كاتب الموضوع :
هدية للقلب
المنتدى :
روايات احلام المكتوبة
5 - ضياع !
فارق النوم عينى آنا ، فاستلقت فى السرير تراقب شعاعا فضيا منبعثا من القمر وهو يتحرك ببطء معانقا الظلمة فى كبد السماء. لقد ظنت قبل أن تكتشف مدى خطئها، أن أوليفر سيقترح عليها الانتقال الى غرفته، بعد ما حدث بينهما. لقد جعلها غباؤها تأمل فى أن يكون ما جرى بداية لاعادة احياء حبهما.
تقوقعت فى سريرها مفكرة:- كيف تمكن أوليفر من فعل هذا بها؟ كيف يهجرها مجددا بعد ما جرى بينهما؟. بعد مرور وقت ليس بطويل عادا هى وأوليفر لمتابعة أعمال التوضيب. لكن الجو بينهما بات عابقا بمعان مختلفة ومشبعا بحاجات جديدة ومشحونا بطاقة كهربائية مدمرة، أصبح معه التركيز على العمل أمرا مستحيلا.
كل ما أرادت فعله هو التحديق فيه بعينيها الخضراوين، أرادت أن تلمسه أن تحبه، أن تشعر به وأن تدعه يشعر بها. لكن أوليفر بدا نادما على ما فعله، مما جعل الحزن يعتمل فى قلبها . فقد راقبته وهو يقوم بعمله بنشاط متجدد، متجاهلا وجودها تقريبا فيعمل ويعمل من دون توقف الى أن يحين موعد عودتهما الى المنزل لتناول وجبة الطعام التى تكون السيدة غرين قد أعدتها لهما كالعادة .
بعد انتهاء الطعام، ينفرد أوليفر فى غرفة مكتبه لقراءة بريده الالكترونى ومتابعة سير أعماله عبر الانترنيت. عاد ليظهر أخيرا عند الساعة العاشرة والنصف وقد بدت الخطوط محفورة بوضوح على وجهه الشاحب المنهك .
فقال:- أنا ذاهب الى السرير.
كانت آنا تقرأ كتابا فى أنتظاره فبدت عليها خيبة الامل وهى تنظر اليه متسائلة :- الا تريد أن تشرب كوبا من العصير حتى؟.
- لا. لا أريد شيئا . لكن النظرة التى حدجها بها لم توح بصدق ما يقول، بل عكست رغبته فى ضمها ومعانقتها كالمرة السابقة . شعرت آنا بحرارة جسدها ترتفع وتعلو شيئا فشيئا.
لكنه ذهب مباشرة الى غرفته وتركها وحيدة مع الارق والحيرة، تفكر فيه وفى روعة مبادلته كل الحب والرغبة. لقد أثبت بعد ظهر هذا اليوم أنه تصعب عليه مقاومتها، فلم يتجاهلها الان؟ هل ندم حقا على ما حدث بينهما ؟ هل كان يعاقب نفسه ويؤنبها على ما فعله؟ هل مازال مقتنعا بأنها تسعى وراء ماله؟
سيكون من الشاق عليها العمل معه، جنبا الى جنب، فى هذا الجو المشحون بالتوتر. هل فكر فى ذلك عندما أطلق لنفسه العنان؟ ان كان ما حدث مجرد تنفيس للاحتقان الذى يعانى منه منذ انفصالهما فهى تتمنى لو أنه لم يحدث. ولو أنها عرفت ذلك منذ البدء لما سمحت له بالتمادى معها الى هذا الحد.
نزلت آنا فى الصباح لتناول الفطور قبل أوليفر، وعندما لحق بها، لمحت عينيه المحاطتين بهالات سوداء وأدركت أنه لم يعرف النوم طوال الليل هو ايضا . عندما بلغا المنزل الكبير، حاول شغل نفسه فى غرفة منفصلة.
كانت رسالته واضحة باستحالة تكرار ما جرى بينهما البارحة.لكن، بعد وقت قصير، سمعت آنا صوتا وراءها، فلم تستطع منع قلبها من الانتفاض بقوة فى صدرها. هذا ما كان يجرى كلما اقترب منها. استدارت بسرعة وخفة والابتسامة تعلو شفتيها، لكنها ما لبثت أن خمدت وخبا اشراقها عندما رأت الواقف أمامها.
سألتها ميلانى وعيناها مسمرتان عليها ببرود:- ماذا تفعلين هنا؟ أين أوليفر؟.
