نظرت اليه وأنقطعت ضحكتها عندما أدركت جو الألفة بينهما وهما على أنفراد , أن الضباب حجزها في سيارة رجل كان شابا لا يجاري كما يدا عليه أسمه , وهذا التيار من الوعي أشتد ببطء حتى أصبح قوة أخافتها قليلا , فسحبت نظرتها عنه وأتجهت بنظرها ناحية النافذة ,وقالت:
" ربما نكون نحن فقط هما الوحيدان اللذان عزلهما الضباب عن العالم , هل تعتقد أن الضباب سينقشع يا سيدي؟".
" ليس قبل الفجر".
كانت أجابته كمغناطيس أعادها للنظر اليه :
" هل تعني أننا سنبقى هنا طوال الليل؟".
" سننتظر بعض الوقت لعل سيارة أخرى تمر من هنا لتأخذنا معها , وإلا سنسعى لنجد مأوى نقضي فيه ليلتنا , أن زجاج السيارة الأمامي قد تكسر قليلا , والضباب يتسرّب منه".
كان الضباب يتسرب بشكل هبّات باردة وأحكمت أيفين الفراء حول رقبتها , وفتح ددون جوان علبة سكائر ذهبية رفيعة وقدّمها الى أيفين قائلا:
" تفضّلي , هذه سيكارة لعلها تهدىء من روعك ومحنة قضاء الليل وحيدة في صحبتي".
" هذا دورك لتغيظني يا دون جوان".
وقبلت سيكارة , أنها لا تدمن التدخين , ولكنها كانت تدخن خلال عملها لدى أيدا ساندل بين حين وآخر تهدئة لأعصابها كلما أثارتها مخدومتها للأسراع في تلبية طلبات زينتها .
أنحنت كي تشعل سيكارتها من المركيز , وتجمعت أمامها في تلك اللحظة غرابة أحداث تلك الأسابيع القليلة الماضية, كل ما حدث منذ الليلة التي سبقت غرق السفينة حتى الآن تراءى كأنه حلم , ولكن تلاقى دخان سيكارته بسيكارتها , وزجاج السيارة الذي تكسّر وحيوية عينيه السوداوين من وراء نفثات الدخان ...... كل هذا حقيقة وليس حلما . وسألها على غير توقع:
" هل تحبين الأولاد الصغار؟".
قالت مبتسمة :
" نعم , كان ممتعا قضاء الوقت مع فرناندو , وهذا ما أخّرني عن العودة الى البيت".
" هل تعتبرين القلعة بيتك ؟".
" أنها كذلك الآن :. وتلاقت نظراتهما فأضافت: " أرجو ألا تمانع؟".
" كلا , أطلاقا , أعتقد أن القلعة أنتظرت طويلا من أجل مجيء شخص في سن الشباب ليطرد الظلال , وعندما يحين الوقت......".
قاطعته قائلة:
" لكي أرحل؟".
لم يجب لعدة ثوان , وكانت عيناه لا تفصحان عن شيء , ثم قال :
" نعم , سيبدو غريبا لفترة من الومن , والآن علينا أن نفكر بخصوص الليلة , سيزداد البرد هنا تدريجيا , فأصطدام المحرك عطّل على ما يبدو جهاز التدفئة بالسيارة , في أستطاعتي سد ثقوب الزجاج الأمامي بأي شيء ولكننا لن نرتاح تماما هنا".
" هل تؤلمك ساقك يا سيدي؟".
" قليلا , أحيانا أتمنى لو كنت قبلت قيام منشار العظام بعمله , ولكنني عنيد ولا أحب الأشياء الأصطناعية".
" أخبرني السيد فونسكا بالحادث القديم الذي تعرضت له ". قالت له ذلك وهي شبه خائفة من أظهار الشفقة , وأضافت : " لا بد أن ذلك الحادث كان فظيعا".
