10- موجة تضيئها النجوم
أرتسمت الأبتسامة على شفتيها وهي تعبر القاعة متجهة الى طاولة صغيرة قديمة الطراز , ووضعت على صينية للرسائل بطاقة الدعوة التي كتبتها بتينا غرايسون للمركيز.
أنه سيرى البطاقة عند عودته , لعله قد أمضى المساء مع راكيل ووالدها , ولعلها أبلغته أنها ستذهب الى حفل التوديع الذي يقيمه آل غرايسون على ظهر يختهما قبل الأبحار يوم السبت , وهكذا يحضر الحفل مع راكيل ويتعرف الى كينيت.
وأسرع قلبها في الخفقان عند مرورها بالغرفة الذهبية في طريقها الى غرفة نومها , وتذكرت الموسيقى التي عزفها لها المركيز , وتذكرت الغضب الذي تأججت ناره عندما أمرها بألا تعامله كعاجز ضعيف , والليلة يعم الغرفة الذهبية الظلام كما أن البيانو صامت , والمركيز مع المرأة التي سيكون لها عما قريب كل الحق في أبقاء غرف القلعة على حالها أو أدخال ما يحلو لها من تغييرات وفق ذوقها وشخصيتها , ولن يتدخل دون جوان , إنه سيدلل المرأة التي ستجيء الى هنا وتبعده عن وحدته.
منتديات ليلاس
صعدت أيفين بسرعة الدرج المؤدي الى غرفتها , وهي تعرف أن عليها الليلة قبول عرض كينيت والأبحار معه هو وأمه , في مدريد قد تسنح لها الفرصة بأن ترى دون جوان مع زوجته , أما في أميركا فلن تكون هناك فرصة كهذه بسبب بعد المسافة.
وقبل أن تأوي الى فراشها , فتحت خزانة ثيابها وألقت نظرة أخرى على الثوب الذي أستأجرته لمهرجان الغد , أن تنورته من المخمل القرمزي اللون وفي نهاية ذيلها شريط أسود , أما القميص الصغير الأسود فهو أيضا من المخمل وأزراره فضية , وأكمامه مشقوقة تكشف عن كشكشة البلوزة الصفراء اللون , وقد أبتاعت عدة سلاسل من المرجان والفضة تناسب هذا الثوب , وكذلك طرحة أسبانية مطرزة , وقد جربت أرتداء ذلك كله أمام المرآة.
كان ضوء المصباح الموجود الى جوار المرآة ينعكس على السوار الذي أعطاه لها كينيت , والذي تتدلى منه القطع الصغيرة الدقيقة , لمست حدوة الحصان لعلها تجلب لها الحظ , والتفاحة الدقيقة للأغواء , وتأملت القلب الذهبي الصغير وسرحت بخيالها , معظم الناس يتوفون الى أن يكونوا محبوبين , والحب بالنسبة الى كل منهم يعني شيئا مختلفا , إنه يعني العاطفة أو الأمن , والرفقة بدلا من الوحدة , والتفاهم , ويدا تمسك بها في الظل أو في الشمس.
تلاقت عينا أيفين بعينيها هي في المرآة , وقد أنعكس فيهما ما تتوق اليه : أنه الحب الذي تنشده , ولكنه من نوع جميل لم يسمع به أحد أنها كلمات الشاعر الأنكليزي بيتس , وهي تعبر عما يتوق اليه قلب أيفين , حب ليس مثله آخر , حب يخفق له القلب من الخوف والنشوة , حب يسري في كيانها ويبقيها في السحاب دوما , ضحكت وحدثت نفسها قائلة : أيفين , يا لك من بلهاء رومانسية , وأبتعدت بسرعة عن المرآة , ولكن التوق لم يفارق عينيها.
منتديات ليلاس
كانت متدثرة بغطاء الفراش , وكان الوقت متأخرا عندما سمعت المركيز يعود في السيارة , وسمعت باب السيارة وهو يغلق , وتصورته وهو يعرج صاعدا الدرج الموصل الى قاعة القلعة , ثم..... يتوقف الى جانب طاولة الرسائل , ويتناول بطاقة الدعوة ويتأملها لحظة قبل أن يفتحها , وبعدئذ يستند على عصاه الأبنوسية ويقرأ البطاقة , إنه لا يعرف آل غرايسون ولكنه سيذهب الى الحفل لأن راكيل ستكون هناك , ولعله يذهب أيضا ليشبع فضوله بالنسبة الى المرأو الأميركية وأبنها , ولا بد أنه قد علم الآن أن أيفين شوهدت هنا وهناك حول الجزيرة برفقة كينيت غرايسون.
