1- على حافة الرحيل
بدا مطار لندن رتيب الحركة , كئيبا , وبعد أضواء كوالالمبور وتلونها والحياة المتدفقة فيها , أبنيته يغشاها رذاذ مطر خفيف , وبدا للمتأمل أنه يفتقد ذلك النمط الأستوائي الذي يطبع الحياة في كوالالمبور , حتى تلك النظرات المشتاقة المعذبة لمسافر عائد , بين زحمة الناس المندفعة للقاء أقارب وأصدقاء هم أنتظار , وبدا المكان باردا , غريبا , بمقدار ما بدت ماليزيا لستة أعوام خلت , هكذا تراءى لجولي وهي في أكتئاب , تضم كتفيها الهزيلتين تحت معطف ناعم ذي لون يحاكي لون رمال الشاطىء , كانت أشترته على نصيحة صديقتها باربرة لترتديه خلال رحلة العودة الى الوطن.
وها هي الآن ثانية في أنكلترا , وكان عليها أن تتقبل , بوسيلة أو بأخرى , حقيقة كون منزلها المتواضع في مدينة راتون لم يعد مأواها الذي كان , وأن تتكيف مع المستجدات والمتغيرات الطارئة كي لا يكون لها وقع أليم في نفس أيما.
منتديات ليلاس
كانت مضيفة الطيران جذابة تستحث المسافرين ليتقدموا نحو مراكز الجمارك وبوابات الخروج وهي تلوم لهم مبتسمة , مودعة , وتخص طفلة صغيرة , تمسكت بيد جولي , بألتفاتة لطيفة.
" وداعا أيما! ( قالت وهي تنحني أمامها لتمسك يدها..........)وشكرا لك , لمساعدتك أيانا في أثناء الرحلة , لست أدري ماذا كان في مقدورنا أن نفعل لو لم تكوني معنا في هذه الرحلة؟".
رفعت أيما عينين متسائلتين ناحية جولي , ونظراها في دوامة , ثم تحولت ثانية نحو المضيفة قائلة:
" أحقا ما تقولين؟ أظنني كنت , بحسب ما قالت لي والدتي , مصدر أزعاج أكثر مني مصدر مساعدة؟".
أتسعت عينا المضيفة:
" بل على العكس , ومن كان سيوزع كل تلك المجلات على المسافرين في الطائرة لو لم تكوني موجودة ؟".
تدخلت جولي , وملام أبتسامة عند طرفي شفتيها.
" كانت بادرة لطيفة منك أن تفسحي لها مجال مساعدتكم , فذلك ما خفف من وطأة مشقة السفر عليها".
أشارت المضيفة بحركة حبية تقلل من قدر أطراء جولي لها :
" لا بأس , سيدة بمبرتون , فقد سرنا وجودها".
" شكرا لك ثانية ( قالت جولي وهي تعض على شفتها , وألتفتت الى أيما ) ودّعي الآنسة حبيبتي , فنحن لن نلتقيها ثانية".
" وداعا , آنسة فوريست".
قالت أيما بنبرة مهذبة , ثم أنطلقتا وأبتسامة جولي , محيية , تنهي اللقاء.
كانت حقيبتاهما قد أخرجتا من دائرة الجمارك , وصودق على تأشيرة الدخول لهما , وبدا الجميع مهذبين ودودين حيال تلك السيدة الفتيّة التي ترافقها طفلتها ذات الخمس سنوات , فجأة أحست جولي بالبرد والقلق , وهي ترقب ذلك الحشد من الناس المنتظر بنفاد صبر , خارج قاعة الوصول , فضمت معطفها الى صدرها وأشاحت بنظرها بعيدا , كأنها تمنت لسبب ما لو تطول تلك اللحظة التي تسبق لقاءها وأهل زوجها مايكل ثانية , ولم تجلّ نظرها في جمهرة الناس ثانية ألا بعد أن أحست بيد أيما تشد على يدها وكلمات الطفلة تنطلق بحماسة :
" أين جدتي , هل يمكنك رؤيتها , أمي؟".
