كاتب الموضوع :
هدية للقلب
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
7 - غابة بدون أشجار!
لدى عودتهما الى ادنبره، حاولت سو اعتبار الحادثة كمجرد خدعة لعبها الليل على مشاعرها الحساسة جدا . فميريك فيندلى ليس من النوع الذى ينغمس فى مغامرات عابرة كهذه ، وشخصيته تعزز هذه التبرئة .ولكن حياة مطلق رجل لا تخلو من بعض لحظات التهور. لقد كان متعبا مثلها على الارجح، والذى حصل لم يحدث عن تعمد او تنفيذا لخطة مرسومة. هذا التحليل برغم دنيويته اراحها مؤقتا، فتعلقت به تعلق الغريق بخشبة وصلا مطار تيرنهاوس قبيل الغروب، واصر ميريك على ان يتناولا الشاى قبل مواصلة السفر الى غلينرودن، وشرح السبب بقوله :- انها مسافة بعيدة وانا لا احب التوقف على الطريق .
استرقت اليه النظر وهما يدخلان ادنبره ولم تعلق . لقد استمتعت بالرحلة الجوية اكثر من المرة الماضية . فكارلوت لم ترجع معهما، وميريك جلس الى جوارها ، يعرفها الى المعالم المختلفة التى لم تستطع معرفة اسماءها فى المرة السابقة . اجاب على كل اسئلتها بمهارة المسافر الخبير .
ومع انها لم تر ميريك كثيرا فى لندن الا ان اشرافه الدقيق على شؤونها كان واضحا . فتنظيمه الصارم واصراره على توضيب كل غرض يتعلق بحياتها السكنية فى كنغستون ومن ثم الشحن والبيع والتصريف كل ذلك تم فى وقت قصير وكأنما بقيادة محرك لاسلكى . لم يخطر لها مطلقا ان تعارض سلطته او تناقشه لكونه تخطى صلاحياته واتخذ عنها معظم القرارات. كانت تحافظ دائما على استقلاليتها ولذا احست بشئ من القلق بشعور مسبق بانه يسيطر عليها اكثر اذا لم تاخذ الاحتياط الكافى فى المستقبل.
تنهدت وغمغمت بتأثر :- ما احلى العودة الى الوطن. اسكتلندا حققت كل احلامى بها . ماغبت عنها يومين حتى افتقدتها.
استدار اليها قليلا وقال :- الاحلام خطرة احيانا .
ما به؟ هل تعرقلت اعماله فى لندن ؟ وسألته :- هل ساءك ان اعود معك هكذا ؟.
- ولماذا استاء ؟ لك مطلق الحق فى العودة والدك يحتاج اليك .
وودت لو تضيف :- لكنك لا تحتاجنى. تذكرت فى اسى مواقفهما العاطفية وانتقلت الى صداقته لكارلوت. هل يعقل انه يلهو بهما معا ولبينما يتضح له من منهما سترث غلينرودن؟ هل سيجد صعوبة فى الاختيار ؟ قد يعيش جون لسنوات طويلة وربما لا يعيش . اخافتها افكارها فحاولت الا تغوص فى المستقبل انها لم تحب امها ابدا فى عمق ومع ذلك تفتقدها احيانا ،وابوها كذلك تخاف ان تفقده بعدما عثرت عليه. ما نفع ان نحب الناس اذا كان القدر سيختطفهم فجأة مخلفين وراءهم فراغا مؤلما ؟
حتى اهتمامها المتزايد بميريك فيندلى قد يكون دعوة الى العذاب . ادارت بصرها وحدقت الى المتاجر وجموع الناس على الارصفة . لماذا تسمح للحظات عناق قصيرة ولخفقات قلبها المجنونة ان تسبب لها كل هذا التمزق ؟ ميريك يجب ان يبحث عن التسلية فى مكان اخر وهى يجب ان تتعلم كيف تقسى قلبها .
اوقف ميريك السيارة امام احد الفنادق وقال وهما يهبطان منها:- للعاصمة مظهر دراماتيكى مؤثر الا تعتقدين هذا ؟
التفت اليها ولم يبد عليه اى انزعاج من صمتها المفاجئ.
