كاتب الموضوع :
هدية للقلب
المنتدى :
روايات احلام المكتوبة
4 - اصمت واحتضنى !
أصرت آنا على الذهاب مباشرة الى السرير عندما رجعا الى المنزل رغم أن الساعة لم تكن قد تجاوزت التاسعة الا بقليل . ان رفض أوليفر التشكيك فى صحة اتهامه لها ، واعتقاده جازما أنها قدمت المال بغية تحقيق مآرب شخصية ، جرج آنا فى الصميم بحيث باتت تتجنب تعريض نفسها لمزيد من تلك الاتهامات . أرادت أن تمضى معه أقل ما يمكنها من وقت.
سمعته يصعد السلالم الى الطابق العلوى بعد منتصف الليل بقليل، وسمعته يتريث عند باب غرفتها. فانتظرت وهى تتساءل ان كان سيفتح الباب ويدخل . راحت دقات قلبها تعلو وتعلو الى أن أصمت أذنيها، مترافقة مع دقات الثوانى والدقائق.
منتديات ليلاس
لكنه تحرك أخيرا، لحسن حظها . ثم سمعت صرير باب غرفة النوم وهو يغلق، كان دوما يصدر هذا الصرير وقد وعدا نفسيهما باصلاحه. حينها فقط أدركت أنها كانت تحبس أنفاسها طيلة الوقت .
ماذا تراه جال فى ذهنه وهو واقف خارج باب غرفتها؟ تمنت لو تقنع نفسها بأنه أراد بشدة الدخول والتعبير لها عن حبه العميق كما يفعل فى السابق بلهفة وحماس شديدين. لكنها أدركت أن الامور لن تعود الى سابق عهدها، فذاك الجزء من حياتها قد طويت صفحته الى الابد.
هل علمت حقا فى يوم من الايام ما الذى يجول فى رأس أوليفر؟ هل كان مسرورا أم آسفا لما آل اليه زواجهما من نهاية حزينة؟ هل ينوى المباشرة باجراءات الطلاق ما أن تنتهى الجنازة ؟ أم أنه نادم بشدة على أنفصالهما لكن كبرياءه وعنفوانه يمنعانه من التراجع عن موقفه؟
عندما لم تنزل آنا لتناول الفطور، أحضرت السيدة غرين صينية الطعام الى غرفتها وقالت :- أنها أوامر أوليفر. يجب أن تأكلى شيئا. قال انك بالكاد لمست عشاءك ليلة أمس .
تثاءبت آنا وهى تجلس فى سريرها نعسة، وقالت :- أنت لطيفة للغاية يا سيدة غرين . ثم رفعت الغطاء عن الطبق وشهقت حين رأت كمية الطعام المتنوع من البيض المخفوق الى اللحم الى الفطر والخبز والعسل والزبدة والمربيات .
- لكنى لن أستطيع تناول كل ذلك !
فقالت مدبرة المنزل بحرارة ودفء:- لقد فقدت بعض الوزن.أراهن على أنك لم تأكلى جيدا منذ مدة طويلة. والان تناولى فطورك كالفتيات الجميلات. سأضع لك فنجان شاى على الطاولة، هل أسكبه لك ؟.
- أستطيع تدبر أمرى . شكرا لك .
وما أن غادرت السيدة غرين الغرفة حتى دخل أوليفر. كان شعره لا يزال رطبا بعد الحمام، ويرتدى بنطالا أسود وقميصا حريريا أبيض . بدا هزيلا وشاحبا فاعتصر قلبها لرؤيته بهذه الحال. قال:- هل أحضرت لك السيدة غرين ما أمرتها به ؟.
- هذا يتعلق بما أمرتها أن تحضره .
- لم تأكلى ما يكفى ليلة البارحة، ولم تنزلى لتناول الفطور هذا الصباح، ولم يبق على موعد الجنازة الا ساعة واحدة. أى لعبة تحاولين أن تلعبى معى؟
شعرت آنا بخوف لم تعرف له سببا :- لم أدرك كم أن الوقت متأخر لم يعد أمامى الوقت الكافى لتناول الفطور . سأقوم بـ ... لكن أوليفر كان حاسما :- تناولى طعامك. لا أريد أن يغمى عليك فى الجنازة .
- شرط أن تغادر الغرفة. فلا أستطيع تناول فطورى وأنت تراقبنى بهذه الطريقة .
لكن ما كان يربكها هو النظر اليه والى عينيه المشعتين. كان الناس كلهم مجتمعين فى المقبرة، أفراد العائلة والاصدقاء وزملاء العمل، الكل كان حاضرا يشارك أهل العزاء حزنهم حين لاحت من بعيد امرأة فارعة القامة، أنيقة المظهر، نحيفة، رشيقة فى بزتها السوداء وقبعتها التى تظلل وجهها، وراحت تشق طريقها نحوهم .
لم تكن لدى آنا أى فكرة عن هوية المرأة التى وصلت متأخرة، لكنها رأت أقارب أوليفر، خاصة المسنين منهم، يتغامزون ويتهامسون من دون أن يبتسم للمرأة أى منهم أو يلقى عليها التحية .
كان أوليفر آخر من رآها ، وعندما فعل، لاحظت آنا أن عينيه ضاقتا بحدة وشهق تحت وطأة المفاجأة. وحين نظرت الى يديه، كانتا منقبضتين بتوتر شديد. الا أنها لم تعرف من تكون المرأة الا بعد عودتهم الى المنزل .
كانت السيدة غرين، بمساعدة مدبرة منزل السيد ادوارد قد أعدتا أصنافا عديدة من الاطعمة للحاضرين. وقفت آنا الى جانب أوليفر قرب الطاولة بينما شرع الباقون بتناول الطعام .واذا بالمرأة التى أحدثت كل تلك الجلبة والتوتر، تظهر فجأة أمامهما .
