيات الجميلات! يقال أن فتيات مدينة آلرز رائعات الجمال, أليس كذلك؟
-آه, نعم... عندما يكن شابات فقط... إذ سرعان ما يصبحن سمينات, شرسات, كلما كبرن في السن. لكنك أنت و ابنة عمك تختلفان عن بنات بلادنا.
-ماذا تعني؟
-أعني بأن بنات بلادنا متى تزوجن, يتوقفن عن الاهتمام بأنفسهن.
-لو كنا, ابنة عمي و أنا, نعمل بقسوة مثل نساء الحراس, لما وجدنا, مثلهن, الوقت للاعتناء بأنفسنا. في كل حال, أنت أيضاً, لن تبقى شاباً وسيماً إلى الأبد. ذات يوم ستنتفخ و ستشيخ و ستفقد وسامتك و نضارتك.
ضحك و قال:
-ربما. لكن أنت, ستظلين جميلة دائماً.
ضحكت الفتاة و لم تعرف تماماً كيف تنظر إلى الوضع الحالي. هل يتكلم رفاييل هكذا مع كل الفتيات؟ فأحابتها غير مبالية:
-شكراً لهذا المديح. لكن, قل لي, ما رأي الحراس بزواج جان-مارك من فتاة أجنبية؟
-يقولون عنه بأنه محظوظ. آه, هل قيل لك بأن السيدة سانتون كانت تأمل من جان-مارك أن يتزوج الآنسة دورانس؟
-نعم. هل هذه الأقاويل خاطئة؟
-كلا, كلا, انها صحيحة. قبل ان يسافر جان-مارك إلى باريس, كان يبدو عليه أنه سيوافق على قبول هذا الزواج. لكنه وجد صعوبة في الحصول عليها, لأنها فتاة فظة, لا تريده هو, انما تريد الزواج من المعلم الكبير.
قالت جوسلين باضطراب و دهشة:
-من جيرفيه؟
-لا تعرفيه ذلك بعد؟ انه الموضوع الأكثر تسلية في أحاديث المنطقة: هل تحصل عليه أم لا؟
-وحسب رأيك, ماذا سيحدث؟
-آه, سيستسلم لها جيرفيه في نهاية المطاف. انها فتاة جميلة, جذابة, و تملك مهراً ضخماً. يعرف المعلم كيف يسيطر عليها. الثيران, الأحصنة, النساء... شيء واحد بالنسبة له. الفتاة اللطيفة, السلسة, الطيعة, لا تناسبه أبداً...
حل الليل و الرمل ما يزال ساخناً. لكن جوسلين أخذت ترتجف برداً, فقالت:
-لماذا إذاً, لا يطلب جيرفيه يدها؟ ماذا ينتظر؟
-جيرفيه لا يريد الزواج الا من أجل انجاب أولاد يرثونه و يحلون مكانه فيما بعد. رجل مثله ليس بحاجة إلى خاتم في جيبه ليركّع الفتيات أمامه.
نهضت جوسلين وقالت:
-سأرتدي ملابسي.
ثم عادت إلى رفاييل الذي كان يسرح شعره بتأن. فقال لها:
-آسف لأنني حدثتك بهذه اللهجة و هذه الصراحة. ليس في نيتي أن أصدمك. انما هذه هي الحقيقة في بلادنا.
لم تنهض الفتاة بسبب كلام رفاييل, انما لتخيلها صورة جيرفيه، الرجل العازب, المحنك, الذي يريد زوجة له, فقط, كي يستمر نسله.
أجابت جوسلين بهدوء:
-لا أهمية لذلك, يا رفاييل.
لما صعدا إلى الدراجة النارية, اقترح الشاب قائلاً:
-هناك مقهى صغير في طريقنا, باستطاعتنا التوقف عنده و احتساء القهوة.
المقهى بناء منعزل و قديم. امامه توقفت الشاحنات و الأحصنة المربوطة بالحاجز و قافلة غجر. أشار رفاييل رأسه إلى القافلة و قال:
-الغجر!