تطلعت الى فوق فوقع بصرها على خيال القلعة الصخرية المشيدة منذ الف عام وعلى ظلال ادنبره القديمة الواقعة خلف حدائق برنسيس ستريت . كان مشهدا ر ائعا يسحر النظر .
وقال ميريك :- عندما نستغنى عنك ليومين يمكنك ان تقضيهما هنا لتتعرفى جيدا الى ادنبره
ابتسم قليلا وقادها عبر الشارع نحو الفندق ويده تحتضن خصرها وقال :- خسارة اننا لن نبقى هنا وقت اطول انما من الافضل ان نتابع السفر.
العودة الى البيت لم تستغرق وقتا طويلا او هكذا خيل الى سو لما تذكرت سفرتها الاولى الموحشة فى اغسطس/ اب. معظم الطريق بدا ميريك منشغلا بافكاره فوجدت نفسها تغفو بين حين واخر . وقبيل وصولهم نفضت عنها ذيول التعب والنعاس لتسأله عن موعد عودة كارلوت. فاجابها فى اختصار :- نسيت ان اسألها وهى لم تخبرنى, انك ستعيشين بدونها لبضعة ايام فلا تخافى .
- لا داعى لتهكمك . حسبتك ستتساءل لماذا لم اسألك .
- لم اتساءل وهى لا تتغيب عادة لوقت طويل .
هز كتفيه بحركة لا مبالية واختلس اليها النظر من طرف عينه كلاهما كان شاعرا بوجود الاخر انما لم يرغب فى الكلام. هذا التوتر احزن سو وحيرها فاستدارت تتأمل القفار عبر النافذه وبقايا المطر تغمرها بالرطوبة والوجوم. احست بوحدة الطبيعة تلمسها وتشعرها بالراحة وسط اسوداد الغروب.لاجدوى من الافكار بأن ميريك لا يريدها وكذلك كارلوت لكن غلينرودن اصبحت بيتها ووطنها ولن تغادرها مهما واجهت من منافسة .
الان وقد قصرت النهارات قررت السيدة لينوكس ان تنام ايضا فى البيت طيلة فصل الشتاء. الدكتور ماكروبرتس لم يكن مطمئنا الى صحة جون الذى كان يهزل يوما بعد يوم ، فعرضت الممرضة ان تقدم مزيدا من المساعدة فضلا عن ان الطريق بين غلينرودن والقرية كانت تنقطع احيانا فى الشتاء لدى فيضان النهر ، فخشيت السيدة لينوكس ان تحتجز فى القرية لايام متتالية بسبب ذلك .
شعرت سو بالامتنان لهذا الترتيب الجديد انما كان على الممرضة ان تنظم امورها فى القرية استعدادا للبقاء فى غلينرودن فساهمت سو فى اعمال اضافية فى البيت كذلك استمرت تساعد اباها فى الكتاب وعلقت السيدة لينوكس على ذلك بقولها :- احيانا اتساءل يا عزيزتى من الذى يؤلف الكتاب هو ام انت فلولاك ما استطاع ان يكتبه ابدا .
- هذا العمل يشغل ذهنى ويبعده عن التفكير فى امور اخرى .
اجابتها سو بابتسامة غامضة . وبالرغم من نظرة المرأة المتسائلة لم توضح ان الاشياء الاخرى تعنى بمعظمها ميريك فيندلى .
فعلى الرغم من وجهة نظرها الخاصة بانه مغامر جرئ يسعى الى تأمين مصالحه المستقبلية ، استمر ميريك يعذب قلبها. والى جانب شعور الاحتقار. كان يثير فيها احاسيس اخرى هى فى غنى عنها. كانت كلما راته تتذكر فى خجل مذنب انها حين قابلت المحامى فى لندن، كانت على وشك ان تأخذ رايه فى اجراء تحر قانونى عن اوضاع ميريك وبطريقة لا تثير الشكوك. لكنها لسبب ما وجدت نفسها عاجزة عن عرض شكوكها ومخاوفها امام المنطق القانونى الصارم. بل ان مجرد فتح الموضوع بدا لها تصرفا وقحا انذاك .
