دارت السيارة حول بئر حجرية وسط الفناء , ثم توقفت أسفل سلم يؤدي إلى بهو , ونزل السائق وفتح باب السيارة المجاور لأيفين , فأسرعت بالخروج وراحت تتأمل السلم وشعار النبالة الذي يعلو البهو.
أنها تدخل بيت أسرة عريقة ,ولا بد أنه يحفل بالمحبة والأطفال .
قال السائق وهو يشير إلى باب من الحديد المشغول في جدار الفناء:
" أسمحي لي".
وفتح البوابة ودخلت أيفين إلى باحة مرصوفة بهرتها , خيّل إليها أنها تمشي داخل لوحة , وأحست أنها بهذه الثياب الغريبة تبدو شاذّة وسط الزهور العطرة التي تملأ الباحة حول النافورة , والورود التي تلتف حول أعمدة الممشى , قالت:
" ما أحلى الزهور والورود!".
أجاب السائق بأدب:
" حقا يا سيدتي , سيد القلعة رجل غني للغاية".
راحت تسير إلى حيث يقودها السائق عبر باب زجاجي مفتوح على قاعة ثم نحو سلم فخم من الرخام والحديد المشغول.
توقف السائق أمام باب مزدوج من الخشب المحفور , وطرق الباب مستأذنا وأمسك بالمقبض البرونزي وفتحه تاركا أيفين تدخل الغرفة وحدها.
وقفت أيفين مشدوهة عند العتبة تتأمل أثاث الغرفة الكلاسيسكية وسقفها وجدرانها المكسوة بألواح الخشب البنيّة اللامعة , وكانت على الجدران لوحات أسبانية ذات أطارات مذهبة , وكذلك سجادة حريرة عليها صورة طفل.
منتديات ليلاس
خطت خطوة إلى الأمام , وفي الحال أنغلق الباب وراءها وأتسعت حدقتاها حين تركزتا على السيد الطويل القامة الذي وقف ينظر إليها عند أحدى النوافذ , كان يدخن سيكارا رفيعا , وبدت لها ملامحه كالنسر وعيناه لامعتين باردتين , وكانت عظام خديه تضفي على وجهه مسحة شيطانية , وأنفه الكبير يتناسب مع فمه المهيب , وقف بلا حراك قبالة النافذة ذات الزجاج الملون , بلفه السكون ودخان سيكاره , وشعاع من الضوء الياقوتي يتلاعب فوق شعره الأسود الكثيف الذي تتخلله بضع شعرات فضية.
كان أسبانيا مرموقا فيه نبل وتحفظ وحزن, يرتدي ثيابا حيكت بمنتهى الدقة , مما زاد في شعور أيفين بغرابة ثيابها.
أخذ السيد يقيّمها من رأسها حتى قدميها , وتعقّدت أصابعها بعصبية فوق بنطلونها الجينز الذي طوت ساقيه من فرط طولهما , وأنبهرت لعظمة الرجل وفخامة محيطه , ولم تجد في تلك اللحظة , الشجاعة لتفتح الباب وتلوذ بالهرب من عينيه العميقتين وفمه الذي لا يعرف الأبتسام على ما يبدو.
" أنت الفتاة التي أنقذها مريتو من المحيط؟".
" نعم".
قالتها وقد أنخلع قلبها من الأثارة , ومع أنها كانت تعلم قبل أن يتحدث أن صوته سيكون عميقا ومغناطيسيا , فأنها لم تكن تعرف أنه سيحدثها بأنكليزية صحيحة تماما مع لكنة أسبانية , كان صوته ساحرا قويا كنظرته.
" ما أسمك؟".
" أسمي..... أسمي أيفين بلغريم يا سيدي".
أشار إلى كرسي مخملي عالي الظهر وقال:
" أجلسي لنتحدث".
سرّها أن تجلس قبل أن تخونها ساقاها , كانت ترتعش , لم تشعر أبدا في حياتها هكذا ..... بالتأكيد هذا هو الخوف من أول نظرة!
أبتعد عن النافذة ولاحظت أنه يمشي مستعينا بعصا سوداء , وأن ساقه اليسرى ليست على ما يرام, وعندما وصل إلى المدفأة التي يعلوها شعار عائلته أنحنى أنحناءة بسيطة وقال بصوت عميق يفرض الطاعة:
" أنا دون خوان دي كونك واراندا , المركيز دي ليون".
