كاتب الموضوع :
هدية للقلب
المنتدى :
روايات احلام المكتوبة
1 - ضربة حب
- هل أنت سعيدة ؟
اقتربت آنا من أوليفر لتشعر بدفئة وأومأت برأسها. كانت تلك احدى اللحظات الرومانسية الخيالية التى تستحيل حقيقة. مضى أسبوعان على تعارفهما وها هى الان غرقة فى الحب من رأسها حتى أخمص قدميها .
كانا على ظهر المركب فى طريقهما الى انكلترا، وقد طلب منها الزواج، فشعرت بالفعل انها أسعد فتاة فى هذا العالم. هل من الضرورى أن يسألها أوليفر عما اذا كانت سعيدة ؟ ألم يكن ذلك باديا بشكل جلى على وجهها المتلألئ ، وعلى عينيها اللتين تحدقان فيه بهيام؟ وعلى لمساتها وهمساتها له؟ لقد كان رائعا، بسحره وجاذبيته، فلم ترد قط أن تدعه يبتعد عنها.
كان لقاؤها به فى تلك الرحلة، ومن ثم ظهوره على عتبة بابها بعد بضعة ايام، أمرا مدهشا تماما، كأنها تشاهد فيلما سينمائيا. ولم تكترث لكيفية عثوره عليها، بل اكتفت بانه فعل فلم تتردد قط فى دعوته للدخول ومن ثم قبول دعواته للخروج .
انه حقا جذاب وخلاب الى حد الجنون انه الغريب المثالى بقامته الفارعة وبشرته الداكنة ووسامته وعينيه الذهبيتين الرائعتين اللتين تضفيان عليه جاذبية ساحقة .
لقد كانت رحلة لا تنسى من فيشغارد الى روسلير كان المركب يشق طريقه بصعوبه عبر الامواج القوية، وعندما ترنحت آنا وكادت تقع أمام أوليفر لانغفورد فى متجر الهدايا، التفت ذراعاه بعفوية وتلقائية حولها ليحول دون وقوعها . وما لبثت أن شعرت فى اللحظة نفسها بتيار كهربائى يمر عبر كل خلية من جسدها، واحست بتجاوب مباشر ومخيف معه لم تكن تتوقعه .
منتديات ليلاس
تمتمت وهى تجهد للتكلم بصعوبة :- أنا آسفة .
بدا كأن الهواء من حولهما قد ازدادت كثافة، مما جعل التنفس امرا مستحيلا، لكأن غمامة غشيت كل الحاضرين فى المتجر لتعزلهما هى وهذا الغريب فى هالة من الاثارة.
- لقد سررت بذلك .
تناهى صوته أبحا كما لو أن احاسيسه هو أيضا قد تنبهت واضطربت عند ملامستها، كما لو أنه هو ايضا لم يعد متنبها لوجود احد من حولهما. لم يستطيع ان يشيح بنظره عنها فراحت عيناه تغوصان عميقا فى روحها بحثا عن اجابات عن أسئلة لم تعلم اى شئ عنها.
- هل تودين أن ارافقك الى مقعدك ؟
وبقيت عيناه مسمرتين فى عينيها. بدا كأنه يلتهمها، ويبعث فيها حمى من المشاعر لم يسبق ان عرفت لها مثيلا من قبل. كيف لرجل غريب أن يبعث فيها مثل تلك الاحاسيس؟ لم تجد لذلك اى تفسير منطقى، أنى لرجل متشح بالسواد أن يحدث فى نفسها هذا الوقع الذى رمى بها فى دوامة من المشاعر المثيرة ؟ لم تجد جوابا لأى من تلك الاسئلة .
تلوت مبتعدة عنه بقوة قائلة:- أستطيع تدبر أمرى .
كانت نبرتها تنم عن كبرياء هادئة، متجاهلة النيران التى اشتعلت فى عينيها الزمرديتين، وما أحدثته فى نفس الرجل الذى حال دون وقوعها. عادت بهدوء الى مقعدها ولم تره ثانية الى أن ظهر على عتبة باب الكوخ لم تكن قد نسيته، بل استمرت فى التفكير فيه بشكل متواصل، فكانت صدمتها كبيرة عند رؤيته الى حد بعث فى نفسها الذعر. كان الامر كما لو أنها استحضرته من ذهنها بمجرد التفكير به .
لكن هذين الاسبوعين غمراها بفيض من السعادة التى لا تنسى. لقد ذهبت الى تلك المنطقة الجميلة فى جنوبى ايرلندا لتنعم بالسلام والهدوء بعد أن ساءت أعمالها، الا أنها وجدت عوضا عن ذلك الحب والاثارة اللذين يفوقان الخيال، الحب الذى توجه أوليفر بطلب يدها للزواج به .
- ما الذى تفكرين فيه .
مرر أوليفر اصبعه بلطف على أنف آنا الشامخ الجميل . أخيرا أنصفه القدر بعد طول انتظار. كانت آنا تمثل صورة نقيضة لكل النساء الاخريات اللواتى عرفهن، بحيث أنه لم يصدق الحظ الجيد الذى حالفه .
رفعت رأسها نحو رأسه وعيناها تبتسمان وشعرها الاحمر الحريرى يبرز جمال بشرتها النقية الجذابة بحبيبات النمش المنتشرة عليها.
أقرت آنا :- كنت أفكر فى لحظة لقاءنا ، وفى السرعة التى تم بها كل شئ فمنذ أسبوعين اثنين لم أعرفك، والان قد قبلت الزواج بك هل جننت أم ماذا؟
ابتسم أوليفر وهو يجيبها:- ان كنت قد جننت فأنا أشاركك الجنون نفسه، فمنذ أسبوعين اثنين كنت قد قررت الابتعاد عن النساء كلهن أما أنت ، فأمرأة مميزة جدا يا ( آنا بايج) هل تعلمين ذلك ؟ أظن أنك ساحرة متنكرة ومتخفية فى أى زى آخر تمارسين سحرك الفتان على واظن أن علينا الانتهاء من ترتيبات زفافنا ما ان نصل الى البيت .
- ألا تعتقد ان علينا التروى والانتظار قليلا لنتأكد ؟
- أنا متأكد أريد أن أمضى ما تبقى من حياتى معك. أريد أن أنجب الاطفال منك . أريد .. كل شئ . أريد حبك وأخلاصك ، وصداقتك والتزامك. هذا ما أنوى تقديمه لك . هل أطلب منك الكثير ؟
حبس أنفاسه بانتظار جوابها. لكنه سرعان ما انفرجت اساريره حينابتسمت آنا واقتربت منه تعانقه وهى تهمس له :- هذا ما أريده انا ايضا .
شعر أوليفر بحبها الصادق له ينبض فى قلبها ، فعانقها شاكرا القدر على سعادته.
ان الذعر هو الذى دفع به للحاق بها بعد نزولها من المركب ففكرة عدم رؤيتها ثانية أسقمته ، ولعن المؤتمر الذى أبعده عنها لثلاثة أيام . خطر له انه مجنون لآنه لم يشعر بمثل هذا الانجذاب المميت نحو امرأة من قبل ، وما انفك يتخيلها مع رجل آخر . لم يصدق أن أمرأة بجمال آنا وتألقها ليس لها حبيب .
لقد سيطر عليه الخوف وهو بقرع باب الكوخ الذى تقيم فيه. لذا تحقق حلمه حين اكتشف أنها وحيدة . وحين أبدت القدر نفسه من السرور والاثارة عند رؤيته . سألته :- متى تقترح أن نتم الزواج ؟
- فى أول فرصة تسنح لنا .
أجابها وهو يملأ رئتيه من شذى عطرها الذى ينبه أحاسيسه كلما اقترب منها كانت فى الواقع تفقده صوابه باستمرار، حتى مجرد التفكير فيها عندما يبتعد أحدهما عن الاخر. مهما تكن المدة قصيرة يكون كفيلا بتنشيط أحاسيسه وأثارتها. كان فى حالة دائمة من الاثارة .
- لا يمكننى المخاطرة فى ان أدع أحدا آخر يخطفك منى .
افتر ثغرها عن ابتسامة عذبة واثقة :- ما من سبيل الى ذلك ، فلقد سحرتنى أنت أيضا .
الا أنه لم ينو المجازفة، بل سيسعى لاتمام زفافهما بأسرع ما يمكنه. لم يسبق له من قبل أن التقى بأمرأة اطمأن معها لرغبته فى تمضية ما تبقى من حياته معها . كانت آنا مختلفة ، عرف ذلك عن طريق حدسه، ولم يرد اضاعه المزيد من الوقت الثمين .
ما أن زلا عن متن المركب حتى بدأ يخطط لاصطحابها الى منزله فى كامبريدج للقاء والده ، وأمل فى أن تمضى آنا الليلة هناك قبل أن تعود الى شقتها فى لندن . أرعبته الفكرة القائلة ( بعيد عن العين ، بعيد عن القلب ) لكنه تقبل على مضض عودتها الى لندن لحاجتها الى ترتيب أمورها قبل أن تنتقل للعيش معه.
