كانت كل كلمة محدودة وباردة كالصقيع على الزجاج , وأصبحت النتيجة واضحة للغاية , أنها الآن في حمى هذا الرجل وحده.
وعندما تطلعت اليه , أنعكس لهب الشموع فوق الخشب الوردي والفضة , وحاولت أن تقرأ ما يجول في عينيه , وأدركت أن عليها أطاعة ما يقرره بشأنها.
طلب من الخادم السلطة , ثم قال :
" لم تعودي بعد الآن في خدمة أمرأة مدللة أنانية".
كان الطعام لذيذا وممتعا , ورغم جلوسها بعيدة في طرف المائدة فقد شعرت أن دون جوان أصبح يستحوذ عليها.
بعد العشاء لم يعودا الى الغرفة الملحقة بغرفة الطعام :
" هناك صالون صغير غير مستعمل كثيرا هذه الأيام , أريد أن تشاهديه ".
قال دون جوان ذلك بينما عصاه الأبنوسية تضرب بلاط القاعة وهو يتجه الى باب يحرسه درعان , وكان الباب بيضاويا عميقا , وأخرج سلسلة مفاتيح من جيبه وأنحنى وفتح قفل الباب , ثم قال وهو يدير زر الكهرباء ويضيء الغرفة:
" أننا نسميها الغرفة الذهبية ".
كانت أشبه بصندوق حلي يكشف عن روائعه.
منتديات ليلاس
أومأ اليها بالدخول : ( تفضلي ) , وأطاعته كأنها في حلم , وتأملت ستائر النافذة الذهبية التي تنساب من تيجان عالية الى سجاد الأرض الثمين , ورأت أثاث الغرفة الرائع , والمزهريات الذهبية واللوحات المذهبة التي تغطي الجدران والسقف.
كانت غرفة جميلة لها ذكريات بالنسبة الى المركيز الحزين , وراحت أيفين تلمس بعض تحف الغرفة الخلابة مثل سلة أندلسية وشال مطرز ملقى على بيانو عاجي اللون مذهب , وفوق غطائه وردة حمراء , كانت الغرفة تفوح بجو رومانسي حزين , ولا بد أنها كانت تخص سيدة تستعملها كثيرا , من كان يعزف على البيانو ؟ من كان يحب الورد الأحمر والموسيقى ؟
وقعت عيناها عندما دارت لتنظر الى دون جوان على صورة علق فوقها صناجتان للرقص على شكل صدفة , وتأملت أيفين صاحبة الصورة : الشعر أسود فاحم والثوب أحمر ياقوتي , والوجه في اون القشدة , والعينان سوداوان , كانت صورة فتاة في وقفة راقصة , ذراعها اليسرى تعلو الى الوراء , والصناجة ( الكاستانيت ) على أصابعها , والزهور في شعرها مليئة بالحيوية كعينيها.
" هذه صورة لأمي روزالينا , الراقصة الغجرية التي تزوجها أبي".
قال دون جوان العبارة الأخيرة بعدما أصبح وراءها بقامته المديدة وأستدارت أيفين لتنظر اليه بعد المفاجأة وهي مبهورة الأنفاس , وألتقت عيناها بعينيه..
" نعم كانت أمي فتاة غجرية , ولم تغفر له العائلة أبدا زواجه منها , ولقد جاء بها لتعيش هنا , وأعد لها هذه الغرفة التي كانت تلوذ بها في فترة حملها لكي تعزف على البيانو موسيقى الفلامنغو التي كانت تحبها , كانت شعلة من المرح والسعادة , ثم أصبحت زهرة ذبلت ببطء في الجو الخانق الذي أحاطتها به عائلة أبي".
أمتلأت عينا دون جوان بذكريات أثارتها صورة أمه فقال هامسا:
" أتذكر كيف كانت تدفىء الصناجات قبيل الرقص بين شلالات شعرها الأسود كالليل".
وتقدّم الى الجدار وأخذ الصناجتين من المسمار الذي تتدليان منه , فأذا برنينهما كصدى صرخة أنقطعت , ثم أعادهما , وقال :
" سنتناول القهوة هنا".