قالت بصوت أبح وشفتاها المغريتان يعلوهما ما يشبه الابتسامة :- أوليفر يا لك من رجل وسيم أنيق، أنت لا تعلم بالطبع من أكون، لكن ...
أجابها بصوت متشنج قاس :- أعلم من تكونين . ماأرغب فى معرفته هو السبب الذى أتى بك الى هنا .
مررت المرأة أصابعها ، بأظافرها المطلية باللون القرمزى على ذراعه بنعومة. وقالت:- ما الذى كان يقوله ادوارد عنى؟ جئت لأقدم تعازى الحارة بزوجى الراحل . ما من جريمة فى ذلك، أليس كذلك؟ .
شعرت آنا بثغرها ينفتح واسعا، فقد قيل لها ان والدة أوليفر توفيت . كيف يعقل أن تكون هذه والدته ؟ لكن مجرد النظر اليها كان كافيا لترى السبه الكبير بينهما ، خاصة أنفها الدقيق المستقيم وشحمتى أذنيها الظاهرتين. فى الواقع كان أوليفر يشبه والدته أكثر من والده .
أجابها أوليفر بهدوء:- باستثناء أنك لم تعودى زوجه ادوارد .
ابتسمت المرأة ، وشفتاها الزاهيتان تنبضان بالشر :- ألم يخبرك والدك يا عزيزى ، بأننا لم نتطلق قط؟ أعلم أن ذلك يرجع الى ثلاثين سنة خلت، لكننا بطريقة ما لم ننهى الامر. لم أتزوج ثانية، تماما كادوارد لذا تركنا الامور كما هى عليه ، تعلم كيف .
- لا . أخشى أنى لا اعرف كيف . وأظن أنه من الافضل لنا جميعا أن تغادرى المكان فورا.
لكنها ابتسمت وقالت :- لا أستطيع المغادرة، يا أوليفر. أريد أن أسمع الوصية. الا ان كنت تعلم مسبقا ما تحتويه ؟
أرغم أوليفر على الاعتراف بجهله بما فى الوصية :- سيأتى محامى والدى بعد ضهر اليوم لقراءتها.
- ظننت أن الامور يجب أن تسير على هذا النحو. فقد كان لإدوارد آراء تقليدية حول العديد من الاشياء ... لم لا تقدمنى الى .. زوجتك حسبما اظن؟
قام أوليفر بذلك بنفور وثقل . وصافحت آنا يد المرأة المثلجة، لكن ما ان تركهما لتختلط بالاخرين حتى سألته آنا رغما عنها :- أوليفر كنت أظن أن والدتك توفيت عندما كنت صغيرا ؟
أعترف أوليفر بتجهم :- كانت لديه نوايا محددة وأهداف .. هذا ما كان والدى يرغب فى اعتقاده. فقد هجرته روزمارى بعدما خسر أمواله فى صفقة فاشلة. قالت انه لا ينفعها فى شئ من دون أمواله. انها مشكلة المال مجددا !
- وأنت تذكرها جيدا ؟
- احتفظت بصورة لها، كما رأيتها فى مجلة التايمز فىأخبار المجتمع. فهى نادرا ما تبقى من دون رجل .
- هل تعتقد حقا أنها ووالدك لم يتطلقا قط ؟
- هذا ما أنوى أن أسأل شارلز ميلر عنه، فأنا أظنها كاذبة انها تعرف مدى اتساع ممتلكات والدى. وقد حاولت مرة أو مرتين خلال تلك السنوات أن تعود اليه مجددا لكن من دون جدوى.
- لا يبدو وكأنها تعانى من نقص فى الاموال. فهذه البزة التى ترتديها من تصميم أكبر دور الازياء العالمية. لعلنا نظلمها؟ لعلها أتت لتقدم تعازيها ؟
- أرغب فى تصديق ذلك . لكنى لا أظن ذلك صحيحا .
فى وقت لاحق، سألته آنا بهدوء بعدما جلس الجميع فى غرفة المكتب بانتظار سماع الوصية :- ماذا قال شارلز بشأن والدتك؟
فأجاب :- لم يحصل أى طلاق. يبدو أن والدى ضن أنه ينتقم من روزمارى بعدم منحها الحرية لتتمكن من الزواج برجل آخر .
لطالما كان اسم روزمارى محرمت ذكره فى منزل آل لانغفورد وكان ادوارد فى المقابل يصب جام غضبه على الطفل الذى تركته وراءها .أمسكت آنا يد أوليفر بتعاطف ليس الا، لكن شعورها ما لبث أن تحول الى نار استعرت فى أعماقها وراحت تتأجج شيئا فشيئا الى أن كادت تختنق هى وأوليفر سويا. كيف يمكن للمسة بسيطة أن تسخر من تصميمه وعزمة على أنهاء هذا الزواج؟ فقد أثبتت أنها ليست بأفضل من روزمارى أو ميلانى. ما خطبه؟ لم هو عاجز عن طردها من قلبه وفكره وحياته ؟
عندما قرأت الوصية، عرف الجميع أن الحصة الاكبر من ممتلكات ادوارد انتقلت الى ابنه. ووزعت مقادير صغيرة على مختلف الاقرباء، وخصصت نسبة صغيرة لميلانى. أما آنا فلم تحصل على شئ، كذلك روزمارى .. مما اغضب والدة أوليفر .
استحال وجه المرأة الى اللون القرمزى فانتفضت وهبت واقفة على قدميها :- أريد الاعتراض على الوصية. أنا أشكك فى صحتها . أنا زوجة ادوارد ، لايمكنه أن يحرمنى من كل شئ .
أجابها شارلز بصوت أجش واثق :- هذا خيارك. لكن على ابلاغك الان يا سيدة لانغفورد، بانك لن تتمكنى من الوصول الى شئ باعتراضك .