" لم ألمحها بعد , حبيبتي".
سألت أيما بأصرار :
" لكنك ذكرت أن جدتي ستكون في أنتظارنا , أليس كذلك ؟ أعتقد أنها في أنتظارنا بين الحشد الذي هناك , أليس كذلك؟".
أجابت جولي بتنهيدة:
" هذا ما أعتقده , عزيزتي , تعالي نستطلع أمر وصولها".
حملت جولي حقيبة في كل يد , رافضة أن تترك الأمر لحمّال , وأشارت على أيما أن تحمل حقيبة الكتف الصغيرة ثم خرجتا الى قاعة الأستقبال.
كانت لوسي بمبرتون وعدت بالحضور لأستقبالهما غير أنها لم تكن تلتزم مواعيدها دائما , ولم تفاجأ جولي أذ لم تر لها أثرا بعد في القاعة , كذلك , كان يمكن أن يبعث تخلفها بعد مضي ما يقارب ستة أعوام على لقائهما الأول ألما ومرارة في قلب جولي لو لم تكن الأشهر الثلاثة الأخيرة حفلت بأحداث تركتها مجدبة الأحاسيس حيال عدم قدومها لأستقبالهما.
وحدها أيما بوجهها المثقل خيبة أحست بعدم أطمئنان الى الأمر.
" أنها ليست هنا .... لماذا , أمي ؟ لم لم تحضر جدتي كما وعدت ؟".
مالت جولي ناحية الطفلة , مطرقة , ثم وضعت الحقيبتين أرضا .
" لا تحنقي , يا حبيبتي , غالب الأمر أن جدتك الآن في طريقها الى هنا , فزحمة السير على أشدها , ويبدو شبه مؤكد أن هذا ما جعلها تتأخر , أظنك تدركين هذا".
" نعم , أظن الأمر كذلك , ( ثم أستدركت بمنطق الطفل الذي لا يوارب ) .... ولكن لماذا لم تخرج باكرا لتتفادى التأخر؟".
هزت جولي رأسها دلالة تساؤل , وهي تنتصب ثانية .
" لست أدري , عزيزتي , ما رأيك لو ذهبنا ننتظر في المقهى ,هناك أقدم اليك كوبا من الحليب , نبقى ألى أن تأتي , كذلك يمكنني أن أتصل بها هاتفيا لأسأل عن أمرها".
منتديات ليلاس
قالت أيما وفي وجهها عبوس:
" ألن تفوتنا في هذه الحال , رؤيتها ؟ أعني , أنها قد تصل ونحن في المطعم , فلا تجدنا؟".
تنهدت جولي ثانية :
" كلا , أنظري ( وأشارت بيدها الى نوافذ المطعم المطلة على القاعة ) نحن أذا جلسنا قرب الناذة فسيكون في أستطاعتنا رؤية أي شخص , سواء كان داخلا أو خارجا".
لم تقتنع أيما بهذا التبرير , وأحست جولي فجأة بتبرم , لم يكن كثيرا منها أن تطلب من لوسي ألا تتأخر في حضورها , هذه المرة فقط , أما أدركت هذه الأخيرة أن المرء يمكن أن يكون تعبا ,مرهقا وغير أهل لتقبل الخيبة بعد سفر طويل؟
أرتعدت لدى سماعها نبرة خشنة , وكادت تقفز من مكانها , ثم أستدارت مترددة لتواجه صاحب الصوت مع أدراكها سلفا هوية صاحبه , أحست أن أعصابها تكاد تنهار , أذ هي لم تكن أستعدت بعد لتواجه روبرت بمبرتون خصوصا أنها متعبة وقد أنهكها السفر , بعد سنوات طويلة من الفراق.
" مرحبا , ربوبرت , كيف حالك؟".