" ليس أكثر مما يحدث لجندي في معركة , ولكنني رفضت فقدان ساقي , ولهذا فأن أي أوجاع وآلام أشعر الآن بها علي أن أتحملها فهي نتيجة لأرادتي الذاتية , إن الأسبان لا يتهاونون مع أنفسهم ولا مع الغير يا صغيرتي , أدرسي لوحاتنا وطالعي كتبنا , وتذكري حياة الغزاة الأسبان في أميركا".
همست قائلة:
" يوجد شعور من فولاذ ولهيب وفروسية , والمرء يشعر بذلك هنا في الجزيرة , ويراه في وجوه الناس , أنها تشبه الوجوه التي رسمها الفنان دياز , والعيون التي رسمها آل غريكو".
" أن الفنان آل غريكو فهم أسبانيا وناسها رغم أنه كان يونانيا , لعل الشخص الغريب عن ديارنا قد يفهمنا على نحو أفضل مما نفهم نحن أنفسنا؟".
تلاقت عيونهما ورأت في وجهه كل المقومات التي جعلت من أسبانيا دولة حميمة وقاسية وأخاذة , أهلها من الصخر الصلد والشمس المحرقة والظلال العميقة , أنها تجمع بين الألفة والعاطفة وتجعل المرء يفهم كنه الحياة وجوهرها.
إبتسمت وقالت:
" السيد فونسكا يعلمني كل شيء عن أسبانيا".
" وهل تحبين ما تتعلمينه؟".
" أنا مفتونة به يا سيدي".
" بسكان البلاد , أم تاريخها أم طبيعتها؟".
" بكل شيء , الناس والتاريخ والطبيعة".
نظر اليها وهو يطفىء سيكارته وقال:
" أي خليط من الحكمة والحماقة أنت".
" أنه بسبب صغر السن يا سيدي".
" طبعا".
مال الى الأمام وراح يتفحص عينيها الواسعتين , ونحولها الذي غاص نصفه في الفراء القاتم اللامع , وقال:
" أنك فعلا صغيرة في بعض الأمور , ومع ذلك يمكنني أن أدرك لماذا كان كورتيز غاضبا عندما تحدثت اليه , ماذا فعلت له , هل صفعته؟".
إبتسمت بعصبية وقالت:
" كلا , قفزت من سيارته وركضت مبتعدة عنه".
" وهل طاردك؟".
" نعم , الى أن وصلت الى الرصيف , وكان هناك بعض الناس , ولهذا كنت في أمان".
" من أهتماماته غير المرغوبة؟".
وجذبت بأصابعها بطانية الفراء وقالت:
" نعم , بعض الرجال يظن أن وجوده على أنفراد مع فتاة يعطيه الحق في معاملتها كعاشق".
" نحن على أنفراد يا أيفين , ألا تخافين من غريزتي".
" أنت وصي علي".
" ألا أجعلك تريدين الفرار مني؟".
منتديات ليلاس
نظرت اليه , وضاعت الكلمات منها , وفي لحظة مذهلة بدا لها كأنما وجدت نفسها على أنفراد مع دون جوان الجسور الذي كان يهوى الخيول السريعة , والذي كان يستخرج الفضة من مناجمها في البراري , ويحب صحبة الفاتنات , وكانت بسبب صغر سنها غير واثقة من دون جوان مثلما هي غير واثقة من أي رجل آخر.
أطمأنت نفسيا عندما وجدته يركّز أهتمامه على موضع القفاز في السيارة , ورأته يخرج من هذا القسم بطارية يد , وأضاءها ثم قال:
" أقترح أن نترك السيارة ونبحث عن مبيت في أحد الأكواخ القريبة من هذا الطريق , تدثّري جيدا بهذا الفراء".
خرجا من السيارة الى الطريق الذي يلفه الضباب وحملقت أيفين حولها بعصبية , كانت الأصوات كلها خرساء , والأشجار كالأشباح , وقالت:
" أليس من الأفضل أن نبقى في السيارة يا سيدي؟".
