ولم يمر إلا دقائق قليلة , حين سمعت صوت محرك سيارة أمام باب البيت , فقفزت من مكانها , وجمعت أورلقها , وهرعت صاعدة السلالم ألى الطابق العلوي , وظلت تسترق السمع للقادم الجديد , سمعت لغطا في الأسفل , لكن الصوت لم يكن صوت مارك , ثم سمعت بيدي تقول:
" قلت بأنك أتصلت بأهلها في بريوري , يا سيد تريفينون , ولكنهم لا يعرفون شيئا عنها , آمل أن لا يكون عك قد أخذه القلق عليها ".
" بالطبع إنه قلق جدا".
قال دومنيك , ثم أضاف ثانية :
" لقد أخذت حقائبها معها , مارك ذهب إلى المحطة , لكنه لم يعثر عليها , بالطبع أنت لا تعرفين شيئا عنها".
" كلا , في الحقيقة , لكن أظن أنه لا داعي للقلق بشأنها , لا بد أن لفتاة محبوبة مثلها أصدقاء كثيرين تستطيع أن تلجأ إليهم".
لم تنتظر موروينا أن تسمع جواب دومنيك , فأنسحبت إلى الغرفة , وجلست في الفراش واضعة وجهها بين راحتيها , ثم سمعت صوت أنغلاق الباب , ومحرك السيارة وهي تبتعد , لقد ظلت الآن وحدها في البيت , بعد أن أخذ دومنيك بيدي إلى تريفينون , نهضت من مكانها وأعدت القهوة , وإستمعت الى الراديو بعض الوقت , لكن صدى صوت دومنيك لم يفارق ذهنها , ثم أخذت تدور في أرجاء الغرفة , بينما فكرها يحلق في تريفينون , ترى ماذا يفعلون الآن ؟ وإلى أين وصلت حفلة العشاء ؟ هل تبادلوا الهدايا ؟ ماذاتبادل دومنيك وكارين من هدايا؟ وهل يقفان الآن يدا بيد وهما يتلقيان تهاني الآخرين ؟ وماذا عن بيدي ومارك ؟ ونيكولا؟ هل إ‘شترك معهم في الحفلة ؟ ثم هل فتحوا الآن هداياهم ؟ وأحست بالالم حين تذكرت دومنيك , وأنها لم تترك له أي شيء , لا هدية ولا بطاقة ولا حتى كلمة , ولكن ماذا يغيّر هذا من الأمر , أذا كان يكرهها؟ ثم ماذا بإمكانها أن تهديه ؟ كل الهدايا تبدو تافهة بالنسبة إليه.
كانت مفكرتها على الأرض , فأخذتها وبدأت تقلب صفحاتها , حتى وصلت إلى صورة لنفسها , رسمتها وهي واقفة على الساحل , وقالت في نفسها : ( لماذا لا أبعث هذه الصورة له؟ ) , كانت أفضل هدية تبعثها بالبريد من لندن , ولكن آنذاك سيكون العيد قد مر ولن تبقى مناسبة لأرسالها , لماذا لا تذهب ألى تريفينون وتضع الصورة هذه تحت شجرة العيد خلسة , أنهم الآن في قاعة الطعام , وسيبقون هناك طويلا , وبإمكانها أن تدخل قاعة الجلوس وتترك الصورة مع الهدايا بدون أن يلمحها أحد.
أخذت الصورة من المفكرة وكتبت إسمها عليها , ثم وضعتها في مظروف , كتبت عليه إسم دومنيك , ثم طلبت سيارة تاكسي بالهتف , وظلت تنتظر بعد أن إرتدت حذاءها ولفت ربطة صوفية حول رقبتها ورأسها.
طلبت من سائق التاكسي أن يتوقف على بعد من البيت , خشية أن يسمع أحد في الداخل صوت السيارة , ونزلت .
فتحت الباب بهدوء , كان الضوء خفيفا في الصالة , وكان باب قاعة الطعام مغلقا , تنبعث منها أصوات مبهمة , فسارت على أطراف أصابعها حتى قاعة الجلوس, وتركت المظروف مع بقية الهدايا تحت شرة العيد , ثم غادرت البيت كما دخلت بهدوء.
