-يا إلهي! هل تعرفين صنع الخبز؟ أنا لا أعرف أي شيء عن هذا.
-آه, نعم. إنها عملية سهلة جداً.
في الخامسة إلا ربع دقت ساعة المنبه, فنهضت جوسلين من نومها, و قفزت من السرير و فتحت النافذة على مصراعيها. لم يبدأ النهار بعد. لكن بينما كانت تغتسل و ترتدي ملابسها, سمعت صياح الديك. الجميع ينامون ولم يظهر الحراس إلا بعد السادسة.
وفي طريقها إلى المطبخ عرجت على غرفة العمة للاطمئنان عنها. رأتها نائمة بهدوء. وبينما هي خارجة من الغرفة, انتفضت مكانها: هناك انسان آخر في الغرفة! انه جيرفيه, نائم على الكرسي, مكتف اليدين, وذقنه فوق صدره. وبينما كانت تراقبه, تحرك لكنه لم يفق من نومه. فتساءلت الفتاة إذا كان من واجبها أن توقظه لتطلب منه أن يذهب إلى سريره وينام قليلاً قبل بدء نهار العمل الطويل. فتقدمت منه, ثم ابتعدت, مقررة عدم ازعاجه.
منتديات ليلاس
في المطبخ, وجدت صعوبة في اشعال نار الفرن. ثم تمكنت من ذلك بعدما ملأت يديها و وجهها بالغبار الأسود. اغتسلت ثم جلبت الطحين و الخميرة بغية تحضير الخبز. كان عملاً متعباً و صعباً. ولما انتهت, وضعت العجين قرب النار ليتخمر لمدة ساعة تقريباً. ثم راحت تمسح أرض الغرفة. وفي حوالي السادسة كان الخبز في الفرن و القهوة معدة. سكبت لنفسها فنجاناً وجلست قليلاً لتحتسيه.
فجأة امتلئ المطبخ بأشعة شمس الشروق, فقامت و فتحت الباب من جهة الشمال, ما تزال السماء رمادية, بينما, شرقاً كانت وردية مذهبة. مشت الفتاة نحو الساقية حيث ينبت السوسن البري. وما لب أن اختفى الضباب الصباحي مع طلوع الشمس.
بعد قليل, برزت ثلاثة أحصنة فجأة من وراء الضباب, هزت اعناقها و أذنابها... ثم اختفت. لم تحدث أي ضجة لأن حوافرها منتزعة فبدت كأشباح خيالية... وفي هذه اللحظة بالذات, عرفت جوسلين بأن ابنة عمها على حق: نعم لقد تغيرت منذ وصولها إلى هنا. ومن دون وعي أو ادراك, وقعت في حب هذا المكان... في حب هذا البلد المنغلق, الغريب.
عادت إلى المطبخ لتجد جيرفيه يسكب لنفسه القهوة. كان قد حلق ذقنه و غير قميصه ولم يبد أنه قضى الليل كله نائماً على كرسي صغير, غير مريح.
ابتسمت له, ناسية مشاحنة الأمس و قالت:
-صباح الخير. الطقس رائع اليوم.
-صباح الخير. و أنت أيضاً تبدين بمزاج رائع. منذ متى بدأت العمل؟
-منذ الخامسة. هل تريد أن تأكل شيئاً الآن؟
-كلا, شكراً. ليس الآن.
-لا شك أنك تعاني من آلام في الظهر. عندما استيقظت, عرجت على غرفة العمة لأطمئن عنها. فوجدتك نائماً على الكرسي.
-آه, فهمت. نعم. أشعر بتيبس بسيط في ظهري. لكن ذلك سينجلي بسرعة.
لم تعرف الفتاة ما الذي دفعها إلى القول:
-أنت تحب عمتك كثيراً, أليس كذلك؟
-كان هناك احتمال بسيط أن تكون كدمة رأسها خطرة أكثر مما توقعت في البداية. لذلك فضلت البقاء قربها لمراقبتها. لكن قلبها ينبض جيداً, و حرارة جسمها عادية. انها تتنفس بشكل طبيعي, ولم يعد هناك أي سبب للقلق عليها.
-آه... أنا سعيدة لهذا الخبر.
اتجهت الفتاة نحو الخزانة, فتحت أحد الأدراج لتخرج منه السكاكين و الملاعق, لكنها قبل ذلك, التفتت نحوه و قالت:
-أعتقد أنه من واجبي الاعتذار منك. لقد انزعجت كثيراً منك عندما رفضت استدعاء الطبيب. لكنني أرى الآن بأنك قلق عليها مثلي... بل ربما أكثر. أنا آسفة يا سيد سانتون.
حدق بها من دون أن يرد و كانت نظرته مليئة بالتهكم. لكنه ابتسم لها قبل أن يقول:
-هل تعرفين أن تحلبي البقر؟
-كلا... لا أعرف.
-إذن, سأحلب البقرة أنا, مكانك.
ذعرت الفتاة وصرخت:
-آه, يا إلهي. نسيت الحليب على النار.
ثم أضافت بقلق:
-كما لا أعرف صنع الزبدة, أيضاً.
=لا أهمية لذلك. سأوكل أحد الحراس بهذه المهمة, لبضعة أيام. صناعة الزبدة عمل صعب و متعب, لمن ليس معتاداً عليه.
خرج جيرفيه ليحلب البقرة, تاركاً الفتاة مندهشة أمام لطفه الغريب.