أجاب بحزم:
" كلا , قد يصيبك البرد , كما أن ساقي تؤلمني , تعالي , كوني قريبة مني وأعدك بأننا بعد قليل سنجلس بقرب نار مشتعلة ونشرب قهوة ساخنة".
كان شعاع بطارية اليد يشق الضباب , وبعد فترة وجدا أنهما فوق طريق جانبي عليه آثار أقدام لا بد أن تفضي الى مساكن من نوع ما , وعملت أيفين بنصيحة الوصي عليها فظلت الى قربه وكان يعرج أكثر من المعتاد , أنها الرطوبة تسري في عظام ساقه - وأرادت أن تضع أصابعها في الجزء المعقووف بذراعه- كما فعلت راكيل بصورة حميمة – وتمنحه بعض الراحة.
وقف بغتة وقال : " آه ! ". وولى قلق أيفين عندما رأت شعاع البطارية يشير الى بياض جدار وأطار نافذة ثم الى باب خشبي عليه حلقة حديدية تستعمل مطرقة للباب.
وأضاء بالبطارية وجه أيفين وقال:
" حسنا يا غريتل , لقد عثرنا على كوخ في الغابة , هل تظنين أن هانزل سيتجرأ ويطرق الباب ( غريتل وهانزل من الشخصيات المعروفة في قصص الأطفال )".
ضحكت أيفين ضحكة خافتة , أذ أعجبتها دعابة دون جوان التي تختبىء في صدره كعرق من الذهب , وقالت:
" قدما غريتل باردتان".
" لاحظت أنك تعرجين يا صغيرتي".
" لقد فقدت كعب الحذاء الأيمن".
ولما وصلا الى باب الكوخ , رفع الحلقة الحديدية وطرق الباب مرة ومرتين وثلاثا , وأنتظر ! ثم سمعا النافذة العليا تفتح وترامي اليهما صوت عجوز تسأل :
" من بالباب؟".
" سيدتي , نسألك المأوى هذه الليلة , سيارتنا تحطمت وقد أصحنا معزولين في الضباب".
" آسفة يا سيدي , ليس عندي غرفة ....".
" سأدفع لك مبلغا حسنا يا سيدتي".
ساد السكون بعدما ترددت العجوز وأغلقت النافذة .
تحدث دون جوان بالأنكليزية الى أيفين :
" القرويون يشعرون بالعصبية في ليلة كهذه , أن العجوز ستفتح لنا أذا أجزلت لها العطاء".
أقترحت أيفين :
" أخبرها من تكون ".
وأجابها بأبتسامة في صوته :
" أفضّل أن نبقى غرباء بالنسبة اليها".
وبينما كانت أيفين تستوعب ملاحظته , سمعت أنفتاح أقفال الباب من الداخل , وأنفتح الباب ببطء وظهرت أمرأة مغطاة بشال وفي يدها مصباح يعلو دخانه , رفعت مصباحها كي تتأمل الواقفين ببابها , وحملقت جيدا في وجه دون جوان الممدود القامة والمهاب برغم شعره المشعث , ونظرت بأهتمام الى رفيقته الصغيرة المتدثرة بالفراء , ويبدو أنها لم تتعرف عل المركيز لأنها قالت رافضة :
" لا أعرف أذا كان علي أن أفتح بابي للغرباء , كيف لي أن أعرف أنكما من الشرفاء؟".
أخرج دون جوان محفظة نقوده من جيبه وأخرج منها عدة أوراق وقال :
" تفضّلي يا سيدتي , أعتقد أن هذه تشتري لنا سقفا من أجل ليلة واحدة ؟ هيا , فالسيدة الصغيرة ترتعش من البرد".
دسّت العجوز المال في صدرها وفتحت الباب فتحة تكفي لدخولهما الى الممر الضيق , وأغلقت الباب بأحكام , وقادتهما الى المطبخ حيث توجد نار قليلة مشتعلة , تلقي بظلال حمراء على الجدران الكلسية الدهان.