اجابتها بهدوء:- انه فى الجوار. أنا أساعده فى توضيب أغراض والده.
- وما الذى يعطيك هذا الحق؟ ظننتك أتيت فقط من أجل جنازة العم ادوارد. لم لم ترحلى بعد؟ أرجو صادقة ألا تحاولى العودة من جديد الى حياة أوليفر، لأن ذلك لن يجدى نفعا. لم يعد أوليفر يحبك... هذا ان كان قد أحبك قط .
- أعتقد أن ما نفعله أنا وأوليفر لا يعنيك فى شئ.
اجابتها آنا وهى تسوى جلستها وتحدق فى ميلانى ببرود تام. وارتاحت عندما اختار أوليفر هذه اللحظة تحديدا ليدخل الى الغرفة لأن تلك المحادثات لم تكن لتستهويها، كما لم تكن على استعداد لمناقشة أمور زوجها مع صديقته السابقة. أم أنها صديقته الحالية؟ فجأة شعرت بترددها وتشكيكها .
عندما ارتمت ميلانى بين ذراعيه ورفعت رأسها نحوه، ذهبت الغيرة بما تبقى من قلبها الممزق الى أشلاء. لم تحتمل رؤيتهما سويا، خاصة بعدما حدث بينهما منذ أقل من أربع وعشرين ساعة.
لم استسلمت له بهذا الشغف؟ تساءلت آنا فى نفسها. لم غابت ميلانى عن ذاكرتها؟ لم سمحت لمشاعرها بالتحكم فى تصرفاتها؟ لم كانت بهذا الضعف والوهن؟
قالت ميلانى بلطف مصطنع:- كان عليك أن تطلب منى مساعدتك، أوليفر. لم أعرف قط أنك تود التخلص من أى من أغراض العم ادوارد فى الواقع، أنا لاأرى الدافع وراء ذلك، الا ... ان كنت تخطط لشراء أغراض جديدة لنفسك. قالت روزمارى ان ...
قاطعها أوليفر بقسوة :- روزمارى ؟ هل مازالت فى الجوار ؟.
راقبت آنا عينيه وهما تضيقان بارتياب. فأعترفت ميلانى:- لاأعرف ماذا تعنى بقولك فى الجوار، لكننى رأيتها ذلك اليوم.
- هل هى فى المنطقة؟
- فى كامبريدج، حسبما أعتقد. لكن لم تسأل؟ هل هذا هام؟
لم يجب على سؤالها، بل صاح بها بحدة :- فى أى فندق ؟.
- لست أدرى. لكننا سنتناول الغداء معا يوم غد. استطيع أن ...
- لا حاجة لذلك. ليس لدى ما أقوله لها. لكن تصلب فكه كان يوحى بعكس ذلك تماما.
هزت ميلانى كتفيها:- انها لاتزال غاضبة جدا بسبب الوصية.
- هل هذا ما قالته؟ هل طلبت منك التكلم معى لأجلها؟
- لا، بالطبع. لاتغضب أوليفر.
التفت نحو آنا بنفاذ صبر قائلا :- آنا ، ما رأيك بفنجان من القهوة؟ كان يسألها هى أن تعد القهوة له ولميلانى! أرادت آنا أن ترفض، لكن بما سيفيدها ذلك؟ تجهم وجهها من الغضب، وخرجت من الغرفة، لكنها لم تتوقف عن تصورهما معا.
وتحققت هواجسها عندما عادت لتجدهما جالسين على الكنبة الجلدية. كانت ذراع أوليفر تكاد تحيط بكتف ميلانى التى بدت وكأنها تبكى. لكنها حين نظرت الى آنا شع فى عينيها بريق الانتصار، فلم يكن من الصعب التكهن بأنها تذرف دموع التماسيح.
- ها هى القهوة.
حاولت آنا أن تبدو مرحة وهى تضع الصينية على الطاولة، لتسكب القهوة لميلانى فى الفنجان وتناولها اياه بطريقة لائقة. وعندما قال أوليفر انه سيخرج مع ميلانى لتناول الغداء فى الخارج وانهما لن يعودا على الارجح، تأوهت بيأس وتملق ظاهرين. فأضاف :- انها حزينة جدا على والدى. ان مجيئها الى هنا قد أعاد الذكريات الى ذهنها.
آه، نعم أراهن على ذلك.. حدثت آنا نفسها. ذكريات ما عاشته سابقا مع أوليفر، وما تريد أن تعيشه الان مرة أخرى. قال مخاطبا آنا بنبرة متعاطفة:- لاحاجة لأن تبقى أنت هنا كذلك، فأنت تستحقين بعض الوقت لنفسك.. لقد عملت بجهد.