صافحها بيد لا عزم فيها ونظراته الموجعة المتفحصة سياط تضرب أنحاء جسمها , كانت لديه المقدرة دائما على أن يختصر وجودها بنظرة ثاقبة , ألا أنها , هذه المرة , حاولت أن تخفي أرتباكها وأن تقنع نفسها بأنها لم تعد تلك الفتاة الصغيرة التي عملت معه في مؤسسته , بل هي الآن أمرأة , تزوجت ثم ترملت , لها طفلة في الخامسة , ويجب عليها , بالتالي , ألا تفكر في كل ما كان قبلا.
ترك بروبرت يدها قائلا بنبرة باردة:
" أنا في خير , شكرا , كيف حالك أنت؟".
" في خير , في خير".
تأملها روبرت فترة غير قصيرة ظنت خلالها أنه على وشك أن يأتي على ذكر مايكل , لكنه لم يفعل , ثم جلس القرفصاء قبالة أيما , وبادرها :
" مرحبا , أيما , هل تتذكرينني؟".
حدقت فيه أيما مليا ثم أجابت بكلّا صريحة , وأردفت :
" ألا أنك تشب والدي الى حد ما , وأفترض أن تكون عمي روبرت ".
" أنا هو ( أجاب روبرت مبتسما , وذابت البرودة التي واجه بها جولي , في كنف سحر أيما ) ومن أخبرك أنني أشبه والدك؟".
" أمّي أخبرتني هذا ( ورفعت الطفلة نظرها نحو والدتها وسألتها) أليس كذلك؟".
أومأت جولي برأسها موافقة , بينما لم تفارق نظرات روبرت وجه الطفلة.
ترددت أيما قليلا ألا أنها أستدركت , وأنفها يختصر تكشيرة:
" لكن ,لماذا تأخرت في الحضور ؟ وأين هي جدتي ؟ لقد قالت لي أمي أنها ستأتي لأستقبالنا , أين هي؟".
أنتصب روبرت ثانية وهو ينظر حوله متوسلا وجود حمال ينقل الأمتعة , ثم عاد ينظر الى الطفلة.
" لم تستطع جدتك المجيء , أذ هي متوعكة".
فجأة بادرته جولي بنظرة سريعة , وقد وبختها نفسها لسوء تقديرها الأمور.
بدا روبرت واثق النفس معتادا أعطاء الأوامر , وأحست جولي بضيق بداخلها كونه سيتولى مسؤولية تدبير أمر وصولها والطفلة متفردا على عادته المتعجرفة من دون أن يستشيرها في شيء أو يقدم اليها أيضاحا , أو حتى أن يخبرها أين هي والدته , وما سبب توعكها.
" هيا بنا , نتوجه الى حيث أوقفت السيارة , وفي طريقنا الى المنزل يمكننا أن نكمل حديثنا".
دست أيما يدها في يد أمها تشد أنتباهها , وهمست:
" ما رأيك . هل ننطلق الآن؟".
كانت نبرة صوتها متفاوتة القوة فلم يستطع روبرت منع نفسه من سماع ما قالته.
أجابت جولي وهي تجهد بأبتسامة :
" أعتقد ذلك , هيا بنا , وفور وصولنا نستحم ونبدل ملابسنا , هذا , الى أنك تبدين تعبة يا سيدتي الصغيرة".
صعد روبرت الى جانبها خلف المقود وأدار محرك السيارة بعصبية ظاهرة , سنتيمترات قليلة كانت تفصل موضع ساقه عنها , فما كان منها ألا أن تنحت قليلا , وللحظة شعرت بدفق من الذكريات , كانت أعتقدت أنها نسيتها , لكن حقيقة الحال لم تكن كذلك , وساءلت نفسها : ( أليس أقرب الى الواقع القول أن الفكر يسدل ستارة من النسيان على الأشياء المراد نسيانها ؟ ومتى مزقت الستارة.....).