وأمسك بمشد الجرس وقرعه , بينما راحت أيفين تمعن النظر اليه , وقد لاحظت أن عينيه شبيهتان بعيني أمه , وأن تحت عظام وجهه شعلة تخفيها برودة الوجه , سألها وهو يشير الى البيانو:
" أتعزفين؟".
أجابته في رزانة :
" أعمال المرافقة لم تكن تتضمن هوايات كهذه يا سيدي".
منتديات ليلاس
كانت تجلس فوق كرسي كسوته حريرية , وقد تشابكت يداها في حجرها , أنها تريد سماع المزيد عن أمه , أتتجاسر على الطلب؟ رأت أن تمتنع عن الطلب , في الوقت الذي كان ينحني على عصاه أمامها ويقارن ولا شك بفكره بينها وبين فتيات بلاده , وعاد يسألها:
" كم سنة أشتغلت عند تلك المرأة ؟".
" منذ كنت في الخامسة عشرة يا سيدي , بعدما قتل أبي من جراء رفسة جواد ".
وفي الحال لمعت عيناه السوداوان وسألها :
" أكان يمتطي صهوة جواد؟".
" كان في بيت ساندل ضيوف للصيد , وكان يقدم يد المساعدة في أصطبلات الخيل".
وأطبقت يداها في ألم وهي تتذكر موته ثم ثم تابعت:
" وقع الحادث وهو يهييء ركاب الجواد , كان يحب الحيوانات , وهكذا مات ".
" وأمك؟".
" لا أتذكرها يا سيدي , لم يكن لي غير أبي , وبعد ذلك أشتغلت في بيت ساندل".
" ألم تكوني راضية؟".
" أحيانا كنت أفكر في الهرب".
" ولماذا بقيت؟".
" لأن المدن مملوءة بالضجيج , وعندما كنت أستطيع الأفلات من البيت الريفي ساعة , كنت أجد في غابات وبراري سومرست مجالا للتجول , كنت قريبة من الأماكن التي أحبها أبي دائما , الطيور وجماعات روماني الغجرية التي كانت تخيّم في المرج .....".
" هل كنت تحبين هذه الجماعات ؟".
" كانوا يضجون بالحيوية , ولهذا....".
ضحك دون جوان , كانت المرة الأولى التي تسمعه يضحك فيها , وقد عكست عيناها دهشتها , قال:
" صحيح , هناك عرق يتعذّر ترويضه عند الغجر وهم يحبون الفقير والغني على السواء".
دخل الخادم لويس بصينية القهوة , فطلب منه وضعها على الطاولة القريبة من أيفين , ولمحت الأنتفاضة الخفية في عيني لويس وعرفت في الحال ما يدور برأسه , لم يكن عاديا أن تجلس فتاة خادمة في الغرفة الذهبية , والقهوة الى جانبها لكي تصب للمركيز قهوته.
ولكونها كانت خادمة فأنها تعرف ثرثرة الخدم في المطبخ , ولذلك شعرت بالحرج.
وأنغلق الباب وراء لويس فقال دون جوان : " أرجو أن تصبي القهوة ". ثم أخذ مقعدا ومدد عليه ساقه التي تؤلمه , وأحتاطت أيفين لئلا تنسكب القهوة منها وهي تصبها من الأبريق وأرتعشت يدها قليلا وهي تناول دون جوان قهوته الخالية من السكر بناء على طلبه سألها:
"هل أنت مضطربة بسببي؟".
" وهل تستغرب يا سيدي ؟ أنا لست معتادة على كل هذا".
" مع الممارسة سيكون كل شيء على أكمل وجه ".
رفعت بصرها اليه , وكأن سلكا كهربائيا قد نبّه ألتفاتها , لقد رفع حاجبه الأسود وهو يشرب قهوته , وقال:
" سنكون معا هكذا مرات أخرى يا آنسة بلغريم وأرجو مع الزمن ألا تنظري اليّ كما لو كنت غول القلعة".
" لم أفعل".
" عيناك واسعتان , وفي وسع المرء أن ينظر في أعماق العيون كما ينظر من نوافذ البيت , أنه نوع من المتطفل أشبه بنظرة مختلة الى روح شخص أخر".
ألتقت نظراتهما وشعرت أنها قد سلّمت هذا الساحر الأسمر شيئا من دخيلة نفسها.