أمسك أوليفر ذراع آنا ورافقها الى خارج غرفة المكتب قائلا :- لنذهب الى منزلنا . ستتولى السيدة هاغز اقفال الابواب حين يخرج الجميع . الطريقة التى لفظ بها كلمة منزلنا. أثلجت صدر آنا. بدا كأنه يعنى بها منزلها هى أيضا، حبذا لو كان ذلك صحيحا .
كانت الاشهر الستة التى أمضتها معه خلال زواجهما ملأى بالسعادة، تفيض بالحب والضحك الى حد يصعب معه الاعتراف بانتهاء كل شئ وزواله ان حاولت جاهدة قد تستطيع الادعاء أن شيئا لم يحدث قط وأنهما لا يزالان غارقين فى الحب والوئام .
ما ان دخلا الى المنزل وخلع سترته وربطة عنقه وفك أزرار ياقته، ثم ارتمى على كرسيه المفضل فى غرفة الجلوس، حتى كادت تصدق ادعاءها. بدأت الراحة تتسلل الى خطوط وجهه لتزيل عنه التوتر والشحوب، حين علا طرق عنيف وحاد على الباب. شرع أوليفر يلعن ويشتم، فقالت له آنا فى محاولة لعدم تضييع هذه اللحظات الثمينة :- لاتفتحه .
- قد يكون شارلز متلهفا للهروب من هناك مثلى تماما . على ان أتكلم معه.
لكنه لم يكن شارلز فقد سمعت آنا عندما فتح أوليفر الباب صوت روزمارى، روزمارى الغاضبة الى حد الجنون. صاحت فى وجه ابنها :- الهروب هو لعبه الجبان. ما الامر ؟ ألم تحتمل مواجهة الموقف ووالدتك تغضب محاميك المقدس ؟ .
أجابها بهدوء :- أشك فى قدرتك على اغضاب شارلز .
- حسنا، لا يعتقد أنى سأتنحى جانبا وأستسلم بكل بساطة .لى الحق فى قسم من أموال ادوارد .
حافظ أوليفر على هدوئه مما أثار اعجاب آنا :- بامكانك الاعتقاد كما تشائين، لا شأن لى بالامر البتة . لاحظت آنا انه لم يدعها للدخول ، ولا تستطيع القاء اللوم عليه، فلا بد أن والدته هى آخر شخص قد يحبه أوليفر .
- لك كل الشأن بالامر. ان كنت ابنا جيدا، فأنت من سينصفنى ويعطينى حقى، فلا أعود بحاجة للمرور عبر المحامين والقضاء. كل ذلك سيكلفنى الكثير من المال لـ ...
قاطعها أوليفر سريعا :- أنا متأسف، لكن حسب رايى أنت تخليت عن حقك بأمومتك يوم هجرت هذا المنزل .
انتظرت مقطوعة الانفاس ،تنصت بأنتباه الى ما ستقوله روزمارى ربما يتوجب عليها أن تنضم اليه لتقدم له بعض الدعم . لكن روزمارى قررت على ما يبدو الاكتفاء بما قالته. سارت عائدة نحو الممر، واستدارت عندما بلغت الطريق العام. تمكنت آنا من رؤيتها عبر النافذة، بذقنها المرفوع عاليا وظهرها المستقيم وشفتيها القرمزيتين الغاضبتين فى وجهها الشاحب الجميل. ثم قالت بصوت عال :
- أنت لم تر النهاية بعد. سأكون فى الجوار لبعض الوقت . لاتظن أنى سأفر من هنا بهدوء، فهذا ليس أسلوبى وطبعى .
كان أوليفر يشبهها أكثر مما يتصور . هذا ما شعرت به آنا وهى تراقبها. فهما لا يشبهان بعضهما بعضا فى الشكل الخارجى وحسب ، بل يملكان التصميم والعناد نفسيهما لتحقيق هدفهما عندما يظنان أنهما محقان.
حين عاد الى الغرفة، كانت ملامحه قد استعادت حالتها الاولى :- آسف لما جرى .
علمت آنا أن لحظات الراحة التى عرفاها سويا عندما بلغا المنزل قد تلاشت. كان أوليفر يتألم بشدة، وتمنت لو أن باستطاعتها فعل أى شئ للتخفيف من حدة ألمه .
- لنأمل أن روزمارى ستتقبل فشلها فى هذه المعركة تحديدا، وستختفى بلباقة مجددا .
- ان روزمارى من الاشخاص الذين لا يعرفون سوى الاخذ والاستئثار بكل شئ لنفسهم. الشئ الوحيد الذى اعطته، طيلة حياتها، هو الحياة لى، ولادتى. والفائدة القليلة التى حصلت عليها.. أو حصلت أنا عليها جراء هذا الامر .
قطبت آنا حاجبيها :- ما الذى تعنيه ؟
- ليس الامر بهام ... آه، يا له من يوم !
- الجنازات ، دائما ما تكون مصدر للارهاق والتوتر .
- بعضها أكثر من البعض الاخر ... تعالى الى هنا، أنا بحاجة اليك .
أرعب طلبه آنا لكنها لم تستطع الرفض، فراحت فى المقابل تقترب منه ببطء، وعيناها مسمرتان على عينيه، متجاهلة صوت نبضاتها الصارخ والاحمرار الذى صبغ بشرتها الرقيقة وارتعاش مفاصلها.
عندما شدها أوليفر لتجلس فى حضنه ووضع رأسها فى تجويف كتفه، صدى لاحتقان فشل فى اخفائه . خفق قلبها فى تجاوب واثارة. فقد جلسا بهذا الشكل مئات المرات من قبل، ولم يؤد ذلك فى كل مرة الا الى شئ واحد .
