كاتب الموضوع :
هدية للقلب
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
2- لقاء المارد
اطل الصباح التالى ضبابيا رماديا مع انسكاب مطر ، فبلل المعنويات والثياب معا. لكن سو شعرت ازاءه بامتنان غريب اذ رحبت بأية تغطية يمكن ان يزودها الفضاء الغائم بكثافة.
(طقس آبى اغسطسى نموذجى) علقت موظفة الاستقبال وهى تبتسم بالتواء لكن سو لم تعر التعليق كثير انتباه وهى تسارع فى دفع الحساب قبل ان تلتقط سيارتها من المرآب .لم تر الا القليل من ادنبره وهى تغادرها، حتى القلعة كانت بالكاد مرئية تحت خيمة الغيوم التى تلفها، فقط تمثال سكوت (الشاعر والروائى الاسكتلندى) بدا واضحا خلال عبورها برنسس ستريت. وهنا وعدت نفسها مجددا، كما فعلت فى يورك بأن تقضى فيهما وقتا أطول لدى عودتها كى ترتاد معالمهما جيدا. تنهدت وهى تضغط فى ندم على دواسة الوقود فهى على ما يبدو تقوم بالاشياء بالمقلوب.
حثها شعور مؤلم على العجلة فخرجت من المدينة فى سرعة عبر جسرالشارع الرابع الى تلال فايف،ركزت كليا على الطريق المبللة الزلقة،وعلى المطر المنهمر على زجاج السيارة الامامى. كان عليها ان تفكر بأى شئ ينسيها الليلة الماضية الحادثه المقلقة فى الفندق. فهى ما تزال ترتعش لدى التفكير فيها. لم تكن تتصور ان تلتقى ميريك فيندلى مرة أخرى، ولا هى ترغب فى ذلك، هكذا طمأنت نفسها انما، وبسبب صدفة غريبة، ما انفك قلبها يخفق كلما فكرت فيه، وماتزال تحس رفة ندم غريبة تتصارع مع رغبتها فى النسيان.
من الواضح ان ميريك فيندلى كان ايضا عرضة لتندمات من نوع اخر ، فهى لم تر له أثر حين تناولت فطور الصباح.تناولته فى عجلة لخشيتها من احتمال لقائه، لكن قلقها كان فى غير محله. فالطاولة التى احتلها فى الليلة السابقة كانت خالية ، وكارلوت لم يظهر لها اثر هى الاخرى.
لذا لم يسع سو الا ان تقرر جازمة بان استنتاجاتها كانت صائبة. كان ميريك يستعملها ككماشة صغيرة لينتزع بعض الغيرة من صديقته الجميلة. الناس لا يتورعون عن فعل اغرب الاشياء من اجل حماية عواطفهم... لكن استحالة اقدام ميريك على تصرف كهذا استمر يعذب آمالها واضطرت لبذل مجهود قوى كى تحول افكارها الى اتجاهات اخرى، ولتطرد من ذهنها وجهه الجذاب الى حد الخطر. لايجب ان تسمح لاى شخص ولأى شئ ان يشغلاها عن ايجاد غلنرودن والسيد فريزر الغامض.
كانت الرؤية محددة بسبب المطر والضباب، ولما انقشع الجو اخيرا واشرقت الشمس حمدت سو ربها. هنا، ادهشها ان ترى الريف قليل الوعورة. كانت اراضيه متدحرجة ذات حقول شاسعة وبيوت زراعية كبيرة.
لكن بعد اجتيازها بيرث تغيرت طبيعة الارض فاصبحت جبلية برية ، وبعد دانكلد واجتيازها الطريق العام، احست بوحشة الغابات تكتنفها وتضغط عليها. استعانت بخريطتها لتحاشى اتباع المنعطفات الخاطئة. وبعد ان قطعت عدة اميال ووصلت قرية هناك قررت ان تتوقف وتستعلم عن الطريق . فلابد انها اصبحت قريبة من المكان ، والاستفسار عن الوجهة الصحيحة يوفر عليها اميالا طويلة . هذا ما قالته فى نفسها وهى توقف السيارة امام حانوت القرية .
- غلنرودن؟.
هتفت المرأة الكهلة عبر الفاصل الخشبى جوابا على سؤال سو المتلهف، وقد استغربت امتلاء الحانوت بالناس بالمقارنة مع وحشة الريف المحيط بالقرية. شعرت بخديها يتوردان قليلا حين استدارت اليها عدة وجوه ترمقها فى فضول.
- لاشك انك تريدين جون فريزر.
تابعت المرأة فيما اومأت سو برأسها مرتبكة وقالت :- أو ربما تستطيعين ...