شعرت بالأغماء بعد سماع إسمه الرنان , هو أذن مركيز الجزيرة , لورد أقطاعي يحكم من قلعته , ولعّل كلمته هنا هي القانون ".
" عندنا مثل يا آنسة بلغريم يقول : الأسباني قد يجرحك ولكنه لن يسلخ جلدك على الفور , لا تنظري إليّ بمثل هذا الأضطراب!".
زاد أضطرابها عن قبل أذ أصبح الآن على مقربة منها وقد تركزت عيناه على وجهها وعلى فمها الذي لم يمسه رجل.
سألها:
" ألا يعجبك بيتي يا آنسة ؟ كثيرون يجدونه جميلا ببرجه البحري , وبساتين لوزه , ونافورة باحته".
أجابته :
" بيتك قلعة يا سيدي".
كرر بسخرية :
" بيتي قلعة ". وسأل : " ألم تدخلي قلعة من قبل؟".
أجابت أيفين وقد خفضت ذقنها :
" كلا يا سيدي , ماذا تفعل مرافقة مثلي في قلعة؟".
لمس بأصبعه الورود المنسقة في مزهرية فوق المدفئة الرخامية وأمتزج عبير الورود برائحة دخان سيكاره , وقال :
" حقا , ماذا تفعل؟ ". وأستطرد سائلا: " كم عمرك يا آنسة بلغريم؟".
جلست مبهوتة , فسؤال كهذا لا يسأله رجل من مواطنيها على هذا النحو المباشر , وقطب هو جبينه , وتذكرت أنه أذا سأل المركيز دي ليون سؤالا فعليها الأجابة بدون تردد , بغض النظر عن خصوصية السؤال.
" في التاسعة عشرة يا سيدي".
" حسبتك أصغر".
وأخذت عيناه تتفحص قوامها النحيل في الثياب الفضفاضة التي أعطاها إياها أمريتو , وأبتعد عن المدفأة وعرج بأتجاه طاولة صغيرة فوقها صحن عنب حباته كالذهب , وأخذ الصحن وناوله إلى أيفين , وقال :
" أنت صغيرة ويحسن بك أن تكثري من الفاكهة ".
وأرتسمت على شفتيه إبتسامة باهتة وأضاف:
" أنها من كروم القلعة".
كانت حبات العنب لذيذة , ولكن أيفين شعرت بالخجل بسبب العينين السوداوين اللتين تتطلّعان إليها وقد تناولت ثلاث حبات أو أربع.
سألها وقد وقف أمام الصورة وهو يتكىء بشدة على عصاه:
" هل أطعمك أمريتو؟".
لاحظت أيفين أن ساقة تؤلمه , وأن فمه الجميل يعلوه حزن يقربه منها .
" زوجته قدمت لي أفطارا يا سيدي .... كان مصيري الموت لولا أمريتو".
قال وهو يتأملها من خلال دخان سيكاره :
" أهدأي , كان شيئا لا يصدق بالنسبة إليك , كان كابوسا وعليك نسيانه".
" كان الناس يصرخون والسفينة تغرق!".
" لعل كثيرين منهم قد نجوا مثلك".
" كنت أسافر كمرافقة للسيدة ساندل , وأتساءل......".
" أذا كانت هي أيضا قد نجت؟".
" نعم يا سيدي".
قالت أيفين ذلك وقد أتسعت عيناها من الأسى , صحيح أنها لم تشعر أبدا بمحبة كبيرة لسيدتها , ولكنها عرفت تجربة الغرق في المحيط المظلم والخوف يزحف إلى قلبها.
" سأطلب الأستفسار عنها ". ثم نظر إليها وإستطرد : " أتودين العودة إليها أذا كانت قد نجت؟".
" كلا!". أنطلقت الكلمة قبل أن تتمكن من كتمانها : " أظن أنه يتوجب عليّ ذلك ...... فلا شيء لديّ , لا ثياب ولا مال".
" هل تفضلين البقاء هنا".
لم تصدق أيفين أنها سمعت العبارة صحيحة , ولكنها في لمح البصر وكأنما هزّها إنفجار قنبلة أيقنت أنها سمعتها بوضوح تام , وتطلعت إليه بحيرة لتفهم دعوته , هو مركيز وهي مجرد مرافقة , أتراه يعرض عليها وظيفة خادمة في القلعة؟ فسألته بصوت خافت:
" أتسمح لي بالعمل هنا يا سيدي؟".