طلع فجر المهرجان مشرقا مشمسا , وسمعت أيفين رنين الأجراس في الدير وفي الكنيسة بالميناء , أنها دقات المهرجان تمتزج بالشمس الساطعة على البحر , وفي جو يتأرجح بين المرح والجدية لبست ثوب المهرجان ونزلت الى باحة الحديقة لتناول الأفطار وهي ترتديه , كانت قد ضفرت شعرها وسبكته كالتاج , وتوقفت أمام مرآة في القاعة وتأملت صورتها في الثوب الجديد.
إطار المرآة القديمة الطراز جعلها تبدو كأنما تطلع من زمن بعيد .. ثم ضغطت بيدها على صدرها من شدة خفقان قلبها عندما بانت في المرآة قامة المركيز واقفا خلفها.
قال بصوته العميق:
" صباح الخير يا أيفين".
وشعرت بعينيه تغمرانها , وهو يتطلع الى كشكشة البلوزة الصفراء والقميص المخملي , والتنورة الطويلة القرمزية , وأخيرا قال في أعجاب:
" أنت جذابة يا صغيرتي , أشبه بسيدة من الجزيرة , تعالي , نقطف لك قرنفلة تضعينها في شعرك".
قدم لها يده ليرافقها الى حديقة القلعة , وسرى في كيانها تيار من النشوة يجمع بين الدفء والبرودة في آن , وأثناء سيرهما ألقت عليه نظرة خجولة , سألته:
" هل أنت ذاهب الى المهرجان يا سيدي؟".
أبتسم بطريقته المهذبة وهو ينظر الى عينيها , وقال :
" طبعا , يحسن بي أن أستمتع بهذا المهرجان الخاص المسمى موكب آدم وحواء , أنه مهرجان داخل الجزيرة منذ زمن طويل على يد عروس من أسلافي , كانت من أقليم غاليشيا ( أسبانيا القديمة ) , وقد شعرت بالحنين الى موطنها والأشياء التي خلفتها وراءها , فأقنعت زوجها بأحياء الموكب الذي كان يقام سنويا في جبال غاليشيا , وها هو الآن يقام سنويا في الجزيرة ".
قالت أيفين وهما يهبطان الدرج الحجري العريض الى الحديقة وقد عبق الهواء بشذى القرنفل :
"ما أروع ذلك".
أخرج دون جوان مطواة صدفية من جيبه وقطع عنق زهرة لا تزال ندية , وقدمها الى أيفين بأنحناءة صغيرة , فغمرها الحياء وأرتعشت يدها قليلا وهي تثبتها في شعرها , وقالت:
" إنه يوم رائع للمهرجان".
" لقد أتخذت الترتيبات لكي نشاهد الموكب من شرفة قصر رئيس البلدية , أنها تطل على الساحة مباشرة , والموكب سيتوقف هناك وكذلك فرقة الموسيقى ةالرقص".
قال دون جوان ذلك وهو يقودها للجلوس الى المائدة المعدة للأفطار في باحة حديقة القلعة , وسرّها أن تجلس أذ لم تعد قادرة على الوقوف.
" دون جوان........".
" نعم يا صغيرتي".
وصب عصير البرتقال من الأبريق ووضع كوبا أمامها , أرتشفت قليلا من العصير وتمنت لو أنه كان هذا الصباح أقل لطفا وأقل تأكدا من طاعتها عندما حدّثها عن التنظيمات التي أعدها لحضور المهرجان.
" لديك شيء تودين قوله يا أيفين؟".
" ما أحلى القرنفل وشذاه هذا الصباح".
منتديات ليلاس
ثم أبتسمت بعصبية عندما أقبل الخادم لويس ووضع البيض المقلي على المائدة وطبقا فيه قطع لحم صغيرة مقلية , ولمعت الشمس فوق أبريق القهوة , وتوترت مرة أخرى بعدما غادر لويس في سكون , ولم يعد هناك غير رنين الأجراس وطنين النحل , أخذت بيضة مقلية وبعض اللحم ومسحت قطعة خبز بالزبدة بدون أن تجرؤ على النظر الى المركيز , لماذا أصبح متعذرا عليها التحدث اليه؟ لماذا هذا التوتر ؟ لقد كان لطيفا بما فيه الكفاية ولكن على نحو متباعد , أزداد خفقان قلبها , كأنما عرف أنها آثرت أن تمضي يوم المهرجان مع كينيت غرايسون.
