3- حنين في الليل
غرقت موروينا في الصمت للحظة , ثم قفزت واقفة بأنفعال , غير مبالي لشعرها الذي أنحلّت عقدته وأنساب على كتفيها مثل شلال من ذهب , وصاحت بغضب:
" ولكن من أنت حتى تحدثني هكذا؟ ولماذا فتحت تلك الرزمة ؟ أنها خاصة للسيد دومنيك تريفينون , ثم بأي حق دخلت عليّ هنا؟".
" أنت التي دخلت هنا , وليس أنا , يكاد وقتك أن ينتهي , لذت أنصحك بأن تجيبي على أسئلتي ".
" لا أرغب في قول شيء , أريد التحدث الى السيد تريفينون فقط".
" أظن أنك لا تمارسين لعبة سمجة معي , وأنك حقا لا تعرفين من أنا".
جمدت موروينا في مكانها وعيناها تحدقان في وجهه بدهشة , ثم همست:
" كلا..... لا يمكن ذلك , أنت لست......".
" بل أؤكد لك , أنا دومنيك تريفينون , أنا من أطلق عليه لقب ملك كورنوول غير المتوّج , وهذه هي قلعتي".
" كلا , لا أصدق ذلك , لا يمكن أن تكون أنت دومنيك تريفينون , أنت لست كبيرا في السن".
" أهذه كلمة أطراء؟".
" كلا ....... أنها ليست كذلك , ولكن حسب ما أعتقد أن دومنيك الحقيقي هو الآن في الستينات من عمره على الأقل".
لم يندهش من قولها , بل أحنى رأسه وكأنه يوافق على ذلك, ثم قال بهدوء:
" الآن أخبريني من أنت , وماذا تريدين؟".
سيطرت على أنفعالاتها وقالت بهدوء:
" يبدو أنني قد أسأت التقدير , ليس أمامي الآن سوى الأعتذار والأنصراف , هل تسمح لي بأخذ رسومي؟".
مدت يدها نحو الرسوم لكنه تجاهل حركتها تماما , وقال:
" ليس قبل أن تشرحي الأمر , لقد تحدثنا كثيرا حين ألتقينا في الطريق , فلماذا هذا التحفظ في الكلام الآن؟ ثم تذكّري أنك جئت لتسأليني أحسانا".
" ليس منك , بل من شخص آخر , ربما هو لم يعد حيا , والدك ربما , أو ...".
" عمي , أنه الآن في غرفته في الطابق الثاني".
" أذن , هل أستطيع مقابلته رجاء؟".
" كلا , بأمكانك مناقشة أي موضوع تودينه معي , وأذا كان الأمر يتعلق بهذه الرسوم , كأن ترغبين بيعها مثلا , فأؤكد لك مقدما أنك تضيعين وقتك هباء".
" كلا , لا أنوي ذلك أطلاقا".
قالت وهي تحدق في أماكن معينة في الجدار , بدا واضحا أن رسوما ما كانت معلقة فيها فيما مضى.
وكان هو يراقبها ثم قال:
" أنت على حق , كانت هناك رسوم معلقة هنا يوما ما , وكانت أكثر قيمة من رسوماتك هذه".
" أعترف أن الرسوم هذه ليست أفضل أعمالها , لكن لها قيمتها الخاصة عندي , أو أن هذا على الأقل ما أعتقده , وألا لما حضرت الى هنا".
" لماذا , هل تناسب بيوتامعيّنة ؟ أذا كان الأمر كذلك فكان الأجدر بك أن تبذلي جهدا أكبر في رسمها".
" كلا بالطبع , لأن التي رسمتها , وهي أمي , لاورا كير سلاك , قد عاشت هنا , كان هذا البيت بيتها حين كانت فتاة , وتريفينون عائلتها , العائلة الوحيد ة لها حتى تزوجت من أبي , أوه , أعرف أنها فقدت الصلة بكم جميعا , لكن......".