أن الاسبوعين الحميمين اللذين أمضياهما فى ايرلندا جعلاه يدرك مدى تعلقه بها لأنها اصبحت جزءا منه بحيث أن الحياة بعيدا عنها باتت مستحيلة لكن ردة الفعل التى أبداها والده هى ما لم يتوقعه :
- أبى ، أريد ان اعرفك بآنا بايج ، الفتاة التى سأتزوجها .
ابتسمت آنا له بابتهاج. لم يكن فارع القامة كأبنه بل أكثر ضخامه، لكن له نفس العينين المفترستين نفسيهما وقد غطى رأسه شعر ابيض كثيف مسرح الى الوراء كالفرس .
مدت يدها لتصافحه فأصابتها الدهشة حين لم يأت بأى حركة . فى المقابل ، راحت عيناه تفترسانها بشراسة وادانه ورفض واضح لها . لم تكن لديها أى فكرة عن السبب . وبعد أن جالت عيناه عليها من أعلى الى أسفل بازدراء باد على شفتيه الملتويتين كما لو انها لا تستحق حتى التواجد معه فى الغرفة نفسها، عاد لينظر الى أبنه قائلا :- هل فقدت صوابك يا أوليفر؟
شعرت بأوليفر ينقبض وراحت يدها تبحث عن يده لتمسكها متسائلة عما يحدث هنا .
أجاب أوليفر بحزم :- لا، يا أبى ، لم أفعل . فأنا أحب آنا .
- الحب ! بالله عليك ! منذ متى تعرفها ؟
- منذ أسبوعين .
شد بيده على يد آنا مطمئنا ، كأنما يقول لها بصمت ان غضب والده وانفعاله لا يدعوان للخوف أو القلق . وتابع قائلا لأبيه :- لكن الوقت ليس له أى شأن هنا أنا أحب آنا ، وليس مهما ما تقول ، يا أبى . سأتزوج بها ما أن أنتهى من أتمام اجراءات الزفاف . لا أرى سببا يدعونى للانتظار .
- انت غبى
تحول لون وجه العجوز الى الاحمر القانى من شدة الحنق . فتكلمت آنا أخيرا :- ان كان غبيا فانا كذلك ايضا . أنا أبادل أوليفر المشاعر نفسها، وأريد الزواج به من دون تأخير . يؤسفنى أن تكون غاضبا سيد لانغفورد ، ولكنى أؤكد لك أن ...
قاطع آنا احد مستخدمى السيد ادوارد ليقول له انه مطلوب على الهاتف لحالة طارئة بسبب مشكلة وقعت فى أحد المواقع . أمر ادوارد أوليفر بحزم :- تول أنت هذا الامر الرب وحده يعلم كم من المشاكل واجهنا أثناء غيابك .
نظر أوليفر الى آنا مقطبا فعلمت أنه يخشى أن يتركها وحدها ، طمأنته بأبتسامة واثقة قائلة :- لا بأس .
كان قد أخبرها من قبل ان والده لم يعد يعمل فى شركة تطوير الممتلكات خاصته بسبب مشاكل صحية تتعلق بالقلب، وترك ابنه يتولى زمام الاعمال كلها لذلك كان من الصواب أن يهتم أوليفر الان بادارة الامور والسهر على حسن سيرها .
ما ان خرج أوليفر من الغرفة حتى استشاط والده غيظا سائلا آنا :- هل لديك أدنى فكرة عن السبب الذى دفع بأوليفر لطلب يدك للزواج ؟
دفعها سؤاله الى رفع حاجبيها دهشة لكنها أبت أن تسمح له باحراجها فأجابته :- لأنه يحبنى ، يا سيد لانغفورد ، كما أحبه انا . هل تلمح الى وجود سبب آخر ؟
- أنا لا ألمح أو أقترح ، بل أنا متأكد من وجود سبب آخر، فهو مغرم بأمرأة أخرى . يبدو أنهما تشاجرا فقال لها أوليفر أن كل شئ انتهى بينهما . لكنه قال ذلك مرات عديدة من قبل، وكانا يعودان لبعضهما دائما .
سألته آنا بحدة :- هل يصدف أن يكون أسمها ميلانى .
ارتفع حاجبا ادوارد لانغفورد دهشة :- لقد أخبرك عنها ؟
احنت آنا رأسها :- من الطبيعى ان يفعل . فلم يخف أحدنا شيئا عن الاخر على الزواج الناجح أن يتأسس على الثقة والتفاهم ، وقد كنا منفتحين تمام فى التكلم عن ماضينا . كانت آنا قد أخبرت أوليفر عن تونى ، الرجل الذى كان خطيبها فى ما مضى . وأخبرها هو بأمر ميلانى ، الفتاة التى أراد والده أن يزوجه بها .
- لقد أمسكت به فى فترة ضعفه .
قال لها ايضا انه سعيد لتخلصه منها . فهى ابنه صديق مقرب من ادوارد، وهى أيضا ابنة والده بالمعمودية ، وقد اكتشف أوليفر انها كانت تتباهى امام أصدقائها بكونه صفقة مربحة بالنسبة اليها ، تستطيع ان تحصل منه على ما تريد من المال كلما رغبت فى ذلك .
- عانى ابنى من عدد كاف من الطفيليين ومطاردى الاثروات بحيث استطيع التعرف اليهن عن بعد ميل .
نظر ادوارد لانغفورد الى آنا بعينين يتطاير الشرر منهما مما بعث الخوف فى نفسها ، واضاف :- أنت تفوقين بعضهن ذكاء بقدر قليل اقتربت منه وهو فى حالة من الضعف البالغ لكن ماله هو مالى أنا لقد صعد سلم التجاح فى شركتى انا ، وكنت حريصا على ان يتكبد مشقة الارتقاء والنجاح،لكن كل قرش يدخل الى جيبه آت منى بطريقة غير مباشرة. ولن أسمح لاحدى النساء الفاجرات الوقحات أن تأتى وتسلبه ماله .
حدقت آنا فى الرجل العجوز ببرود، وهى تجهد للحفاظ على بريق الثقة فى عينيها ثم قالت :- عندما التقيت بأوليفر سيد لانغفورد لم أعلم انه من عائلة ثرية، أو حتى انه يملك المال . لقد أغرمت بأوليفر الرجل . كان من المحتمل ان يكون عاطلا عن العمل . لم يكن الامر ليثيراهتمامى أو ليدفعنى الى التراجع . فالمال لا يهمنى الا بالقدر الذى اتمكن فيه من ستر نفسى ببعض الثياب وملء معدتى ببعض الطعام . وما دمت أملك هذا القدر فقط ، أكون فى غاية السعادة .
لم تؤثر كلماتها فى نفس الرجل العجوز الذى طفقلا يحدق فيها بعدائية بالغة قائلا :- تتوقعين منى أن أصدق كلامط اليس كذلك ؟ حسن دعينى أقول لك ، يا أنسة ، أن ما من امرأة على وجه هذه الارض لا تتأثر بالمال .
عبر الغرفة نحو طاولة المكتب والتقط دفتر شيكات مصرفية وراح يدون على أحدها ، قبل ان ينتزعه ويمد يده به الى آنا ، قائلا :- هاك خذى هذا وليكن ذلك النهاية لهذا الوضع المستحيل .
كان المبلغ كبيرا جدا يكفى بأعالتها لما تبقى من حياتها ، لكن آنا لم تكترث له. بل شعرت فى الواقع بالاهانة جراء هذا . جل ما كانت تبغيه هو الزواج بالرجل الذى تحب .
رمقته بازدراء واشتدت كل مفاصلها وهى تقول :- لا أريد مالك يا سيد لانغفورد. أرى أنك لا تؤمن بالحب ، لكنى أفعل ، وكذلك أوليفر ، وكل ما نريده هو أن نكون معا .
أمسكت آنا بالشيك ببطء، وشرعت تمزقه الى أجزاء صغيرة صغيرة قبل أن ترميها على الارض مضيفة :- هذا ما تستطيع أن تفعله بمالك .
حدجها الرجل بعينين تقدحان شررا لكنه حافظ على رباطة جأشه وبقى بعيدا عنها :- أنت فتاة صغيرة حمقاء أنت تقترفين أكبر خطأ فى حياتك .
- لا أظن ذلك، لكن رأيك يخصك وحدك .
- ان كنت عاجزا عن جعلك تتراجعين عما فى بالك وتعزفين عن اتمام هذا الزواج المستحيل، فانى أحذرك ان أقدمت مرة على أى شئ لالحاق الاذى بأبنى يا انسة بايج أى شئ على الاطلاق سيكون عليك التعامل معى انا شخصيا . لا تخطئى ابدا فى التقدير .
عندما عاد أوليفرالى الغرفة كانت آنا وحدها وقد وضعت الشيك الممزق فى حقيبتها لتتخلص منه لاحقا. قطب أوليفرحاجبيه وهو يسألها:-أين أبى؟
لم ترد آنا أن تفسد عليه فرحته باطلاعه على ما فعله والده ، فأجابته بلا مبالاة :- أظن أنه وجد شيئا آخر يقوم به .
- انا آسف حقا لانك لم تلقى منه الترحيب الذى تستحقينه حقا لم أتوقع قط أن يبدى ردة الفعل تلك .