بالنسبة الى آنا لم يكن ما تقوم به عملا، بل كان مصدرا لمتعة لمجرد البقاء برفقة أوليفر. كانت قد بدأت تأمل بشئ أكثر فى علاقتهما، كانت قد بدأت تظن أنهما يعيدان بناء الجسور بينهما بعدما ظنا أنها هدمت الى الابد، خاصة بعدما حدث البارحة.
لكن ميلانى تدخلت بسرعة لوضع حد لذلك، لعل السبب الذى دفع أوليفر الى حملها الى سريره البارحة هو الاحتقان ليس الا لآن الشقراء اللعوب لم تكن فى الجوار. كان يستخدمها كبديل لميلانى أثناء غياب هذه الاخيرة.
منتديات ليلاس
كانت الفكرة هذه تشبه لطمة قوية على الرأس بما تسببه من الام مبرحة. أجابته برباطة جأش :- شكرا لك. لكن، أظن أنى سأبقى ، فليس لدى عمل آخر أقوم به.
اعترضت ميلانى بتعاطف مفاجئ :- لا،لا يمكنك أن تفعلى هذا أنت بحاجة لقليل من الراحة كذلك. أنت تعلمين ما يقال عمن يمضى كل وقته فى العمل ولا يمرح البتة .
رمقت آنا أوليفر لتجدة يهز رأسه بالموافقة. هل هذا يعنى أنه يجدها مملة؟ لم يكن مملا ما حدث بينهما البارحة. فقد تجاوبت معه لا اراديا، كما لو أنها احترقت فى لحظة واحدة ففقدت السيطرة على تصرفاتها، مثله هو تماما. ما هى هذه اللعبة التى يلعبها الان ، اذن ؟
قالت :- قد أفعل ذلك، سأفكر فى الامر .
أصرت ميلانى بثبات :- أنت فعلا بحاجة الى تخصيص بعض الوقت لنفسك.
أضاف أوليفر مؤكدا :- أوافقك الرأى تماما .
بعد أن غادرا المنزل، أدركت آنا أنها لا تريد البقاء فى النهاية صعدت الى الطابق العلوى، وراحت تتجول فى غرفة النوم الرئيسية. لكن مجرد النظر الى أغطية السرير التى لا تزال مبعثرة، أثار فى نفسها غضبا أخذ يعتمل فى صدرها .
كل ما دفعه اليها كانت الحاجة، والحاجة فقط، لقد استغلها. كان عليها أن تلاحظ ذلك مساء أمس عندما ذهب الى سريره من دون ان يعانقها حتى. رتبت الاغطية بحركة تلقائية، عازمة على الا تضع نفسها فى موقف كهذا مرة أخرى .
عادت الى المنزل لكن السيدة غرين كانت فى اجازة ذلك اليوم ولم تكن راغبة فى تحضير الطعام، فقررت أن تزور والديها .. الى أن تذكرت أنها لا تملك سيارة هنا، وأن سيارتها لا تزال متوقفة أمام الكوخ فى ايرلندا.
كان والداها يعيشان فى عمق الريف الواقع فى الجهة الاخرى من كامبريدج ، والطريق اليهما لا تسلكها حتى الباصات. كما أن سيارة الاجرة ستكون باهظة الكلفة فما هى الخيارات التى بقيت أمامها ؟
كان هناك سيارة ادوارد بالطبع، المتوقفة فى المرآب الخاص بالمنزل منهما ؟ قال أوليفر لن يمانع بالتاكيد. لقد ترك مفاتيح المنزل معها، وكانت هى قد رأت من قبل مفتاحى السيارتين معلقين فى المطبخ.
أخذت السيارة الجيب فى النهاية بعدما أحست بأن سيارة الرولز رويس متكلفة بعض الشئ بالنسبة اليها. لكنها لم تجد والديها عندما وصلت الى منزلهما فلعنت غباءها. ان عليها أن تتصل هاتفيا قبل المجئ لابد أن الاحداث التى جرت مؤخرا سلبت منها العقل والمنطق والتفكير السوى .
لم يكن الحظ حليفها اليوم، هذا ما خطر لها. الا أنها تستطيع الذهاب لرؤية أخيها، وان لم تجده فى مكتبه .. ما الذى ستفعله؟ هل تتناول الطعام فى مكان ما وحدها ؟ ام لعلها تذهب الى السينما ؟ ماذا تفعل ؟ يا له من شعور فظيع بالضياع ألم بها !