" هل هي التي بعثتك ؟".
أعترضها ببرود , هزت رأسها وأبتلعت ريقها قائلة بأسى:
"لقد ماتت منذ سنوات".
" أنا آسف".
قال بلا مبالاة وكأنه يؤدي واجبا ثقيلا.
رفعت موروينا رأسها وحدقت في وجهه بغيظ, وقالت بصوت خفيض:
" أنني سعيدة لأنها لا تسمعك الآن , وأنها ليست حاضرة لكي تعرف كم هم غير أوفياء أولئك الذين أحبتهم".
" أنت سريع الحكم على الآخرين , لقد قلت أنها فقدت الصلة بنا , ألم يخطر لك يوما أن تسألي نفسك , لماذا؟ لست أدري الى أي حد حدّثتك عن حياتها نا , ولكنني أقسم أنها لم تخبرك بمدى الخراب الذي تركته هنا حين رحلت".
" أنت تكذب!".
" ولماذا الكذب؟ قد يكون ما قلته مر المذاق لكنه الحقيقة ".
ظلت موروينا تحدق فيه بدون أن تجد ما تقوله , بعد فترة صمت قصيرة , بدأ هو الكلام ثانية وسألها:
" وماذا عن أبيك , السيد روبرت الأنيق , هل هو يعرف بمجيئك الى هنا؟".
" لقد مات هو الآخر , وشقيقي مارتين أيضا , قتلا في حادث سيارة قبل أسابيع قليلة , وجميع ممتلكاتنا أنتقلت الى أبن عمه , وههذه الرسوم هي كل ما بقي لي".
" يا ألهي , أذن هذا هو الموضوع , قصة والدتك نفسها تتكرر ثانية , قبل خمسة وثلاثين عاما وجدت أمك هنا ملاذا لها , واليوم تحاولين أنت الشيء نفسه".
قال بهدوء وهو يهز رأسه , نبرة الأزدراء التي كانت في صوته , جعلت موروينا تفقد صبرها تماما , وهمّت بأن تهجم عليه وتنشب أظافرها في لحم وجهه الأسود , لكنها تمالكت نفسها وقالت:
" أنك سريع الحكم أيضا , أعترف بأنني قصدتك باحثة عن ملجأ , ولكن ليس لي بالذات بل لهذه الرسوم , فكرت بأنك ستحتفظ بها عندك حتى أعثر على مكان لنفسي , وظننت أنك لو لم تفعل هذا من أجلي , فعلى الأقل ستفعله من أجل أمي , وها أنا الآن قد أكتشفت خطأ ظني".
أطلق ضحكة قصيرة وقال:
" أذن هذا هو الأحسان الذي جئت تطلبينه , يؤسفني أن أقول أنني لا أستطيع تلبيته لك , ما يزال في هذا البيت أناس ستسبب لهم أثارة ذكرى أمك بهذه الصراح ألما كبيرا , عمي واحد منهم , وهو مريض منذ سنين , وأفضّل أن لا ينزعج بسبب هذا الموضوع".
لم تصدق ما سمعته بآذانها إلا بصعوبة , ترى ما الذي حدث هنا خلال تلك السنوات ؟ ى يمكن لشيء أن يشوّه ذكريات لاورا كير سلاك عن دومنيك تريفينون.
شعرت فجأة أنها ترتعش , وقالت وهي تخرج صوتها بصعوبة:
" لا أعرف ما الذي جرى ويجري هنا , ولكن كل ما أستطيعه هو أن أغادر حالا , وأن أعتذر عن تطفلي".
حملت حقيب الظهر من جانب المقعد وسارت نحو الباب , لكنه إبتعد عن الطاولة وإعترض طريقها قائلا بنبرة حازمة:
" أنتظري لحظة , ليس الأمر بهذه السهولة التي تتصورينها , ما الذي كنت تبغينه بالضبط من مجيئك الى هنا؟".