جذبها نحوه وشرعت عيناه تداعبان عينيها الخضراوين .
ليس هذا بالامر الهام ، فأنت هو من سأتزوج، وأنت هو من أحب .
- لنذهب الى البيت ، فلدينا الكثير لنقوم به. لم تأسف آنا لمغادرتها منزل ويستون ، بيت العائلة الكبير المرهب المبنى على أرض شاسعة فى ضواحى كامبريدج.
كان أولبفر يسكن فى منزل مستقل تابع لمنزل العائلة لكى يبقى قريبا من والده عندما يحتاج اليه هذا الاخير، ولكى يتمكن فى الوقت عينه من التمتع باستقلاليته .
- أنا أحب المكان هنا ، أنه يعجبنى .
شعرت آنا بالفرحة وهما يدخلان الى المنزل ، كان المكان واسعا نوعا ما لكنه لا يشبه منزل العائلة ، بل يطغى عليه جو دافئ مريح بغرفة الواسعة وأثاثة المريح . فسألته :- هل سنعيش هنا بعد زواجنا ؟ .
- نعم بالتأكيد . وهنا سنمضى الليلة ايضا. دعينى أرشدك الى غرفة نومك.
أبعدت آنا عن ذهنها الاحداث التى جرت عند لقائها السيد لانغفورد وأطلقت لسعادتها العنان لتنعم بكل لحظة تمضيها برفقة أوليفر الحبيب.
********************************
2 - جسر الموت
كان يوما رائعا من ايام الربيع، اكتظت الكنيسة بالورود، الورود البيضاء بكل الانواع التى يمكن تخيلها، من الورد الجورى الى الزنبق والقرنفل والسوسن كما تدلت الاشرطة الحريرية البيضاء على الجدران وعلت الاقواس الممر الذى سارت عليه آنا متأبطة ذراع والدها وهى تتجه نحو المذبح تغمرها سعادة لم تعرف لها مثيلا من قبل فى حياتها .
حرص أوليفر على أن يتم الزفاف فى أفضل الظروف، فأولى عناية خاصة لأدق التفاصيل كل ما كان عليها فعله هو اختيار ثوب زفافها وثوب وصيفتها، واهتم أوليفر ووالداها بالباقى . كيف استطاعوا انجاز كل ذلك فى أسبوع واحد؟ هذا ما لم تعرفه آنا قط .
الفرق كان واضحا بين الترحيب الذى لقيه أوليفر من والديها، وبين الطريقة التى هددها بها أدوارد لانغفورد . عمدت عن قصد الى أغفال عدائيته ونسيانها محدثة نفسها بأن الوقت كفيل بأن يحمل والد أوليفر على تقبلها، لكنها لم تستطع منع نفسها من التفكير فيه أحيانا .
استدار أوليفر عندما وصلت اليه آنا فسطعت عيناه ببريق الحب الذى لم يستعر بمثل هذه القوة من قبل. قال لها بنعومة: - كم تبدين جميلة وكأنك احدى آلهات الحب الاسطورية. أنا من أشد الرجال حظا فى العالم .
همست:- انا محظوظة ايضا ، أحبك أوليفر لانغفورد .
لم يحضر والده حفل الزفاف، لكن ذلك لم ينغص على آنا يومها. فى الواقع، لو كان أدوارد موجودا، لأقلقها ذلك وحال دون سعادتها .فى المقابل ، كل شئ كان كاملا ومثاليا .
بما أن أوليفر كان مرتبطا بمواعيد هامة فى العمل، فقد أجلا شهر العسل ، لكن آنا لم تنزعج قط من ذلك. كانت آنا فى الواقع تشعر أنهما فى عسل دائم منذ أن التقت به الى الان .
بدا أوليفر سعيدا ايضا ، وكان يظهر ذلك فى مناسبات مختلفة، وهو حتما لم يكن تواقا الى استعادة حبه القديم الضائع . ولم يستطع أخوها أن يحضر الزفاف بسبب ارتباطات فى العمل فى أوربا لكنه عاد الان وشعرت بسرور بالغ عندما أتى لزيارتها لم يكن يبدو عليهما أنهما شقيقان، فكريس يكبرها بخمس سنوات، وهو أشقر الشعر وليس أحمر مثل آنا، وعيناه بزرقة البحر كان فارع القامة ووسيما للغاية .
كان يدير شركة اعلانات، ةيبدى حبا وتعلقا شديدين بأخته الصغرى قالت له عندما زارها :- يؤسفنى أن أوليفر ليس موجودا هنا . أريدك حقا أن تلتقى به أدخل وأجلس ، فلدينا الكثير لنتحدث عنه .
بدت على ملامح وجه كريس الجدية فجأة وهو يقول :- كنت أعلم أن أوليفر لن يكون فى المنزل. لهذا السبب اخترت أن آتى الان فى الوقت الذى تكونين فيه وحيدة .قطبت آنا حاجبيها حين تلاشى بعض من سعادتها ليحل محله شعور مفاجئ بالانزعاج .
- لماذا؟ ألست موافقا؟ هل أتيت لتحذرنى بشأنه ؟ هل اكتشفت شيئا لا أعرفه ؟
تنهد كريس وابتسم قليلا بطريقة غريبة :- لا بالطبع أيتها السخيفة أريد أن أطلب منك خدمة ، خدمة كبيرة .
- آه ؟ كانت تلك اللحظة هى المنعطف الاساسى فى مجرى الاحداث . فقد جرت العادة على أن تطلب آنا من كريس اذ كانت طفلة العائلة المدللة ولطالما كان لطيفا وكريما معها .
عض على شفته السفلى وهو يهز يديه بتوتر قائلا :- ما من طريقة سهلة لقول ذلك، أنا بحاجة الى المال ، يا آنا .
- ماذا ؟ لم تعلم آنا قط أن أخاها يعانى من أزمة مالية .
أعلن لها بمرارة :- أعمالى تمر بأزمة مالية حرجة . ثم عقب بسرعة قبل ان تقول أى شئ :- لكن ... أتوقع صفقة كبيرة ستكون كفيلة بانتشالى من الازمة واعادة الامور الى نصابها . انها مجرد أزمة عابرة، لكن من دون مساعدة مالية قد أغرق وأنتهى قبل ذلك.
هزت آنا راسها، آسفة لحال كريس ثم قالت بأسى :- لاأعلم كيف استطيع مساعدتك، الا ان كنت تعتقد أن أوليفر قد يفعل ؟ فى الواقع ، أنا متأكدة من ذلك، فهو أكرم رجل عرفته فى حياتى ، أستطيع سؤاله عن ذلك .
كاد كريس ينقض عليها ليقاطعها :- لا! عليك ألا تقولى لزوجك أى شئ قط . وحين بدا الذهول على آنا راح يشرح لها بتأن وهدوء :- أترين ، أن الصفقة التى آمل الحصول عليها ، والتى انا متأكد من الحصول عليها ، هى مع شركة زوجك . واذا علم بالازمة التى امر بها ، فلن يتعامل معى قط بعدها . الا اذا .. كان يعلم من أكون؟ ان تكن الحال كذلك، فهذا يعنى أنى غرقت فعلا .
أجابته وهى ترسم على ثغرها احدى ابتساماتها المتلالئة :- هو يعلم انى أحبك بجنون، ويعلم ايضا أنك تعمل فى مجال الاعلان . لكنى لا أظن انى ذكرت له يوما اسم شركتك.
بدا الهدوء على ملامحه وهو يأخذ نفسا عميقا :- الحمد لله .
قالت بهدوء وتأمل :- بامكانى اعطاوك بعض المال على ما أظن كم هو المبلغ الذى تحتاجه ؟ . لكن ما ان علمت بالمبلغ الذى يحتاجه ، والذى يفوق ما تملكه بكثير ، حتى تأوهت بيأس :- لا أملك هذا القدر من المال هل حاولت طلبه من أبى أو أمى ؟ أعتقد أنهما يملكان الان ما يمكنهما ...
مرر اصابعه بأضطراب فى شعره قائلا:- لا استطيع ، أنت تعلمين كم عارض والدى استقلالى فى العمل ، وكان يقول انى لا أملك القدرة على ذلك. ان أطلعته على أزمتى، فلن يبقى ليسمع نهاية القصة .
تأوهت آنا :- هناك حل واحد ممكن. أوليفر يودع بعض المال فى حساب لى كل شهر، ولا أعلم السبب. لقد قلت له انى لست بحاجة اليه، وفيه ما يكفى. ورغم انى عاهدت نفسى على الا ألمسه قط ، لا أريده أن يظن أنى قبلت الزواج به من أجل ماله .
لم تشأ آنا أن توضع فى الخانة نفسها كميلانى، أو أن تقدم لوالد أوليفر الحجة التى يبحث عنها . برقت عينا كريس الزرقاوان بالامل، وانحنى بشغف نحو أخته قائلا:- آنا أعدك بأنك ستستردين المبلغ . لكن يجب ألا يعلم أوليفر بالامر .منتديات ليلاس
واستمر باعطاء الحجج المقنعة الى أن استسلمت آنا فى النهاية لمطلبه . ولم يكن أحد ليعلم لو أن ادوارد لانغفورد لم ير أخاها يغادر المنزل ، ولم يره يعانقها على عتبة الباب .