مرر اصبعه على وجنتها كأنه مشحون بالطاقة، وسألها بهدوء :- متى ستعودين الى ايرلندا ؟.
تأوهت آنا فى نفسها متذمرة :- أكان عليه التطرق الى مثل هذه الامور فى اللحظة التى ترى فيها الجنة أمام عينيها ؟ لم ترد أفساد هذه اللحظات الثمينة باجراء الاحاديث .
ما أرادته بالفعل هو أن يحضنها بشوق ودفء وحب. أن يحضنها كما كان يفعل فى السابق بشغف وعشق لامثيل لهما. أرادت أن تشعر بنفسها زوجة له وحبيبة، أرادت ... أرادت الكثير، الكثير ...
- آنا ؟
- ... أوه ، غدا ...
أو ربما قبل ذلك بكثير ان كان سيعاملها بهذه الطريقة. قبل ذلك بكثير ! وأضافت :- لكنه اجراء مؤقت . فسأعود الى لندن فى وقت قصير، وأجد لنفسى عملا . .... والان ، أصمت واحتضنى ...
ظلت للحظة تسمع صوت نبضاته وأصابعه المرتعشة تتنقل على وجنتها ثم على حنجرتها، تسرح خصلات الشعر الحريرى الى الوراء ، وتتريث قليلا عند ثغرها الجميل .
ثم تكلم مجددا :- هل ستكونين سعيدة فى لندن ؟ أذكر أنك أخبرتنى كم كنت مسرورة لخروجك من سباق الفئران ذاك .
فأجابت بصوت مختنق :- كنت مسرورة، نعم . لكن على الفتاة أن تكسب عيشها .
أخطأت فى اختيار ما تقول ... فأجابها :- أو تجد لنفسها زوجا ثريا يحقق لها رغباتها ويغذى نزواتها . فكرى فى الامر، فأنت لست مختلفة جدا عن روزمارى .
انتفضت آنا مبتعدة عن حضنه، والغضب يسطع فى عينيها، واثارة من نوع أخر تحبس الهواء داخل رئتيها المحتقنتين :- كيف تجرؤ ؟ كيف تجرؤ على مقارنتى بتلك المرأة ؟
كانت توشك على اضافة الكثير مما لديها، لكن حدسها نبهها الى أن أوليفر عانى اليوم بما يكفى، ولعله لم يكن يفكر بشكل سوى .
- تعتقدين اذن أن لاسبيل للمقارنة بينكما ؟ ربما يجدر بك النظر الى الامور من زاويتى انا.
- أعتقد أنك مرهق ولا تدرى ما تقول. والحقيقة أنى متعبة أنا كذلك. أظننى سأصعد الى غرفتى وأحاول الحصول على قسط من الراحة .
جهدت آنا لتحافظ على هدوئها الظاهرى، برغم كل الغضب الذى كان يغلى فى عروقها . لدهشتها، سمح لها بالذهاب، لكنها ما ان غادرت الغرفة حتى سمعت تأوهه. ( ليتأوه وحده هذا الغبى. كأنى آبه له) . هذا ما خطر لآنا وهى متجهة نحو غرفتها .
وهاهو الآن يصب غضبه وسخطه عليها، وكادت أن ترد له الصفعة، لكن ذلك سيخلق حتما المزيد من المشاكل . لم تدر آنا كم كانت الساعة عندما أتى أوليفر الى غرفتها. فقد غفت على سريرها، ورأت فى حلمها أوليفر يلاحقها حول احدى البحيرات فى سكون الليل .
أفاقت على صوت صرخاتها لترى أوليفر واقفا قرب السرير. كان الظلام دامسا، ما خلا النور الباهت المتسلل من الخارج حيث البدر. لم تكن متأكدة مما اذا كانت تحلم، فصرخت :- ابتعد عنى !
بدلا من ذلك ،جلس على حافة السرير واحتضنها، قائلا بلطف :- لا بأس. كنت تحلمين .
فاعترفت له بهدوء :- كنت أحلم بك . فى الواقع ،كان كابوسا.
- أعتقد أنى قلت أشياء ما كان يجدر بى قولها .
- لا تعتذر .
بعد أن احتضنها مرة ثانية بين ذراعيه، شعرت آنا برحابة صدرها وتسامحها. لم ترد حتما الدخول فى جدال معه، رغم أنه ما كان ليقول تلك الكلمات لو لم ير فيها شيئا من الحقيقة. وهو لن يتقبل قط ما قالته عن الاسباب التى دفعتها لوهب ذلك المال، والتى تبعد بكثير عن أى دوافع أنانية. وسيكون أملها فى بناء مستقبل لهما غير ذى جدوى ,
استمر أوليفر فى احتضانها، وراحت عيناه تشعان ببريق أخاذ فى عمقه ومعانيه أربك آنا فباتت لاتدرى كيف تستجيب. بقيت ساكنة بين ذراعية وهى تسمع نبضات قلبه المتسارعة بجنون .
كان لاحتضانه لها معان أخرى! فانحبست أنفاسها وأغمضت عينيها لكى تحجب عن بصرها صورة هذا الرجل الذى كان زوجها بالاسم فقط . لن يكون من الحكمة أن تدعه يتمادى معها أكثر من ذلك، لكن أنى لها أن تمنعه ، وفى كل ثانية يزداد شوقها اليه التهابا وتتسارع خفقات قلبها لتتناغم مع خفقات قلبه هو؟ بعد كل ما حدث بينهما، وجدت آنا نفسها تهيم بعطره المثير، كأن شيئا لم يتغير!!
