كاتب الموضوع :
هدية للقلب
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
أجفلت داخليا وهى تخرج الرسالة من حقيبتها وقالت :- أسفة. لقد وعدت أمى بأن اسلمها لصاحبها بدون ان افتحها. لكن اذا كان العنوان يساعدك فلا بأس ان تطلع عليه.
تناولها من أصابعها الباردة بدون ان يعلق على عبارتها الغريبة وقرأ العنوان بامعان. ثم قال:- انها معنونة الى السيد جون فريزر فى غلنرودن، بيرتشاير وبخط أمك ان لم أكن مخطئا.
تناول احدى الاوراق وقارن الخطين ثم أومأ قائلا:- الخط واحد فلدى هنا توقيع امك . لكن اليس لديك فكرة عن مضمون الرسالة؟.
- كلا. لكنى مزمعة على زيارة اسكوتلاندا فى أسرع وقت فلعلى اكتشف مضمون الرسالة؟.
- ربما . هل حدث وسمعت شيئا عن السيد فريزر هذا ؟
هزت رأسها سلبا وقالت :- كل ما أعلمه ان والدتى لم تذهب ابدا الى اسكوتلاندا ، كذلك لم تبارح لندن. كانت تقول ان اسكوتلاندا مكان مقفر بارد.
- وهل صدقتها؟.
- ليس تماما. أعتقد انها كانت ستغير رأيها فى حال أقنعها أحد بزيارتها. انى أحاول فقط ان أفسر استغرابى لهذه الرسالة ولا أعرف مطلقا من يكون هذا الرجل.
- وحتما لن تفكرى بفتح الرسالة؟ ان الاطلاع عليها قد يوفر ... متاعب كثيرة على المدى البعيد.
- كلا لايمكننى بحال أن أفتحها.
لماذا تردد قبل أن يقول متاعب ؟ ثم الا يدرك بأنه يطلب المستحيل؟ ربما هو كما تيم يظنها بالغة الدراماتيكية. أثقلتها الحيرة فاشاحت عن المحامى.. لقد وعدت امها ، والوعد وعد مهما تكن الظروف .
قال :- فهمت .
لم يعلق بكلمة اخرى أحسته يتفرس فيها متفحصا، وأخيرا تابع:- اذن سننتظر نتيجة زيارتك لبيرتشاير لنتصرف فى ضوئها. رحلتك قد تكون مفيدة من عدة نواح واذا لم تكن لن تؤثر عليها خسارة اسبوع او اثنين.
كانت لاتزال تفكر فى تعليقاته الغامضة حين أقتربت بعد اسبوع من ادنبرة قبيل الغروب.
- ظلى على اتصال بى واعلمينى بكل ما يحدث معك.
قال لها لما اخبرته لتودعه. لقد أظهر ذعرا ، كما فعل تيم، حين أصرت على الذهاب بمفردها. بيد انها لم تخبر أيا منهما بان أمها توسلت اليها الا تصطحب احدا . تيم حاول أقناعها بان قرارها خال من المنطق تماما، واستاء للغاية حين رفضت الاصغاء اليه. ان مجيئها بمفردها أفضل بكثير ففى حال كانت الرسالة تتضمن اخبارا سيئة فلن يكون معها احد يشهد ذلها. ومن عادة تيم ان يجهر تعليقاته الشامتة حين تظهر الاحداث انه لم يكن مخطئا .
وبرغم الجدل حول مهمتها وبرغم تخوفاتها الخاصة، تلفتت سو حولها بلهفة وسيارتها الصغيرة تنهب الاميال بلا أى خلل أو ابطاء. كانت تخص أمها التى ابتاعتها رخيصة بمال ربحته فى احدى المسابقات. لقد أصرت على ان تتعلم سو القيادة كى تتمكنا من التنزة معا فى نهايات الاسابيع . ضريبة السيارة كانت مدفوعة حتى نهاية السنة ولكن بعد عودتها الى لندن لابد لسو من التخلى عنها توفيرا للمصاريف.