قال وهو يمسح فمه بفوطة صغيرة وحذت أيفين حذوه وتلاقت عيناها بعينيه:
" أيفين يبدو أنك عصبية بسببي , إذا قمت بأجراءات أخرى بخصوص اليوم فأرجو أن تقولي ذلك , أنا لن أقطع رأسك أو أحجزك هنا".
نظرت اليه في تعجب , وعندما رأته يبتسم أرادت فقط أن تدخل السرور الى قلبه , ولكن إذا هي ذهبت معه الى المهرجان ستكون راكيل هناك وستبدو راكيل فاتنة ومذهلة , ستكون هي السيدة الأسبانية الحقيقية ولن تعرف عيناه غيرها.
أعترفت بعصبية :
" لدي ترتيبات أخرى , إذ وعدت شخصا آخر بقضاء يوم المهرجان معه".
" أحد الشباب؟".
أحتست قليلا من القهوة ثم قالت:
" نعم , لعلك سمعت عن آل غرايسون من راكيل , الأم الأميركية وأبنها الشاب , أنهما لطيفان وقد أصبحت صديقتهما , آمل ألا تمانع؟".
" وهما اللذان يقيمان حفلة على ظهر اليخت , ثم يبحران ظهر الغد , أليس كذلك؟".
أومأت برأسها وسألته:
" سيدي , هل تأذن لي بقضاء النهار مع كينيت؟".
" برغم كل الأعتبارات يا صغيرتي , فقد أمضيت معه كل أيام الأسبوع الماضي , وأكره أن أحرمه اليوم من رفقتك خاصة أنه سيبحر غدا".
لمحت الأبتسامة الساخرة التي أرتسمت على شفاهه وشعرت فجأة برغبة مؤلمة في أن تقول له أنها ستغادر الجزيرة مع آل غرايسون , أنه شيء عليها أن تصارحه به غدا , فلماذا لا يكون الآن ؟ لعل ذلك يكدر عليه المهرجان , وربمل يؤلمه قليلا أنها أختارت الذهاب بعيدا الى هذا الحد حتى لا يلتقيا ثانية.
كانت على وشك أن تبوح له عندما لمحته ينظر الى السوار الذي أعطاه أياها كينيت , والذي آثرت أن تضعه اليوم في معصمها في ثوب المهرجان لكي يجلب لها الحظ ويمنحها الشجاعة , أمسك معصمها وقال:
" لم أر ذلك من قبل ! هل هو حلية أشتريتها بنفسك؟".
" كينيت أشتراه لي".
" فهمت".
وأشتدت قبضته على معصمها حتى كادت أن تصرخ من الألم , ولمحت في عينيه غضبا خفيا , وأضاف:
" تعرفت على هذا الشاب مدة تقل عن أسبوع ومع ذلك تقبلين منه هدية هي في نظر الأسبان علامة خطوبة".
" كينيت أميركي يا سيدي , ولا أظنه يعرف الكثير عن عادات الأسبان".
" هل تعرفين يا أيفين أن الأسباني في هذه الجزيرة يعطي الفتاة التي يحبها سوار المعصم الرمزي لكي يعلم الجميع أنها أصبحت له؟".
" لقد سمعت بأساور العبيد إذا كنت تعني سوارا منها".
فاهت بهذه الكلمات عبر مائدة الأفطار , وهي تشعر بالأيذاء والغضب والذعر , غير مكترثة بما قاله كل منهما للآخر لأنها لا تستطيع أن تهرع الى عيناه تنظران اليها في عمق.
أرخى دون جوان قبضته عن معصمها ولكنه ظل ممسكا به وقال بينما عيناه تنظران اليها في عمق:
" أظن أن سوار الخطوبة يعني الى حد ما قبول الزوجين بالعبودية , وهذا هو كل شيء عن الحب يا صغيرتي الرومانسية , الحب يقول : أريدك , والمرأة غير المستعدة لذلك أنما لا تزال طفلة".
داعبت أصابعه القطع الصغيرة المتدلية من السوار وقال:
" هذا الأميركي الشاب له نظرة لما هو غير عادي وفاتن , هذه تفاحة حواء , وهذا السلم الى النجوم , أهو هدية الوداع أم تذكار الحب؟".
حررت يدها من قبضته ثم وقفت وقالت :
" الأميركي يعطي الفتاة خاتما إذا كان يحبها , أنا خارجة ! الآن يا سيدي , كينيت سيكون في أنتظاري".