اما الان وبعد ان عادت الى غلينرودن فقد انبت نفسها على غبائها لان الفرصة قد لا تسنح ثانية . من جهة اخرى لم تكن لديها اية فكرة عن مغبات اجراء كهذا وخافت من النتائج التى قد تثبت خطأ ظنونها . لم تكن لتبرئ ميريك من كل شئ الى جانب سعيه الطبيعى الى تأمين مستقبله ماديا ، لكنه قد يرحل عن غلينرودن اذا اقدمت على شئ بلا مبرر منطقى وطعنته فى الصميم .
ومرت الايام واستمر ميريك يشرف على رحلات الصيد لكن متنزه العربات كان سيقفل ابوابه مع انتهاء الموسم فى اواخر اكتوبر / تشرين الاول ، او هكذا اخبرتها كارلوت لما عادت من لندن. قالت :- قررنا للعام المقبل ان نستصلح بضعة دونمات اخرى قرب الخليج بموجب رخصة بالطبع. واذا حصلنا عليها فقد اقضى الصيف المقبل فى غلينرودن. فميريك على ما يبدو لا يمكنه الاستغناء عن خدماتى . لن تكونى هنا على الارجح لكن احسبك تودين معرفة ذلك .
كان فى وسع سو ان تجيب بانها لا تود ان تعرف وبأنها لم تستسغ مذاق الخبز انما كان من المحتمل جدا ان تترك غلينرودن على الرغم من كل ما قد يحدث لذا بقيت صامته تستمع فى تهذيب الى ثرثرة كارلوت محاولة ان تعطى الانطباع بانها لا تكترث اطلاقا لما سيحدث فى السنة المقبلة فى هذا الجزء من العالم !
اخبرتها كارلوت كذلك ان ميريك دعاها للعشاء خارجا مما زاد من مرارة سو لكونه لم يفكر مرة بدعوتها بل تعمد الابتعاد عن طريقها وفى الاخير ذكرت كارلوت ان مدرسة قرب بيتها قد تطلب معلمة شابة للعمل عندها بعد عيد الميلاد فتشبثت سو بالفكرة وطلبت الى الفتاة ان تتأكد من الامر وتعلمها به فورا .
وفى احد الايام قرب نهاية الشهر اصطحبها ميريك فى الجولة الموعودة . فقد فاجأها فى احدى الامسيات بتجديد دعوته وقبلتها فى سرور برغم انها كانت عازمة تقريبا على رفضها.
كان صباحا صافيا برغم هبوب الريح وكان ميريك قد نبهها الى وجوب ارتداء ثياب دافئة بقوله :-الدروب وعرة والطقس متقلب فلا تتمسكى بالموضة وتلبسى تنورة وبلوزة رقيقة. اذا فعلت ذلك سأعيدك الى غرفتك لترتدى المطلوب.
كان فى نبرته تهديد خفيف جعلها تهرع الى خزانتها وتختار سروالا سميكا وقميصا دافئا وكنزة وقبعة صوفيتين .
السيدة لينوكس شاركت بدورها فى العمل على انجاح الرحلة فهيأت ساندويشات وضعتها فى حقيبة ظهر خفيفة اعتطها لسو متمنية لها رحلة ممتعة .
ابتسمت سو وهى ترقض الى حيث كان ميريك يجلس فى سيارته وحالما صعدت الى جانبة ادار المحرك بفروغ صبر وانطلقا.
نظر اليها وقال باسما:- تبدين متألقة هذا الصباح .
- لقد نفذت تعليماتك بحذافيرها كما ترى . انا مستعدة لكل شئ تطبيقا لكلماتك .
- ربما ما طلبت هذا بالضبط لكن طالما نحن ذاهبان فى مطاردة فالثياب الثقيلة انسب .
فقفز بصرها الى وجهه الاسمر وسألت فى لهفة :- مطاردة؟ اتقصد اننا سنطارد الغزلان الاوائل ؟.
- جمع ايل هو ايائل يا بلهاء وليس اوائل .
فبادلته الضحك وردت فى جرأة :- الشاطر حسن ! هكذا كنا نسمى التلاميذ اللامعين فى المدرسة .
فبادلها مزاحها بأقسى منه :- عرفت نساء كن يطلقن على اسماء الطف . انا اسمى ميريك ولم اسمعه من فمك سوى مرة او اثنتين .