منتديات ليلاس
ووضعت المضيفة المصباح على المائدة , وأضافت بعض الخشب الى النار , وعادت مرة أخرى بعدما أزدادت ألسنة اللهب لتتفحص جيدا الزائر والزائرة , ورأت أيفين أن العجوز بعينيها الحادتين ووجهها المغضن المحاط بالشال الأسود أشبه بساحرة , لقد نظرت الى أيفين وقالت شيئا بأسبانية سريعة , وتطلعت أيفين الى دون جوان تسأله العون لأنها لم تستطع فهم اللهجة اقروية.
" السيدة تسأل أذا كنت ترغبين في تناول بعض الشوربة ".
" أوه , نعم , رجاء".
رد على العجوز بالأيجاب , فذهبت الى المدفأة وحرّكت قدرا أسود جهة اللهب , وطوال الوقت كانت تلقي بالملاحظات من فوق كتفها ,وأحست أيفين فجأة بقبضة دون جوان المفاجئة وهو يرفع بيديه الفراء عن كتفيها , وأسرعت العجوز الى المائدة وأخذت تضع آنية فخارية للشوربة وملاعق وبعض الخبز , وسألته أيفين:
" ماذا تقول؟".
كان المطبخ من الطراز القديم بمقاعده الخشبية ذات القوائم الثلاث , والبساط الملون الممدود أمام المدفأة , والخزانة المملوءة باآنية المختلفة , والمزهريات ذات الورود الأصطناعية .
وأمتد ظل دون جوان الى السقف , وكان يبدو في سترته الرمادية غريبا وسط هذا المطبخ القروي , لقد أعتادت أيفين على رؤيته وسط الستائر الذهبية الفخمة والأثاث الكلاسيكي الفاخر , وشذى الورود يختلط بدخان سيكاره.
وكان يبدو مترددا , كأنه يريد عدم خدش شعورها ... بشيء كان غير أعتيادي.
" تقول المرأة أنه لا يوجد غير فراش واحد ...... وهي مستعدة للنوم هنا بقرب المدفأة ".
نظرت اليه أيفين وقد غمرها شعور يائس , كان يستند بتعب على عصاه , أدركت أن ساقه تؤلمه وأنه ما من مكان آخر يمكنه أن يرتاح فيه ...... بأستثناء غرفة النوم الوحيدة هذه ! وأبعدت بصرها عنه وحدّثت نفسها قائلة أنه ينبغي ألا تكون متشددة ..... ولكن ماذا تراه قال للعجوز ؟
كان المطبخ يفوح برائحة العدس والأعشاب عندما أخذت العجوز تملأ الصحون بالشوربة , جلست أيفين الى المائدة بدون أن تتجرأ على النظر الى دون جوان , وشعرت بضعف ركبتيها , وكانت غريزتها تحدثها بأن الأسبانية العجوز لن تسمح لهما بالنوم معا إلا أذا أعتقدت أنهما متزوجان !
صعدا درجات حجرية ضيقة الى غرفة النوم , وأضاءت الشمعة التي تحملها أيفين جدران الغرفة وغطاء السرير اللامع عندما دخلا الغرفة ذات السقف المنخفض.
كان هناك سرير واحد , وخزانة صغيرة ومقعد , وكانت الغرفة تحت سقف الكوخ , وذكرت أيفين بغرفتها الصغيرة الباردة عند آل ساندل , ولكن لم يحدث أبدا أن تقاسمت الغرفة مع رجل أسمر طويل في عينيه لمعة شيطانية .
منتديات ليلاس
ولمحت هذا البريق وهو ينظر من المقعد الخشبي الوحيد الى الفراش , وشعرت كأنما سكون الغرفة يمتلىء بدقات قلبها.
همس : " يبدو أنك مضطربة ".
تلاقت عيناها بعينيه , ورأت فيهما سبب أضطرابها , وقالت :
" أنني دائما أضطرب هكذا عندما أكون متعبة ". وطوّحت بشعرها فوق كتفها , وأضافت:
" أنني .... أنني لن أتصرف بسخافة لأن علينا أن نتقاسم هذه الغرفة".