كان روبرت يجيد القيادة ,وبدت أنامله تعالج مقود السيارة بسهولة ومهارة , ونظر على الطريق أمامه , وما أن خف الأزدحام في الطريق حتى بادر روبرت قائلا:
" توجد علبة سكائر في الصندوق الصغير أمامك ,أذا ما رغبت في التدخين".
" نا درا ما أدخن ( أجابت جولي وهي تستعين بأيماءة من رأسها ثم أردفت ) أرجو ألا تكون حال والدتك الصحية خطيرة".
حدّجها روبرت بنظرة قبل أن يجيب:
" أصابها زكام لا أكثر".
بادرت أيما:
" الى أين تأخذنا ؟ عمي روبرت؟".
سؤال الطفلة هذا , كان ما يخالج ذهن جولي منذ اللحظة التي تركوا فيها المطار , ألا أن الكلام أستعصى عليها آنذاك.
منتديات ليلاس
" نحن متوجهون صوب امدينة , عزيزتي ( أجاب روبرت ) فأنا أسكن هناك , في شقة , هل ترغبين في رؤيتها؟".
ألتفتت جولي بنظرة سريعة تسأله:
" أين هي والدتك؟".
للحظة , بدا وجه روبرت قاسي التعابير.
" لا تقلقي ,جولي , والدتي في أنتظارنا".
" لست قلقة ! ".
وملكت صوتها حدة لم تفلح في أخفائها , أذ هي كرهت الجو المتوتر الذي كان لا يكف عن أشاعته منذ ألتقاها , حتى أن أيما نفسها شعرت بهذا الجو , وهتفت بأنفعال :
" تقصد أن جدتي ستكون في أنتظارنا في الشقة؟".
" نعم , أنها مشتاقة الى رؤيتك ثانية".
بدت نبرة روبرت مختلفة تماما وهو يتحدث الى أيما , على رغم التصنع الذي شابها , أو هكذا ظنت جولي , في أي حال , وبعد كل ما كان بينهما , لم تكن تنتظر منه أستقبالا حارا , ألا أنها كانت تفضل الغضب عنوانا للقائهما على هذا التصنع الحضاري البارد الذي يبعث القشعريرة.
أستجمعت جولي شجاعتها , أذ كان عليها أن تعرف حقيقة الأمر وبادرته ثانية:
" أذن , والدتك تسكن معك؟".
هز روبرت رأسه نفيا:
" كلا , فهي تركت منزلها في ويتشموند كما تعلمين , وهي الآن تقطن شقة خاصة بها".
لم يكن في تصرف روبرت ما يشجع جولي على تقبل الوقائع في سهولة , هذا , الى أنه لم يأت على ذكر مايكل , وتساءلت جولي عن السبب , هل لأن حضور أيما يمنعه من ذلك ؟ أو أن هناك سببا آخر؟ غير أنه , في ظنها , مدرك أن في أستطاعتها وأبنتها الآن , بعد مضي ثلاثة أشهر على الحادثة , أن تتقبلا الأمر بواقعية , على رغم ما فيه من ألم وأسى , ولم يكن معقولا أن تتطرق جولي الى هذا الموضوع من تلقائها , ففضلت الصمت.
قطعت أيما الصمت المخيم:
" هل سيكون في أمكاني رؤية قصر باكينغهام من نافذة غرفتي؟".
ألتفتت جولي نحو أيما بنظرة لبست أبتسامة مهذبة ولفتتها قائلة :
" لندن ليست مثل راتون , عزيزتي , فالأبنية الشاهقة متراصة متجانبة الى درجة لا تسمح برؤية أشياء كثيرة ".
" وماذا نستطيع أن نرى أذن ؟ البحر , ربما؟".
أطرقت جولي للحظة ثم قالت:
" حتى البحر لن يكون في مدى الرؤية ( وأضافت بلهجة باردة ) أغلب الظن مزيد من الشقق والأبنية".