تنهدت ثم أخذت تفكر فى رحلتها لتحول أفكارها الى قناة أبهج .كانت رحلة جيدة لغاية الان. لقد ودت ان تقضى وقتا أطول فى يورك حيث الكاتدرائية الساحرة ، لكن الطقس كلن رائعا ومشجعا على متابعة السفر توفيرا للوقت . شمالا، وبعد اجتيازها منطقة تاين وتيز الصناعية الخانقة رحبت بالتلال والجبال. توقفت قليلا فى بلدة ألنويك التاريخية الحدودية لتناول الغداء ثم تابعت السفر بلا توقف. الان شعرت بالتعب وتثاءبت وهى تقود سيارتها على طريق دالكيث. ربما كان من الغباء ان تقطع هذه المسافة فى وقت قصير كهذا
انما كان فى داخلها شئ يحثها على التقدم، فضول عميق للتعرف الى هذا الرجل المدعو فريزر، الى هويته وشكله فضول ممزوج فى غرابة بمشاعرها الغاضبة تجاه امها لانها لم تأت على ذكره الا بعد ان فات الاوان علىأى تفسير.
لاشك انه كان شخصا مهما بالنسبة اليها فى احدى مراحل حياتها، تيم محق على الارجح ففى مكان ما قد يكون هناك خال أو جد هجرته امها يوما. هذا الشخص موجود حتما والا لماذا شعرت امها بعذاب الضمير؟
ادنبرة عاصمة الشمال الرمادية ، هى حقا مدينه جميلة وبهية. لدى وصولها اليها أخذت سو انطباعات خاطفة عن النباتات الرائعة والشوارع الفسيحة المحددة بعمارات سكنية عالية وأزقة ضيقة. القديم والجديد جنبا الى جنب! تقدمت ببطء وبلا تذمر عبر حركة سير مسائية متكاثفة . اهتمام مثير بدأ يمحو تكاسلها السابق ، وازدادت حماسة وهى تتأمل ما حولها لدى تباطؤ السير. على جسر ويفرلى ودخولا فى برنسس ستريت أحست ألقا أيجابيا يعود اليها.
لكن الالق خبا قليلا لدى بحثها عن مكان تنام فيه. طرقت عدة فنادق بلا جدوى ، فى النهاية استعانت بمركز الاستعلامات فأمن لها غرفة مرتفعة الاجر . كل الفنادق مكتظة بسبب المهرجان السنوى الذى يؤمه الناس من كل صوب. هكذا اخبرتها موظفة الاستقبال فى الفندق.
ولما استتبت فى غرفتها احتارت أى ثوب ترتدى للعشاء ، لكونها لم تحضر معها ثيابا رسمية سوى تنورة طويلة سوداء لم تتوقع ان ترتديها. وحين استعرضت الاثاث الفاخر حولها قررت ان تلبسها مع بلوزة بيضاء طويلة الكمين.
كانت جائعة فاستحمت ولبست بسرعة وهبطت الى المطعم. ولأول مرة منذ غادرت لندن قرصتها الوحشة اذ وجدت نفسها وحيدة وسط الازواج وأفراد العائلات الضاحكين حولها. انه وقت المهرجان والجميع يلهو ويستمتع . هزت كتفيها وذكرت نفسها بأنها لم تأت بقصد الاستمتاع.
طلبت طاولة هادئة. فقادها رئيس الخدم الى واحدةوهويرمقها باستحسان. تبعته غير شاعرة بأنها فى ثوبها الرسمى وشعرها الاملس المسحوب الى خلف بشريطة مخملية تبدو كأنسة فكتورية انفلتت من التاريخ.
كانت تتناول طبق السمك حين دخل الرجل صاحب التنورة. لقد قيل لها انها لن ترى اليوم فى اسكتلندا رجالا يرتدون هذه التنانير، وان السياح الذين يتوقعون هكذا مشهد يصابون بخيبة، لكن هذا الرجل يرتدى واحدة ! رداء رائع من التارتان( قماش صوفى مربع متعدد الالوان) يأسر النظر او بالاحرى الشخص الذى يلبسه! رجل جبلى وسيم، فارع القامة مديدها! انحبس النفس ضيقا فى حلقها. كان طويلا اسمر. تبدو الثقة واضحة فى كل خطوط جسمه المتين وفى شموخ رأسه . ولحظت سو قبل ان يجلس كيف تطوحت التنورة برشاقة حول ردفيه. وبجهد ازاحت بصرها عنه لئلا يراها تحدق اليه. كانت معه رفيقة فتاة تكبرها سنا انما اصغر من الرجل فى أواخر عشريناتها ربما.
كانت انيقة ترتدى التارتان ايضا مع وشاح داكن على كتفيها. كانا كأخوين تقريبا فتقاسيمهما تبدو مجبولة بالاعتداد الشديد نفسه.
