" سيداتي سادتي , سأغني أغنية قديمة من أغاني أشبيلية".
وأستند الى أحد الأعمدة وأحتضن غيتاره , وبدأت الأضواء تخفت , ثم قال:
" تخيّلوا شرفة وفتاة , وتحتها في الليل عاشق يعرف أن هناك رجلا آخر يحول بينه وبين رغبته".
أخذ مانريك يعزف على غيتاره , وبدا كأن الغيتار قد دبت فيه الحياة بين يديه , وشمل المكان سكون مطبق فلا قرقعة سكاكين أو ملاعق أو همسات زبائن , من قبل أحست أيفين عند الشاطىء بسحر صوته وموسيقاه , والليلة أختلطت موسيقاه بسهرة عشاء لم تتعود على مثلها , وأحست كأنها هي فتاة الشرفة في الأغنية , فتاة مرغوبة وممزقة بين عاطفتين.
ووسط التصفيق الذي أعقب الأغنية , لاحظت راكيل أنه كان جذابا للغاية , وكانت أيفين تحس بنظراتها , فجفلت كأن الفتاة الأخرى لديها القوة على أفساد حلمها.
مال السيد فونسكا يحاول تقديم شعلة لجليسه وقال:
" أنه موسيقي بارع يا جوان , ولكن لا شك أن الشلبتين هنا تهتمان بشخصيته الجذابة".
أحاط الدخان بعيني دون جوان , وشعرت أيفين بأنه يتطلع اليها , بينما أخذ مانريك يعزف بعض الموسيقى الأسبانية , وكانت قطعة موسيقية مرحة مليئة بالهيام الأسباني , وأبتعد عن العمود الذي كان يستند اليه وراح ينتقل بين الموائد , وقفز قلب أيفين الى حلقها عندما توقف عند مائدتهم وغنى شطرا من الأغنية خصيصا لها... ثم أبتعد.
قالت راكيل وهي تهز مروحتها كجناح طير عنيف:
" أن أيفين كانت تنظر اليه منذ اللحظة التي بدأ يغني فيها".
وظلت أيفين لحظة صامتة , ثم نظرت الى راكيل وشعرت بدافع بدائي لشدّها من شعرها , وقالت :
" الواقع أنني أعرفه , لقد ألتقيت به عند الشاطىء في اليوم السابق , وأصبحنا صديقين".
أضيئت الشمعدانات في هذه اللحظة وكتم التصفيق للمغني كل كلام لعدة دقائق , ولكن نظرة راكيل كانت واضحة المعاني , وأدركت أيفين بتحد أن عيني المركيز قد ضاقتا.
وبعد أن هدأت عاصفة التصفيق قال دون جوان:
" لماذا لم تدعي السيد كورتيز الى القلعة؟ العادة لدى الأسبان أن يقدم الشاب نفسه رسميا الى والد الفتاة أو وصيها".
أجابت:
" أنني بريطانية , ومثل هذه العادات الفكتورية قد بطلت في بلادي ".
وفي الحال وكأنما شعلة تلتهب في عمق عينيه قال:
" عليك أتباع عاداتنا أثناء وجودك ضيفة في بيتي , في المرة التالية التي يقترب فيها شاب منك.....".
وتوقف في هذه اللحظة , أذ عندما بدأت الأوركسترا تعزف موسيقى راقصة , أقترب مانريك كورتيز من مائدتهم مرة أخرى , كان يرتدي جاكيت للسهرة وعلت وجهه مسحة مهذبة وأنحنى أمام المركيز وضيوفه , وسأل:
" هل يسمح لي السيد المركيز بأن أطلب الآنسة الأنكليزية للرقص؟ لقد ألتقينا , ولكنني أنتهز الفرصة لأقدم نفسي رسميا لوصيها".
وبدت المسألة بالنسبة الى أيفين كأنها تشاهد مشهدا في مسرحية من مسافة , وأنها واحدة من الجمهور لا واحدة من النجوم , رأت دون جوان ينفض رماد سيكاره , ومروحة راكيل تتوقف كأنما هي جناح مكسور , وقال دون جوان:
" لا بد أن أهنئك يا سيد كورتيز على مهارتك كعازف , لقد أستمتعنا كثيرا بعزفك , ولو علمت من قبل أنك تعرف ضيفتي لدعوتك لمشاركتنا العشاء , ولعله يمكنك الآن؟".