خلال الايام القليلة الماضية ، بدأت تعتاد على حضور أوليفر وكادت تشعر بالامان والاطمئنان... لصداقته ، ان لم يكن لشئ آخر. أما الان فهى لم تعد متأكدة . لم يكنعلى ميلانى الا أن ترفع اصبعا واحدا حتى يجرى اليها من دون تردد ماذا يعنى لها ذلك ؟
هزت رأسها فى محاولة لطرد الافكار المزعجة واتجهت نحو كامبريدج. كان كريس فى مكتبه وبدا مسرورا لرؤيتها:- ظننتك لاتزالين فى ايرلندا . كنت عازما على تناول الغداء، هل تريدين الانضمام الى أم أنك سبقتنى ؟.
أجابت وهى تعانق أخاها بحنان :- هذا ما كنت أراهن عليه.
- مهلك . ما بك؟ هل أشعر أنك بحاجة للتكلم؟ هل كل شئ على ما يرام مع أوليفر؟
لم تلاحظ آنا أن ملامح وجهها تفضحها:- سأخبرك ونحن نتناول الغداء.
وأخبرته بالقصة المحزنة بأكملها فعلق قائلا :- يا الهى ! لم أدرك قط أن ذلك سيتسبب بهذا القدر من المشاكل. وضع كريس الشوكة والسكين على الطبق ونظر اليها بقلق واضطراب واضاف :- هل أخبرته لم أعطيتنى المال ؟.
هزت أنا رأسها بالنفى .
- لم لا؟ يا الهى آنا . لايمكنك تعريض زواجك للانهيار والزوال بسببى . أخذ يهز رأسه وقد بدا الاضطراب فى عينيه الزرقاوين الداكنتين .
أعترفت له آنا بأسى :- رفض أن يسمع ما لدى . لقد ظن بى أمورا سيئة جدا. اللعنة ،كريس ان كان قادرا على الظن بزوجته ظن السوء الى هذا الحد، فماذا نقول بعد عن زواجنا؟ ظننت أن الثقة تحول دون وقوع مثل هذه الامور. آه كم كنت بلهاء ! لم يعد يثق بى قط، وبات من السهل عليه أن يتخلى عنى ويرمينى خارج حياته كليا. أضف الى ذلك، أن صديقته السابقة عادت للظهور فى حياته مجددا.
لم تتنبه آنا الى صراحتها المفرطة، ولم تدرك كم كشفت من الامور أمام كريس، الى أن وضع أخوها يده فوق الطاولة:- اهدئى يا أختى، أنا متأكد من أنك مخطئة فى ظنك حتما. قالت داون انها لم تر فى حياتها رجلا مغرما مثل أوليفر.
- ربما كان أوليفر مغرما. لكنه لم يعد كذلك بعد الان .
- هل أنت متأكدة ؟
- كل التأكيد .
- مازلت أعتقد أن عليك اطلاعه على الحقيقة. لقد حصلت على جزء من المبالغ المستحقة لى ،وسأتمكن قريبا من أرجاع المبلغ كله.
- ليست هذه هى المسألة كريس.
كم تمنت لو أن أخاها لم يطلب منها المساعدة قط، لوفر عليها عذابات جمة والاما مبرحة. من جهة أخرى، كان من الافضل لها أن تكتشف حقيقة أوليفر عاجلا وليس آجلا.
لطالما سمعت فى الماضى عن بنات يتزوجن برجال يفرضون عليهن رقابة صارمة فى المصروف، ويصرون على معرفة مصير كل فلس يتم صرفه، والاطلاع على ما يفعلن فى أوقاتهن، ومع من يمضين اجازاتهن... رجال يريدون أن يديروا لهن حياتهن حسبما يحلو لهم . هل كان أوليفر هكذا؟ هل كان ذلك مجرد جزء بسيط من حقيقة أكبر وأشد مرارة؟ هل كانت الامور ستزداد سوءا مع الايام ؟ وهل تخلصت منه فعلا ؟
لكن أخاها أصر قائلا :- أظن أن المسألة برمتها تكمن هنا. أنت حزينة الى حد التفجع . كم تغيرت منذ أن رأيتك آخر مرة. كنت متألقة، تنبضين بالحياة والحيوية ... أنظرى الى نفسك الان. تبدين كالمومياء التى عادت للتو الى الحياة . هل والداى على علم بأن زواجك بات على شفير الهاوية
- لا، لقد أتيت لتوى من هناك ، لكنى لم أجدهما فى المنزل .