مرت بضعة أيام قبل أن يواجهها أوليفر بالامر. لم يعطها على العشاء أى فكرة عما ينوى التحدث به، لكنها ما أن نهضت لتنظف المائدة حتى قال بنبرة لا تحتمل الرفض :- أجلسى ثانية .
حدقت آنا بذهول لأنه لم يسبق له أن تكلم معها بهذا الاسلوب وهذه النبرة :- ما الخطب؟ .
تجهم وجهه فجأة بشكل مخيف :- سمعت أنك استقبلت زائرا منذ بضعة أيام، رجلا كنت أنتظر أن تكلمينى عنه، لكن بما أنى أرى بوضوح أنك لن تفعلى ، لذا أخشى أن على سؤالك باصرار عمن يكون.
كانت نظرة الاتهام تعلو عينيه وقد غلبت القسوة عليهما، فبدا فى تلك اللحظة شبيها بوالده الى حد بعيد :- من قال لك ؟
- فى الواقع ، أنه والدى . ولا يهم من قال لى ، فالمهم أنك لم تخبرينى بنفسك .
لربما علمت بان ادوارد سيكتشف الامر . فهو على الارجح يتجسس عليها باستمرار، أو أن لديه من يقوم بتلك المهمة من أجله. فسألته بنبرة مدافعة:- وما الذى قاله والدك ؟ أنى أقيم علاقة عاطفية مع رجل آخر ؟ .
كان ذلك بالتحديد ما يرغب ادورد فى أن تفعله ، يرغب بأى شئ لانهاء زواجهما .
- أطلب منك أن توضحى لى من يكون . فمن المنطقى أن تطلعينى على الامر لو كان ما جرى بريئا .
اجابته وعيناها تقدحان شررا:- لقد كان بريئا فى الواقع . انه أخى .
كان ذلك جل ما يبغى معرفته ، وارتفع حاجباه الداكنان بأستغراب :-كان أخاك ؟ ولم لم تقولى لى ؟ .
جعلها كلامه تبدو غبية، فأجابته وهى تهز كتفيها بلا مبالاة :- أعتقد أنى نسيت أن أقول لك . هز أوليفر رأسه غير مصدق لما سمعه :- يأتى أخوك من السفر بعد أشهر من الغياب وتنسين؟ هل تظنينى مغفلا؟ لكان ذلك أول ما أطلعتنى عليه لو كان صحيحا .
وقف أوليفر وأمسك بكتفى آنا بقبضة شديدة الى حد آلمها فوقفت، ثم أضاف :- أريد الحقيقة، من كان الرجل؟ هل كان ذلك الحقير الذى كان يوما خطيبك؟ هل عاد ليتجول فى الجوار ثانية ؟ .
فأجابته :- تونى ؟ لم أره منذ أن أفترقنا، وهذه هى الجقيقة كان على ابلاغك بزيارة أخى ، أعلم ذلك لكنك لم تكن موجودا عندما فكرت فى الامر ، وعند عودتك .. حسنا ، كان لدينا أمور أخرى تشغل بالنا ،أمور اكثر أهمية من غيرتك المجنونة... أنا أحبك أوليفر الى حد يجعل خيانتى لك أمرا مستحيلا . لن أفعل ذلك بك قط ، أعدك يا حبيبى .
تأوه واقترب منها هامسا :- قلت لوالدى أنه مخطئ قلت له انك لست من هذا النوع ، لكن .. أوه آنا ..
وعجزت الكلمات عن التعبير عن مدىأسفة العميق لارتيابه بأمرها لكنه عانقها مضيفا:- يستحسن بك أن تدعى أخاك الى هنا ذات مساء.
وافقته آنا الرأى، وهى تعلم انها ستستمر فى تأجيل ذلك الى أن يحصل كريس على تلك الصفقة . لكن جدالهما أجج نار الحب فى قلبيهما فأمضيا ليلة حميمة لم يعرفا مثيلا لها منذ زواجهما .
بعد مضى اسبوع ، اتصل بها كريس هاتفا وكان متحمسا جدا :- حصلت على الصفقة يا آنا . هل يمكنك ملاقاتى؟ أريد أن أدعوك على الغداء للاحتفال .فى المساء نفسه، عاد أوليفر من العمل ووجهه متجهم، وعيناه قاسيتان مدنتان، فعرفت آنا على الفور ما الذى سيقوله . ولم يخذلها:- أريد أن أعرف مع من تناولت طعام الغداء اليوم .
انقبضت أوصالها وهى تجيبه :- كيف علمت أنى تناولت الغداء مع أحدهم؟ . وبما أن الهجوم فى مثل هذه الحال أفضل بكثير من الدفاع ، واصلت بنبرة قوية :- هل تتجسس على ؟ لم تعد تثق بى ؟ ان كان هذا ما سأناله منك كلما خرجت من المنزل ، فأنى ...
تسلل صوته عبر كلماتها :- من كان الرجل ؟ .
شعرت بالانزعاج ينسل فى عظامها :- فى الواقع ، كان كريس مرة أخرى .
كان صوته يضج بالسخرية وعيناه تلمعان كحد السيف وهو يقول :- لا أصدقك آنا .
بدا ضغطها يرتفع ، فردت عليه بحدة :- أسفة ، لكنها الحقيقة .
- متى اذن تنوين ابلاغى بالامر ؟ أم أن ذلك يدخل ضمن مجموعة أسرارك؟ أجدنى فجأة عاجزا عن فهمك آنا . فى الواقع ، أشعر أنى لا أعرفك البتة تنهدت آنا عميقا تنهيدة حزينة بالرغم من أن أخاها طلب منها أن تلزم الصمت لفترة قصيرة، الا أنها علمت بأن سكوتها الان لن يكون حكيما، وبأن الوقت حان للاعتراف لآوليفر بالحقيقة. لايمكن أن يضرها ذلك بشئ ليس بعد أن حصل كريس على الصفقة .
لم تعجبها فكرة اخفاء الامر عن زوجها. كما لم تعجبها ايضا الطريقة التى يتهمها بها . لكن قبل أن تتمكن حتى من فتح فمها رماها أوليفر بأتهام آخر أسوأ من الاول :- أنت لا تواعدين رجلا آخر وحسب بل تعطينه المال أيضا ... المال الذى أعطيتك أياه كرما وحبا منى .
علا الغضب وجه آنا المحتقن وهى تجيبه :- لقد دققت فى حسابى المصرفى؟ كيف تجرؤ على فعل ذلك ؟ لا تملك الحق . لو كانت رجلا أ للكمته على وجهه كان ذلك اقتحاما لخصوصياتها... ختى وان يكن هو من قدم لها المال . فتابعت :- الا ان كنت تقصد أن المال ليس لى فعليا. هل هذا صحيح؟ كان ذلك مجرد مجاملة تجعلك تبدو لطيفا مما يشعرك بالراحة، لكنك لم تكن تنوى أن تدعنى أصرف أيا منه. والان بعد أن تلاشى تتمنى لو أنك لم تهبنى اياه منذ البدء .
- نحن لا نناقش تصرفاتى أنا الان بل الذى جعلك تهبين ثلاثين ألف باوند، وهذا ما أفترض انك قمت به. أم أنك دفعته ثمنا لقطعة من المجوهرات الثمينة لم ترينى اياها بعد؟ لا أظن ذلك. ولا تستمرى فى ترديد قصة أخيك السخيفة ، لأنى لن أصدقها .
قبل أن تتفوه آنا بدفاعها ، تابع قائلا :- انه ذاك الفأر الذى كان خطيبك فى السابق، أليس كذلك؟ رجل طموح لكنه مفلس ، كما قلت عنه، لا يريد أن يرتبط بالزواج قبل أن يجمع ملايينه. أهذه هى طريقته فى جمعها، امتصاص خيرات الاخرين وسلبها ؟ .
علا وجنتى آنا الاحمرار وسطع فى عينيها الغضب:- أنت مجنون أوليفر لانغفورد. ليس للامر صلة بتونى البتة . فى الواقع، الامر لا يخصك أنت ايضا. هذا المال كان لى لأفعل به ما يحلو لى ، أو هذا ما أعتقدته . ان كان لديك مشكلة فى هذا الامر، ان كنت لا تثق بى بما يكفى لتتقبل وجود سبب قوى دفعنى لفعل ذلك، ولتصدق أنى كنت سأخبرك بالامر فى يوم ما، فأنت بالتالى لست حتى نصف الرجل الذى كنت أظنه .
- آه ، كنت ستقولين لى ؟
- بالتأكيد.
- فى قاموسى ، الازواج لا يخفون الاسرار عن بعضهم .
نفضت رأسها الى الوراء ليتمايل شعرها الاحمر الحريرى بشكل خلاب، وتابعت قائلة:- لو لم تكن فضوليا لتدقق فى حسابى المصرفى ، ما كنت لتعلم. وان كنت قد رأيتنى وقت الغداء، لم بحق السماء لم تأت وتكلمنى ؟ أم أنك تتلذذ بقوة عندما تتجسس على ؟
كادت آنا لا تصدق أنهما يجريان مثل هذا الحديث، وأن زوتجهما المثالى بات مهددا بالانهيار بسبب وعد قطعته لأخيها.