" كنت أبغي شيئا قليلا , أن أدع هذه الرسوم هنا , هذا كل ما كنت أبغيه , لكن يبدو أن هذا أكثر مما يمكن لغريب أن يطمع فيه".
" يا له من أستعطاف , ولكن لماذا لم تكتبي أو تخابري مقدما قبل وصولك؟ ثم هل تصورين أنني تأثرت براواياتك هذه؟ أنه لم يعد , لسوء الحظ , إيواء المشردين من إهتمامات عائلتنا , وأمك هي سبب ذلك".
" أن تصدق قصتي أو تكذبها , هذا شأنك ,ولكن ما قلته هو الحقيقة".
" هل تحاولين أقناعي بأنه لم يرد ببالك أبدا , أنه ربما ستجدين مأوى لك هنا؟".
" لا أقدر أن أنكر ذلك".
نظرت موروينا إليه , كانت نظراته غريبة , وكأن أعترافها قد أدهشه , وفكرت أن هذا كان كل ما يود سماعه منها , سارت مرة أخرى نحو الباب , لكنه لم يتحرك من طريقها , ومرت من جانبه , وما أن مدت يدها الى المقبض , حتى أنفتح الباب فجأة بقوة , فتراجعت الى الوراء خطوة وهي تطلق صيحة خوف:
" أنا آسف.........".
قال الشاب الذي دخل وهو يتأملها بنظرة قلق , ثم أضاف :
" هل صدمك الباب ؟ لم أعرف أنك تقفين وراءه , فكرت أن دوم وحده في الغرفة.....".
" الآنسة ستغادر الآن".
قال دومنيك بلهجة باردة .
" حقا؟ هذا مؤسف , هل تعيشين الى جوارنا؟".
سأل الشاب بدون أن يخفي خيبته.
" أعيش في لندن".
قالت موروينا وقد داخلها شعور بالخوف والقلق من ترك البيت في مثل هذه الليلة العاصفة , لو أستطاعت أن تقضي ليلتها هذه تحت هذا السقف , أذن لتدبرت أمرها غدا , لكنها كرهت الفكرة , ورغبت فعلا بترك هذا البيت المظلم الواسع , وهذا الرجل الذي يتمتع بأذلالها , ورغبت أن تعرف ما حدث في هذا البيت حين كانت أمها هنا.
تكلم الشاب ثانية :
" حسنا , أذا كان لا بد من ذهابك , فكوني حذرة في قيادتك , هناك شجرة واقعة على الطريق , شاهدت جاك وهو يزيحها , لكن ربما هناك أشجار أخرى أيضا".
" لا أملك سيارة , أعتقد أنه ما زالت هناك باصات في الشارع الرئيسي".
" نعم , ولكن عددها قليل , ويتأخر وصولها عادة".
تأملها الشاب طويلا , ثم نظر الى وجه دومنيك , بينما كان هذا يستمع اإلى الحوار وعلى شفتيه إبتسامة باردة , سأله الشاب:
" ما الذي يجري هنا يا دوم؟ هل تتركها حقا تسير كل هذه المسافة حتى الشارع العام في مثل هذا الليل , وفي البيت ست غرف نوم فارغة؟".
فقالت موروينا :
" أوه من فضلك , لا بد أن أعود , فعندي أشغالي".
" أذن دعيني آخذك بسيارتي".
قال بإبتسامة حنونة أدخلت الدفء إليها رغم ما يحدث , ثم أضاف:
" أين تسكنين ؟ في القلعة , في بورت فينور ؟".
" كلا , في الحقيقة أسكن مع بعض الأصدقاء , ولا داعي لأن تزعج نفسك في هذا الليل ".
" أبدا..... أبدا , قل لها يا دوم بأنها لا تسبب لنا أي أزعاج , لماذا تقف هكذا ؟ ما الذي حلّ بك ؟ هل ستتركها تخرج من البيت في مثل هذا الليل؟".
