كاتب الموضوع :
هدية للقلب
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
توجهوا الى قاعة الطعام واخذوا اماكنهم وراحت سو تتأمل جمال القاعة وبخاصة سجادة التارتان الكبيرة والنوافذ العريضة التى تطل فى النهارات وفى اشهر الصيف على مشاهد رائعة من الريف الاسكتلندى.
كانت تجلس بين تيم وميريك، وطوال فترة تناول الطعام كانت تحس وجوده بكل جزء من كيانها... ومرارا انجذبت عيناها الى محياه الوسيم واستقرتا لا اراديا . كانت تلبس التنورة السوداء نفسها ، اما هذه المرة مع بلوزة من الحرير الاسود ذات كمين طويلين وياقة مستديرة تظهر عنقها البض وكتفيها . اما شعرها الكثيف فقد سرحته بحيث بدا كغيمة شقراء تموج حول وجهها وكتفيها وتنسكب خصلات منه على وجنتيها .
جاذبيتها لم تغب عن ميريك، وانعكس اعجابه فى تألق عينيه حين استقرتا على قوامها الاهيف، انما لم يعبر عنه بأى كلام وتمنت فى حرقه لو يفعل! تيم من جهته، اطرى جاذبيتها علنا لكن كلماته لم تبلسم قلبها المجروح .
توجهوا بعد العشاء الى قاعة الرقص وتناولوا القهوة الى احدى الموائد الصغيرة المحيطة بحلبة الرقص. بدا العرض بوصلة من موسيقى القرب اداها ارتجالا رجل يرتدى الثياب الفولكلورية وتبعها رقص على ايقاع فرقة موسيقية جبلية . وبعد ذلك وجدت سو نفسها تدور راقصه بين ذراعي ميريك الذى غمغم قائلا :- اشكرك على قبولك الرقص معى يا انسة فريزر واعجب لانك لا تخشين على اصابع قدميك .
فردت مبتسمة وضاربة على الوتر ذاته :- لا داعى للاعتذار يا سيد فيندلى واذا دست على اصابعى سأجد طريقة لارد عليك بالمثل .
- الا تفعلين ذلك دائما ؟ الا يمثل السيد ماسون طريقتك الاخيرة فى ردك على بالمثل ؟.
فتعثرت قدماها وكادت تسقط على صدره وهى تجيب :- تيم ؟ كيف يعقل ذلك ؟.
- لانه لا يرهق نفسه فى سبيل ارضائى .
شدد قبضته على خصرها وهو يطوحها معه وتابع بصوت بارد :- قد اتحمل الوضع حتى نهاية الاسبوع انما لا اضمن ضبط اعصابى الى ابعد من ذلك شعرت بمزيج من الخيبة والكدر فعبق وجهها واجابت فى جمود :- اجازته انتهت ومن المفروض ان يرحل يوم الاثنين او الثلاثاء.
- شرط ان لايمدد زيارته او تطلبى اليه ان يعود ثانية .
- انت لم تجهد نفسك ايضا فى الترحيب به. اين ذهبت ضيافتكم الجبلية المعروفة عنكم ؟.
- انها تميز بين ضيوف وضيوف فلا تستقبل الجميع بالاحضان .
- لكنك لا تقدر ان تقطع اعناق الناس هذه الايام لمجرد انك لا تحبهم !.
- صحيح لم يبق لدينا الا سلاح الكلمات لكن من المعروف عنا حتى فى هذا العصر اننا نستعمل شيئا اقوى منها .
ارتعشت قليلا تحت سيف بصره... هل تراه يلمح الى رحلتهما الجبلية لمطاردة الغزلان؟ ذكريات ذلك اليوم عادت اليها حية، فصبغت جوابها بمسحة يأس غير مقصودة :- لا اخال ان تيم سيرغب فى العودة حتى لو طلبت انت اليه ذلك!
- لا تخافى فلن ادعوه .
ثم قست عيناه فتأكد لها ان اخذ كلامها على محمل اخر . وتابع يقول :- انه لا يناسبك يا سو ويختلف عنك كثيرا بعدم صراحته واخلاصه لذا تقتضى مصلحتك ان تسارعى الى نسيان امره .
- يا لك من ...
استبد بها الغضب فحاولت الافلات من بين ذراعيه ... لاتنكر انها هى نفسها ما اكترثت كثيرا لتيم، فمن حين زار امها لاول مرة وكان وقتها شابا دمثا من مكتب الضرائب ثم صار يتردد عليهما بحكم العمل اصبح ما يشبه العادة فى حياتها. ولكنها برغم كل شئ مدينة له ببعض الولاء ويجب ان تدافع عن صداقاتها ...