- لم يكن أنا من رآك ، بل والدى .
لم تحتج الى سماع المزيد ، فقالت : آه ! وأظنه لم يستطع الانتظار حتى يخبرك؟ ليشوه صورتى؟ وأظنه حقق هدفا فى اخبارك بأنه رأى رفيقى وهو يلف ذراعه حولى ونحن ذاهبان؟ لابد أن ذلك بدا مشهدا حميما له .
هزت رأسها بامتعاض وغضب شديدين. كان ادوارد لانغفورد ليعلق لها حبل المشنقة، وليقطعها أربا أربا من دون أى ذرة من الشفقة أو الرحمة، أو أى شك فى صوابية ما يفعله. كان ذلك بالتحديد ما يأمل فى حصوله .
ظل الشجار بينهما يزداد حدة حتى غادر أوليفر المنزل فى النهاية. لم تعلم الى أين ذهب ، لكنه لم يعد تلك الليلة، فبدت غرفة نومهما باردة وفارغة من دونه، وظهر فى اليوم التالى عند الغداء وبدأ بتوضيب ثيابه وكل ما يمكن أن يحتاجه فى حقيبة :- ستريننى ثانية عندما تكونين على استعداد لقول الحقيقة، وليس قبل ذلك .
مرت الايام التالية كسواد الليل فكانت الاسوأ فى حياتها. أدركت أن زوجها انتقل الى منزل والده لأنها رأت سيارته تمر مسرعة من أمام المنزل .وظلت تتوقع أن يدخل أوليفر من الباب ليعترف بأنه اقترف خطأ، وبأنه يحبها ولا يقوى على العيش بعيدا عنها، لكنه لم يفعل. وكان لديها ما يكفى من الكبرياء ليمنعها من أن تلحق به حيث هو .
فضلا عن ذلك ، فهى لن تلقى ترحيبا حارا هناك. سيستمر ادوارد يزرع بذور الشك وتأجيج الغضب فى نفس ابنه، الى أن ينتهى حبه لها والى الابد
عندما أتى ادوارد شخصيا لزيارتها لم يفاجئها الامر. فقد كانت فى الواقع تنتظر زيارته. لكن ما جاء يبلغها به أصابها بصدمة كبيرة. قال لها بعدائية وفظاظة:- أريدك أن تخرجى من هذا المنزل .
فوجئت آنا بحفاظها على رباطة جأشها وهدوء صوتها واتزانها، فرفعت رأسها عاليا وقالت :- أعتقد أن هذا الامر يعود لابنك. فى ما يخصنى، نحن مازلنا متزوجين ولى الحق فى أن أعيش فى هذا المنزل. أخشى أن الامر لا يعنيك البتة .
ارتفع الحاجبان الغضان فى استغراب وسخرية :- أحقا؟ ربما أغفل أوليفر أن يذكر أمامك أن هذا المنزل فى الواقع ملكى أنا. وفى هذه الحال، لى الحق فى طردك منه . أمنحك سبعة أيام لتجدى مكانا آخر تعيشين فيه .
شعرت آنا كأنه غرز خنجرا فى صدرها. لم يكن أوليفر قد تفوه قط بكلمة واحدة عن امتلاك والده لهذا المنزل . بحق السماء لم لم يشتر منزلا له؟ ليس لأنه لا يملك المال لذلك. لم يكن هذا منطقيا.
لكن عليها الان أن تفكر فى نفسها. فهى عاطلة عن العمل، مفلسة مبدئيا، بعد أسبوع، ستصبح من دون مأوى. لابد أن ادوارد انقلب على نفسه من الضحك عندما هجرها أوليفر.
افترضت آنا أن بامكانها الانتقال للعيش مع والديها ، ولكنهما كانا سعيدين جدا بزواجها من ذلك الرجل الرائع بعد الخطوبة الكارثة مع تونى، ولم تحتمل فكرة أن تخبرهما بأنهيار كل شئ بهذه السرعة .
بأمكانها ايضا أن تذهب لرؤية أوليفر ومحادثته. قد تذهب لرؤيته فى المكتب لتتجنب ادوارد، لكن كبرياءها حالت دون ذلك. لقد أوضح أوليفر مزقفه تماما، وان أرادها أن تعود، فعليه هو أن يجرى لتحقيق ذلك.
لذا انتقلت الى كوخ شقيقتها الصيفى، المكان نفسه الذى التقت فيه أوليفر للمرة الاولى. اللعنة عليه ! لقد توقعت، كحد أدنى ، أن يجاملها باتصال هاتفى قبل أن تترك منزلهما لكن لا ... لم يفعل شيئا . لم يقم بزيارتها أو بمكالمتها على الهاتف، أو حتى بترك كلمة مكتوبة على قصاصة ورق صغيرة .
فى الواقع، ان هذا الكوخ هو أسوأ مكان يمكنها أن تأتى اليه، مكان يضج بالعديد من الذكريات ، فهنا تعرفت اليه، أن مجرد استحضار تلك الذكريات من مخيلتها يجعلها تتوه فى عالم سحرى رائع .
لكنها لم تملك العديد من الخيارات لانتقاء مكان اقامتها فى تلك الفترة الوجيزة . لقد أسرت لأختها بحقيقة الامر ، فعرضت عليها داون الاقامة فى الكوخ طيلة الفترة التى تحتاجها. وقالت :- لكن أن كنت أعرف أوليفر جيدا ، فهو سيبحث عنك قريبا ويرجوك لكى تعودى اليه هذا الرجل غارق فى حبك. لايمكنك أن تقولى لى أن سوء تفاهم غبى سيغير طبيعة شعوره نحوك . ما أن تتحسن أعمال كريس وتستقر وتشعرين بالحرية فى مصارحة فى مصارحة أوليفر بالحقيقة عندها ...
هزت آنا رأسها باصرار قوى:- لاأظن ذلك . أنا لن أجرى وراءة .
- لكن ...
- لكن لا شئ ، لقد حسمت أمرى . وأريدك أيضا ألا تخبرى كريس بما حدث والافأنه سيشعر بمرارة كبيرة . أخبريه اذا سألك بأن أوليفر لديه بعض الاعمال فى أيرلندا وبأننا نستخدم كوخك. كما قولى ذلك لأبى وأمى .
حاولت فى الاسابيع التى تلت ذلك أن تقنع نفسها بأنها تخلصت من أوليفر الى الابد لمن الحقيقة أنها افتقدته أكثر مما كانت تتصور افتقدت اللحظات الحميمة التى أمضياها معا . أفتقدت وجوده ورفقته، وحواراتهما الطويلة والهامة والمحمومة أحيانا. لقد أصبح فى هذه الاشهر الستة القليلة جزءا أساسيا من حياتها بحيث بات العيش من دونه مستحيلا ، كأنها فقدت نصفها الاخر .
لعل الوقت دواء ناجع لجراحها. هذا ما افترضته ، لكن ... بدا جليا أن حبه لها قد تلاشى، هذا ان كان فى الحقيقة مغرما بها ربما كان والده محقا ، ربما التقت به فى احدى لحظات ضعفه .
ولعل رغبته المتقدة هى التى حدت به للحاق بها رغبة جسدية تساعده على نسيان المرأة التى عانى منها ما عاناه لاشك فى أن الناحية الجسدية فى زواجهما كانت عاملا أساسيا وأوليا فى انجاحه .
ثم رن جرس الهاتف . كانت دوان وحدها هى التى تتصل بها لذا كانت صدمتها شديدة عند سماعها صوت أوليفر الابح الجذاب. فجأة تسللت الى نفسها وروحها فجأة حاجة ماسة لرؤيته، لعينيه وحضنه لذراعيه الدافئتين... لكنها داست على تلك المشاعر وخنقها بعناد، لأنها بذلك ترمى بنفسها فى المذلة والضعة .
كانت الانفعالات الجسدية مهلكة وسلبية بتأثيراتها ويجب الا تدعها تمسك بزمام الامور. أن تكن فى نيته محاولى اصلاح الامور ، فهو حتما سيصاب بخيبة أمل كبيرة. لقد هدم أوليفر نهائيا كل الجسور التى تصل بينهما يوم تخلى عنها.
لم تكن هناك أى مقدمات :- آنا، أخشى أن لدى أخبار سيئة .
لم يكن ذلك ما توقعته :- أوه ؟
- توفى والدى البارحة نتيجة نوبة قلبية حادة .
سيطر الذهول على حواس آنا كلها بحيث عجزت عن التفوه بكلمة واحدة لبضع ثوان . ادوارد لانغفورد مات! الرجل العجوز الثائر الذى بذل كل ما فى وسعه لأنهاء زواجها، اختفى! لقد أحزنها سماع الخبر بالرغم من أنها لم تحبه حقا . الحقيقة أنه لم يسمح لها قط بالتقرب منه ومعرفته عن كثب. قالت أخيرا بلطف بالغ :- آسفة لسماع هذا الخبر. من الصعب تقبله، فقد بدا رجلا فى غاية الحيوية، كما لو أن أمامه سنين طويلة ليعيشها.