اشاحت بصرها صوب الجبال البعيدة واخذت نفسا عميقا ثم قالت فى جدية :- عندما تتصرف وديا تكون لطيفا جدا لكن هناك اوقاتا تليق فقط بمناداتك (السيد فيندلى ).
- بالنسبة الى خطاياى يسرنى ان اعرف بانى اثير ردود فعل ايجابية فى بعض الاحيان. الا توافقينى رايى يا حلوتى سو بناء على تجاربنا السابقة؟
- لنحصر حديثنا فى موضوع الغزلان .
- اوه، الغزلان .
ثم ابتسم ساخرا واضاف :- منذ ايام حواء والمرأة استاذه فى فن المراوغة . لكنك فى يوم ما ستتعلمين شيئا واحدا يا سو وهو انك لن تستطيعى الهرب الى الابد لكن فى الوقت الحاضر لنتكلم فقط عن الغزلان كما طلبت .
ازدادت توردا وخفق قلبها وهى تقول :- حدثنى عنها اذن .
فاجابها فى ليونة وهوينعطف بالسيارة الى الطريق العام:- اود ان اريك ايلا او اكثر وقد ترين بعضا من اناثها .
- هل سنراهم على اراضى غلينرودن ؟.
وهنا تنبهت واضافت فى حذر :- اقصد انى لا اعرف الكثير عن غلينرودن هل هى املاك واسعة ؟.
تشبثت بحافة المقعد فى عصبية وقد تعرقت يداها من الخوف. انها تكره الاقرار بجهلها ومع ذلك لا تجد غضاضة فى قهر كبريائها لتعرف المزيد عن هذا المكان الذى بدأت تحبه .
لكن ميريك لم يستغرب سؤالها ورد قائلا :-الجواب نعم على كلا السؤالين. فغلينرودن شاسعة تبعا لبعض المقاييس. انما لا تخلطى بين الحجم والانتاج المادى . انها تضم غابة غزلان، مستنقعات تعيش فيها طيور القطا، والخليج الذى رايته اما فى الاودية فلدينا تلال ترعى فيها الاغنام وبعض حقول الحبوب والخضار والدرنية (كالبطاطا والفجل الخ ) .
هذه الحقول هزيلة بعض الشئ ونعتنى بتحسينها عاما بعد عام بيد ان الارض ما تزال صخرية .
لم تقتنع تماما فقطبت حاجبيها وتساءلت :- تقول ان الارباح ليست كبيرة فلماذا مادامت الاملاك واسعة وكثيرة ؟.
- لان هذا النوع من الاراضى لا يتيح المجال لربح وفير. اعطيك مثلا اذا كانت لديك غابة غزلان، فهى تحتاج الى عناية مستمرة لكنها تكلف مالا كثيرا ... غابتنا نحن بدأت تدر ربحا بعد ان تعاقدنا نع الفندق على استئجاره فى موسم الصيد احيانا يتم الصيد وفقا للاصول واحيانا يكون الموسم كارثة وذلك حين لا يعرف الصيادون اى نوع من الغزلان يقتلون. فى هذه الحالة الجأ مع مسؤول الغابة الى الاشراف على كل شئ فى ضوء خبرتنا ومعرفتنا بواقع الحال .
- اتقصد انك تدع الناس يقتلون الغزلان ؟.
- ليس قبل ان نقوم بعملية الفرز .
- يعنى انكم تقتلون قسما منها! هذه قسوة !
- يجب ان نقتل عددا معينا من الغزلان كل سنة كى نضع حدا لتكاثر القطيع .
استغربت هذا المنطق المغاير للواقع فحولهما اراض هائلة اميال واميال من التلال والوهاد الممتدة حتى حدود البصر وليس فيها من مخلوق انها تتسع حتما لمئات الغزلان !
تململت فى مقعدها وسألت :- لماذا تمنعون تكاثر القطيع ؟.
- لان الغذاء محدود غابتنا جبلية برية وهذا يعنى ان القطيع يجب حصره فى اعداد معينة والا ماتت الغزلان جوعا لبينما يعود العشب الى النمو فى الربيع .
|