منتديات ليلاس
رفع دومنيك تريفينون حاجبيه , وقال ببرود:
" الآنسة كير سلاك قادرة على تدبير أمورها , أنها شابة ناضجة , ولا أظن أن هناك داعيا للقلق بشأنها".
" من .... آنسة كيرسلاك ؟".
" أظن أنك سمعتني جيدا , الآن أعتقد أن الوقت قد حان لأن أعرفكما ببعضكما , آنسة كيرسلاك , هذا أخي الصغير مارك".
" أظن أن عليّ , بعد أن عرفتني , ألا أنتظر منك أن تأخذني بسيارتك".
" أبدا بالعكس, سآخذك أينما تشائين........".
سارت نحو الصالون بدون كلمة أضافية , حاملة حقيبتها , ولحق بها مارك ثم سارا بأتجاه الباب الرئيسي.
قالت موروينا:
" آسفة على كل ما حدث , كنت أجهل ما جرى هنا , حتى هذا المساء حين عرفت أن هناك صدعا بين العائلتين".
قال مبتسما وهو يدير محرك السيارة :
" لا بد أنها كانت صدمة غير متوقعة لك ".
" الحقيقة أنني ما زلت أجهل تماما ما أرتكبته أمي هنا , تحدث شقيقك السيد تريفينون عن البؤس والخراب , أنني أجد صعوبة في تصديق أن كلانا كنا نتحدث عن الشخصية نفسها , كنت مجرد طفلة حين ماتت أمي , لكنني لا أتذكر أبدا أنها كانت أنسانة مدمرة , بالعكس كانت دافئة , مبدعة , محبوبة من الآخرين ".
" ربما كان ذلك أساس البلاء".
" ماذا تعني بذلك؟".
" أوه لننسالموضوع , لا فائدة من نبش الماضي , أنا آسف أذا كان دوم قد عاملك بقسوة , وأظن أنه لا يستحق لوما على ذلك , فالأمر لم يكن سهلا عليه , وأن وصولك نكأ جراحه من جديد , وبالمناسبة لماذا جئت إلى هنا ؟".
" أردت من أخيك أن يحتفظ عنده لي ببعض الرسوم".
تأملها بنظرة جانبية حادة قائلا:
" هل تعنين بعض رسوم والدتك؟".
" نعم........".
أطلق صفيرا حادا من بين شفتيه وقال:
" يا إلهي , أن هذا حقا أستفزاز , أنه أشبه بأثارة عش للنحل !".
" ولكن لماذا ؟".
سألت موروينا وعلى وجهها إبتسامة حزينة , ثم فجأة ألتفتت إليه ورفعت يدها متوسلة:
" أوه يا إلهي .....أنني آسفة , هل تستطيع أن تعود بي إلى البيت ؟".
" لماذا بحق السماء؟".
سألها مارك مستغربا , وأوقف السيارة , ففقالت:
" لقد نسيت الرسوم على مكتب شقيقك".
تأملها مارك للحظات ثم قال :
" في الحقيقة لا أنصحك بالعودة ثانية الى هناك".
" لا أحتاج إلى نصيحتك , أنا أيضا لا أود الأقتراب من ذلك البيت , لكنني أريد رسومي".
" أسمعي يا عزيزتي , سأوصلك الى المكان الذي تقصدينه , أما الرسوم فسأجلبها لك صباحا , ما رأيك؟".
هزت موروينا رأسها غير مقتنعة , وقالت:
" أفضّل أخذها الآن , لكن يبدو أنه لا خيار لي".
" " سأجلبها لك غدا صباحا , هذا أفضل , صدقيني".
قال هذا وحرّك السيارة.
" لم أكن أعرف أنني منبوذة بهذا الشكل".
" كلا , لست كذلك , ليس الذنب ذنبك......".
خيّم الصمت بينهما لفترة , ثم سألها مارك :
" هل تعرفين شيئا عن موضوع الزورق؟".
" كلا..... أي زورق؟".