فجأة , تدخل روبرت قائلا:
" كفي عن دفع الطفلة الى النفور من المكان الذي ستنزل فيه , حتى قبل أن تراه( ثم أدار رأسه ناحية أيما موضحا ) في الواقع , يمكنك رؤية قصر باكينغهام من نافذة غرفتك".
توردت وجنتا جولي لكلامه , أما أيما فقفزت فرحة للخبر :
" هل هذا صحيح ؟ وهل الشقة مرتفعة الى هذا الحد؟".
" أنها شقة في ناطحة سحاب , أنها , في الواقع , في الطبقة الأخيرة من أحدى ناطحات السحاب".
" يا ألهي ( أنفجرت الكلمة من فم أيما لوقع كلامه , وأدفت ) كيف الصعود اليها ؟ هل هناك سلالم كثيرة حيث ندور وندور صعدا؟".
" بل هناك مصاعد".
أوضحت جولي وهي تحاول الحد من سخطها , ثم تبينت أن توضيحها هذا لأيما لم يكن كافيا , ألا أنها كانت تعبة , لكن , ألم يكن في أستطاعة روبرت أن يتولى هذه المهمة؟
وبالفعل , بادر روبرت , موجها كلامه الى ايما , متجاهلا وجود جولي:
" أنها مصاعد كهربائية , تضغطين زرا يحمل رقم الطبقة التي تقصدينها والمصعد يتكفل بالأمر".
ألا أن أيما سارعت تستفسر بمنطقها المجتهد:
" لكن , أذا كان المصعد متوقفا في أحدى الطبقات العليا وأنا في الطبقة الأرضية فكيف السبيل الى أستعماله؟".
منتديات ليلاس
أبتسم روبرت وهو يرمق جولي , غير أن هذه أشاحت بنظرها , أذ لم تستطع أن تستوعب فكرة أن روبرت سيحظى بحب الطفلة ما لم تكن هي متيقظة لهذا الأمر , قد يكون في سلوكها أنانية , غير أنه شيء لا تستطيع التسليم به , أقله ليس حاضرا! خصوصا بعد وفاة مايكل.
آه , لماذا كان عليه أن يموت ؟ ساءلت نفسها للمرة المليون , فعالمها كان يبدو جنة , آمنا , أما الآن فقد أنهار كل شيء , لم ينتبه روبرت لقلقها الطارىء هذا , ولا شعرت أيما به.
" سؤال وجيه ( أشار روبرت برد على تساؤل أيما ( حسنا , تضغطين زرا آخر والمصعد يتحرك أوتوماتيكيا الى الطبقة التي أنت فيها , والحال ذاتها في ما لو كنت في أحدى الطبقات العلوية والمصعد في الأسفل , علما أن في المبنى حيث شقتي ست مصاعد , ذلك أنه مبنى ضخم".
كان لشرحه هذا أنطباع قوي في ذهن أيما , ألا أنها أستدركت :
" ماذا يحدث في ما أذا طرأ عطل على المصعد ؟ أو أذا أنقطع التيار الكهربائي؟".
" هناك سلالم حديدية تستعمل في الحالات الطارئة , أنا , شخصيا , لا أكترث لأستعمال هذه السلالم , هل تفضلينها أنت؟ لا أظنك فاعلة , فهاتان الساقان الصغيرتان ستعجزان قبل أن تصلي".
منتديات ليلاس
ضحكت أيما لملاحظته , أما جولي فجهدت في الألتفات اليها مبدية أهتماما لحديثهما رغما عنها.
كان روبرت قد وصل الى حي هادىء , ثم توجه الى باحة بناء ضخم عبارة عن مجمع شقق مفروزة , أوقف السيارة وعلى رغم المطر المتساقط أستطاعت جولي أن تتبين نوع المبنى الفخم , الباحة المصونة تزنر حدائق تحيط بالبناء ونوافير الماء في غير مكان فيها , والدرجات القليلة في مدخل البناء تقود الى باب زجاج متحرك دوار , ومن خلال زجاج الباب يستطيع حاجب أن يراقب الوافدين الى الداخل ,وما أن لمح سيارة روبرت حتى بادر يحييه بتهذيب فرد روبرت التحية بأشارة من يده فيما هو يترجل.