- سيحزنهما الاطلاع على الامر.
قالت وهى تتنهد بحزن :- أعرف ذلك . لهذا السبب لزمت الصمت حتى الان .
- تعنين أنك كنت تأملين باصلاح الامور وبالرجوع اليه ؟
- شئ من هذا القبيل .
- انه أحمق اذا تركك ترحلين .
- ربما لم يحبنى أوليفر قط . لقد قال والده انه تزوج بى فى فترة من فترات الضعف. بدأت أظن أنه كان محقا .
- لماذا اذن انفصل عن تلك المرأة ؟
برقت عينا آنا وهى تجيبه :- انه المال مرة أخرى.
أخذ كريس نفسا عميقا وهو يهز برأسه :- ان الرجل يعانى من عقدة نفسية. لاعجب فى أن تكونى محتارة ومضطربة ، هل مازلت تحبينه؟ .
رفعت آنا كتفيها الهزيلتين :- لست أدرى .
- هذا يعنى أنك مازلت تحبينه. أعتقد أن عليك منحه فرصة واحدة أخرى . أخبريه عنى ، وأنى طلبت منك الاحتفاظ بالسر، وان لم ينفع ذلك ، ف .. فأرسليه لى حينها. سأجعله يفكر بشكل سوى .
- لكن ، الا تفهم يا كريس؟ لا أريده أن يعود وفق هذه الشروط، ما كان عليه التشكيك بى منذ البدء.
- أوافقك الرأى . فقد التقيت بأروع فتاة فى العالم ، وأشعر أنى أثق بها وأئتمنها على حياتى، أعتقد أن هذا هو الحب الحقيقى .
اتسعت عينا آنا من المفاجأة :- أوه ، كريس . لابد أنك كنت تتوق شوقا لاخبارى بذلك، وأنا أثقل كاهلك بأحزانى وهمومى ومشاكلى الخاصة . أنا اسفة، ما أسمها وأين التقيت بها؟ أخبرنى بكل شئ .
عندما عادت آنا الى المنزل كان أوليفر فى أنتظارها. كانت عيناه قاسيتين باردتين، وجسده كله مشدودا:- أين كنت بحق السماء ؟.
قطبت آنا حاجبيها عندما شعرت برعشة مخيفة. عادت الى ذاكرتها صورة الرجال الذين يسعون للتحكم بزوجاتهم وادارة حياتهن:- هل يهمك الامر؟
- أرى أنك أخذت سيارة والدى الجيب.
سألته وقد رفعت حاجبيها استنتاجا :- هل هذه هى المسألة اذن ؟ كان على طلب الاذن ؟.
- لا تكونى سخيفة . لقد قلت انك ستبقين فى المنزل الكبير. لم أجدك عندماعدت، وشعرت بالقلق بشأنك .أوليفر يشعر بالقلق يا لها من دعابة !
- آسفة، لكنى لم أجد أحدا لطلب الاذن منه. بقيت سجينة هنا لفترة كافية. وفكرت بأن الوقت حان لأخرج قليلا وأتنشق بعض الهواء.
- قلت سجينة ؟
- أعنى أن سيارتى ليست معى .
-أه ، فهمت . لا أذكر أنك قلت شيئا عن انزعاجك من الموضوع.
لم تشعر بأى انزعاج من قبل، الى هذه اللحظة . لكنها لن تعترف له بذلك طبعا:- قررت أن أزور والدى . هل لديك أى مشكلة فى ذلك ؟.
ضاقت عينا أوليفر:- كيف حالهما ؟.
هزت كتفيها :- فى الواقع ، لم أجدهما فى المنزل. لذا تناولت الغداء مع كريس فى المقابل .
- الاخ الشبح ؟
لم ترق لآنا نبرة السخرية فى صوته ، فبرقت عيناها غضبا :- انه هو نفسه .
- متى سألتقى به ؟
- أظنك لن تفعل قط، بما أن زواجنا قد أنتهى .
أجابت بحدة وغليان شديدين . لقد خطر لها وهى فى طريقها الى البيت أن كريس قد يكون محقا وأن عليها جعل أوليفر يستمع الى الحقيقة لكن سلوكه وتصرفه الان جعلاها تبدل رأيها بسرعة البرق، فهو لن يصدقها حتى ان كتبت أحرفها بالدم .
- انه لأمر مؤسف . أعتقد أن بينى وبين كريس أمورا عديدة لنناقشها .