* * * * * * *
كان الخروج من غرفة آنا كأنه العذاب بذاته، فشوق أوليفر اليها بلغ حدا لا يمكن احتماله. كما أن الطريقة التى ساندته فيها اليوم وهى تلازمه طيلة الوقت وتحرص على تعزيته وتهدئته وتطييب خاطره كانت الشعلة التى ألهبت مشاعره بعد أن ظنها قد خمدت منذ زمن طويل .
كانت آنا بروحها وجسدها تمثل كل ما أراده يوما فى المرأة، وتجسد صورة شريكته المثالية، لكنها لسوء الحظ كانت شأنها شأن سائر بنات جنسها من النساء، تركز اهتمامها على أمور أخرى. لم يشكل المال لدى المرأة دائما نقطة الاهتمام الاولى ؟
عندما عارضت آنا فكرته حول فتح حساب مصرفى لها، معتبره اياه يبالغ فى كرمه معها، مؤكدة له اكتفاءها بمصروف المنزل ليس أكثر صدقها. وخطر له كم أنها رائعة حقا، ومختلفة ومتميزة الى درجة كبيرة، فأنعشت الفكرة روحه، وعززت حبه لها .
لكنها لم تكن مختلفة البتة، بل تفكر وتخطط بطريقة أخرى. فقد أرادت أن تنتظر ريثما يصبح المبلغ يستحق العناء، فراقبته وهو يكبر ويكبر، الى أن اعطته لعشيقها السابق، ان كانت كلمة سابق تعكس حقيقة الواقع. فمن المحتمل أنه لايزال عشيقها، كما خطر لـ أوليفر. هل يعقل أنها كانت تحيك خيوط مؤامرتها وتدبر مكيدتها منذ البداية؟ قالت له ان تونى لم يكن معها فى ايرلندا، لكنه يشكك الان فى صحة أقوالها.
فى كل مرة يعيد فى ذهنة تلك الافكار ، كان الدم يغلى فى عروقه. فهو لم يصدق أبدا قصة اخيها التى روتها له فأخوها رجل أعمال ناجح ليس بحاجة للمال .
كان الرجل، حسب الوصف الذى قدمه له والده، طويل الاقامة اشقر الشعر وسيم الطلعة بهيها .. وكان هذا الوصف يتطابق مع ما سبق لها ان روته عن تونى. لابد أنه هو! وصفق أوليفر باب غرفة نومه وراءه .
شعر بالرضى عن نفسه لخروجه من غرفتها، ولعدم استسلامه لمشاعره المجنونة التى تجيش فى صدره كلما كان وحيدا برفقتها. فهى امرأة فائقة الحيوية تنبض بالحياة والطاقة، بشعرها الاحمر وعينيها الخضراوين مما يجعل من مقاومته لها أمرا مستحيلا.
لكن جزءا من بريق هذه المشاعر وتوهجها خبا بعد ظهورها مجددا من أجل الجنازة. هل يعود السبب فى ذلك الى الحزن والكآبة اللذين تفرضهما هذه المناسبة، أم الى ادراكها بأن منبع المال السريع الجاهز الذى كانت تغرف منه قد نضب؟ وهو يراهن على رجحان كفة الاحتمال الثانى.
وضبت آنا حقيبتها قبل أن تنزل الى الطابق السفلى، اذ لم يعد من المنطقى تأخير رحيلها. اكتشفت أن أوليفر قد تناول فطوره وخرج من المنزل، فسألت مدبرة المنزل وهى تحضر لها فنجانا من الشاى :- هل ترك لى رسالة؟ هل ذهب الى العمل ؟.
لم يكن من عادته أن يغادر المنزل فى هذا الوقت المبكر من الصباح فأجابتها المرأة :- ليست لدى أى فكرة. هل ترغبين فى تناول البيض المخفوق والفطر أم اللحم والطماطم ؟
- قليل من الخبز المحمص من فضلك .
لوحت السيدة غرين باصبعها محذرة :- لن يروق هذا للسيد أوليفر فقد أعطانى أوامر صارمة بوجوب تناولك فطورا مغذيا.
كان عليه اذن أن يبقى ليحرص على تحقيق ذلك . شعرت آنا بالاهمال من غيابه، فهو يعلم أنها سترحل اليوم. الا يريد أن يودعها؟ هل أخطأت فى قراءة الاشارات وتفسيرها فى الليلة الماضية؟ وما كان السبب وراء صفق الباب وراءه بهذه الطريقة؟
خطر لها أن السبب يعود ربما الى شوقه اليها، لكنها مخطئة بلا شك فهو لم يعد يرغب فيها، بعد أن عاد الى رشده وأدرك انها تمثل العدو وليس الحبيب. حسنا، ان هذا كله يناسبها، وعندما يعود الى المنزل اليوم تكون قد رحلت ولن يراها ابدا بعد الان.
لكن قبل أن تبتعد آنا عن طاولة الفطور، أعلنت لها السيدة غرين ان لديها زائرا :- انها روزمارى لانغفورد. قلت لها أن أوليفر ليس هنا لكنها قالت انها ترغب بالتكلم معك. جعلتها تنتظر فى غرفة الاستقبال.
لم تشأ آنا التحدث الى روزمارى، لا الان ولا فى أى وقت آخر لكن يبدو أن لامفر من ذلك:- حسنا يا سيدة غرين امنحينى خمس دقائق فقط ثم تعالى لانقاذى. افتر ثغر مدبرة المنزل عن ابتسامة مشرقة :- بكل سرور.
كانت روزمارى ترتدى بزة أخرى سوداء من الصوف النقى وحذاء عالى الكعبين. وخطر لآنا أ، للسيدة روزمارى ساقين جميلتين ممشوقتين بالنسبة الى عمرها. فى الواقع، كانت امرأة حادة الذكاء، بشعرها الاسود الحريرى المعقود هذا الصباح فى ضفيرة أنيقة. لم يبدو عليها بالتاكيد انها بحاجة الى ثروة ادوارد. وقد شعرت آنا كم أن ثيابها رثة بقميصها القطنى وبنطالها الجينز، وهى تقف امام السيدة البالغة الاناقة.