" بل علينا أيضا أن نتقاسم السرير , يمكن أن أكون قديسا وأجلس طوال الليل في هذا المقعد غير المريح , ولكنني واثق أن قلبك الرقيق لن يدعني أقاسي هذا العناء".
" بالطبع لا".
ثم شعرت بالضعف مرة أخرى وودت لو تخر ساقطة على جانب السرير ذي التنجيد الجنوني , والأعمدة الخشبية المحفورة باليد , ونظرت في كل مكان بأستثناء مكان دون جوان ووجهه الذي أنعكس عليه ضوء الشمعة وزاده سحرا , عليها أن تحاول عدم أساءة التصرف لأن الظروف أضطرتهما لتقاسم الغرفة........ والفراش !
وبدون تفكير قالت :
" يمكنني الأكتفاء بالمقعد ! ".
فقال بصوت ناعم ومنخفض:
" أيفين , حسبت أنك تشعرين معي بالأمان".
" أنني فقط ......".
" فقط ماذا , يا صغيرتي ؟".
" أنني لست طفلة".
" أذا أنت كبيرة الى حد تحافظين فيه على نفسك , وتظنين أننا الآن وحدنا هكذا , وأنني سأفقد السيطرة على نفسي وأندفع نحوك مبديا أعجابي".
ولكونها كانت غير واثقة منه الى هذا الحد , فقد مرّت ثانية أو ثانيتان قبل أن تدرك أنه كان يتهكم , فأسرعت قائلة :
" أنني غير معتادة على مثل هذه المواقف".
" أنت لست طفلة حتى أضربك , ولكن هناك وسيلة تعامل أخرى للرجل مع افتاة الخائفة , هل يمكنك معرفتها؟".
نظرت الى فمه وأبتعدت عنه قدر المستطاع , كان ضوء الشمعة على عنقها وذراعيها العاريتين ينعكس أيضا على عينيها المذعورتين وشعرها الأحمر الداكن , وكان مجرد التفكير في أن دون جوان قد يسيء اليها كافيا ليعكر هدوءها , وفجأة أنهمرت دموعها من العاطفة والتعب , ثم قالت وهي ترتعش:
" أنا ...... أنا لا أود أن أتشاجر معك ".
قال وهو ينظر الى دموعها وجسمها المتوتر :
" وماذا تريدين يا أيفين , لعلك لا تعرفين بنفسك , وأنا لا أريد أن أغضبك أكثر من هذه الليلة , ستنامين تحت أغطية الفراش , وسأنام أنا فوقها على الجانب الآخر".
وكانت أبتسامته محدودة , ولكنها كانت رحيمة , وأحست مرة أخرى بمشاعر لا تكاد تفهمها , في لحظة تريد أن تتشاجر معه وتهرب , وبعدها يجعلها تريد شيئا مختلفا.
لحظة أبتسم لها أطمأنت له كل الأطمئنان , وزالت عنها كل المخاوف والأوهام .
أرتعشت ..... قد يكون ذلك من جراء أفكارها , أو برودة الغرفة , وفي الحال لاحظ ذلك فأقترب منها وهو يعرج , وأمسك بيدها وأحس برودتها , وسألها:
" هل قدماك باردتان أيضا؟".
هزت رأسها وقالت:
" أن البرودة كانت دائما مشكلة بالنسبة الي , وأعتدت أن أصاب بتقرحهما في الشتاء ... بيت ساندل الريفي كان كبيرا وباردا".
" وكانت غرفتك بدون مدفأة ". وأجلسها على حافة الفراش وقال :
" أخلعي حذاءك , وسأدفىء لك قدميك".
لم يكن ثمة سبيل للأحتجاج , وبدون الحذاء , شعرت أنها صغيرة , طفلة , لا تقوى على شيء , ولمّا أخذ قدمها بين يديه وفركها حتى سرى فيها الدفء , شعرت بالخجلوالأمتنان , كان أشبه بشيء يفعله الأب الى أبنته , ولكن هذا الرجل لم يكن أبويا في تصرفاته , أحست بالنعاس بعد الدفء , رفعها فوق الفراش ولف الأغطية من حولها , ونظرت هي اليه وقد ثقل جفناها.