ما أن فتح روبرت صندوق السيارة ليخرج الحقائب حتى ترك الحاجب مكتبه وهرول في أتجاههم محييا :
" طاب يومك يا سيدي , هل أستطيع أن أساعدك؟".
هز روبرت رأسه نفيا فتساقطت قطرات من ماء المطر كانت علقت بشعره الكث.
" شكرا سأتدبر الأمر بنفسي , أنه يوم بائس , أليس كذلك؟".
" حقا أنه كذلك سيدي".
أجاب الحاجب نوريس وهو ينظر بحشرية الى جولي وأيما اللتين كانتا ترجلتا وقبعتا بجانب السيارة , وفي عيونهما ضياع وغربة.
قطع روبرت على نوريس أسترسال نظراته المتسائلة موضحا:
" أنها زوجة أخي وأبنتها ( ثم وضع الحقائب أرضا ليقفل باب الصندوق وأردف ) ستبقيان في ضيافتي لبضعة أيام , لقد وصلتا لتوهما من مالايا".
أتسعت حدقتا جولي أذ أدركت , على غير ما هو متوقع , أنهما ستمكثان في شقة روبرت ,غير أنها لم تستطع قول أي شيء في حضرة نوريس وأكتفت بالتحديق في عيني روبرت , أما هذا الأخير فبدا غير مبال لرد فعلها وحمل الحقائب وأشار اليهما ليتقدما نحو المدخل.
بدا المصعد ضيقا لوجود ثلاثة أشخاص فيه , أثنان منهم بالغان , أضافة الى حقائب السفر , كما بدا جوه متشنجا , وكان على جولي أن تقول شيئا , أي شيء :
" روبرت , لماذا علينا أن ننزل عندك؟".
في هذه الأثناء كان روبرت مسندا ظهره في أسترخاء الى حائط المصعد , والحقيبتان مثبتتان بين ساقيه المنفرجتين , فرد عليها قائلا:
"الان ؟ الآن جولي؟ ( ثم توجه بكلامه الى الطفلة ) حسنا , أيما , ما رأيك؟".
لم تنتبه أيما الى مغزى حوار الأثنين المتناقض , لصغر سنها , بل أفترت عن أبتسامة قائلة :
" هل يستغرق الوصول الى الطبقة العلوية الأخيرة طويلا؟".
" كلا , سنصل في ثوان قليلة , أنظري ..... أترين الضوء الأحمر المتنقل وراء هذه الأرقام ؟ أنه يشير الى الطبقة التي نحن في موازاتها ...... أترين؟ أما نحن , فألى الطبقة العليا , في القمة".
أزدادت فرجة حدقتي أيما.
" آه , نعم , أنظري أمي , نكاد نصل , يا ألهي , أحس بفراغ في معدتي".
حمل روبرت الحقائب , وأتجهوا نحو الباب الآخر , وما أن كادوا يصلون اليه حتى فتح وأطل منه رجل يرتدي بزة سوداء , في متوسط عمره , ذو شعر زنجبيلي يشوبه بعض من شيب , وشاربين بلون شعره.
بادر الرجل يستقبل روبرت بحرارة ووجهه المستدير يشع:
" أهلا , سيدي , سمعت صوت المصعد يتوقف فقلت للسيدة بمبرتون لا بد أن تكون أنت القادم , وقد صدق حدسي".
أبتسم روبرت أبتسامة خفيفة وقال:
" أنت أنسان كفؤ , خذ هذه الحقائب الى الداخل".
" نعم , سيدي".