في تلك الأثناء سمعا عزف قيثارة داخل المقهى, فاختفى ضجيج الأصوات و الضحكات و بدأ الناس يغنون و يصفقون مع ايقاع الموسيقى. كانت الصالة تعج بالناس. أمسك الشاب يد جوسلين و سارا معاً نحو احدى الزوايا, ثم هتف لأحد الحراس فنهض الحارس و أعطى مكانه للفتاة, ابتسمت له جوسلين و قالت:
-شكراً, يا سيد, شكراً.
انحنى الحارس مبتسماً, ثم ابتعد. طلب رفاييل من الخادم احضار القهوة. وبينما كان أحد الفجر يعزف على الكمان, راحت امرأة عجوز تمر بين الطاولات طالبة من الزبائن كشف بختهم.
بعد قليل لاحظت الفتاة مجموعة رجال غرباء عن المنطقة, جالسين حول طاولة يحتسون المشروبات. فجأة لمحت أحد رجال هذه المجموعة يشير إليها بيده, فاحمرت و أزاحت وجهها. أخبرها رفاييل, بعد أن رمق الرجل بنظرات حقد, بأن هؤلاء الرجال من عمال حقول الأرز. فتذكرت ما أخبرها به جان-مارك عن المشاجرات التي تحصل عادة بين حراس الماشية و هؤلاء العمال.
فبعد الحرب, جرى تخصيص قسم كبير من أراضي منطقة الكامارغ لزراعة الأرز, فخاف أصحاب الماشية و حراسها أن يتسع هذا القسم بمرور الزمن, على حساب مراعي القطعان. خاصة أن العمال النازحين يختلفون كلياً عن الحراس المحافظين, الفخورين بأرضهم و منطقتهم. و هذا الخوف ما زال مسيطراً على المنطقة.
نظرت جوسلين إلى ساعة يدها و فوجئت بتأخرها. الساعة تشير إلى العاشرة و النصف, بينما وعدت السيدة سانتون في العودة إلى المزرعة قبل العاشرة فطلبت من رفاييل الذهاب فوراً. وبينما كان الشاب يدفع الفاتورة, تقدم أحد العمال من الفتاة و انحنى و قال لها شيئاً لم تفهم معناه.
لكن رفاييل سمع ما قاله العامل, فارتسم الغضب على وجهه وأمر الرجل بترك جوسلين و شأنها. وما حدث بعد ذلك كان بمثابة كابوس بالنسبة إليها. عم الصمت أرجاء المكان, و حدقت العيون بالشاب و العامل.
خرج رفاييل إلى خارج المقهى و تبعه العامل, و بدأت المعركة بينهما. لم يسبق للفتاة أن رأت مشاجرة حية بالأيدي من قبل. الحقيقة القاسية أغثتها, فراحت تصرخ و تقول لصاحب المقهى:
-آه, أرجوك... أوقفهما! أرجوك!
لكنه كان يهز كتفيه و رأسه و يقول:
-عراك كهذا يتكرر باستمرار ومن الأفضل عدم التدخل.
خلال الدقائق الأولى, ظل العراك مناصفاً. صحيح أن العامل أضخم جثة من رفاييل, لكنه أقل منه بنية جسدية. احتد العراك و أحيطت حلبة المصارعة بدائرة من الزبائن المتحمسين لمعرفة نتيجة العراك. فجأة, توقفت سيارة جيب على بعد امتار قليلة من حلقة المشاهدين, نزل منها جيرفيه و تقدم داخل الحلبة. فرح قلب جوسلين لدى رؤيته, ولو لم تكن محاطة بالغجر, لأسرعت إليه.
أطلقت زفرة ارتياح عندما رأته يدفع رفاييل جانباً ثم أمسك بخصر العامل الذي حاول التخبط بشدة, لكنه وقع أرضاً بدوره.