ونظر مانريك الى أيفين وأبتسم في عينيها وقال :
" السيد المركيز كريم للغاية , ويكفيني جدا أن تسمح لي بالرقص مع الآنسة".
وأتجه دون جوان بنظره مباشرة الى أيفين وسألها:
" أترغبين في الرقص؟".
وقالت مرتبكة:
" أود حقا , ولكنني لا أجيد ذلك تماما".
" دعيني أعلمك يا آنسة ". وساعدها على النهوض من مقعدها وتقدم بها الى حلبة الرقص , وهناك أحاطها بذراعيه وهمس : " مرحبا سوليداد , يا ألهي , كنت أشبه بمن يتقدم الى عرين الأسد لآخذك من الوصي العنيد!".
" أعرف ماذا تعني".
ثم ضحكت في خجل وأندمجت مع أيقاع الموسيقى ووجدت مانريك رفيقا ممتازا , أنه يحيطها بذراعين قويتين , وكتفه عند الأرتفاع المناسب تحميها من نظرات الوصي عليها ونظرات راكيل فونسكا , وقال يغيظها مداعبا:
" قلت أنك لا تحسنين الرقص , أظن أنك فتاة غامضة , أخبريني مع من رقصت من قبل؟".
" مع كبير الخدم , في سهرة العيد يوم كنت خادمة , وكان ذلك شرفا لأنه فضّلني على غيري".
أستمرت ترقص مع مانريك نحو ساعة لم يغادرا فيها الحلبة , وعندما غادراها وجدت نفسها في الشرفة معه , النجوم تلمع في السماء , ورأسها وقلبها في دوامة , ضحكت بنعومة وقالت:
" لم أسعد أبدا بوقت ممتع كهذا ! هل أنتصف الليل؟ وهل عليّ أن أبتعد سريعا قبل أن تزول أناقتي؟".
أمسكها مانريك من ذقنها كأنما يتأمل عينيها , وفي الحال وجدت نفسها تتركه وتهبط درج الشرفة الى الحديقة , وتبعها وسرعان مت أختفيا وسط شجر اللوز وأحواض الزهور , هنا حيث الظلال والورود تقوم كحاجز بينها وبين دون جوان وسلطانه عليها , وأمسك بها مانريك عند شجرة وقال:
" أنت رقيقة للغاية , أليس كذلك ؟ ولكنني معجب بك كما أنت بغير تصنّع".
ومع أن قلبها كان يدق بسرعة من كثرة الرقص , ألا أنها لم تكن مضطربة مع مانريك مثلما هي الحال عندما تكون مع دون جوان , سألته:
" أليست صداقتنا جديدة للتحدث عن الأعجاب؟".
" كلا , أن الشباب الأسبان يرددون دائما أحاديث الأعجاب والهوى".
" أنا لست أسبانية يا سيدي".
" تعنين أنك لم تسمعي مثل هذا الكلام من الشباب؟".
وهزت رأسها مبتسمة , فهي حتى الليلة لم ترقص مع شاب , ولم تعرف أثارة الخلوة مع شاب جذاب جريء , أن سهم الحب لم يعرف الطريق اليها بعد.
" لقد كنت محاطة بحماية كبيرة ".
" كنت معزولة , هذه الكلمة أفضل".
قالت ذلك وداعبت بأصابعها ثوبها المخملي , وتابعت:
" من الغرابة أن أجد نفسي في ثياب كهذه , كأنني متنكرة في ثياب فتاة أخرى".
تطلّع مانريك اليها في الحديقة شبه المعتمة , وقال:
" لكنك لست .زز المركيز غني وقد جعل نفسه وصيا عليك , هذه القلادة مطعمة بالماس والزمرد".
لمست أصابعه القلادة وأرتعشت لسبب غريب , وقالت:
" أنا ممتنة لك , ولكنني أشعر كأنني مملوكة له ".