" حسنا , هل سمعت أمك وهي تردد أسم الليدي لاورا؟".
" لا....... أن أسم أمي هو الليدي كيرساك , وليس.......".
" كلا...... كلا , الليدي لاورا ليس أسم شخص , وإنما هو إسم زورق , صمّمه العم نيكولا , فقد كان في البحرية, وحين عاد منها بعد الحرب أقنع والدي بتأسيس مشروع لصناعة الزوارق , وكان إسم النموذج الذي صممه للأنتاج هو الليدي لاورا , بإسم أمك , في أية حال لا أريد إزعاجك بتفاصيل هذا الموضوع".
" لم تحدثني أمي عن أي شيء من هذا القبيل , كانت تحدثني عن تريفينون وأهله دائما , كانت ذكرياتها جميعا سعيدة".
سألها مارك مستغربا:
" أهذا صحيح ؟ يبدو أنها كانت قادرة على خداع النفس أيضا".
" كيف.....؟ بالله عليك , هلا أخبرتني بما جرى هنا ....... وماذا إرتكبت أمي؟".
" آسف , أذا كانت القصة مؤلمة , لكنك تريدين معرفة الحقيقة , حسنا , حين جاءت أمك لاورا ورندر , التي أصبت فيما بعد لاورا كيرسلاك , الى تريفينون أستطاعت في وقت قصير أن تفتن الناس جميعا وتكسب حبهم ومودتهم , ومن ثم أستعمال هذه العاطفة ضدهم , أنظري مدى معرفتي بطبيعتها مع العلم أنني لم أكن قد ولدت بعد حين جاءت إلى هنا , لقد تركت تأثيرا كبيرا على كل واحد هنا , وما زلنا نعالج من آثار معاملتها تلك , نفسيا وماديا".
وهمست موروينا ..... تحدث نفسها , وهي تحدق فيه بدهشة:
" نعم نتحدث عن الشخص نفسه , لقد نشأت هنا ورافقت خطوات تأسيس مشروع الزوارق وحين هربت , تركت العم نيكولا رجلا محطما , والمشروع خرابا , هل تعرفين بأنها كانت في سبيلها الى الزواج من العم نيكولا؟".
" كلا , ظننت أن أبي هو الرجل الوحيد في حياتها".
منتديات ليلاس
هز مارك كتفيه قائلا:
" ربما كان كذلك , لكنها أرادت العم نيكولا في السلسلة أيضا , لقد أراد أن يكون الزورق ( ليدي لاورا ) هدية زواجها , يعرف الجميع هنا أنهما كانا على أبواب الزواج حين ظهر والدك على مسرح الأحداث . لقد جاء إلى هنا لقضاء عطلته , فإلتقيا , وكان يزور البيت بشكل منتظم ويلقى الترحيب من الجميع , ولم يدرك أحد أن هناك شيئا ما يجري بينهما , حتى فرا معا , وليس هذا كل ما في الأمر , فحينما ذهب العم نيكولا الى المصنع , وجد أن تصميم الزورق ( ليدي لاورا ) قد أختفى من مكتبه".
" وتعتقد أن أمي...... أوه , أنني لا أصدق".
" والعم نيكولا لم يصدق الأمر في البداية أيضا , لكنه أكتشف ذلك بعد فترة قصيرة , حين ذهب الى معرض الزوارق , وهناك شاهد زورقه نفسه ( ليدي لاورا ) , وبالطبع لم يكن يحمل الإسم نفسه إلا أنه كان زورقه , لكنه لم يستطع أن يثبت بأن هذه نسخة مزورة من زورقه , غير أن مدير المبيعات ضحك كثيرا ونصحه أن يكون أكثر حذرا حين يختار صديقاته".
" يا إلهي.... وماذا حدث بعد ذلك؟".
" أفلست الشركة , فإضطر أبي إلى بيع أراضيه ليسدد الديون , لكن ما هز العم نيكولا , هو أن كل ما جرى له إنما كان من إمرأة أحبها جدا , لذلك لا تلقين الترحاب في هذا البيت".