كانت المرأة واقفة بالقرب من النافذة ترقب الخريف فى الحديقة استدارت عند دخول آنا الى الغرفة، فلمحت هذه الاخيرة قرطيها الذهبيين اللماعين ولاحظت ابتسامتها المصطنعة ورأت عينيها الرماديتين القلقتين الحذرتين قبل أن تقول :- لطف منك أن تقابلينى .
من الجيد انها لم تدخل فى صلب الموضوع مباشرة هذا ما خطر لآنا قبل ان تجيبها مسرعة :- آسفة لان أوليفر ليس هنا .
- لم أت الى هنا لكى أرى أوليفر .اريدك أن تكلميه من اجلى، ياآنا اريدك أن تقنعيه بوجوب حصولى على نصيبى من أموال ادوارد .
ما من شئ أفضل من التكلم بصراحة تامة ومباشرة. لكن آنا أرادت بشدة أن تضحك فى وجه المرأة :- آسفة .لااستطيع فعل ذلك .
- لم لا ؟
- لأن الامر لا يعنينى البتة.
شعت عينا المرأة ببريق خبيث :- لأن اسمك لم يذكر فى الوصية ايضا ؟ أتساءل عن الاسباب وراء ذلك ! هل ظلمك ادوارد كما فعل معى أنا؟
هزت آنا رأسها بثبات وحدة، فهى لن تدع هذه المرأة تضعها فى خانة واحدة معها، وتتكلم كما لو انهما سويا ضحيتا الوصية :- أعتقد ان ظروفى بعيدة كل البعد عن طبيعة ظروفك أنت .
التوت شفتا المرأة القرمزيتان فى ابتسامة ماكرة:- أوه ، لاأعلم! سمعت أن زواجكما يوشك على الانهيار. لم تتمكنا البارحة من خداعى بتمثيليتكما الرائعة .
سألتها آنا :- وما علاقة ذلك بالموضوع ؟
وبرقت عيناها غضبا وكادت ان تفقد السيطرة على اعصابها. فقد رأت روزمارى وميلانى تتغامزان فى الجنازة وهما تنظران اليها، فلم يكن من الصعب عليها معرفة مصدر معلومات المرأة. لكنها حتما لن تقدم لها متعة اكتشاف حجم الهوة التى باتت تفصلها عن أوليفر. فخاطبتها المرأة مجددا :- أعنى أننا نحن الاثنتان عانينا على أيدى رجال عائلة لانغفورد وصدقينى ياآنا ،ان ساعدتنى أم لا ففى نيتى أن أحارب للحصول على ما أراه حقا من حقوقى .
بلغت وقاحة المرأة حدا معقولا ! كيف لها ان تفكر ، بحق السماء بأنها تستحق الاستفاد من ممتلكات ادوارد؟ بعد كل ما فعلته به!
- اذن فستحاربين وحدك. لاأريد أى دور فى هذا .
- فى الواقع لقد بدأت فعلا. لقد انتقلت للعيش فى المنزل العائلى .
ان نغمة الانتصار فى صوتها وشموخ رأسها وبريق عينيها جعلت آنا تنظر اليها بحدة قائلة :- أنت لست جدية فى ما تقولين ؟. سمعت آنا رنين الهاتف يتعالى من بعيد ، لكنها لم تعره اهتمامها، فما تريد سماعه هنا أشد أهمية.
- عندما عدت الى هناك البارحة ، كان الجميع يغادر المكان، ولم يلحظنى أحد . فتجولت فى الطابق العلوى ووجدت لنفسى غرفة نوم مريحة. فى الحقيقة، اعتقدت فى يوم من الايام ان ادوارد سيفقد هذا المنزل الرائع. لقد قللت من قدر أعماله وشأنها. وأجده الان افضل حالا بكثير مما كان عليه سابقا . هل يفكر أوليفر بالانتقال للعيش هناك ؟
ظهرت السيدة غرين عند الباب :- انها مخابرة لك آنا .
صلت آنا لكى يكون أوليفر المتصل، فعليها أن تطلعه فورا على ما تفعله روزمارى :- هل هو أوليفر؟
- لا، انها المخابرة التى كنت فى انتظارها .
-آه ، نعم .شكرا لك قد يأخذ هذا منى بعض الوقت روزمارى أعتقد أنه من الافضل أن تغادرى الان .
لميبد الانزعاج على المرأة فقد أنهت كل الكلام الذى أتت لقوله لآنا :- ستخبرين أوليفر بما عرفت ؟
- من الطبيعى أن أفعل .
- شكرا لك لمقابلتى .
وخرجت من المنزل والابتسامة تعلو وجهها المشرق. فسألتها مدبرة المنزل :- هل تصرفت بشكل جيد ؟ لقد بدا عليك القلق والاضطراب الشديدين .
- رائع سيدة غرين. هل هناك أحد على الهاتف حقا؟
ابتسمت المرأة :- لا اتصلت من الرقم الاخر الذى وضعه السيد أوليفر فى مكتبه لاستخدامه عندما يشغل الرقم الاول، وهو متصل بشبكة الانترنيت
- لم أكن أعلم انك ماكرة الى هذا الحد يا سيدة غرين !
- حسنا، مهما يكن ما فعلته، فقد أدى الى النتيجة المرجوة اليس كذلك؟
- من دون ادنى شك. والان، على أن أجد أوليفر وبسرعة . هل حقا لا تعلمين أين هو ؟
- أشعر وكأنه خطط لرؤية محاميه.
عندما سمع أوليفر بالخبر، كانت صدمته شديدة. وفى وقت قصير جدا بعد ذلك، رأت سيارته منطلقة من أمام منزله متجهه الى المنزل العائلى الكبير ...