- كسؤاله مثلا عما اذا كنت أعطيته المال أم لتونى، هل هذا ما تعنيه ؟
أجابته بلا مبالاة، وهى تحاول تجاهل العرق المتصبب منها جراء شوقها المفاجئ اليه. ما هو هذا التأثير الذى يمارسه عليها أوليفر كلما تجادلا؟ هل كانت عيناه السبب فى ذلك والنار التى تشتعل فيهما حنقا أو اللهيب الذى يعلو وجنتيه، والتصلب الذى يشد كل عضله فى جسده؟ مهما تكن الاسباب ، فهو يؤثر فيها بشكل لا يمكن السماح به.
قال بتأمل هازئ :- آه ، تونى . هل رأيته مؤخرا ؟
تطايرت من عينيها شرارات الغضب :- أنت تعرف يقينا أنى لم أره فأنا لم أذهب الى أى مكان آخر منذ وصولى الى هنا .
رمقها بنظرات مشككة، لكنه لم يصر على مناقشة الامر لسبب ما :- ربما عليك الاحتفاظ بسيارة الجيب لتتجولى بها . لم الاحظ قبلا أنك تشعرين بالقيود تكبلك. لم لم تأخذى سيارة الرولز رويس؟ كانت ستحدث وقعا أشد تأثيرا وفعالية .
شعرت بالاكتفاء من هذا الجدال :- تأثيرا على من ، يا أوليفر؟ مامن أحد أريد التأثير عليه . كيف كان غداءك مع ميلانى فى المقابل؟
ابتسم للمرة الاولى منذ وصولها الى المنزل، فتسللت الغيرة محرقة الى قلب آنا. حاولت اقناع نفسها باستحالة أن تشعر بالغيرة لأنها لم تعد مغرمة بأوليفر. لكن ذلك لم يحدث فرقا يذكر .
لقد تملكتها الغير، كما تتملكها دائما وتعتمل فى نفسها، بنارها المحرقة، كلما مرت فى بالها صورة أوليفر وميلانى سويا.
- ذهبنا الىضفة النهر. فهم يقدمون طعاما شهيا هناك، و...
- نعم ، أعلم ذلك . فقد اعتدت على اصطحابى أنا الى هناك فى السابق.
كانا قد اتفقا على جعل هذا المكان، مكانهما الخاص. وها هو الان يصطحب ميلانى اليه. الى أى حد قد تبلغ قساوته وفظاظته؟
- آه، هذا ما كنت أفعله؟
تكلم وهو يضحك استغرابا كما لو أنه تذكر الامر لتوه فقط .
- وأين هى الان اذن؟ توقعت أن تمضى بقية اليوم معها ايضا.
- لديها مشاريع أخرى. لمست آنا خيبة الامل فى صوته فأضافت:- هل تجاوزتما خلافاتكما؟ وهل عدتما معا مجددا؟.
- لم تسألين؟ هل يزعجك الامر ؟
- لا، على الاطلاق . انه الفضول وحسب. ليس عليك اخبارى بأى شئ.
هذا ما فعله، مما أثار قلقها الى حد لا يطاق. كانت السيدة غرين قد أعدت لهما طعام العشاء. كل ما كان على آنا أن تفعله هو وضع قطع الدجاج على النار ومزج سلطة الخضار. انفرد أوليفر فى مكتبه طلب منها أن تتصل به عندما يجهز كل شئ.
لذا، لم تكن مستعدة لمواجهته، عندما استدارت وهى واقفة عند المغسلة ورأته يراقبها. ارتفعت يداها الى حنجرتها بشكل تلقائى، قبل أن تقول :- لقد أخفتنى منذ متى وأنت واقف هناك ؟.
لمحت لجزء من الثانية بريقا يسطع فى عينيه الذهبيتين، ما لبث أن تلاشى فى لحظة. لعلها تخيلته، الا أنه جعل الحرارة تندفع فى كل خلية من دمها .
- ما يكفى لأعرف أنك ستبدين أفضل بكثير فى هذا الزى ان لم تلبسى شيئا تحته.
ارتدت آنا الزى الخاص بالسيدة غرين لحماية ثيابها الحريرية. فشعرت بالاحمرار يصبغ وجهها حين تخيلت ما عناه بكلامه. فهى لا تريد أن تفكر فيها بهذا الشكل، ليس بعد أن عاد لصداقته القديمة مع ميلانى، ما الذى يحاول تحقيقه؟ أن يلهو معهما هما الاثنين؟ ولأى سبب تحديدا؟.