- كان والدى عدو نفسه الاسوأ يخالف باستمرار أوامر أطبائه وارشاداتهم. كنت أتساءل ما أذا ... أنا ... أرغب فى أن نأتى لحضور الجنازة.
- بالطبع .
تفوهت بذلك بشكل غريزى ثم تساءلت عما اذا كان من الحكمة أن تذهب . لقد أثار ادوارد ابنه ضدها. ان لقاءهما مجددا قد يتسبب بنشوب خلاف جديد، أنه يدعوها للحفاظ على مظهرهما أمام العائلة والاصدقاء فلديه العديد من الاقارب الذين لم يلتق بهم قط ممن سيحضرون الجنازة . وبالطبع هناك ميلانى!
لم تستطع آنا أن تمتنع عن التساؤل اذا كانت ميلانى عبدت طريقها مجددا الى حياة أوليفر ومشاعره .
*******************************************
3 - امرأة أخرى بينهما
كانت راحتا أوليفر متعرقتين وقلبه يخفق فى صدره بعنف غير طبيعى. انه لأمر مضحك! كيف له، بعد أن باتت آنا لا تعنى له شيئا البتة، وبعد أن غسل يديه منها وخطط لاعلام محاميه بالمباشرة بأجراءات الطلاق ... كيف له ، بمجرد سماع صوتها، أن تحدث فى نفسه مثل ذلك التأثير ؟
هز رلأسه وأجبر نفسه على أنهاء العمل الذى باشره، وهو تنظيم اجراءات الجنازة. لقد مات ادوارد لانغفورد كما عاش تماما. كان يتجادل مع أوليفر حول الطريقة التى يتولى بها هذا الاخير ادارة العمل والتى يعتبرها ادوارد غير نافعة، حين انهار على الارض لكنه لم يصمد طويلا. بل فارق الحياة قبل أن تصل سيارة الاسعاف.
لم يحتمل أوليفر البقاء فى المنزل العائلى بعد أن فارقه والده ، فانتقل مجددا الى المنزل الذى عاش فيه مع آنا. ولم يضعه ذلك فى حال أفضل مع كل الذكريات الجميلة التى تعبق فى المكان .
لستة أشهر كاملة كان رجلا يعيش بسعادة تامة بعد أن وجد فتاة أحلامه ووقع فى غرامها. ثم تفتت قلبه فجأة الى ملايين القطع الصغيرة. لو أن أحدا أنذره من احتمال أن تتشابه آنا مع ميلانى فى جوانب عدة ومع باقى الفتيات اللواتى عرفهن، لكان قال له انه لابد فقد صوابه. فقد كانت آنا تجسد التكامل والمثالية ، ولا يعقل أن ترتكب نفس الخطأ.
فاجأه قبولها المباشر لحضور الجنازة، وأمل ألا تظن الامر كما لو أنه يشعر بالحنين اليها. لماذا اذن طلب منها الحضور؟ راوده هذا السؤال بقلق . لماذا ان لم يكن لانتهاز الفرصة واعادة وصل ما انقطع بينهما ؟ لم يوافق والده قط على آنا، كما لم يوافق على كل ما فعله أوليفر فى حياته. كانت حياته كلها تسير على هذا النحو .
لكان من المنطقى جدا الا يطلب من آنا حضور الجنازة ففى الواقع سيكون من الصعب عليها ادعاء الحزن على رجل لم يحاول قط الترحيب بها فى العائلة. لكن، من الناحية العملية، فهى لاتزال زوجته، وهو يريدها الى جانبه. لاأحد من عائلته علم بأمر انفصالهما، والجنازة ليست بالمناسبة التى يعلن فيها هذا الخبر.
تركت آنا سيارتها وطارت الى لندن حيث أرسل أوليفر سيارة لاصطحابها. راودتها أفكار عن أحتمال حضوره شخصيا مما بعث فى نفسها القلق. لكن فى الواقع، أتى أحد سائقى شركته لملاقاتها.
تسارعت خفقات قلبها حين اقتربا من كامبريدج لكنها أسكتتها بثبات رافضة أن تبعث مشاعرها فى قلبها الحنين لهذا الرجل الذى تخلى عنها بهذه القسوة واللامبالاة .
أنزلها السائق عند المنزل فكانت ممتنة له خطر لها أن أوليفر يريدها فى منزل العائلة معه، وكان ذلك أمرا لا تستطيع مواجهته. ان لم يتم الترحيب بها هناك فى حياة والده ، فهو بلا شك لا يريدها هناك الان بعد موته. كما أرادت مساحه تسترد فيها أنفاسها قبل أن تواجه أوليفر ، وقليلا من الوقت لتعتاد على فكرة رجوعها الى المكان الذى عرفت فيه السعادة يوما.
كانت مدبرة المنزل هناك لترحب بها :- انه خبر مؤسف حقا موت السيد أدوارد .
- أنه كذلك بالفعل. هل أوليفر هناك فى المنزل الكبير؟
- انه فى الخارج ينجز عملا ما.فهناك الكثير مما يجب الاهتمام به من أجل الجنازة .
عندما انتهت من اعداد الشاى، وضعت أمام آنا بعض المربيات وجلست الى طاولة المطبخ ومالت نحوها محدثة :- قولى لى أن أهتم بشؤونى الخاصة ان أردت ، لكنى حقا لا أفهم لم افترقتما. كنت أرى أنكما تشكلان الزوج المثالى. بات أوليفر يشبه فرسا جريحا منذ غيابك، انه يفتقدك بجنون.
خطر لآنا أن لديه طريقة غريبة فى أظهار ذلك ، فلو أن والده لم يمت، لما كانت هنا الان. ولابد أن الخطوة التالية المتوقعة ستكون الطلاق ، لم تساورها أى شكوك حول هذا الامر البتة .
- انه هو من هجرنى يا سيدة غرين وابتعد عنى. ما من فرصة أبدا لنعود الى بعضنا مجددا. ان كان هذا ما تأملينه، فأنا أسفة .
بدت الخيبة على المرأة وهى تقول :- يؤسفنى أن ألامور بلغت هذا الحد، فأنا أحبك جدا يا آنا .
لم تضيفا شيئا اخر، وما ان انتهت آنا من تناول فطورها حتى نهضت وراحت تتجول فى أرجاء المنزل. لم يتغير شئ. مازالت الرسومات التى اختارتها معلقة على الجدران، وأدوات الزينة الاخرى، وأشياء اختاراها سويا ... كل شئ فى المنزل كما تركته تماما .
سارت فى غرف النوم فى الطابق العلوى ووضعت حقيبتها فى أحدى غرف الضيوف، ثم توقفت فجأة عند باب غرفتهما السابقة . تضاربت فى نفس آنا مشاعر هى مزيج من ارتعاش وخوف واستسلام وهى تدفع ببطء شديد الباب، وتحولت هذه المشاعر الى الصدمة فى لحظة واحدة. لقد عاد أوليفر الى المنزل ! فهاهما خفاه الجلديان بالقرب من طاولة الالبسة، وها هى ربطة عنقه مدلاة على ظهر الكرسى ، لكن ما لفتها بوضوح هو عبير عطره الدافئ العابق فى جو الغرفة .
متى عاد؟ بعد موت والده، أم بعد ذهابها مباشرة ؟ أى نوع من الافكار تسيطر عليه عندما يتمدد هنا كل ليلة؟ هل يتذكرها أم يذكر كيف كان الامر قبل الالتقاء بها؟ هل هذا ما يفضله ... حياة رجل عازب ؟
مع كل محاولاتها الجاهدة لتفسير ما اكتشفته للتو، وقفت عاجزة، ثم سمعت صوت حركة خلفها، وحين استدارت وجدت نفسها وجها لوجه مع أوليفر. كانت لحظة توقف فيها قلباهما. خلابا كما عهدته دائما، شعره الاسود قصير جدا كما لو أنه قام للتو بقصه، ووجهه فاتن رغم شحوبه البسيط، وعيناه مرهقتان وقد احاطتهما الهالات السوداء ،لكن ذلك كان امرا طبيعيا تماما فى ظل الظروف الراهنة. باستطاعتها أن تتخيل ماهية شعورها أن هى فقدت أيا من والديها.
- قالت لى السيدة غرين انى قد أجدك هنا. شكرا على قدومك يا آنا ، ان ذلك يعنى لى الكثير .
- ان هذا أقل ما يمكننى فعله.
ساد جو الغرفة صمت غريب قطعته آنا عندما اقتربت من أوليفر واحتضنته كما تحتضن كريس وقالت:- أنا آسفة بشأن والدك .
لكنها كانت مخطئة . ظنت أن بامكانها اعتبار الامر عاديا وغير شخصى . لكنها ارتكبت خطأ فادحا، فما أن اقتربت منه حتى غمرها فيض من الاحاسيس الغريزية النابضة،وسيطر على كيانها كله .
حتى أوليفر بدا مذهولا، لكنها لم تتقبل احتمال مبادلته لها تلك الاحاسيس. الارجح أنه تساءل عن السبب الذى دفعها لفعل ذلك ، وهو يصلى الا يكون فى نيتها اعادة احياء زواجهما.