قالت بصوت لاهث:- لى ملء الحق فى ان ادعوه هو او ايا من اصدقائى الى غلينرودن ساعة أشاء وليس لك ان تمنعنى !
- ما عليك الا ان تحاولى لترى النتائج !
ابتسم هازئا بعنفوانها ثم شدها اليه واخمد مقاومتها حين خفتت الاضواء مع اقتراب رقصة الفالس على النهاية . احست نفسها تتهدل على صدره وتجردت من كل سلاح لما همس فى اذنها وانفاسه تتسارع :- كم يلذ لى ان اتشاجر معك يا حلوتى سو واعرف من منا سينتصر.
انتهى الفالس وعادت الاضواء فتركته ولجأت كالعمياء الى مقعدها فيما احسته يسير وراءها متمهلا . وجدت تيم مستغرقا فى الحديث مع كارلوت وهى تلقى يدها على ذراعه وتصغى اليه بكل حواسها .
تذكرت سو بقلق انها خشيت مرة من امكانية استفراد كارلوت بتيم ، واستطاعت الان ان تتصور نوع الاسئلة التى تطرحها عليه كارلوت وحيث لا حدود لفضولها وللهفتها الى جمع المعلومات عن سو .
لدى وصولها نهضت كارلوت واقفة وسألت بشئ من السخرية وهى تنقل بصرها بين وجه سو المتورد وحيث توقف ميريك ليتكلم مع رجل اخر:- الم تستمتعى بالرقص؟ يبدو انك تهربين من شئ ما .
فردت باختصار :- ما هربت من اى شئ .
ثم تنفست سو بعمق وتابعت تتحداها بصوت بليد:- انك تحبين اعطاء الانطباعات المغايرة للحقيقة .
فقالت كارلوت :- انت التى اعطيت هذا الانطباع حين عدت راكضة وكأن حيوانا مفترسا يلاحقك !.
ثم غيرت الموضوع وقالت فى هدوء تام :- تبادلت وتيم حديثا ممتعا وقد اخبرنى شيئا عن حياتك الماضية . فى اعتقاده انك جئت الى غلينرودن لغاية معينة . يجب ان اروى لميريك بعض هذا الحديث.
ثم سارت الى حيث ميريك لتشاركه الرقصة التالية . فنظرت اليها سو بحيرة وذهول ... انها عدوة لدودة تحت قناعها . وكان من الغباء ان تنخدع بها وتطلب مساعدتها على ايجاد عمل لها !
استمرت السهرة تتخللها رقصات جبلية حتى حان وقت الانصراف. لم يشارك تيم فى اية رقصة ، بعكس ميريك الذى رقص كثيرا والى حد ادهش سو. لم يدعها ثانية الى الحلبة لكنها انضمت الى مجموعة اخرى كانت ترقص جماعيا ولم تحس اى تصور او ارتباك لانها كانت تلقت دروسا مسائية فى الرقص الاسكتلندى الفولكلورى ، كجزء من منهج التدريب على اللياقة البدنية فى الكلية ، ولذا اتقنت التعلم وساعدها على ذلك خفة حركاتها . انضمت الى المجموعة فى حماسة .ورقصت فى اتقان ورشاقة محاولة اخفاء حنينها الى ذلك الجبلى الوسيم الذى بقى بعيدا عنها طوال الوقت !
لدى عودتهم الى غلينرودن كانت هى وكارلوت متعبتين فصعدتا فورا الى غرفتيهما . كارلوت قررت النوم عندهم بسبب تأخر الوقت وتسألت سو عما اذا كان ميريك قد تعمد ابقائها لغرض عاطفى فى نفسه ، بيد انه صعد الى غرفته بعدهما بقليل وسمعته سو يمر امام بابها المغلق ثم خيم الصمت الا من الريح التى كانت تهب فى الوادى .
ما كانت الريح تؤرقها من قبل بل تهزج لها لتنام اما الليلة فافكارها القلقة تسهدها ومعظمها تركز على ميريك والتصق به كما الحمى. لم يعد هناك اى مجال للشك فى انها تحبه مع انها تدرك جيدا عذاب الحب من طرف واحد . كانت بعض تصرفاته تزرع فيها امالا بسيطة ، لكن هذه الامال هوت الى الارض هذه الليلة حين تجاهل وجودها معظم السهرة . ارتعشت ورفعت رأسها على الوسادة ، معرضة وجهها للهواء البارد الاتى من النافذة . ظلت تتقلب على فراشها حتى تعبت فكفت عن الحركة وحاولت ان تتذكر كل كلمة قالها لها خلال رقصتهما الوحيدة معا ...