في الصباح, وصل الطبيب لتفقد صحة المرأة الحامل, ففرح لرؤيتها خارج السرير. و هنأ جوسلين بذلك, فوجدته الفتاة انساناً لطيفاً, و وثقت به عندما طمأنها بأن لا خطر على صحة كاميليا و الطفل و أن الحمل يسير بشكل طبيعي. كما قال لها بأن العمة بحاجة إلى أسبوع راحة كي تستعيد نشاطها الروتيني من جديد.
احضرت جوسلين للغداء ثلاث فطائر بالجبن و البصل و الكوسى, فلاقت نجاحاً كبيراً ولم يبق لها أثر في نهاية الطعام.
ومع ذلك, فبينما كانت تجلي الصحون, شعرت بالحزن و بعض الانهيار النفسي و الكآبة:" أما كان بإمكان جيرفيه أن يقول لها شيئاً بدوره". جميع الحراس أثنوا عليها بكلمات المديح, لكن جيرفيه غادر الطاولة من دون أن ينظر إليها.
ولمدة ثلاثة أيام متتالية, كانت جوسلين تعمل بقسوة, تكبت أحياناً دموعها بسبب الام تملأ كل أنحاء جسمها. لكن, كلما رأت جيرفيه في الجوار, تتذرع بالنشاط و ترندح الأغاني باسترخاء.
ذات مساء, أعلن لها جيرفيه بأنه سيذهب إلى مزرعة آل دورانس وطلب منها مرافقته, فاعتذرت منه وقالت:
-كلا, لن آت. سأغسل شعري و أكتب بعض الرسائل الضرورية ولا وقت لديّ للزيارات.
رمقها بنظرة ثاقبة وقال:
-أنت شاحبة الوجه. هل عمل المنزل يتعبكِ كثيراً؟
-كلا. أنا أحب أن أشغل نفسي. هل أنت مستاء من خدماتي؟
-لا أظن أن الرجال مستاؤون من أي شيء.
نظرته الباردة جرحت مشاعرها إلى درجة أنها أدارت له ظهرها وخرجت بسرعة لئلا يرى الدموع في عينيها. وفي تلك الليلة لم تعرف طعم النوم. في منتصف الليل, نهضت من فراشها و وضعت على وجهها عطراً منعشاً ثم اسندت يديها على النافذة و راحت تصغي إلى تغريد العندليب و شعرت بالانفعال يخنقها. المستنقعات تلمع تحت ضوء القمر كبحيرات فضة تذوب. ولما عاد جيرفيه من سهرته, كانت جوسلين ما تزال جاثمة أمام النافذة, لكنها ابتعدت و راها... أخيراً, نامت.
في صباح اليوم التالي و بينما كانت تعد مائدة الطعام, دخل إليها جيرفيه, فحيته باقتضاب و استمرت في عملها. فقال لها:
-رأيت الغجر يخيمون قرب الطريق, مساء أمس. ربما سيتوقفون هنا, في طريقهم إلى الاحتفال بعيد السيدة سارة. فلا تقلقي, لن يسرقوا شيئاً. و إذا قدمت لهم الحليب و الخضرة, قد يخبروك طالعك.
-أنا لا أؤمن بالتنجيم و لا بكاشفات البخت هذه كلها حماقات!
-بمكانك أن تصغي إليهن بتهذيب, من غير أن تصدقي أقوالهن.
قالت من دون أن تنظر إليه:
-آسفة...
-ما الذي كان يمنعك من النوم مساء أمس؟
أجابت مندهشة:
-هل رأيتني؟
-رأيت شيئاً يتحرك وراء النافذة.
-نعم, كان الحر شديداً. هل أمضيت سهرة ممتعة عند آل دورانس؟
-رائعة جداً. سيلين مضيفة ممتعة. ربما سرتينها اليوم, فستأتي لرؤية العمة مادلون.
في العاشرة صباحاً وصلت الفتاة الفرنسية إلى مزرعة آل سانتون, أضمت حوالي نصف ساعة مع العمة, ثم وافت كاميليا و جوسلين في الساحة. كاميليا ممددة على كرسي طويل في ظل مظلة واسعة, تتصفح إحدى المجلات, بينما جوسلين تستريح قليلاً قبل أن تعاود أعمالها العديدة.
في الحال, بدأت كاميليا و سيلين تتحدثان عن آخر اختراعات الموضة النسائية, فدخلت جوسلين تعد لهما القهوة و تتساءل كيف بإمكان الفتاة الفرنسية أن تتصرف بلطف و محبة مع كاميليا التي سرقت منها جان-مارك و تزوجته.
قالت سيلين لكاميليا:
-أنا آسفة لأنك لا يمكنك المجيء لزيارتي, كي أريك ملابسي الجديدة.
هتفت كاميليا بفرح:
-لكنني سأكون مسرورة لزيارتك.
-صحيح. جيرفيه قال لي بأن المسافة في سيارة الجيب ستعرضك للإرهاق, وربما تتأذى صحة الجنين.
-هذا أمر تافه. أنا أرغب من كل قلبي في زيارتك.
-إذن, لماذا لا تأتين في المساء لزيارتي بعدما يعود جان-مارك من عمله. سأريك كل ما اشتريت من باريس, و بإمكان زوجك و أبي أن يتحدثا معاً في سباق الثيران.
-هذا مشروع رائع, يا سيلين.