سألها دون جوان وهو يصب فنجانا من القهوة:
" أين ينتظرك يا أيفين؟".
" سنلتقي عند شجرة الكاتلبا قبالة الشاطىء الذي يرسو فيه اليخت".
" أرى أنكما أخترتما مكان لقاء مناسب , نحن نسمي شجرة الكاتلبا بشجرة الوداع , أستمتعي بالمهرجان يا صغيرتي , أظن أنك ستحضرين أيضا حفل التوديع في يخت الشاب؟".
" نعم يا سيدي , وهل ستكون في الحفل".
" أن السيدة غرايسون تكرمت ووجهت الي دعوة , نعم يا أيفين سأحضر الحفل , وأعتقد أن علي مقابلة أصدقائك".
" آمل أن تنعم أنت وراكيل بالمهرجان".
قالت ذلك ثم أسرعت لمقابلة كينيت , الشمس دافئة وكانت تستطيع أن تشم زهرة القرنفل التي قطفها دون جوان لها , كانت تريد أن ترتدي الطرحة الأسبانية ولكنها تركتها في غرفتها , وفضّلت أن تسرع في الخروج من القلعة , هي تريد أن تكون مع كينيت , الشخص غير المعقد , وتريد أن تنسى نفسها معه في المهرجان وأن تضحك وتمرح وألا تفكر في الغد.
كان ينتظرها وهو يدخن سيكارة , تحت شجرة الكاتلبا التي تظلل المعبر المؤدي الى الشاطىء , والهواء يمتلىء برائحة البحر.
ركضت اليه كأنها تطير , وألقى كينيت بسيكارته وتعانقا , كانت فرحة ودمعت عيناها قليلا وهي تقول:
" هل جعلتك تنتظر طويلا؟".
" كنت مستعدا للأنتظار اليوم كله , أنت أشبه ببطلة في حكاية شعبية... كأنك رابونزل التس سعت الى الهرب من البرج لمقابلة حبيبها".
أمسك يدها ونظر الى أعماق عينيها وسألها:
" أهذا وحده يومنا أم لنا الغد أيضا وكل الأيام التالية؟".
" هيا نذهب الى المهرجان وننعم أولا بكل ما في يومنا".
كانت لا تزال عاجزة عن أن تلزم نفسها بأي كلمات أو وعود.
كانت شرفات البلدة تزدان بالزهور والسجاجيد الأسبانية الزاهية والشالات الحريرية , وتغص بعائلات في ثياب المهرجان , يضحكون ويعزفون الغيتار ويلقون القرنفل على المارة.
قوارب الصيد في الميناء تعلوها الزينات , والنساء والفتيات في ثياب زرقاء أو قرمزية جذابة , وعقودهن وأقراطهن الطويلة تلمع تحت أشعة الشمس كلما تحركت رؤوسهن وأثارهن أعجاب الشبان , مراوح النساء المطرزة أو الحريرية أشبه بأجنحة في الهواء , والنسوة كالفراشات الى جانب الرجال في بدلاتهم القاتمة وقمصانهم المكشكشة وقبعاتهم العريضة السوداء , وكان بعضهم يلف خصره بوشاح قرمزي أو أزرق.
جراس الكنائس تعلو فوق مرح وضحكات جموع الناس في المهرجان , والصغار يجرون هنا وهناك يلقون بعقود صغيرة من الزهور على رؤوس الغواني اللواتي تم أختيارهن لموكب آدم وحواء , وكان الباعة في الشوارع يبيعون كعك اللوز وشراب اللوز المثلج.
توقفت أيفين ومرافقها بجانب أحد الباعة وتناول كل منهما كوبا من الشراب المثلج , وأخذا يراقبان رقصة الجيغ السريعة التقليدية على أنغام الطبول والدفوف ونوع غريب من القرب الموسيقية , وفي ركن آخر من الساحة كان فريق من الغجر يقدم رقصاته , والعربات القروية تأتي من التلال مزدانة بالزهور , تحمل المزيد من الناس في ثياب زاهية.
كان أشبه بمهرجان تاريخي من مهرجانات الماضي , وكانت أيفين مأخوذة ومتلهفة لرؤية كل شيء , ورفعها كينيت الى عتبة نافذة حجرية في أحد بيوت الساحة بحيث يمكنها أن تشاهد على أفضل نحو مشاهد الموكب أثناء مروره , وقد شعرت بدفء كتفه تحت يدها.... وفي الوقت نفسه شعرت فجأة بدافع للنظر الى أحدى شرفات قصر شامخ في الساحة.