لقد وعظها بالنسبة الى تيم وحدد لها صلاحيتها فى دعوة اصدقائها الى غلينرودن . كان يتكلم وكأنه يملك المكان ! وفجأة انعطفت افكارها الى اتجاه اخر فاستوت جالسة فى فراشها .
قطبت وسط الظلام وتذكرت ان تيم اقترح عليها ان تفتش مكتب ميريك بحثا عن اوراق تحدد مركزه الحقيقى . رفضت وقتها الموافقة على عمل كهذا، ولم يأت تيم على ذكره مرة اخرى . انما الان وفى هذه اللحظة بالذات وجدت الفكرة مغرية ليس من وجهة نظر تيم المرتزقة بل بالنسبة الى علاقتها بميريك . فمن الناحية العاطفية لن يكون هناك فرق سواء كان مدير الاملاك ام لم يكن ، انما من المحتمل ان يكون شريك ابيها فعلا ، او اسوأ من ذلك ، ان يكون مالكا لنصف غلينرودن او اكثر من نصفها ! هذه النقطة لم تخطر لها قبلا واحست فجأة بضرورة اطلاعها على الحقيقة .
ازاحت الغطاء وقفزت من الفراش بحركة رشيقة . لم تتوقف لتلبس روبها ، وسارت حافية القدمين وفتحت بابها بلطف. لم تجرؤ على اشعال النور لئلا تصطدم بشئ فتحدث صوتا .
لكن البيت الكبير كان ساكنا . وبرغم ذلك احست العرق ينز من كفيها وهى تنتظر قليلا لتتأكد من ان الجميع نيام . طمأنها استمرار السكون فعبرت الى الممر واغلقت الباب باحتراس ثم هبطت الدرج ركضا الى الردهة .
كانت غرفة المكتبة التى حولها ميريك مكتبا تقع فى الممر الكائن خلف الدرج فانسلت فى اتجاهه، تستدل اليه بالغريزة والذاكرة فيما الظلام يلف طريقها عدا ضوء قمرى باهت يتسلل من زجاج النافذة فى اعلى الجدار ولا صوت غير ضربات قلبها التى كانت ترن فى اذنيها عالية .
توقفت عند باب المكتبة حين احست فى داخلها شيئا يتراجع لكنها استجمعت شجاعتها ودفعت الباب. عبرته وكادت تتعثر فوقفت حائرة وندمت لكونها نسيت الاتيان بمصباح يدوى . كان فى المطبخ واحد. الا انها خشيت البحث عنه فى الظلام لئلا تسقط غرضا من الاغراض فتحدث دويا . اضاءت الزر الكهربائى وانصتت متخوفة ثم تشجعت وقررت المباشرة فى البحث لتنتهى بسرعة .
ارتعشت وهى تحدق فى الغرفة حولها . لقد زارتها مرة او مرتين من قبل ، الاولى عندما جاءت لتأخذ كلب ميريك فى نزهة ، كارلوت كانت معه انذاك ، والثانية حين حملت رسالة الى ميريك من احد الزوار . تذكرت طاولة المكتب اكثر من سواها ، وطفقت تتأمل رفوف الكتب العالية والمقاعد المريحة حول الموقد، ثم ارجعت بصرها الى الطاولة الكبيرة المغطاة بالجلد. وعلى حين غرة راح قلبها يخفق بسرعة وثقل واتسعت عيناها فى حيرة . كان شيئا مخيفا ان تفقد رغبتها فى البحث
بل وتجد نفسها عاجزة عنه! كانت فكرة متسرعة ولدت فى لحظة ضغط، وادركت سو ان المكتب مهما كان فيه من اسرار فيجب ان تتركها حيث هى ,صحيح ان والدها يملك هذا المكتب لكن التفتيش التجسسى ليس من طبيعتها . ليتها تعقلت وادركت هذا من قبل ! وفكرت يائسة اذا قصدت ميريك هنا بعد ان يسافر تيم واستوضحته الحقيقة فى صراحة فلربما اخبرها بنفسه كل ما تود ان تعرفه .
نهاية الفصل التاسع
|