كانت يداه تمسكان بها عندما سألها:
" ماذا تعنين ؟ أنه يعاملك مثل أبنته , أليس كذلك؟".
" أجل.......".
" أذن لماذ تتحدثين عن الأمتلاك , أننا نستخدم الكلمة عندما نعني شيئا آخر معناه أنا أريدك كأمرأة وليس كإبنة !".
تملصت من بين يديه وقالت:
" لا تقل هذا ! لم أقصد شيئا كهذا , دون جوان وصي عليّ , وهو يحمل المسألة محمل الجد على نحو كبير , لقد طلب لي من أسبانيا مشرفة ترعاني , وقبل أن أعقد صداقة مع من أريد على أن أقدمه له للموافقة!".
ضحك مانريك وقال :
" الآن فهمت! هذا هو الحال مع الأب أو الوصي , وعليك أن تتوقعي من المركيز أن يعاملك على هذا النحو , أصبحت الآن مؤهلة تماما".
أنتابتها الحيرة فسألته:
" ماذا تعني , التحدث عن شخص أنه مؤهل يتضمن الزواج والمهر , أؤكد لك.....".
لمس مانريك خدها كأنه يهدىء من روعها وقال:
" لقد تكررت الآن , يا عزيزتي , ما دمت تحت وصاية المركيز فأنك تحصلين منه على مساعدتك كثيرة , أنت تعرفين هذا بالتأكيد , كما أن الأسباني يتحمل مسؤولياته بصورة جادة".
" كل ما أريده هو التعلم!".
" يا لك من لطيفة وبريئة ! كل ما تريدينه هو تعلّم أحتياجات الفؤاد , دعيني أكون معلمك".
ثم حاول أن يقربها منه أبتعدت وقالت:
" كلا يا مانريك !".
ثم جمدت وصمتت أذ سمعت وقع خطوات على الممشى الممتد بين الشجر وقالت:
" أنه هو".
" أيفين , أين أنت؟".
لم تستطع الرد عليه , ولم يحرك مانريك ساكنا أيضا , كانا يقفان على مقربة من بعضهما في ظلام الحديقة.
وراح دون جوان يفرّق أغصان الشجر بعصاه وهو يتقدم منهما قائلا:
" نحن على وشك العودة الى البيت".
كان صوته مثل وجهه بلا تعبير , ولكنه أضاف موجها الكلام الى العازف:
" أرجو أن تترك ضيفتي يا سيد , ويكفيها كل هذه الأثارة في ليلة واحدة".
بدت أيفين شاحبة ومذنبة , وتنحى دون جوان جانبا حتى تتقدمه , وسمعته يقول لمانريك:
" في المستقبل عليك أن تتذكر أنني وصي على أيفين , ومثل هذه الخلوات في الظلام تضطرني لمنعها من رؤياك".
منتديات ليلاس
أستدارت كي تحتج ولكنه لوّح لها بالسير في الممشى , ولم تتجرأ على عدم أطاعته , أنه طويل وأسمر وجاد , وجمعت ذيل ثوبها وجرت متقدمة عنه , شعرت كأنها طفل ضبط متلبسا بسلوك سيء , وحاولت وهما في السيارة في الطريق الى البيت أن تدافع عن براءتها , فقالت وقد ركزت عينيها على الزجاج الذي يفصل بينها وبين سائق السيارة.
" لم يحدث بيننا أي عناق".
" أنا متأكد أن ذلك كان حتما سيحدث أذا تأخرت عن المجيء".
" مثل عم من الزمن الفكتوري !"
" أهذا هو شعورك؟".
وعمقت أبتسامة صغيرة خطوط السخرية المحيطة بفمه , وأضاف:
" البراءة تغمرك يا أيفين , ولكنني أعرف الشبان الأسبان وخبرتهم في المغازلة , ولا أريدك أن تخلطي بين الحديث الصريح لموسيقي شاب وسيم والأحاسيس العميقة الصامتة , أود أن تزداد معرفتك بالأسبان وبعاداتهم , وبعد ذلن لن تحتاجي لحماية عم من الزمن الفكتوري".