مرت ساعة كاملة قبل أن يعود، وكانت آنا بانتظاره بفارغ الصبر، فلاقته عند الباب. هب قلبها لملاقاته قبلها عندما لمحت الخطوط الواضحة المحفورة بعمق بين حاجبيه والحزن والكآبة فى عينيه. أرادت أن تواسيه ، أن تحتضنه... فقال :- اسف لأنها أقحمتك فى كل هذا .لقد تدبرت أمر التخلص منها ... فى الوقت الحاضر .
- هل تعتقدين أنها ستبقى فى الجوار فى الوقت الذى تطعن فيه بصحة الوصية ؟ أين تعيش فى الواقع ؟
أجابها باختصار :- لاأملك جوابا على أى من السؤالين . ثم أضاف :- ولا يمكننى القول أن الامر يثير اهتمامى . لكنى استطيع شرب فنجان من القهوة بشهية كبيرة . هلا طلبت من السيدة غرين أن تقوم باعداده بينما أصعد لتبديل ملابسى ؟
بعد عشر دقائق ،كان أوليفر يجلس أمامها وهو يحدق فيها . قال معلقا وهو ممسك بفنجان القهوة بين راحتيه :- من كان ليظن أن الامور ستتبدل على هذا النحو ؟.
كانت قهوة آنا على الطاولة الى جانبها . سألته ويداها ممدودتان بوضوح على حجرها :- ماذا قال لك شارلز ؟.
جلست بهدوء وسكينة أمام أوليفر ، لكنها كانت تتأجج غضبا فى داخلها من تصرفات روزمارى . فليس لديها أى حق فى التسبب له بهذا القدر من الاسى والحزن وهى والدته .
- قال انها لاتملك أساسا تبنى عليه الطعن. لكنى لا أظن ذلك كافيا لردعها وايقافها. فقد عزمت باصرار وعناد على الحصول على حصة من الميراث هذا ما تفعله مع كل رجل يمر فى حياتها ، وهم كثر .قمت ببعض التنقيب والبحث، ولا يسرنى فعلا ما اكتشفته .
لم تشعر آنا بوجوب السؤال عن المزيد من التفاصيل فلم يعد الامر من شأنها :- هل ستنتقل للعيش فى المنزل الكبير ؟
- لن أعيش هناك قط. سأعرضه للبيع مع هذا المنزل أيضا .كان جوابه سريعا ومحددا بنبرته ومعانيه . فوضعت آنا فنجانها على الطاولة وتابعت :
- لكن المنزل الكبير هو ملك لعائلتك منذ أجيال عديدة أوليفر .كيف تستطيع فعل ذلك ؟.
هز كتفيه بلامبالاة :- بامكان المنزل أن يكون كوخا متواضعا، هذا المكان ليس سوى كومة من الاحجار والطين ، وهو كبير جدا بالنسبة الى . لاأدرى لما واصل والدى العيش فيه .
- هل قلت هذا لروزمارى ؟
- لا . لكنها ستعود الى هناك كاللص فى ظلمة الليل لتأخذ كل ما تقع عليه يدها. انها تظننى سأنتقل للعيش هناك . ولنأمل الا تكتشف العكس قبل أن يفوت الاوان .
شربت آنا قهوتها قبل أن تقول :- ان توضيب كل الاغراض سيكون أمرا شاقا. أستطيع المساعدة ان أردت ؟.
انتفض قلبها فى صدرها وهى تعرض عليه المساعدة. أما لماذا قدمت عرضها هذا، فلم تكن واثقة ... فقد أتى صادقا عفويا من أعماق روحها .
ضاقت عينا أوليفر فى تساؤل :- ظننت أنك راحلة ؟
- ليس على أن أرحل الان. وبوجود روزمارى فى الجوار ، فكرت فى أنك قد تحتاج لبعض الدعم والمساعدة ؟
حدجها أوليفر بنظرة ثابتة حادة لفترة طويلة، جعلت آنا تشعر بالاعياء تحت وطأة عينيه المحدقتين، وراحت ترتجف أوصالها فى تجاوب تام . لا. لم يكن ذلك هو السبب الذة دفعها لتقديم المساعدة . هذا ما خطر لآنا وهى تحدث نفسها. فقد شعرت بالاسى والاسف لحاله، ليس أكثر.
- حسنا، شكرا لك آنا هذا لطف بالغ منك.
لكن حاجبه المرفوع فى تساؤل مشكك عكس تردده فى تصديق دوافعها . فأوضحت برقة وثقة :- لاأفعل ذلك لأنى آمل بالحصول على نصيب لى. أنا أفعله لأساعدك فقط لاغير.
بقيت العينان الذهبيتان مسمرتين عليها :- ولم قد ترغبين فى مساعدتى؟.
بدأ اللهيب يستعر ويستعر فى داخلها وراحت كل خلية فى أعصابها تنتفض نابضة بحبها له، فقالت بعد أن استعادت انفاسها :- لأننى ... لأننى لست بغريبة أو بعيدة عن حاجاتك. لعل زواجنا لم ينجح، لكن ذلك لا يعنى أنى أكرهك، أو أى غير مستعدة للقيام بشئ لمساعدتك .
- وما قد تكون هذه الحاجات ؟
خاطبها بنبرة دافئة مثيرة وعيناه تفترسان عينيها بطريقة أدركت معها أنه يعلم كل ما يجول فى خاطرها وما تطلبه عواطفها.
أخذت نفسا عميقا وقالت :- سيتطلب الامر أسابيع عدة للانتهاء من توضيب أغراض والدك، ولتحديد ما يجب رميه وما يجب الاحتفاظ به.