سألها وظله كالقوس على الحائط أذ أنحنى كي يبعد شعرها عن وجهها :
" هل هذا أفضل ؟".
" كل شيء لطيف ومريح جدا".
سحب أصابعه من فوق خدها بعد أن أبعد شعرها عنه , وخطر لها أن تمسك بيده شاكرة , ولكنها تراجعت حتى لا تفسر كل شيء , وبسرعة أبتعد عنها , وأخذت تنظر الى ظله على الحائط وهو يخلع الحذاء والسترة وربطة العنق وأزرار أكمام القميص , ووضعها على المقعد المجاور للفراش , ثم أطفأ الشمعة وتمدّد على الجانب الآخر من الفراش وقد غطّى ساقيه بقطعة الفراء.
سمعت أيفين تنفسه , ثم صدرت عنه تنهيدة الراحة بعد تمديد ساقه التي تؤلمه.
يجب ألا يعلم أحد بهذه الليلة , وعلى الأخص راكيل التي قضى معها النهار , أن عيني راكيل تكشفان الأسرار أذا أستقرتا عليه , وهي لن تصدق أيضا أن فتاة قد تقضي اليل مع دون جوان بدون أن تجد نفسها تحلم به , وسمعته بهمس :
" أغمضي عينيك الواسعتين يا صغيرتي ونامي , الليلة هي سر بيننا , وغدا نبتسم بشأنها ".
وأخيرا تجرأت أيفين وسألته :
" ماذا قلت للعجوز ؟".
" لم أقل لها شيئا عنا".
" تعني أنك تركتها تفترض أنه يحق لنا المشاركة في الغرفة؟".
" الأفتراض هو الكلمة الصحيحة ".
" إنك لخبيث حقا يا دون جوان !".
" أذا كان هذا هو رأيك , ولكن عليك الأعتراف بأن الفراش أكثر راحة من الرقاد على مقعد طوال الليل".
" هذا صحيح".
" لا تثقلي على ضميرك , وأعتبري نفسك بعيدة جدا عني وأنعمي بالنوم".
أرادت أن تقهقه عندما قال ذلك ..... أنها تحبه عندما يلجأ الى الدعابة.......
تحبه؟
ظلت بلا حراك وأصغت الى أنفاسه , وشعرت بنقاة ساقه الى وضع أكثر راحة , وأذا بها تستعيد في ذاكرتها كلمات قديمة : كم أحبك ؟ أحبك بالعاطفة التي تحركها أحزاني الماضية وطفولتي البريئة أحبك مع أنفاسي وبسماتي ودموع حياتي !
وأغمضت عينيها ونامت .
أستيقظت قبله في الصباح ووجدت الشمس تملأ الغرفة ذات الجدران البيضاء , حيث تعشعش الطيور وتغرد , وتذكرت في الحال أحداث الليلة الماضية , وتأملت الوجه النائم الى جوارها , تأملت سواد شعره وكبرياء أنفه , وأدركت مدى أطمئنانها له.
منتديات ليلاس
تركت الفراش وأتجهت الى النافذة , وفتحتها على آخرها وأنحنت الى الأمام , وأستنشقت هواء الصباح ووجدت الشمس دافئة بعد الليلة الماضية الباردة , وكانت آخر آثارها الضبابية يمكن رؤيتها وسط أشجار الصنوبر والأعشاب الندية التي تملأ الهواء بشذاها.
وأذا كان للمرء أن يتعلق بلحظة من أختياره لا يريد الأفلات منها , فها هي لحظتها , وهي الآن تختار أن تظل أسيرة هذا الصباح الجميل وأن تكون الفتاة الوحيدة في حياة دون جوان , كل الكلمات أو الوعود التي سبق أن رددها لغيرها لا يمكن أن تزيل سحر هذه اللحظة.