تقدم الرجل يتسلم الحقائب فيما روبرت يرمق جولي والتردد في نظراته ثم أوضح قائلا:
" جولي , هذا هالبيرد أنه يلازمني أنّى ذهبت , أنه , أذا صح التعبير , رجل لمختلف الأعمال , وهو قادر على أن يتعاطى كل الأمور".
أفترت جولي عن أبتسامة جندت لها قسمات وجهها وحيّت الرجل :
" طاب يومك , هالبيرد".
" طاب يومك سيدتي , وأنت أيضا , آنستي ( وخص هالبيرد الطفلة بنظرة حنونة ) هل كانت رحلتكما مسلية؟ لا يبدو اليوم مثاليا لمثلها , أليس كذلك ؟ يوم بائس".
" بائس , حقا , ( وافقت جولي , أما أيما فبادرت الرجل بحشريتها المعهودة ) لماذا لم يغز الشيب شاربيك , كما هي حال شعرك؟".
" أيما!".
هتفت جولي مستنكرة سؤال طفلتها , وغرق كلا الرجلين في ضحكة مفرقعة .
حمل هالبيرد الحقيبتين وهو يرد على سؤال أيما:
" لست أدري , آنستي الصغيرة , يبدو أن الصقيع لم يصل بعد الى هذه البقعة".
" ماذا تعني ؟ ( سألته أيما عابسة , فتدخل روبرت ملاحظا):
" يمكنك مناقشة ميزات مظهر هالبير فيما بعد , أيما , تعالي الآن , فجدتك في أنتظارك".
وللحال لاحظت جولي بمرارة أن شوق الجدة الى رؤية حفيدتها لم يدفعها الى أن تأتي الى الباب لأستقبالها , ووبخت نفسها أذ لم يمض على وصولها أكثر من ساعة وها هي تفسح للواقع المستجد أن يؤثر عليها سلبا.
منتديات ليلاس
دعاها روبرت للدخول وقد خفت حدة نبرته:
" تفضلي , جولي . ( ألا أن هذه أرتدّت الى الوراء وقالت بأصرار ):
" أنت دلنا على الطريق , فأنت سيد الدار".
قست نظرات روبرت وهو يحدق في عينيها الخضراوين , ومن دون أن ينبس بكلمة , أخذ بيد أيما وعبر من خلال الباب , تبعتهما جولي متباطئة , وكعبا حذائها يغرقان في وبر السجادة الناعمة التي تغطي أرض المدخل المفضي الى الصالون , محفورات خشبية كان روبرت أتى بها من بلدان مختلفة تثبت على الجدران تعلة جدرانيات رائعة , وفي زاوية طاولة من خشب الأرز عليها أناء من الجاد الصيني لا يثمن.
لم يتوقف روبرت في طريقه الى الصالون , ليفسح لهما المجال لخلع معطفيهما , وفتح الباب تاركا أيما تتقدمه , وتناهى الى جولي صوت حماتها الفرح لرؤية حفيدتها , ثم دخلت هي الأخرى الى الصالون الفسيح , كان شاسعا حقا , يمتد من أول الشقة الى آخرها , جدرانه صفائح من زجاج , وقبل أن تتمكن جولي من رؤية الاخل جيدا , وقع نظرها على المرأة المستلقية على كنبة قرب النافذة , تقبل أيما , وتبدي أعجابها بنموها السريع , ذلك أنها عرفتها طفلة تدب يوم رأتها أول مرة.
أنتبهت لوسي أخيرا الى وجود جولي , فمدت يدا تصافحها وهي تغمر أيما باليد الأخرى , وقالت:
" عفوك جولي , عزيزتي , لكن لقائي بأيما ثانية , أخذ مني البال ....... خصوصا بعد كل ما حدث".
أستجابت جولي للعاطفة الظاهرة في صوت لوسي وأنحنت نحوها تقبل خدها ثم تؤكد صدق عاطفتها:
" يطيب لي , أنا أيضا , أن ألقاك ثانية , لوسي".