- ظننت أنك تعمل.
- لم أستطع التركيز.
ألانه يفكر فى ميلانى؟ متسائلا عن الشخص الذى ذهبت لرؤيته؟ لكنه، ان كان يخطط لاستغلالها مجددا فى غياب الفتاة الاخرى ، فأنه سيلقى خيبة أمل كبرى. لن ترتكب الخطأ نفسه مرتين.
فقالت ببرود وقد فاجأها ثبات صوتها :- سيجهز العشاء فى وقت قصير . ان أردت، بامكانك شرب كوب من العصير فى هذه الاثناء.
- فكرة جيدة . هل أسكب لك كوبا؟
- لا أظن ذلك.
أرادت أن تبقى بعيدة عنه لأطول فترة ممكنة، لتستجمع قواها وتهيئ نفسها للساعة التى ستمضيها معه على العشاء. أرادت أن تجهز دفاعاتها وتحصنها كى لا تسمح له بأختراقها كما فعل البارحة .
كانت لاتزال فى حيرة من أمرها، لا تجد جوابا لتساؤلاتها حول الاسباب التى دفعته لحملها الى غرفة نومه وسريره فى لحظة ومن ثم تجاهلها فى اللحظة التالية. لابد لها أن تعترف بأن الجاذب الجسدى لطالما جمعهما برباط قوى تصعب مقاومته. لعله الجزء الوحيد الذى قام عليه هذا الزواج! الجزء الذى أخطآ تفسير اشاراته وظنا أنه الحب.
عاد أوليفر وهو يحمل كأسين من الكريستال، وقد ملأهما بعصير الليمون قائلا:- لاأحب أن أشرب وحدى.
كان كوب العصير مغريا جدا فى هذا الجو المحموم. لم تكن الحرارة المرتفعة فى المطبخ متأتية فقط من الفرن! فشربت العصير بسرعة وتوتر.
- هل أسكب لك كوبا آخر؟
- لا. شكرا. أشعر بدوار مفاجئ لا أدرى سببا له !
- عظيم! لعل السبب فى ذلك يعود الى الحرارة المرتفعة! حرارة الفرن بالطبع .
- عظيم ؟ ما هذا؟ يسعدك أن أشع بالدوار وأن أفقد توازنى ؟
- أبدا، أبدا. بل بالعكس، فأنا أفضل أن تكون نسائى بأتم عافيتهن وكامل وعيهن وهن برفقتى.
هل قال : نسائى؟ وكم يبلغ عددهن؟ هل هناك غيرها هى وميلانى فى حياته؟ أم أن ذلك مجرد صورة مجازية فى التعبير لم يقصدها حرفيا؟ أم لعلها تبالغ فى ردة فعلها ! اختارت الاحتمال الاخير، وأملت فى أن تكون مصيبة فى تقديرها.
- وأنا كذلك، افضل أن أكون دائما بكامل عافيتى وأتم وعيى.
- باستثناء أنك لا تنجحين دوما فى تحقيق ذلك.
رفع حاجبه بثقة، فاصطبغ وجه آنا باللون الاحمر من جديد.هل كان عليه أن ذكرها بالسهولة التى تستسلم له فيها فى كل مرة، والسهولة التى يتحكم هو بها؟ لكن ذلك لا يحدث الا معه. أتراه يعلم ذلك؟
- لا يجب أن تشعرى بالاحراج . فهذا من الامور التى أعشقها فيك.
- هل مازلت تعشقها؟ وتمكنت من جعل نبرة صوتها عادية ولا مبالية. كأن الموضوع لا يعنيها، وكأنها تتكلم عن شخص آخر.
- هناك أشياء لا تزول قط، يا آنا.
كان صوته مثيرا الى حد الجنون. كيف يستطيع فعل ذلك بها؟ كيف يمكن لصوته الابح أن يشعل فى روحها النار. نظرت اليه حانقه لترى على وجهه قناعا يحجب أى تعابير. أضاف:-تماما كرائحة الحريق ، فهى تتطلب عصورا لـ ...منتديات ليلاس
التفتت آنا نحو الفرن جزعة، وأسرعت لاخراج ما تبقى من قطع الدجاج المحروقة، كيف سمحت له بلفت انتباهها الى هذا الحد ؟
- أنت من تسبب بذلك. لم لم تبق بعيدا عن طريقى ؟
- كم تبدين شهية وجميلة عندما تغضبين.