قالت موروينا بعد صمت طويل:
" لا أصدق ذلك ...... إنها لم تكن من هذا النوع , ويستحيل أن تعيش كل هذه السنوات بدون أن يبدر منها شيء يثبت هذا السلوك الذي تتحدث عنه , إلا إذا كنت تعتقد أن والدي كان شريكها , وإنه هو الذي دفعها إلى ما فعلت".
" في الحقيقة لا نعرف الدور الذي لعبه والدك في الأمر , لكن ما زاد الطين بلّة هو أن والدك كان خاطبا لفتاة في المنطقة , وكانت الفتاة صديقة العائلة فتصوري الفضيحة التي وقعت في منطقة صغيرة مثل هذه".
شعرت موروينا كأنها تحت وطأة كابوس ثقيل , غير أنها سيطرت على أعصابها المتوترة , وتشبثت بما تؤمن بأن والديها لا يمكن أن يرتكبا مثل هذا الفعل , وقالت بعد تردد:
" لقد فهمت كل ما حدثتني به يا مارك , وحاولت جهدي لأن أصدقه , لكن بدون جدوى , لا أستطيع أن أصدق أن المرأة التي أتذكّرها , وكذلك والدي , يرتكبان مثل هذه الفعلة , ربما أنهما أحبا بعضهما , والناس عادة ينجرفون مع عواطفهم , لكن لا يمكن أن يقدما على بيع أسرار وتصاميم شركة الزوارق , لا أظن ذلك".
" لكن الشواهد كلها أثبتت أنهما فعلا ذلك , أو على الأقل هي فعلت".
" وكيف حكمتم أن هذه الشواهد ثابتة؟ هل أتصل أحد بأمي وأستوضحها الأمر؟".
" كلا , لا أحد من العائلة رغب في التحدث إليها , أو حتى رؤيتها , ولم يسمح العم نيكولا لأي أحد أن يدخل الغرفة التي كانت تستعملها , لقد أقفلها منذ ذلك الوقت وأحتفظ بمفتاحها , وأظن أنه دخلها مرتين قبل أن يقعده المرض".
" ماذا يعاني؟".
" أصيب بجلطة قلبية , أدت إلى شلل جزئي , لكنه من حسن الحظ تغلّب عليها وما زال يعالج , أن دومنيك لم يسمح لك برؤيته لأننا لا نريد أن نجازف ونعرّضه لصدمة أخرى بعد كل هذا الزمن".
أوقف مارك السيارة إلى جانب الطريق العام وقال لها:
" والآن , قلت أنك تبقين مع بعض الأصدقاء , أكان ذلك صحيحا أو مجرد عذر لأنقاذ ماء الوجه؟".
عضّت موروينا على شفتها وقالت:
" عندي مكان أذهب إليه , سأنزل هنا , وحين أسقر سأتصل بك حتى تبعث لي بالرسوم".
" حسنا , وإنني آسف لكل ما حدث".
" أنا آسفة أيضا".
قالت ذلك ثم أنزلت حقيبتيها , وظلت تراقب السيارة حتى أختفت تماما.
سرت في جسدها قشعريرة برد وخوف , أنها الآن وحدها وعليها أن تعثر على بيت بيدي , الفتاة التي ألتقتها في موقف الباص , علّها تؤويها هذه الليلة.
أنتظرت بعض الوقت , وحين يئست من وصول الباص , وأشتدت برودة الجو , قررت الذهاب ألى بيت صديقتها مشيا , فحملت حقيبتيها وسارت.
سمعت صوت محرك سيارة فظنت أنه الباص , ورفعت يدها مؤشرة بالتوقف , لكنها تجاوزتها ووقفت على بعد قصير منها.
كانت سيارة خاصة فيها شخصان , أغلب الظن أنهما زوجان , أطلت المرأة برأسها من النافذة وصاحت بها:
" إلى أين تريدين الذهاب؟".