" تناولي قهوتك قبل أن تبرد ". ثم تابع: " لقاؤنا هنا في هذه الغرفة هو أحتفال بنجاتك ووصولك سالمة الى جزيرة دي ليون ,يا له من عالم صغير , أن الحظ يا آنسة بلغريم سيد على الجميع".
أطمأنت أيفين بعد أن أنتهت من تناول القهوة , وزال توتر أعصابها , وأحست بالراحة في هذه الغرفة , وأستطاعت أن تتخيّل روزاليتا وهي تعزف البيانو وفي شعرها الفاحم وردة قرمزية.
منتديات ليلاس
لمحت دون جوان يتطلّع الى صورة أمه وهو غارق في أفكاره , ووجدت أن في أستطاعتها دراسة صورة وجهه الجانبية , فقد أمتزجت القوة والعاطفة في ملامحه أمتزاج البياض والسواد في شعره , أن الألم ترك خطوطا بجانب شفتيه وبياضا في شعره , وعرفت بغريزتها لا بعينيها أنه أصغر سنا من مظهره .
" هل شاهدت رقصة الفلامنغو؟".
" كلا يا سيدي , سمعت أنها مثيرة جدا".
" رقصة الفلامنغو هي مبارزة بين ردل وأمرأة".
وعند إبتعاد عينيه عن صورة أمه لاحظ نظراتها إليه , ولكنع تابع قائلا:
" لا بد أن أتيح لك فرصة مشاهدة الفلامنغو , أن الناس يعتبرونها نوعا من تعليم بناتهم , وأعتقد أن هناك الشيء الكثير الذي يتوجب عليك تعلّمه".
" أنا في التاسعة عشرة!".
" أنها سن المعرفة , والعتبة إلى العشرينات عندما يكون المرء عاطفيا غير متمكن من السيطرة على عواطفه".
وبينما كان يرفع سيكاره الى شفتيه , كانت لعينيه قوة جاذبة تشدّها إليه , وكانت أزرار قميصه الصدفية السوداء تلمع لمعان عينيه , قال:
" أنت تعتقدين أنني متغطرس وسيد العارفين؟".
وبشيء من الجرأة قالت له:
" أعتقد أنك تعتبر الناس قطع شطرنج بين يديك ".
" وأية قطعة شطرنج أنت يا آنسة؟".
" بيدق ضعيف من بيادق الملك".
" وأية نقلة سأعتزم نقلك؟".
" لا أدري".
" ولكنني أراك واسعة الخيال".
وأستقرت نظرته على شعرها الداكن ثم على عينيها العسليتين الذهبيتين , وراح يقيّمها وهي بثوبها الذي لا يناسبها ولا يجمّلها , وظنت أنه سيبتسم ولكنه ظل متحفظا ومتسترا بقناع الوسامة الشيطانية.
هزّتها الكلمة عندما ألمّت بفكرها , أن المرء لا يستعملها بالنسبة الى الرجل , ولكنها كلمة سبق أن أستعملت بالنسبة الى دانتي وبايرون , وإلى الشهيد سباستيان , وسيد الجزيرة الأسمر الخطر شبيه بهم , هذا الشيطان الطويل الأعرج!
قرأ عينيها وأخفى عينيه وراء سحابة دخان سيكاره وقال :
" أن خيالك يعمل حاليا , أن مستوى أستجابتنا للحياة أما عميق وأما ضحل , وعذاباتنا المترتبة على ذلك سبّبها هذا المستوى , ولا أظن أنك ضحلة يا آنسة بلغريم , وإلا لطلبت من أمريتو ترحيلك من الجزيرة الى أسبانيا".
" ربما آثرت الذهاب إلى هناك , أذ لا أستطيع البقاء هنا إلى ما لا نهاية يجب عليّ أن أجد عملا ... فليس معي نقود".
" لديّ الكثير , لقد لاحظت على المائدة أنك تأكلين كالعصافير , ولعل الحياة علّمتك القناعة بأقل مما ترغبين , ما هي أمنيتك يا آنسة؟ فقد أكون قادرا على تحقيقها لك"
قالت بلهجة جادة:
" أنا في حاجة الى عمل".