مرة أخرى إرتسمت الأبتسامة المقتضبة على شفتيه وقال:
كلا يا آنسة , أنا أدعوك للبقاء هنا فترة , أن خدمي كلهم من الرجال بأستثناء مدبرة المنزل".
" ولكن....".
رفع حاجبيه وقال:
" ولكن مناذا , كان واضحا أنك غير راغبة تماما في العودة إلى عملك السابق , ألا تفضلين البقاء هنا في القلعة؟".
سألته وهي تشعر بشيء من العذاب:
" بأية صفة؟".
" بصفة ضيفتي يا آنسة بلغريم , أتظنين أنك أثرت عواطفي؟".
أنتابها الحياء , وأحسّت بعينيه تتابعان سريان هذا الحياء من خديها إلى شعرها الذي جعده البحر , طمأنها بسخرية:
" أؤكد لك أنني لا أمارس حق السيد على كل أنثى تطأ الجزيرة , أنت فتاة مشردة وستمكثين هنا , هذا ما أراه".
أستقرت أيفين في الكرسي المخملي الطويل الظهر , وبين يديها صحن العنب الذهبي , ماذا عن عائلته؟ لن يسرها بالتأكيد أن تحل فتاة تعيسة مشرد ضيفة عليها؟
أتكأ على عصاه وأمهن النظر إليها كأنها شيء غريب في غير موضعه داخل هذه الغرفة الجميلة , إلا أن شيئا قد جذبه إليها , فسألها :
" ما هو الأعتراض الآن؟".
" ماذا تقول عائلتك؟".
" ليس عندي عائلة".
وفجأة أعتلت وجهه خشونة , وكأنما مسّت جرحا كان يخفيه , وأضاف:
" لا زوجة ولا أولاد عندي , في القلعة بعض القطط وكلب صيد كما ترين".
وضرب بعصاه قدمه اليسرى ثم قال:
" وها أنذا أعرج كالشيطان".
وسرت قشعريرة في كيان أيفين , أجل أنها أحست من اللحظة الأولى للقائه أن هناك شيئا شيطانيا في هذا الرجل! سألته منزعجة:
" تعني أنك ستكون مسؤولا عني؟".
" سيكون ذلك شيئا جديدا".
وقرع جرسا فضيا لأستدعاء أحد حاشيته , وتابع:
" أرى أن الأنكليزية لا تريد أن يطوقها أحد بجميله , ولكن الجزيرة بعيدة جدا عن الأرض الأم ( أسبانيا ) وعليك قبول ضيافتي , شئت أم أبيت".
" هذا كرم منك يا سيدي".
" كرم؟ أنا عملي وأسباني , بيتي بيتك!".
منتديات ليلاس
نظرت الى ما حولها من سجلد غني بألوانه اللامعة والى المزهرية الذهبية , وشعرت كأنها شحاذة بين يدي أحد الكلوك!".
" كل الأجراءات اللازمة سيجري تنظيمها مع البوليس الأسباني ".
قال ذلك ثم نظر الى الباب وهو ينفتح وتدخل منه أمرأة , كانت متجهمة الوجه ترتدي ثوبا أسود , وقد تحدث اليها الماركيز بسرعة بالأسبانية , وشعرت أيفين بالنظرة الباردة التي مقتها بها المرأة .
" أمرك يا دون خوان".
ثم أنحنت وأنسحبت من الغرفة , فقال:
" طلبت من مدبرة المنزل أعداد غرفة لك , اسمها آلما , وستجدينها معينة".
نظرت اليه أيفين في حيرة , أنه يتولى رعايتها كأنها هرة صغيرة وجدها عند عتبة بابه , ولكن ليس في تصرفاته أي شعاع من حنان , فهمست شاكرة بأحساس العارفة بقلة حيلتها , لعله قد دعاها للبقاء لكي يدرس أنطباعها عن قلعته , تمنت لو أنه في مقدورها معارضته , قال:
" سترين البحر من غرفة نومك , أنه بحر فاتن".
جفلت من وصفه للبحر بالفتنة , أنها لم تنس بعد أن البحر جرفها في عتمته كحطام سفينة , ولم تكن لتنسى الخوف والوحدة.