هناك رأت دون جوان الى جانب راكيل ووالدها , كانت راكيل ترتدي ثوبا أنيقا أزرق وقد غطّت شعرها الفاحم اللامع بطرحة بيضاء مطرزة تتلألأ ماساتها تحت الشمس , أحست أيفين كأن قلبها يثب هلعا , كانت راكيل تبدو أشبه بعروس وهناك قرنفلة صغيرة في عروة سترة المركيز.
سألها كينيت:
" أهذا هو ؟ أهذا هو الوصي المهيب الطويل القامة الواقف بجوار دونا راكيل المتألقة؟".
أومأت برأسها .
ونظر كينيت الى دون جوان ثانية وقال :
" أجل , أنه أصغر بكثير مما كنت أظن , أنهما هو وراكيل يؤلفان زوجين رائعين.... ومن يكون الأسباني الآخر الواقف وراءها ؟ إنه يرتدي ثياب مصارع الثيران!".
تأملت أيفين الأسباني الذي كان يرتدي فعلا ثياب المصارع , كان يضحك ويلوح للجمهور المحتشد تحت الشرفة , وتذكرت أيفين قول راكيل ذات مرة أن مصارع ثيران مشهورا طلب يدها وأنه يتردد على زيارة الجزيرة من حين الى آخر لكي يتقدم الى خطبتها.
وبينما كانت أيفين تراقب شرفة القصر , رأت دون جوان ينحني برأسه ويهمس بشيء الى راكيل , أبتسمت ونظرت الى المصارع ووضعت يدا نحيلة على كم دون جوان , ولمعت أشعة الشمس على ماسات السوار الذي يحيط بمعصم راكيل كنار ملتهبة فوق كم دون جوان القاتم.
أبتعدت أيفين بنظرها ناحية أخرى , في هذا الصباح بالذات قال لها دون جوان على الأفطار أن الرجل في الجزيرة لا يزال يعطي الفتاة التي يحبها سوارا لكي يعرف الجميع أنه يريدها , وراكيل بالطبع إنما تطلب سوارا ماسيا يناسبها , ودون جوان يعطي بسخاء حتما لمن يقول لها ( أنا أريدك).
أقترب صوت فرقة موسيقية وعم الطنين الحشود المرتقبة , وأقبل الموكب الى الساحة وحمل الآباء أطفالهم على أكتافهم حتى يمكنهم أن يلقوا بعقود الزهر , وأخذت الفتيات يرقصن للشبان ...... حواء تغري آدم.
لمست أيفين سوارها , ولكنها لم تقو على رفع بصرها الى كينيت , وهذا المهرجان هو أحتفال للحب ! الغواية تفوح في الهواء , وفي وسعها أن تستسلم الآن وتقول له خذني بعيدا عن الجزيرة.
كانت على وشك أن تتحدث وإذا بصوت يصيح ويهلل لهما : ( يوهوا ! ) أنها بتينا غرايسون مع بعض الأصدقاء , قالت:
يا أعزائي كنا نبحث عنكما في كل مكان , أليس هذا ممتعا , يقولون أننا الآن , على وشك أن نرى آدم وحواء!".
وصل الموكب وأمطر الجمهور الشخوص التي تمثل آدم وحواء ومن يحيط بهما من الراقصات والراقصين بالزهور , وكان الشيء الذي لفت أنتباه أيفين أن الرجل الذي يمثل آدم لم يكن شابا صغيرا وإنما رجلا ناضجا وكانت الفتاة التي تمثل حواء تحمل باقة زهور بيضاء وسلة برتقال ( أهل البلدان الجنوبية يعتقدون أن البرتقالة هي فاكهة الغواية ) وكان ثوبها الأبيض الطويل يحيط به زنار ذهبي على شكل أفعى , وحول شعرها شريط حريري أبيض , إبتسمت لآدم وقدمت له البرتقالة من سلتها , هز آدم رأسه بشكل حاسم , وألقى أبتسامة على جمهور المحتشدين وضحك الجميع.
وعندما نظرت أيفين ثانية الى شرفة القصر , كان رئيس البلدية وجماعته قد تركوا الشرفة وعادوا الى داخل القصر , وبعد مرور الموكب بدأ الناس يتفرقون جماعات , وغادرت أيفين مع آل غرايسون وأصدقائهم , ومر نهار المهرجان كالحلم بالنسبة لها.