" إلى سانت إينا........".
" حسنا , سنأخذك إلى هناك".
نزل الزوج وعاونها في وضع الحقائب في صندوق السيارة .
في هذه اللحظة توقفت سيارة أخرى إلى جانبهم , ونزل منها سائقها وإتجه نحوهم , لكن ما أن رأته موروينا حتى أصابتها الدهشة والخوف , كان ذلك دومنيك تريفينون.
قالت متوسلة إلى السايق الذي كان قد أنتهى من وضع حقائبها في السيارة:
" لنذهب بسرعة من فضلك.....".
" ماذا حدث؟".
" لا شيء...... لا شيء , فقط أسرع".
لكن دومنيك وصل إليهم وصاح بها:
" إلى أين تفرين يا آنسة؟".
حدّقت في وجهه لحظة وقالت:
" وماذا يهمك مني؟".
تجاهلها وأخذ يتحدث إلى الزوجين المندهشين :
" آسف لما حدث , سآخذها إلى البيت".
وقبض على ذراعها بقوة , لكنها أستطاعت أن تفلت من قبضته وقالت:
" وماذا تريد مني , هل أنت مجنون؟".
وألتفتت إلى سائق السيارة , وقالت له متوسلة:
" من فضلك لا تتركني معه , لا أعرف ماذا يريد مني , أنه رجل غريب".
وبّخها دومنيك بعنف قائلا:
" كفى تصرفا مثل الصغار الحمقى , هيا إلى السيارة , ولا داعي لكل هذا المشهد السخيف".
" لن أعود إلى بيتك ثانية بعد أن طردتني".
ثم أتجهت إلى الزوجين قائلة بتوسل :
" لا أريد الذهاب معه , أنه غريب عني ولا يعرف حتى أسمي , أسألوه أذا كان يعرف أسمي".
كان الزوجان يراقبان المشهد بحيرة وأستغراب , ثم تقدّم الزوج من دومنيك قائلا:
" يبدو أن الآنسة على حق , هل تعرف أسمها؟".
" أسمها موروينا....".
قال دومنيك بهدوء وهو يبتسم , حدّقت موروينا بوجهه في دهشة , وشفتاها ترتجفان من الغضب والخوف , وسألته بحنق:
" ولكن من أين عرفت إسمي ؟ لم اخبرك به , ولم أخبر حتى مارك , كيف عرفت؟".
أنزل الرجل الحقائب من السيارة وهو يضحك , وأخذ دومتيك الحقائب وقادها من ذراعها إلى سيارته .
سارت معه شاعرة بغضب وإذلال كبيرين , وقالت له وهما في السيارة:
" لن أغفر لك هذا , أقسم أنني سأنتقم منك , وستأسف كثيرا على ما فعلته بي".
" أنني آسف الآن , آسف لأنني آخذك إلى هناك , لا لأنني أود رؤيتك في بيتنا , لكن يبدو أن لعبتك نجحت , وأن عمي يريد رؤيتك الآن".
" عمك؟ ولكنك قلت.....".
" أعرف جيدا ما قلته.....".
قاطعها وهو يخرج يده من نافذة السيارة محييا الزوجين وهما يبتعدان بسيارتهما , ثم أستمر قائلا:
" لقد أخفيت الأمر عن عمي , لكن يبدو أنك ذكية , تركت تلك الرسوم على مكتبي عن قصد , ورأتها أنيز......".
" معذرة , لقد نسيت الرسوم هناك , ولم أتركها عمدا".
" تعرفت عليك أنيز حين شاهدت الرسوم".
" لم أكن أقصد ذلك , كنت مضطربة , لقد نسيتها هناك , ألم يخبرك مارك؟".
" أوه , لقد أخبرني , يبدو أنه أفتتن بك , ربما وجدته سهل المنال بعض الشيء , لكنك ستجدينني أكثر صعوبة منه".