وعضّت أيفين شفتها وقالت:
" آسفة أن أكون قد أتعبتك وأصبحت عبئا عليك يا سيدي".
" أنت تضيفين كلمات لم أستعملها يا آنسة , تقصدين تصرفي , عندما وجدتك مع هذا الشاب في ظلام الحديقة".
" لقد كنت معه في حلبة الرقص..... وهل هناك فرق كبير؟".
" يا صغيرتي العزيزة , أذا كنت لا تعرفين الفرق , فهناك أذن نواحي أخرى من التعلم ينبغي أخذها بعين الأعتبار".
نظرت اليه بسرعة ولمحت في عينيه السوداوين هذا البريق من الدعابة غير المتناغمة , وهذا ما جعلها تجفل أذ أن وجهه لم يكن ينم عن شيء , بل كان أشبه بنور الشمس المتجمعة في قاع بركة , كان ذلك البريق علامة للشيطنة ...... وتذكيرا بأن جوان دي ليون لم يكن دائما رجلا أعرج.
" أنت تمثل الطاغية الحديدي لكي تغيظني".
ضم يديه على قمة عصاه الفضية وقال:
ليس تماما , لقد عنيت ما قلته لمانريك كورتيز , يمكنه أن يكون صديقا لك لأنك في حاجة الى شاب تتحدثين اليه وترقصين معه ..... ولكنني لن أسمح بعلاقة غرام , هل فهمت؟".
نظرت الى ملامحه الجانبية وشعره الدخاني عند السوالف , كان مزيج القوة والنضوج مزعجا , وكانت تود أن يكون مختلفا , كانت تود أن يكون هذا الرجل بمثاب الأب لها , ولهذا قالت:
" نعم , فهمت يا سيدي , سأحاول فعل ما تشير به عليّ, ولكن ماذا عن شعوري؟".
نظر اليها عن عمد وقال:
" شعورك!".
" لا يمكنك منعي من أن أحب".
" أذا كنت تتحدثين عن غرام المراهقة السريع الزوال , فهذا شيء علينا جميعا أن نعاني منه الى أن يكتمل نمونا ونضجنا".
قالت بهدوء:
" قالت بهدوء:
" لقد أكتمل نموي منذ بلغت الخامسة عشرة وفي حالتي , لا أظن أن مانريك يود أن يظل صديقا لي بعد الذي قلته له".
نظر اليها دون جوان وقال:
" الأسبان ليسوا بمثل هذه الحساسية , وهم أكثر أصرارا عندما يتطلعون الى هدف".
وأبتسمت نصف أبتسامة وقالت:
" مثل دون كيشوت مثلا؟".
وتلاقت عيونهم:
" بالضبط , هل قرأت مغامراته؟".
" ضمن نطاق مطالعاتي قصص الحب للسيدة ساندل".
أبتسم وقال:
" مكتبتي في البرج البحري تزخر بكتب أنكليزية كثيرة , وهي لك للمطالعة والمتعة".
شكرته وفكرت كيف تحول بلباقة من التحدث عن الرومانسية الى التعلم , يمكنها أن تظل صديقة لمانريك , ولكن المركيز لا يرى أنها ناضجة بما فيه الكفاية للحب.
أخذت تحلم قليلا أحلام الفتيات ثم أستولى عليها النوم , ولما وصلت السيارة فناء القلعة كانت يد تلمس شعرها وسمعت صوتا يهمس بأسمها:
" وصلنا البيت يا أيفين".
قالت والنعاس ملء عينيها:
" البيت؟".
وعندما فتحت عينيها كان رأسها يستند على كتف مضيفها ووجهه قريبا منها , وفي أقل من ثانية أسرعت بالأبتعاد عن وجهه.
" لقد غلبك النوم بعد كل هذا الرقص مع مانريك الوسيم , هيا ا , وتذكري أن غدا بداية دروسك مع السيد فونسكا".
وبعدما خرجت من السيارة شبه نائمة , تبعت دون جوان على الدرج المؤدي الى باب القلعة الواسع , وبعدما دخلا القلعة أنحنى لها المركيز مودعا:
" ليلتك سعيدة يا تلميذة".