ما من داع بالطبع لقلقه. فمهما كانت الاحاسيس التى غمرتها غزيرة وعميقة، الا أنها حرصت على اخفائها. فقالت جاهدة لترطيب الاجواء واخفاء توترها المفاجئ:- لم أدرك أنك عدت للاقامة هنا مجددا.
لم يقدم أى تفسيرات بل اكتفى بالقول ببرود :- اذا كنت تريدين هذه الغرفة، استطيع الانتقال منها بسهولة...
قاطعته آنا قبل أن يضيف كلمة اخرى :- لا لقد سبق لى أن أخترت واحدة أخرى. كنت فقط أمضى الوقت بالتنقل فى أرجاء البيت آسفة ان كنت تطفلت عليك .
بأمكانها أن تتخيل بسهولة كيف ستكون الحال اذا ما نامت على السرير الذى شاركها فيه يوما . كان الوضع سيئا بما يكفى فى الكوخ ، لكن هنا ، حيث أمضيا أشهر طويلة محمومة بسعادة لا توصف،ستكون حالها لا تطاق ولن تستطيع معها صبرا. كيف بحق السماء يتمكن هو من فعل ذلك ؟
- ما دمت مرتاحة .
يا لها من كياسة مصطنعة ! من الافضل أن تضع حدا لها أعتقد أن على الذهاب لتوضيب أغراضى والاستحام.
لكنه بدا غير عازم على تركها تذهب:- هل لاقاك كارل كما هو محدد؟
- نعم، تمت الرحلة فى موعدها.
- كنت أتيت لملاقاتك بنفسى لكن ...
- لديك واجبات أخرى تقوم بها أنا أتفهم ذلك. انه لوقت عصيب تمر به الان، يا أوليفر . ان كان هناك ما تريدنى أن أقوم به أى مساعدة استطيع تقديمها، ليس عليك سوى ذكرها .
- شكرا لك ... اذن هل تتناولين معى طعام العشاء هذا المساء ؟
لم يكن هذا ما عنته آنا واتسعت عيناها فى رعب :- أنا اسف. لكن لا بأس فأنا أتفهم ما قد تكون عليه أحاسيسك الان .سألغى الحجز و...
- لا سآتى .
أصرت على قبول الدعوة لشعورها بالاسئ والتعاطف معه حينها. لكن لاحقا، عندما وافت أوليفر فى الطابق السفلى، عندما عادت تلك الاحاسيس تفيض فى كيانها لمجرد النظر اليه، راحت تتمنى لو أنها رفضت دعوته. سيكون من الشاق عليها اخفاء انجذابها اليه الذى مازال يسيطر عليها كليا وبالقوة نفسها .
أدركت أن هذا الجزء من علاقتهما لن يتلاشى قط قد تشعر بالكراهية نحوه لما فعله، وللطريقة التى اتهمها بها وشكك باخلاصها له، والاسلوب الفظ الذى تخلى به عنها ببساطة .. لكن الانجذاب الجسدى الذى يشبه المغناطيس بقوته، لن يتغير أبدا .
كان يرتدى قميصا أبيض وبنطالا ضيقا أسود، وقد ألقى بسترته على ذراع كرسى وكانت ربطة عنقة سوداء اللون، فعاد الى ذهنها كم أنه يفتقد والده بلا شك.
هى ايضا اختارت أن ترتدى ثوبا أسود ولم تفعل ذلك احتراما لموت ادوارد، لكن لانه الثوب الوحيد الذى أحضرته معها والذى يتلاءم مع مناسبة العشاء فى الخارج. كان ذا كمين طويلين، يلامس جسدها حتى الردفين ثم يتسع ليصل الى منتصف ساقيها .
جالت عينا أوليفر بتكاسل عليها، ورفرفتا على جسدها بنوع من التقدير والاعجاب لكنه لم يعلق على الامر بل سألها ببساطة :- هل ترغبين بكوب من العصير قبل أن نخرج ؟
هزت آنا رأسها :- لا ، شكرا.
فكلما أسرعا بالخروج كلما عادا الى البيت باكرا كان أحد المطاعم التى اصطحبها اليها سابقا، يسوده جو من الهدوء الانيق حيث رتبت طاولاته الواحدة بعيدة عن الاخرى احتراما لخصوصية الاحاديث التى تجرى عليها .
سألته بعد أن جلسا :- كيف عرفت أين تجدنى ؟
- اتصلت بداون. أعرف أنك طلبت منها عدم اخبار أحد بمكانك، لكنى لم أترك لها الخيار. لاتقسى فى حكمك عليها .
فى الواقع ، كانت آنا تعلم مسبقا ما الذى فعله. فقد اتصلت بداون فى الليلة الماضية بعد أن أبلغها أوليفر بالنبأ السئ حول والده، واكتشفت أن أوليفر اتصل بأختها بعد ذهابها الى ايرلندا بوقت قصير. ان علمه بمكان اقامتها كل تلك الاسابيع من دون أن يفعل أى شئ ، ترك صدى عميقا مدويا فى نفسها .
بعد الجنازة غدا، سيشكرها حتما لمجيئها بكل تهذيب، ويتمنى لها رحلة موفقة الى ايرلندا ويخط بذلك الفصل الاخير من زواجهما. وقد سألت داون كذلك ما اذا علم كريس بانفصالهما هى وأوليفر، لكن أختها حافظت على وعدها فى ما يتعلق بهذا الامر. وأدركت آنا ان الوقت حان لتتصل به وبأهلها ايضا، فمن حقهما أن يعلما بحقيقة ما يجرى. كانت قد اتصلت بهما مرتين من ايرلندا لكنهما فى كلتى المرتين ظنا أن أوليفر معها ، ولم تخبرهما قط بغير ذلك
خلال العشاء ، ابتعد أوليفر فى حديثه عن كل الامور الشخصية واكتفى بالحديث عن عمله مما تلاءم مع رغبة آنا . لكنه بدا لها من خلال حديثه أنه لم يعد سعيدا فى عمله. لم يقل ذلك صراحة لكنها استنتجت وضعه من خلال نبرته وطريقه كلامه اللتين غاب عنهما الحماس .
لعل السبب يعود الى الظروف الراهنة، الا أنها استبعدت هذا الاحتمال. كان هناك خطب ما لم يخبرها به، مما أحزنها جدا لأنه لطالما أخبرها بكل شئ . فكانت تهنئه عندما تسير الامور على خير ما يرام، وتتعاطف معه حين يواجه المشاكل والعقبات . وهى الان تجد نفسها وقد أبعدت عن هذا الجزء من حياته بالكامل .
كانا فى منتصف حديثهما عندما توقفت عند طاولتهما امرأة شقراء جذابة ترتدى تنورة قصيرة جدا، وقالت:- أوليفر يا لها من مفاجأة.
ثم انحنت نحو أوليفر وسالته بصوته غير منخفض: ما الذى تفعله هى هنا ؟
قال بكياسة وهو يقف من دون أن يجيبها على سؤالها :- ميلانى، كنت أظنك فى مصر .
أجابت والدموع تترقرق فى عينيها:- عدت هذا الصباح . لم أصدق حين أخبرنى أبى بأمر عمى أدوارد. حاولت الاتصال بك هاتفيا. مسكين يا حبيبى، لابد أن الحادث حطمك .
لفت ذراعيها حوله وأضافت :- لم يكن عليك تحمل ذلك وحدك، آه لوكنت هنا لكنت ...
- ليس وحيدا .
سمعت آنا نفسها تتفوه بهذه الكلمات ، رغم أنهما أما لم يسمعاها وأما تجاهلا ما قالته. لقد سبق لها أن التقت ميلانى بضع مرات، لكن الفتاة لم تظهر فى أى مناسبة أى تعاطف أو محبة بل عمدت فى الواقع الى معاملتها بازدراء وترفع بارد .
لطالما افترضت آنا أن أوليفر استمر فى التعاطى معها بصبر من أجل والده . لكنه حين أمسكها الان وحين مرر يده فى شعرها، بدا كأنه يواسى ميلانى بدلا من أن تواسيه هى .
خطر لآنا أنه تمادى مع ميلانى كثيرا. فقد عاملته هذه الفتاة بطريقة مشينة معيبة، بحق السماء .لم يتصرف الان بهذه الطريقة؟ تسلل الحنق الغضب الى عروقها . هل سيلاحظ أى منهما ان هى وقفت وغادرت المكان ؟
يا الهى فهو لم يرحب بها هى، زوجته، بكل هذا الاطراء المفرط! ما كان منها الا أن وقفت والتقطت حقيبة يدها وهمت بمغادرة المطعم حين أمسك بها أوليفر وسألها بهدوء :- الى أين أنت ذاهبة ؟
- الى التواليت .ثم أضافت فى سرها :- لأنى أشعر فجأة بالغثيان .
- أنت حتما لا تغادرين بسبب ميلانى؟ أعلم أنها قد تبالغ فى تصرفاتها، لكن لا أستطيع تجاهلها الان فى وقت كهذا من أجل والدى.
- أنت رجل حر. تستطيع أن تفعل ما تريد مع من تريد . ان الامر لا يهمنى بعد الان . وأذا كنت تفضل أن تكون ميلانى الى جانبك الان ، فقد عادت من عطلتها، وفى هذه الحال ...