- وأنت مستعدة للبقاء هنا معى بينما يجرى كل ذلك ؟ من دون أن تطلبى شيئا فى المقابل ؟ توقف ما يكفى ليسمح لها باستعاب سؤاله ، ثم أضاف بمرارة :- حسب تجربتى، ما من امرأة تفعل أى شئ مقابل لا شئ !.
بتعبير اخر ، لايزال غير واثق بها .لعله يظن أنها ستسرق أوانى العائلة الفضية أثناء انشغاله . فأجابته بقسوة وعيناها تنضحان بلهيب أخضر زمردى :- ان كان هذا ما تظنه ، فمن الافضل أن تنسى عرضى لك . سأذهب لاقول للسيدة غرين انى لن أكون هنا على الغداء ، فلدى طائرة تنتظرنى . رفعت رأسها عاليا وهى تنتفض واقفة من على كرسيها.
لكن قبل أن تصل الى الباب ، هب أوليفر وقفز نحوها واضعا يده على كتفها :- لا، آنا لا ترحلى. أنا اسف ، لقد تأثرت جدا بعرضك. فأنت فاجأتنى، هذا كل ما فى الامر. سيسعدنى الحصول على مساعدتك.
ابتسم لها بصدق بلغ أعماقها فأخمد غضبها، وحدا بها الى مبادلته الابتسام، فافتر ثغرها ضاحكا وهى تقول:- أعدك بأنى لن أخيب أملك .
وهذا ما كان . ففى الايام التى تلت تلك الحادثة، استمتع أوليفر جدا بوجود آنا الى جانبه. كان هناك الكثير لانجازه، فعملا من دون كلل أو تعب جنبا الى جنب وساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم .
صنفا كل شئ فى مجموعات متنوعة. منها ما يجب الاحتفاظ به لاستعماله الشخصى، بالرغم من عدم كثرتها ... ومنها ما يجب رميه، ومنها ما يستحسن التبرع به ... وما تبقى يتم اما بيعه منفصلا واما مع المنزل .
وكلما كانا يمضيان الوقت معا، كلما عانى صعوبة جمة فى البقاء بعيدا عنها، أو غير مبال بها. لم تخمد مشاعره البتة نحو آنا ولو بمقدار ضئيل. لم تعرف عيناه النوم ليلا لكثرة ما راودت أفكاره ، متسائلا ان كان يجرؤ على الذهاب الى غرفتها . ما الذى قد يحصل ان هو فعل ؟ ان دعاها الى سريره الان، ستظن حتما أنه سامحها وسيولد الامل فى نفسها من جديد ... فى الوقت الذى لايزال هو فيه غير واثق من صدق دوافعها. أراد أن يثق بها، لقد أراد حقا . لكن تجربته السابقة علمته التزام جانب الحذر.
لكن كل نواياه الحسنة ذهبت فى مهب الريح فى صباح أحد الايام عندما تعثرت بسلك المصباح الكهربائى، فزلت قدمها ووقعت عليه. لكأن هذا المشهد ما هو الا صدى لليوم الذى التقيا فيه للمرة الاولى. لف ذراعيه حولها بشكل تلقائى، فاستنشق عطرها الاخاذ المثير ليحدث فى نفسه الوقع المخدر ذاته .
تأوه وهو يشد عليها بذراعيه وأدرك أن كل ما كان يدفنه فى داخله عاد للظهور وللحياة مجددا بقوة واندفاع يصعب التحكم بهما. وعندما لم تقاومه، وعندما راحت ترتعد بين يديه وهى تتنفس بمشقة، علم أنه لن يدعها تبتعد عنه لن يدعها تفلت منه .
أمسك بوجهها بين راحتيه وأخذ ينظر للحظات محمومة الى عينيها النابضتين بالنور قبل أن يتأوه ويعانقها. شعرت آنا بضعف يفوق قدرتها على ايقافه، فغرقت فى حالة من الاستسلام المطلق. وتاقت الى المزيد فقد مر وقت طويل منذ أن عانقها بهذا الحب والشغف .
همس فى أذنها :- آه، آنا ! آه مما تفعلينه بى .
واحتضنها بقوة أكبر وأكبر أطبقت على كل أمل لها فى الخلاص. لكن ، هل هذا ما تأمل به حقا؟ ولم هذا الشعور بالذنب الذى يتملكها وهى فى أحضان زوجها ؟ انه شعور مخيف بلا ريب لكن خوفها هذا زاد من توقها اليه ومن رغبتها فى عدم الابتعاد عنه.
وها هى كل المشاعر التى أبقتها سجينة فى أعماقها لفترة طويلة، تعود لتفيض بقوة أكبر جعلت من أى محاولة لايقافه مهمة مستحيلة. فشرعت فى المقابل، تبادله لمساته، الى ان رفعها عن الارض بذراعيه القويتين وحملها على السلالم الى الطابق العلوى . لم تبد أى مقاومة تذكر بل اكتفت بالنظر اليه باستسلام تام.
دخل بها الى غرفة النوم الرئيسة والقى بها على السرير بنفاذ صبر وهكذا، أمضيا سويا لحظات محمومة بالرغبة الملتهبة المتأججة التى لطالما قضت مضجعها فى ليالى الفراق الموحشة.
واستمرت تلك اللحظات الى ان استلقت الى جانبه ملقية برأسها على ذراعه. فخطر لأوليفر فجأة أن هذا ربما السبب الحقيقى الكامن وراء عرضها له بالمساعدة. لعل هذا ما كان يجول فى ذهنها منذ البدء.. ولعل هذه هى طريقتها للتقرب منه وأحياء زواجهما.
ولعلها تعتقد أنها بهذا الاسلوب ستتمكن من جنى المال الوفير منه! فشعر فى هذه اللحظة بالذات بالدم يتجمد فى عروقه.
*********************
|