ركزت سو على طعامها وهى ترفض صبغ مشاعرها العاطفية بطابع الجد، وتعزو تشتت ذهنها الى فجيعتها الاخيرة والمسؤولة بالتاكيد عن تصرفها الانف وكأنها تلميذة مراهقة سريعة الانفعال!
وفجأة، احست بنظرة مباشرة تسلط عليها وتجذب بصرها كما المغنطيس. رفعت عينيها بالرغم منها لترى صاحب التنورة يحدق اليها كما حدقت اليه من قبل. كانت عيناه تستقران على وجهها بدون طرفة جفن وبتركيز حاد وكأنه يرى شبحا.
وبصعوبه اشاحت بصرها عنه. سرت فيها رعدة غريبة وضايقها ان يتمكن هذا الغريب من التأثير عليها بعينيه فقط. هل ان امعانها السابق به جذب اهتمامه بها؟ اخجلتها الفكرة ألهبت الدم تحت جلدها . امتعضت لتصرفها الجبان، ولخوفها من انفعالات مخجلة لاحقة، تناولت حقيبتها وغادرت المكان بسرعة.
وفى احدى قاعات الاستقبال الفسيحة غرقت فى مقعد وثير مرغمة نفسها على الاسترخاء . ان الرجل بالكاد لاحظها ، وهى تصع من الحبة قبة . ثم لماذا يهتم بفتاة غريبة مثلها، وبرفقته فتاة ساحرة أخاذة؟ فى أى حال طمأنت نفسها لن تراه مرة اخرى فهنا ستضيع وسط الرواد الكثروخليط الطاولات والمقاعد الوثيرة، وستتمكن من الاسترخاء قبل العودة الى غرفتها . الوقت متأخر وعليها ان ترحل باكرا .
احتست قهوتها باطمئنان وتركت رأسها يرتاح على طراوة المقعد. الجلبة خفت حولها وأدركها التعب ، فأغمضت عينيها وكادت تنام.
صوته المفاجئ أجفلها بقوة وجعلها تنتصب جالسة بذعر وتتورد مرتبكة. قال :- مساء الخير . أعتقد انى مدين لك باعتذار.
كان صوته عميقا كامل الرجولة ككل شئ فيه . قربه منها فارعا ومتألقا فى ردائه الفولكلورى كان له وقع اسوأ من الوقع السابق . شعرت وكأنه يمد يده ويلمسها، فاكتنفعا الذعر حين تشابكت نظراتهما.
- عفوا.
كلمة خاوية لفظتها بصعوبة وهى تتشبث بذراعى المقعد. لم تجد شيئا آخر تقوله. لماذا يتصور انه مدين لها باعتذار؟ الا اذا !
- أظن انى اخفتك فى قاعة الطعام.
تابع يقول وكأنها لم تتكلم، وهو يتحرك حولها ويزيح فنجان القهوة الذى لامس تنورته. تسمرت فى مكانها ولاحظت توهج الخاتم الماسى حول اصبعه. وطوال الوقت كان يحيطها بنظرته الثابتة، معريا اياها من ثقتها الذاتية. تمعن فى محياها البيضاوى الناعم شعرها الاشقر عينيها الدخانيتين، اهدابها الداكنة وقال:- لدى شعور بأنى رأيتك قبلا فى مكان ما . كنت أحاول التوصل الى هويتك لكنك غادرت فجأة وبدون ان تنهى طعامك. وفورا احسست بالذنب.
- أحسست بالذنب؟.
رمشت بحيرة ورمقته بارتباك وشك فرأته يبتسم ويمعن فى جرأته انها حتما أقدم لعب الاصطياد فى العالم ! لقد أثارت اهتمامه فأراد التعرف اليها والا لماذا يهبط رجل مثله الى مستوى منحرف كهذا؟ وللحظة قصيرة تملكها الغضب لكنها سرعان ما أخمدته بشئ من التعقل. فرجال فى مستواه لا يلتقطون الفتياتبهذا الشكل كما لا يجب على الفتيات مثيلاتها ان يفكرن بهذا الاسلوب الرخيص. اذن لماذا تقرب منها هكذا ؟ الانه شعر غريزيا بانجذابها اليه ؟ قالت فى برود :- أخشى أنك اخطأت الظن فانا واثقة من اننا لم نلتق أبدا من قبل . ربما أنت تعرف فتاة تشبهنى. والان استأذن...