تنهدت وهى تتمنى أن يحجم عن ملاعبتها بهذا الشكل لكى تتمكن من مقاومته هذا المساء.
- لن ترانى شهية أن رميتك بكل هذه القطع المحروقة. من الافضل لك أن تخرج من هنا على الفور بينما أتخلص أنا من هذه الفوضى، وأنظف المكان.
وضع كأسه على الطاولة وخطا خطوة بأتجاهها قائلا:- لم لا تدعينى أفعل ذلك؟
لكن آنا لم ترده أن يتدخل فى ذلك، أرادته أن يخرج على الفور:- لا فقط أخرج من هنا ، هلا سمحت؟.
ها هى تبالغ فى ردة فعلها ثانية، لكنها لم تستطع التحكم بنفسها. فقد جرها الى حاله من التوتر بحيث أن مجرد أقترابه منها سيكون سببا فى انفجارها. واقترب منها بالفعل، وحاول مساعدتها، لكنها قاومته فوقعت قطع الدجاج أرضا:- أنظر الان ماذا فعلت؟ وانفجرت باكية بشكل مفاجئ.
ارتعب أوليفر وأهتز كيانه عند رؤية آنا تبكى ، كان يكره أن يرى أى امرأة تبكى، فذلك يشعره بقلة الحيلة والارتباك. هل عليه مؤاساتها أم يستجيب لطلبها ويبتعد عن طريقها؟ المنطق ينصحه بالذهاب ، لكن غريزته دفعته لوضع الطبق من يدها جانبا وأخذها بين ذراعيه ليحضنها بقوة ، ويقول برقة :- انها ليست نهاية العالم. سنأكل فى الخارج.
- أين ؟ على ضفة النهر ؟
كان أوليفر قد شعر بالاسى فى طريق عودته الى المنزل. وأدرك حجم خطئه فى اصطحاب ميلانى الى هناك. كانت الفكرة من اقتراح ميلانى، ولم يكن هو يفكر بشكل سوى. كل ما كان يعرفه أنه يعيش فى دوامة مخيفة منذ أن فقد رشده وأخذ آنا الى سريره.
لقد جعله ذلك يزداد شوقا وتوقا اليها، والى الحياة التى عاشاها فى ما مضى. لكن زواجه انتهى بشكل سئ جدا، لذا تمسك باقتراح ميلانى كونها تمثل النقيض الذى كان يشعر بالحاجة اليه.
لاشك فى أن موت ادوارد ترك أثرا بالغا وجرحا عميقا فى نفس ميلانى المحطمة. فقد كانت تحب عرابها الى حد بعيد، وبالرغم من أخطائها، شعر أوليفر أنه لا يستطيع التخلى عنها كليا فى هذا الوقت العصيب. لكنه لم يستمتع بوقته، بل أحس براحة وخلاص عندما أعلنت ميلانى أن لديها مشاريع أخرى لبقية اليوم.
عند وصوله الى البيت، لم يجد آنا فجن جنونه واستشاط غيظا. فقد كان تواقا لامضاء المزيد من الوقت معها ، بالرغم من علمه يقينا بأن ذلك سيغرق روحه فى العذاب.
ان ما أراد القيام به بشدة عند عودتها هو أخذها واحتضانها بين ذراعيه ومعانقتها من دون توقف. لكنه يعلم أن ذلك لن يقدم الحلول الشافية، لذا حمى نفسه بالغضب ليبقى بعيدا عنها ... ولا شك فى أنه نجح فى ذلك لوقت قصر.
لكنه عجز فى مكتبه عن حصر تركيزه فى العمل، وكل ما كان يراه على شاشة حاسوبه هو وجه آنا الخلاب وعينيها النابضتين بالحياة وشعرها المتموج الحريرى وثغرها الواسع البالغ الاغراء.
دفعه ذلك لبحث عنها فوقف فى باب المطبخ لدقيقتين قبل أن تلحظ آنا وجوده. وكاد يطلق العنان لرغباته وينقض عليها يشبعها تقبيلا لولا أن استدارت ورأته. حتى الان. فان احتضانه لها وتهدئته لغضبها، ما كانا ليخففا حدة شوقه اليها. لكنه قال :- بامكاننا أن نذهب الى حيث تشائين.
- لست جائعة.
كذلك كانت حاله هو ايضا. فالجوع الذى كانا يشعران به هو جوع من نوع آخر، كان يعلم فى قرارة نفسه أنه ارتكب جرما لا يغتفر حين سمح لقلبه بأن يتحكم بعقله عندما سألها الزواج به.
|