في الطريق إلتفتت إلى الوراء وألقت نظرة أخيرة على البيت , وفكرت أنها ستحن إليه رغم ما قاست فيه من آلام , كما أنها ستفتقد الشاطىء وأمواج البحر , فقررت أن تذهب وتلقي آخر نظرة على الساحل الأسباني , قبل أن تترك هذه المنطقة إلى الأبد.
سارت على ضوء المصباح اليدوي , حتى وصلت إلى الساحل , وكان الثلج ما يزال يسقط رغم أنه خف قليلا , ووقفت قرب الصخور وتطلعت إلى البحر , وإلى الأمواج التي تتكسر على الساحل مخلفة شريطا أبيض من الزبد , وأصغت إلى الهدير الذي يأتي في فترات منتظمة.
وجهت ضوء البطارية إلى الصخور , حتى وجدت مكانا يمكن النزول منه , فأخذت تنقل خطواتها بحذر خشية الأنزلاق والسقوط بسبب الثلج المتجمد, فنزلت عدة خطوات , ثم فجأة زلت قدمها وفقدت توازنها وهوت على الساحل وهي تطلق صرخة قوية.
أحست بألم شديد في ساقها , وحاولت أن تحركها لكنها شعرت بالإغماء فتيقنت أن كاحلها قد أصيب بالإلتواء , ظلت في مكانها فترة وهي ترتجف من الألم والبرد , ثم أخذت تزحف على يديها شيئا فشيئا بإتجاه الصخور , ساحبة رجلها ببطء , وأسندت ظهرها إلى الصخور المتجمدة وأغمضت عينيها , أذن عليها أن تظل هنا حتى الصباح حتى يأتي من ينقذها ويحملها إلى سانت أينا , أما كان جنونا منها أن تأتي إلى هذا المكان الموحش في منتصف الليل؟ أما كان بالإمكان أن تأتي في النهار وأن تمنع عنها كل هذه الألآم ؟
فتحت عينيها , ورأت أن الأمواج تقترب منها أكثر في كل مرة , وأن مساحة اليابسة التي بينها وبين الماء , تتقلص شيئا فشيئا , آنذاك عرفت أنه المد , وأن سيرتفع حتى يغمرها وربما يجرفها معه إلى البحر.
أطلقت صرخة قوية , لكن صوتها لم يخرج إلا ضعيفا أشبه بالمواء , وشعرت بالمياه وقد غمرت قدميها , فأستسلمت يائسة , ليأخذها المد في منتصف الليل , ويسلمها إلى البحر , ولينتهي هذا العذاب إلى الأبد , وداعا يا تريفينون , وداعا أيها الأحباء , وداعا يا دومنيك , فقط لو عرفت كم كنت صادقة في حبك , لو كنت عطوفا معي مرة واحدة , وأسمعتني كلمة حب واحدة , كم أحببتك يا دومنيك....... دومنيك..... دومنيك.
تناهى إلى سمعها صوت , صوت دومنيك وهو يهتف بإسمها ...... موروينا .....موروينا , فأستسلمت للحلم الجميل وللمد الذي غمرها حتى منتصف جسدها , فجأة شعرت بذراع قوية تحيط بها وتحملها وتشدها إلى صدر حبيب , وصوت دومنيك قائلا لها بلهفة:
" يا حبيبتي لقد وجدتك أنت سالمة , أهدأي , أهدأي , ولفي ذراعك حول رقبتي".
وفكرت , أنه حلم لذيذ , ما أكثر الألحلام , فتركت نفسها يحملها شبح أسود ويذهب بها.
حين فتحت عينيها , كان هناك ضوء خفيف في الغرفة , فعرفت أنها لم تكن تحلم , أدارت عينيها فيما حولها , كانت نائمة في فراشها وأنيز تحدق في وجهها بحنان وهي تقول:
" عيد سعيد يا عزيزتي , لقد قلقنا عليك!".
" أنا آسفة".