ألا أنها لاحظت , متأخرة , أن لوسي لم تعبر عن بهجتها برؤيتها هي , لكنها لم تبد أمتعاضا , ثم جلست بقربها وشرعت تفك أزرار معطفها بعصبية.
بادرت لوسي قائلة :
" أعتذر عن عدم تمكني من الذهاب الى المطار لأستقبالكما , أذ أصر روبرت على أن أبقى في فراشي , بعد الزكام الشديد الذي أصابني ".
أجابت جولي , وكأن الأمر لم يضايقها أطلاقا:
" لا بأس , كيف حال صحتك الآن ؟".
" أفضل بكثير ( ونظرت لوسي الى روبرت الذي كانواقفا يشهد حوارهما وتقطيبة ترتسم على وجهه وسألته) هلا طلبت , عزيزي , من هالبيرد أن يأتينا ببعض الشاي ؟ أنني متأكدة أن جولي ترغب في فنجان دافىء , ما رأيك , عزيزتي؟".
أومأت جولي أيجابا وهي تتحاشى النظر الى روبرت كي لا تواجه نظراته النافذة :
" شكرا , فنجان شاي , نعم , هذا ما أرغب فيه".
" آه , هناك الكثير لنقوله ! ( هتفت لوسي وهي لا تزال تحضن الطفلة ) أما نت , أيما , فعلينا أن نتعارف جيدا , أليس كذلك؟".
كان هالبيرد , في هذه الأثناء , يضع الحقائب في غرفتي الضيفتين , فذهب روبرت في أثره ليطلب منه أحضار الشاي.
" هل تقطنين هنا جدتي؟".
سألت أيما وهي تبدي أعجابا بما حولها , أذ هي لم تكن تعودت ترفا كهذا في راتون , كانت الغرفة , على وسعها , مكتملة الأثاث , يغمرها الدفء ويسكنها الذوق , مما أثر في جولي نفسها رغما عنها , لذا فأن مسكنا كهذا كان أكثر من أن تستطيع طفلة أن تتوقعه , فبدت مأخوذة خصوصا بقمة المدفأة الأصطناعية التي أنتصبت في وسط الدار .
أجابت لوسي حفيدتها :
" كلا , عزيزتي , شقتي ليست بهذه العظمة , أنها تقع في شارع آخر بعيد , وستزورينها في مناسبة ثانية , أما الشقة هذه فهي مخصصة للمناسبات والدعوات والحفلات التي يكثر عمك روبرت من أقامتها , وطبيعي أن تكون بهذه العظمة وهذا المستوى ".
" للحفلات ؟ ( هتفت أيما ) أتقصدين أنه يقدم حفلات أستعراض ؟ ".
قهقهت لوسي عاليا , بينما أظهرت جولي تبرما , ذلك أن أحدا لم يوضح لها بعد حقيقة وجودهما في شقة روبرت بالذات.
أغلقت جولي الباب خلفها ومشت الى قرب النافذة , ونظرت عبر الستارة المسدلة نحو المدينة التي تتلألأ بالنور , وعلى رغم أن الشقة تقع في وسط المدينة فقد كان الهدوء يخيم على المكان الذي بدا صامتا , بعيدا , معزولا كمقصورة قبطان , حيث لا يستطيع المرء أن يتجاهل أحساسا مثيرا كونه يسكن مكانا فخما كهذا , ألا أن جولي أحست بكآبة تغمرها .
فوجئت بباب الصالون يغلق , فأستدارت لتجد روبرت بمبرتون .
تأمل هنيهة , فبدا الأرتباك في تعابيرها ,ثم تقدم نحو خزانة أمتلأت بأنواع المشروبات.
سألها:
" ماذا ترغبين أن تتناولي؟".
وشرع يسكب لنفسه فنجان شاي.
تنفست جولي عميقا محاولة في الوقت ذاته ألا تظهر ما يساورها من قلق.
" كوب من الحليب أذا سمحت".