لم يحاول نفى تأكيدها ولم يتزحزح بل استمر يعلو عليها ويرمقها عن كثب متفرسا فيها بغرابة. لذا لم ينتبة كلاهما لوصول الفتاة الاحين تكلمت وسألته:- ماذا تراك تفعل هنا يا حبيبى؟ فهمت منك انك ستنتظرنى عند مكتب الاستعلامات؟.
ثم شخصت الى وجه سو المتوتر واضافت بحدة:- لم أعلم انك تعرف احدا هنا.
توقفت سو عن تناول حقيبتها وأدارت رأسها تتأمل الفتاة عن قرب. لم تكن مراهقة بأى حال انما جميلة . لكن وجهها كان يتميز بقسوة معينة تتعارض مع الرقة الذائبة فى نظراتها الى الرجل. من هنا تأكدت سو انها ليست شقيقته. فليس هناك أخت تنظر الى أخيها هكذا.
وقبل ان تتكلم قال الرجل باقتضاب وكأنه لم يرحب بوصول رفيقته المؤقت:- انك تطيلين الوقت عادة فى اصلاح زينتك يا كارلوت . كنت فقط أكلم هذه السيدة الشابة لتصورى انى رأيتها قبلا فى مكان ما ، لكن يبدو انى كنت مخطئا على اى حال انها تبدو وحيدة ولعلها تقبل دعوتنا الى فنجان شاى.
اقتراحه أخل فجأة بأنفاس سو. رمقت الفتاة بارتباك فرأتها تحدق بالرجل بعبوس وتعجب واستياء وفى عينيها ادانه واضحة لتقربه من سو وسمعتها تعترض بصوت جليدى :- لكنها لا تعرفنا البتة.
- سنعالج ذلك بسهولة .
عاد ينظر الى سو ومد يده بتهذيب قائلا:- أنا ميريك فيندلى وهذه الانسة كارلوت كريغ.
لم تتعجب سو كثيرا لعدم اهتمام كارلوت بالتعريف . تجاهلته تماما وأخذت تحدق الى ميريك فيندلى وكأنه فقد عقله، وارتفع صوتها الى نبرةشبة هستيرية:- لقد نسيت يا ميريك ان امى تنتظرنا . لقد تأخرنا بما فيه الكفاية.
فأجابها:- لن يضيرها ان تنتظر دقائق أخرى.
وعاد ينظر الى سو المرتبكة ويسجن نظراتها بعينين مهددتين كأنهما بركتا ظلام.
أحست سو وكأنها ذبابة تسقط فى شرك فيما العنكبو يترصدها ويلاحقها بقسوة . كان محياه الداكن يحوم فوقها بتعبيرات مبهمة فتوقف قلبها للحظة عن الخفقان. فقدت كل ارادتها وأحست ارتخاء غريبا فى مفاصلها. أذعرها الشعور ومرة اخرى برقت شفتاه بابتسامة خفيفة وكأنه أحس بعجزها عن الحركة.
وفجأة لفح الغضب ذهنها وجسمها المخدرين اذ خطر لها انه تصرف معها هكذا ليثير غريزة رفيقته او ليغيظها بشكل ما . انه احتمال مرجح ولطالما علقت امها على الوسائل الملتوية لبعض الرجال!
التهبت خداها ونهضت بسرعة متجاهلة يده الممدودة: واستدارت الى كارلوت تقول بعذوبة:- اعتذر ان كنت قد اخرتكما عن موعدكما بدون قصد. لا تجعلانى أؤخركما أكثر وانا أكيدة بان السيد فيندلى لم يدعنى الا من باب التهذيب.
عضت شفتها بخيبة واعتبرت الحادثة منتهية بالنسبة اليها. انحنت لتتناول شالها فرأت اليد التى تجاهلتها تلتقطه بالنيابة عنها وقبل ان تستطع الاعتراض فرشه على كتفيها فأرعشها ملمس أصابعة عبر قماش بلوزتها الرقيق. خفق قلبها متسارعا فجمدت مسلوبة الاعصاب تشاركه النظر بعينين متسعتين. وخلال الصمت اللاحق قالت:-تصبح على خير .ثم هربت قبل ان يستطيع الكلام.
شرارة انتصار واحدة أنارت طريقها وهى تعود مهرولةالى غرفتها. لقد استعانت ببعض التعقل فلم تذكر اسمها لميريك فيندلى!
نهاية الفصل الاول
|