فقاطعتها امرأة اخرى بلهفة :- اعتقد ان السيد فريزر يشكو التواء فى كاحله. هكذا اخبرتنى جارتى هذا الصباح. لقد لواه فى حقل الخليج (نبات منخفض فى الجزر البريطانية ) ولذا ستجدينه فى البيت حتما.
لم تجب سو بل وقفت صامتة تتلقى الارشادات من المرأتين معا. قالت احداهما:- تقدمى مسافة ميلين فى خط مستقيم، خذى يمينك مرتين ثم يسارك مرتين. لن تضيعى المكان .
وقالت صاحبة الحانوت:- هناك بيتان، واحد كبير واخر اصغر منه . جون فريزر يقطن الاصغر.
ثم نظرت الى سو مقطبة واضافت بدون ان تتوقف عن تلبية الزبائن:- يبدو لى انى رأيتك من قبل فى مكان ما .
- لا أعتقد ذلك.
اجابت سو فى شبه ابتسامة وشكرتت المرأتين على مساعدتتهما، ثم اردفت وهى تتراجع فى عصبية صوب الباب:- لم ازر هذا المكان من قبل لذا استبعد ما تقولين .
خرجت الى سيارتها مهرولة وصدمة قارصة تسرى فى كيانها. لقد جاءت لتبحث عن هذا الرجل المدعو فريزر ولكن عثورها عليه سحق فيها املا واهيا بأن لا يكون موجودا . حاولت بقنوط مقاومة رغبة فى العودة الى لندن، وهى تدرك فى الوقت نفسه بانها لا تحب ان تنقاد لميولها الجبانة هذه. اجفلت كسائر فى نومه يوقظه احدهم بقسوة، وادركت انها امام خيار واحد فقط. لان اى تصرف اخر كفيل بأن يحرمها راحة البال فى المستقبل.
ادارت محرك السيارة بحركة آلية فاعادها الهدير المفاجئ بعنف الى الواقع. ما اغباها تجلس هنا وترتجف كورقة. كل ما عليها فعله ان تتقدم الى غلنرودن فتوصل الرسالة ثم تعود. هذه العملية قد تستغرق اقل من ساعة، اذن لا موجب لكل هذا الاضطراب وليس ثمة ما يبرر شعورها الطاغى بالتعاسة. استوت فى جلستها بحزم ثم ازاحت شعرها الاشقر بأصابعها المستمرة الارتعاش ومضت بسيارتها قدما .
وجدت غلينرودن فى سهولة وبخلاف ما توقعت. الصعوبة الوحيدة كانت فى الطريق الملتوية ذات المنعطفات المجنونة التى كادت تصيبها بدوار. فى احد الاماكن اضطرت لان تعبر مقطع نهر حيث المياه تغمر الطريق، وحين اندفعت بقوة تهاجم دواليب السيارة احست سو للحظة بالخوف، اذ تصورت فيضانا كاملا يغمر هذه البقعة من الطريق وما يمكن ان يشكله من خطر على الوافدين الغرباء، وتنفست الصعداء حين خرجت منه بسلامة.
كان النهر يصب فى خليج بدا فى الجو الغائم كثيفا رماديا، ما لبث ان حجبه امتداد من الصنوبريات فلم تعد تراه. اخذت المنعطف اليسارى الاخير وتبعت النهر خلف الوادى، وبعد نصف ساعة وجدت البيتين المنشودين، مختفين تقريبا فى غابة من الصنوبر.
داست بسرعة على مكابح السيارة اذ كادت تتخطى نهاية الطريق بلا انتباه. غيرت جهاز التبديل بضجيجوبدون براعتها المعهودة، اذ كانت تركز على ما كان يظهر من البيتين من خلال الشجر. توقفت السيارة من تلقاء نفسها واستقرت بانحناء على الحافة المشجرة .
- اللعنة!.
هتفت سو باستسلاموهى تريح ذراعيها قليلا على حضنها. وانقضت بضع ثوان قبل ان تنتبه للرجل الواقف على مطل صخرى، على مسافة غير بعيدة عنها. شهقت وهى ترى المشهد، بدا الرجل وكأنه (تيرنر) عصرى (رسام بريطانى) يرسم مشهدا معقدا من الدراما المتناهية.
لم تستطع ان تميز تقاطيع الرجل الا انها احسته ينظر اليها من مكانه العالى . لاشك انه سمع صوت المحرك فوقف يدينها بسوء القيادة من على برجه الشامخ! اشاحت عنه بسرعة وتساءلت لماذا يعلق اهمية على تصرفها والغرباء لا يفدون بكثرة الى هذه المناطق؟ لكن اذا لم يكن لديه ما يفعله فهى لديها مهمة عاجلة ... ارجعت سيارتها عن العشب وتابعت القيادة بدون ان تنظر مرة اخرى فى اتجاه الصخرة .