لقد شاركت في الضحك والرقص وأكلت الفاكهة وتركت المرح يغمرها كموجة من النسيان , ومرت الساعات بسرعة , ولما بدأت الأضواء الملونة في الظهور على أمتداد الميناء , قال آل غرايسون أن الوقت قد حان للعودة الى اليخت:
" ها هو الدلفين الأزرق!".
قال كينيت ذلك وهو يشير الى اليخت عندما نزلوا الدرج المؤدي الى الميناء , كانت حبال المصابيح الملونة مضاءة واليخت راسيا على الميناء المعتمة كسفينة خيالية.
وفتنت أيفين لحظة خاطفة بجمال منظره , ثم أدركت على الفور أنها لا تستطيع مواجهة الذهاب الى ظهر اليخت , لم تعد تستطيع أن تواجه المزيد من الناس أو الموسيقى أو الطعام أو أي سشيء آخر من مرحها المزيّف.
" آسفة يا كينيت!".
قالت ذلك وسحبت ذراعها من ذراعه وشعرت أن سوارها قد سقط من معصمها , أندفعت مذعورة تصعد الدرجات وتشق طريقها وسط زحمة المتجمعين في الميناء لمشاهدة الألعاب النارية , سمعت كينيت يناديها ولكنها تابعت جريها , لم تنظر الى الوراء ولم تتوقف حتى عندما أرتطم ذراعها بجدار الميناء , أخذت تسرع وتعض شفتها بألم وتشعر بخلو معصمها من السوار , لم تعد تسمع صوت كينيت وكانت تأمل أن يسامحها لتصرفها غير السليم , يجب أن تكون وحيدة ! إن التفكير في الأضطرار الى الأبتسام والتظاهر بالمرح لثلاث أو أربع ساعات أخرى كان أكثر مما تستطيع تحمله , أرادت أن تشعر بنسيم البحر يداعب وجهها ولكن ليس على ظهر يخت مزدحم بالمدعوين , أرادت أن تستمع الى همس الأمواج وأن تجد بعض الراحة لقلبها الذي كان يتوجع طوال النهار تحت قناع التظاهر بالبهجة.
أخيرا توقفت وهي تلهث ووجدت نفسها وحيدة على الشاطىء , كانت أضواء البلدة على مسافة بعيدة خلفها , وتبدو كسلسلة من الماس , وسرعان ما بدأ عرض الألعاب النارية في السماء ورأت أن تراقبها من هذا الموقع.
أخذت نسمات البحر تداعب شعرها وتنعشها , وكانت النجوم ساطعة جدا وتلقي ظل فضي على البحر , وجمال الليل يعزف على أوتار قلبها , وتقدمت الى حافة ماء البحر المندفع بموجات واهية ويلقي بأحجار وأصداف صغيرة.
وفجأة تاقت الى الشعور ببرودة الماء على قدميها فخلعت حذاءها وجوربها وتخطت موجة متكسرة على الشاطىء تضيئها النجوم , كان الماء يغمر قدميها العاريتين فشعرت بأسترخاء أعصابها , أتراها جنت لتفضل هذا على حفل التوديع وما فيه من رقص وموسيقى وكل ما لذ وطاب.
وحدها على الشاطىء , وكان في مقدورها أن تكون محط الأنظار على ظهر اليخت بصحبة شاب أزرق العينين , سيكون متكدرا لأنها هربت منه , وسيغضب دون جوان لأنها لن تكون حاضرة في الحفل وتسمع تمنيات المقربين له بالسعادة مع راكيل .
تحسست بأصبعها الكدمة التي أصابتها في ذراعها من جراء أرتطامها بجدار الميناء , ووقفت تائهة وسط أفكارها بينما الأمواج تدغدغ كاحليها , كان ظهرها قبالة الشاطىء الصخري الذي ينحدر صعودا الى الطريق العام الممتد من البلدة والذي يشتد أنحداره عند قطعه للتلال , لم تكن السيارات التي تعبر هذا الطريق كثيرة ولكن أيفين لم تسمع السيارة التي توقفت عند الجانب الآخر من الطريق , أن أنحدار الطريق هو الذي مكّنه من أن يشرف على الشاطىء ويرى الفتاة الواقفة عارية القدمين عند الأمواج المتكسرة , كان شعرها الطويل يتطاير مع الريح وكانت وحيدة وشبه تائهة.