" أنه أكثر أدبا ولطفا منك....".
" يبدو أنك أحببته أيضا.......".
" من حسن الحظ , لا أرغب في المحاولة , وكما قلت لك لست راغبة في رؤية بيتك مرة أخرى , كم أود لو أنك جلبت تلك الرسوم معك , أذن لركتني هنا أذهب إلى سبيلي".
" هذا ما حاولت فعله , لكن رسومك اللعينة لم تعد معي , أنها الآن مع عمي وهو يريدك".
" أظن أن هذا آخر ما تريده أنت........".
" نعم في الحقيقة , لكن أنيز حين رأت الرسوم أخذتها مباشرة اليه".
" ولماذا فعلت ذلك؟".
" هل تحاولين أقناعي بأنك لم تدفعيها إلى ذلك بشكل غير مباشر؟".
" بالطبع لا , يجب أن تصدقني ....... أتمنى أن لا تسبب تلك الرسوم أي أذى له".
" كلا من حسن الحظ , لكنه يريد أن يراك".
ساد صمت طويل إلى أن قطعته موروينا قائلة:
" لا أريد رؤيته من فضلك".
" ولماذا؟ ألم تأت إل هنا لهذا السبب؟".
" لكن لم أعرف أن الأمور تجري بهذا الشكل".
" هل لأن مارك أخبرك بالقصة , فتغيرت الأمور عندك ؟ أذا كان عمي يريد رؤيتك لبرهة فأظن أن من الإنصاف تلبية طلبه".
قالت له وقد وصلا إلى البيت:
" ولكن من أين عرفت إسمي؟".
أجاب بسخرية:
" مجرد تخمين , موروينا إسم من تريفينون , ويبدو أن لاورا كيرسلاك سرقته ضمن ما سرقت".
نزلت من السيارة وسارت معه بدون كلمة.
كانت أنيز واقفة تنتظر في الصالة بلهفة , وحالما دخلت أحتضنتها قائلة:
ط أوه يا إبنة لاورا ! كيف لم أعرفك يا عزيزتي؟".
صاح دومنيك بها :
" أنيز! دعي العواطف الآن , سأقول لك بعض كلمات فيما بعد".
تركت أنيز موروينا , وقالت له:
" لم يكن من الإنصاف أن تكون إبنة السيدة لاورا هنا , بدون أن يعرف السيد نيكولا بذلك".
" حسنا لقد عرف الآن , والفضل يعود لك , فهيا خذيها إليه".
" سيراها غدا في الصباح أنه نائم الآن".
" نائم! الآنسة كير سلاك لا تستطيع الأنتظار الى الغد, فهي تريد أن تلحق بقطار الصباح الذاهب إلى لندن".
" لا يمكن فعل شيء الآن , كان متعبا وتناول حبة منومة , وهو مستغرق الآن في نومه ".
" فهمت , أذن لا داعي لأن أطلب منك تهيئة غرفة للآنسة كيرسلاك ".
" بالطبع , فغرفها جاهزة , هي الأخرى متعبة بالتأكيد ...... تعالي يا عزيزتي معي.....".
منتديات ليلاس
كانت موروينا تتمنى لو أنها نامت في مكان غير هذا البيت , لكن تعبها كان فوق طاقتها , فمشت وراء أنيز إلى الطابق الثاني , ودخلت إلى غرفة واسعة , كان الفراش مهيئا والنار في المدفأة تشيع الدف في أرجاء الغرفة , وعلى فراشها كان هناك ثوب نوم من الطراز القديم , وحين رفعته إلى وجهها , أجهشت في بكاء عنيف ,لكن أنيز أحتضنتها مرة ثانية وهي تقول:
" ـهدأي يا عزيزتي .... نامي الآن بهدوء , أنت متعبة , سيسير كل شيء على ما يرام غدا".
لكن موروينا , وهي في الفراش , فكرت أن الأمور ربما ستؤول نحو الأسوأ في الغد.