ومن لحظة توقفها امام البيت الصغير احست بأن كل شئ سيكون بخلاف ما تصورت. لم تستطع تفسير السبب ، وانتابها شعور غريب جدا مابين الكوخ والمدخل. انه كوخ اكثر منه بيتا، قالت لنفسها وهى تقترب منه متفحصة اياه فى تمعن. البيت الاخر يبعد عن هذا مسافة مئة ياردة تقريبا ويبدو مهيبا وسط الاشجار. لم تقدر ان تراه بوضوح لكنه بدا اكبر حجما من الاول .
كان باب الكوخ منفرجا مما اكد لسو وجود السيد فريزر فيه. طرقته فى ترقب وارتعشت فى ارتباك حين لم تسمع جوابا. حاولت مرة اخرى بلا نتيجة. احتارت فى امرها، ثم دفعت الباب بلطف وعناية ودلفت الى الداخل.
وجدت نفسها فى ردهة مربعة، متوسطة الحجم انما مكسوة بألواح دافئة وداكنة من خشب السنديان. وعدا سجادة عجمية مستطيلة لم يكن هناك اى اثاث باستثناء سلم خشبى ضيق يبدأ من زاوية بعيدة . الباب الى يمينها كان مغلقا، اما اليسارى فكان نصف مفتوح. وفيما هى تحدق اليه وتتردد فى طرقه ، رأت رجلا يكمل فتحه ويقف على عتبته.
لاشك انه جون فريزر. هبط بصرها الى قدمه، كان يقف على ساق واحدة متكئا على عصا. وفجأة اطلقت شهقة صغيرة حين نظرت الى وجهه مدفوعة بحس خارج عن ارادتها، ويقين داخلى بأنها يجب ان تعرف هذا الرجل الذى لاتعرفه ولا تتذكر انها رأته مرة من قبل .
كانت عيناه الرماديتان مسمرتين كعينيها . وقبل ان تقول شيئا سألها بفظاظة :- من انت؟
اعادها سؤاله بقوة الى الواقع ، لكن ردود فعلها الخاصة استمرت تحيرها. انها تواجه رجلا طويل القامة ذا شعر غزا معظمه الشيب... شعر اشقر كشعرها وعيناه رماديتان كعينيها، بل هو نسخة طبق الاصل عنها! رجرجت الفكرة ذهنها فى عناد وهى تنظر اليه.
- من أنت ؟.
كرر السؤال وهو لايقل عنها ارتباكا انما كان مصمما ايضا على اكتشاف اسمها . فأجابت بتلعثم لم تدر له سببا:- آسفة ... كان يجب ان اخبرك .اسمى سوزان غرينجر ومعظم اصدقائى يسموننى سو.
لم تكن مستعدة للوقع الجارح الذى احدثه تصريحها. فقد شحب وجهه وتهدل شكله العسكرى فجأة برغم ان بصره لم يفارق محياها.
وظنت للحظة انه سيقع لكن حين سارعت اليه ابعدها عنه وتمتم فى خشونة:- انى بخير . لقد اذيت كاحلى فحسب، ضرر بسيط لا يستحق الشوشرة. ارجوك ان تتفضلى.
استدار فتبعته الى قاعة الجلوس كانت ، بخلاف الردهة ، مكتظة وتشوشها كتب وصحف مبعثرة فى كل مكان. لكنها لم تحفل بذلك. توقفت معه قرب النافذة المفتوحة حيث استمر يتفحصها عن كثب.
قالت وهى تتململ متضايقة من نظرته الثاقبة:- انى ابحث عن السيد فريزر . جون فريزر.
ظل صامتا فتابعت فى عصبية :- لدى رساله له من امى . هل تعرف هذا الرجل ؟.
أومأ بالايجاب ، وذعرت سو لما اكتسى وجهه من صدمة وذهول. وسألها بصوت غريب:- ما أسم أمك. هل هو هيلين غرينجر ؟
- اجل كانت تدعى هكذا.
- كانت ؟ هل تقصدين ما اظن انك تقصدينه؟.
اومأت برأسها كيلا تتلفظ بالجواب ، ولم تندهش كثيرا حين قال فى جمود :- كانت زوجتى ايضا.
لم يصفعها الوعى الكامل للحقيقة الا حين سمعته ينطقها. اغرقتها الصدمة. فراحت تشخص اليه والعذاب يغمق عينيها ويشحب وجنتيها. هل هذا الرجل والدها؟ شبهها قد يكون عرضيا. فبأى طريقة تتأكد من الحقيقة؟.