فأجابها بصوت عال وحاد :- لا! أريدك أنت الى جانبى . أنت زوجتى .
- لقد هجرتنى وتخليت عنى، يا أوليفر .
أغمض عينيه لثانية. لكنه حين نظر اليها ثانية كانت تعابيرة فارغة ومشاعره مخفية بحرص تام. وقال:- مهما يكن ما فعلته، أريدك الى جانبى الان .من أجل المظاهر؟ خطر لها أن تسأله، لكنها لم تفعل. فلم يكن الوقت مناسبا لوخزه وايلامه . فقالت ببرود :- سأعود بعد دقيقة .
لكنها لم تسرع ، بل أخذت وقتها فى أصلاح زينتها وتجديد أحمر شفاهها . كانت تمرر المشط فى شعرها تسرحه عندما فتح الباب ودخلت ميلانى . رأتها آنا فى المرأة، ولمحت الشر الذى يشع فى عينيها الزؤقاوين، فأدركت على الفور أنها تنوى اثارة المشاكل. لم تأت ميلانى لتصلح زينتها، بل كانت تمهد لافتعال عراك معها. فاستدارت آنا لتواجهها .
بدأت ميلانى الكلام أولا :- أرى أنك تملكين جرأة وقحة لتعودى من أجل جنازة العم أدوارد بعد أن طردك أوليفر ورماك خارجا .
- بما أن أوليفر لا يمانع، لاأجد لك شأنا فى الموضوع لتدلى برأيك الثمين .
تكلمت آنا بكبرياء هادئة، وهى تتساءل عن مدى ما قاله أوليفر لهذه الفتاة عن انفصالهما. لكن لم يكن فى نيتها الدخول فى عراك فظ ووضيع، فميلانى لا تستحق هذا العناء .
- لم يعد أوليفر يحبك .
كان ذلك تصريحا طفوليا، فارتفع حاجبا آنا فى استهزاء :- هو قال لك هذا ، اليس كذلك ؟. كانت تلك الحقيقة، نعم ، لقد توقف عن حبها ، لكنها ليست بحاجة الان الى ترديد ذلك بصراحة .
- ليس بكلمات صريحة واضحة .
اعترفت ميلانى بذلك وهى تهز كتفيها بلا مبالاة، وأضافت:- لكننا أمضينا الكثير من الوقت سويا منذ أن افترقتما. كان بحاجة الى من يسكن مشاعره المنكوبة ويهدئ من روعه ... بامكانك القول اننا عدنا الى سيرتنا الاولى . انه عاشق رائع، اليس كذلك ؟ انه الافضل . حرصت على ألا يفتقد شيئا أو يشعر بالوحدة .
لابد أن ذلك غير صحيح؟! شعرت آنا بقلبها يعتصر من الالم فى صدرها. مما لاشك فيه أن أوليفر لن يقفز من سريرها هى الى سرير ميلانى، بعد أن أكد بشدة أنه لم يعد يشعر بشئ نحو الفتاة الاخرى هذه، أم ماذا ؟
من ناحية أخرى. كان رجلا قويا جذابا ، فكيف تتوقع منه البقاء أعزب لفترة طويلة. لكن، بالرغم من ذلك، فان فكرة عودته المحتملة لميلانى أثناء غيابها، تبعث الالم فى نفسها، مما يصعب عليها المحافظة على هدوئها، لكنها نجحت فى ذلك بطريقة ما . فقالت لها بأبتسامة رسمتها على شفتيها :- هذا جيد لك والان ان سمحت لى، يا ميلانى، سأعود الى أوليفر قبل أن يظن أننا هجرناه نحن الاثنتان .
لكن عودتها الى الطاولة وادعاءها بحسن سير الامور كانا أشد صعوبة ومشقة . رأت أوليفر يراقبها، مقطبا ومتسائلا . فعزمت على عدم اعطائه أى سبب يدفعه لطرح الاسئلة عليها .
قالت والابتسام تعلو ثغرها الجميل :- آسفة لتأخرى .
- ماذا قالت لك ميلانى ؟
أجابت بنبرة بريئة مدهشة :- ميلانى؟ ليس بالكثير. انها حزينة جدا بشأن والدك، بالطبع ، هل هى هنا بمفردها؟ هل ستنضم الينا ؟ .
حاولت جاهدة أن تبدو غير ممانعة، بل مرحبة بالفتاة الاخرى
- أعتقد أنها برفقة صديق .
التفت أوليفر حين خرجت ميلانى. وراحا يراقبان سويا الشقراء وهى تجتاز الغرفة متوجهة نحو طاولة عند زاويتها وتجلس قبالة صديقها مبتسمة. كان الرجل أسود الشعر مدعى الملامح واثق المظهر، من الرجال الذين لا تثق بهم آنا البتة، شخصا فاسقا بامتياز ،لامضاء بعض الوقت والتسلية فقط لاغير .
كيف يمكن لأوليفر أن يحتمل ملامسة امرأة تخرج مع رجل من هذا النوع؟ جعلت آنا تتساءل فى نفسها قبل أن تسأله :- هل تعرفه ؟ .
- من ؟
- صديق ميلانى. بدوت وكأنك ترقبهما عن كثب وباهتمام .
هز أوليفر كتفيه:- أنه الفضول فقط. لاأعتقد أنه سبق لى أن التقيت بالرجل من قبل. لكن، فى النهاية لميلانى العديد من الاصدقاء .
- انها فتاة جذابة للغاية .
- نعم ، أعتقد ذلك .
- هل لازلت معجبا بها ؟
سألها بحدة :- ما هذا؟ نوع من الاستجواب ؟ لقد دعوتك أنت على العشاء الليلة. لا أريد التحدث عن ميلانى .
- لكنكما مقربان جدا الواحد من الاخر .
لاحظت آنا أنه لم يجب على سؤالها. بل هز كتفيه قائلا :- انها تكاد تكون فردا من العائلة. يسرنى أنها عادت فى الوقت المناسب من أجل جنازة والدى. لغضب جدا لو لم تعلم بالامر الا فى وقت متأخر.
- ألم يفكر أحد فى الاتصال بها هاتفيا ... أو ترك رسالة لها فى الفندق الذى تنزل فيه ؟
- لم يعرف أحد بالتحديد أين هى. كانت فى مصر بالطبع ، أما أين تقيم، فلا أحد على علم بذلك، حتى والدها. لديها هذه العادة بالانطلاق وراء احدى نزواتها من دون أن تطلع أحدا على أى شئ.
- هكذا ؟ لعلها قضت عطلتها مع هذا الرجل الذى يجلس برفقتها الان؟
بدا على أوليفر الانزعاج من مسار الحديث، فأجاب :- لا أعلم، ولست مهتما البتة بالامر. فهو ليس من شأنى ولا يخصنى اطلاقا .
آه، لكنه يعنيه بالتأكيد هذا ما خطر لآنا . فقد بدا عليه الارتباك بشدة الى حد ينفى عدم اهتمامه بالامر . حدق أوليفر فيها بعينين مفترستين وقال :- أريد التحدث عنك أنت أريد أن أعرف سبب رحيلك المفاجئ. لم أصدق عندما أعلمنى والدى برحيلك. لم يكن ذلك مفهوما أو منطقيا. لم لم تأتى لرؤيتى قبل الذهاب ؟
لم يقل ادوارد شيئا اذا عن أجبارها على مغادرة المنزل والرحيل، ويصعب عليها الاعتراف بالحقيقة الان والقاء اللوم على والده وهو لم يدفن بعد. فرفعت كتفيها بحركة لا مبالية :- ما الذى كان لدينا لنناقشه ؟ .
فأجابها بثقة :- لم يكن هناك من داع لمغادرتك . ولماذا اخترت ايرلندا ؟ أعلم أنى كنت غاضبا منك ... كنت فى الواقع غاضبا بجنون ... لكن، ما كان عليك الرحيل والاختفاء هكذا !.
قالت بهدوء :- ظننت أنه من الافضل لنا نحن الاثنين أن أبتعد .
- وهل كنت سعيدة هناك ؟
- كان الامر مؤقتا .
- وماذا عن صديقك ؟
- أى صديق ؟
- ذاك الذى أعطيته المال . هل كان برفقتك ؟
أغمضت آنا عينيها . فمما لاشك فيه أن الوقت والمكان غير مناسبين للبدء بمثل هذا الحديث :- أنت مخطئ بخصوص تونى. لكن ليس فى نيتى أو رغبتى أن أناقش الامر. أعتقد فى الواقع أنى أفضل العودة الى البيت .. أعنى الى منزلك أنت .. فأنا متعبة حقا .
- حسنا .
سدد حساب العشاء ، وأدهش آنا حين لم يلتفت مرة واحدة باتجاه ميلانى وهما يجتازان الغرفة الى الخارج. لكن آنا فعلت فشعرت بارتعاشة باردة وهى ترى نظرة الحقد والغل فى عينى ميلانى. كانت الرسالة فى غاية الوضوح. لابد أنها لن تكون المرة الاخيرة التى ترى فيها ما رأته منها .
************************
|