كان مثلها مرتجا. بدأ يقول شيئا ثم عدل عنه... امسك ذراعها بلطف وقادها الى حيث الموقد . تمالك نفسه وقال بهدوء:- من الافضل ان تجلسى يا عزيزتى . وقبل ان نخوض الموضوع يستحسن ان تعطينى الرسالة. اعرف انك ابنتى قبل قراءتى لمضمونها فشكلك يؤكد لى ذلك .
اكتنفتها الحيرة وهى تجلس قبالته فى حذر. لم تجرؤ على النظر المباشر اليه. تناولت الرسالة من حقيبتها وسلمتها اليه وقد ازمعت جزئيا على ان تبقيها معه . ورجوعا الى الماضى القريب عاد اليها تحذير تيم عاليا وواضحا. ولكن كيف كان لها ان تعرف بأن جون فريزر قد يكون اباها! الان ادركت كما ادرك جون بدون مطلق شك ، وقبل ان تقرأ الاثبات الاضافى على الورق، بانه ابوها! استرقت اليه النظر وهو يقرأ الرسالة . كان طويلا ونحيلا، او بالاحرى واهيا، لكن بمجموعة كان حسنا، من نوعية الرجال ذاتها التى طالما تصورت اباها ينتمى اليها. لماذا ، لماذا تساءلت فى قنوط لماذا لم تخبرها امها الحقيقة ابدا؟ هل يعقل ان يستطيع احد الاقدام على خداع قاس كهذا؟ ثم كيف استطاعت امها ان تحفظ سرا كهذا طوال الوقت!
بالنسبة الى دور ابيها فى التمثيلية فلا يسعها ان تحزر. هناك أشياء كثيرة لا تفهمها وقد يكون من الافضل الا يحاول . ربما يحاول أبوها ان يفسرها بعد انتهائه من القراءة.
وكأنما تكهن بأفكارها رفع جون رأسه ثم طوى الرسالة وناولها اياها قائلا:- لا أدرى اذا كان يحق لى بأن ادعك تقرأينها يا سوزان، لكنها قد تفسر لك بضعة أشياء لا بد ان تعرفيها . فكلانا ، انا وأمك ، لم نفلح كثيرا فى واجباتنا تجاهك.
كان صوته واهنا بعيدا، وكأن مضمون الرسالة هزه كثيرا شعرت بأنها كانت تشهد عذابا شخصيا لايمكنها المشاركة فيه، فأشاحت بصرها عنه وحدقت الى الاوراق بين يديها، وانخرطت تقرأ التالى:-
شعور يخامرنى منذ مدة طويلة ، يا جون بأن هناك شيئا على وشك الحصول. فاذا كان حدسى صائبا ، وهو لم يخذلنى ابدا. فسوزان ستبقى وحيدة بلا معين. لهذا السبب أرسل اليك أبنتك. اذا ساورك اى شك فى أبوتك لها ، فما عليك الا ان تتأمل رسوم العائلة، تلك المجموعة المضحكة فى حوزتك، لتتأكد من الحقيقة. تركتك يا جون لأنى لم احبك يوما ، مع انى حاولت كثيرا كما تعلم. وحين تأكدت من حملى بسوزان، شعرت بضرورة الهرب. ولو لم اتركك انذاك لما سمحت لى بهجرك وأنا حامل بطفلة او ربمابطفل. كان قرارا مصيريا بالنسبة الى ، لكنى لم أندم عليه ابدا.
لن احتاج النفقة بعد اليوم يا جون لانه اذا قدر لك ان تقرأ هذا فسأكون فى عداد الاموات، انما هناك سوزان التى أرجو ان ترعاها نيابة عنى، وان تسكنها معك اذا اقتضى الامر، اعتقد انى ما ستطعت ابدا ان ازودها بالحنان كما يجب، فلعلك تفعل ذلك ايضا...
كان هناك المزيد ولا شئ فيه ينير الطريق. الرسالة بحاجة الى تشريح لاستخراج الاستنتاجات والمعلومات المطلوبة، لكنها شعرت ان تشوشها الذهنى يحول دون ذلك. سقطت الاوراق من أصابعها الرخوة فيما اخذت عواطفها تتكور وتتمدد فى داخلها. لم تتوقع مطلقا ان تعلم بوجوب أب لها هنا، مايزال حيا يرزق وليس كما جعلتها امها تعتقد . لقد كابدت الكثير ويصعب عليها هضم هذا النبأ الجديد فورا. حتى حزن والدها ، لم تقدر لغاية الان ان تسبر عمقه، فاكتشافه لوجودها قد يقلب دنياه رأسا على عقب.
|