5- كوة في جدار الزمن
في الأيام القليلة التي تلت , بدأت أيما دروسها مع ساندرا , وكانت هذه أحضرت معها بضعة كتب للتمارين المدرسية وقرطاسية تكفي أيما لمدة أسبوعين تقريبا , وهي كانت أطلعت جولي على عزمها طلب كمية أخرى من لندن , في حال أظهرت أيما تقدما ملموسا.
ألا أن الطفلة بدت متعثرة في دروسها , ولم يكن هذا مستغربا , هذا , ألى أنها تحولت خلال فترة قصيرة من طفلة هادئة , حسنة الطبع الى أخرى عصبية المزاج دائمة البكاء , الى درجة أضطرت جولي معها أحيانا الى توبيخها.
منتديات ليلاس
بعد ظهر ذات يوم , قالت جولي تستطلع رأي السيدة هادسون في سبب تغير طباع أيما:
" لا أستطيع فهم هذا التغير المفاجىء , علما أنها كانت تبدي رغبة أكيدة في الذهاب الى المدرسة ".
" أن تتعلم على يد مربية ليس نفس الشيء كما لو أنها في مدرسة , فهي , هنا , لا أصدقاء لها , كما لم تسنح لها فرصة الأختلاط بأولاد آخرين , وهي بالتالي تشعر بالوحدة , وهي تدرك أنه ما دامت الآنسة لوسن هنا , فهي لا محالة باقية على هذه الحال".
" لكن روبرت يرفض أن يبحث في خيار آخر".
وبدت جولي ساخطة , فهي الآن قلقة على أبنتها فضلا عن همومها الشخصية.
" وما هو رأي السيدة بمبرتون؟".
" أوه , لا يمكن أن توافقني في أمر ما أبدا! الى أن ساندرا صديقة العائلة".
" ماذا ستفعلين أذن , لتدارك الأمر قبل أن يستفحل؟".
" في الحقيقة , لا أدري".
" ماذا عن السيد هيلنغدون ؟ أليس في أمكانه أن يفاتح روبرت في الموضوع , قد يصغي اليه".
أبتسمت جول:
" أشك في أمكان ذلك , كثيرا".
" لست أدري فعلا ما الذي يمكن أن تفعليه حيال هذا الواقع , ألا أن شيئا ما يجب القيام به , فالطفلة في بكاء شبه مستمر".
" أعلم هذا , الذي يزيد من واقع المأساة أن ساندرا لا تكف عن الشكوى من أن أيما تتصرف بقلة تهذيب في أوان الدرس, أنني متأكدة أنها تود لو تصفعها أحيانا لهذا".
علّقت السيدة هادسون بنبرة تنم عن كره حيال ساندرا:
" كما أنني أعتقد أن الشعور متبادل بينهما".
" أنني أكيدة من ذلك ( ردت جولي خصلة من شعرها الى خلف أذنها وأضافت ) حسنا , سأتصل بفرنسيس , لأبحث معه في الموضوع".
أتصلت به هاتفيا في مكتبه , وبدا فرنسيس مغتبطا , على عادته , لسماعها , وبادرها:
" متى أراك ثانية؟".
" في الواقع , أنني في حاجة الى مساعدتك , فرنسيس".
" مساعدتي ؟ في أي موضوع؟".
" أريد منك أن تبحث مع روبرت في مسألة ..... أن تسأله أذا كان ممكنا أن يعيد تقويم قراره في شأن أرسال أيما الى مدرسة , فهي ترغب في الذهاب ال مدرسة البلدة , أنها , ببساطة , لا تريد أن تدرس على يد مدرسة خاصة , علما أن ساندرا تظهر قدرا كبيرا من الصبر والأناة حيالها".
" هذه هي المشكلة , أذن , أتريدينني أن أحضر شخصيا وأبحث مع أيما في المسألة؟".
" لا أعتقد أن هذا سيغير من الواقع في شيء , طبعا , ستسر برؤيتك , لكن , ما أن تتركها وتغادرنا.....".
أجاب فرنسيس ,وقد أدرك عمق المسألة:
" حق ما تقولين , ألا يجدر بي أن ألفتك الى أنني وبروبرت لسنا على أتم وفاق هذه الأيام , لقد ألمح لي ببعض الملاحظات القاسية , لدى زيارته لنا الأحد الماضي".
" عم كانت ملاحظاته؟".
" عنك, طبعا , لقد طلب مني أن أدعك وشأنك.... وأنه لا يجد علاقتي معك مبررة , وأنه لن يقف مكتوفا حيال هذا , ويتركك تهدمين حياتك, ألخ......".
" أوه , أنني آسفة , إن كنت سببا في ما حصل بينك وبينه".
" لا أخفي عليك , أنني كنت ساخطا بادىء الأمر لملاحظاته هذه , ألا أنني أدركت في ما بعد أنه كان يبغي مصلحتك, وبدا لي أنه يحس بمسؤولية كبرى حيالك ملقاة على عاتقه.... أنتما الأثنتين , لا أدري كيف سيصمد زواجه وباميلا بأزاء هذه الحقيقة".
" ماذا تقصد؟".
" الحقيقة , أنني لو لم أكن أعرفه جيدا , لقلت أن ألتزامه حيالك هو إندفاع إلى أبعد من مجرد واجب أخلاقي , لكن هذا من السخافة بمكان , أليس كذلك؟".
" نعم ( ومع هذا وجدت صعوبة في التركيز على الموضوع الذي من أجله أتصلت به ) لكن ...... قل لي , هل ستبحث معه في موضوع أيما؟".
" تردد فرنسيس لحظة قبل أن يجيب :
" أذا كان هذا ما تريدين........".
" بالطبع , هذا ما أريده".
" حسنا , أنه قادم غدا الى الغداء عندما سأحاول أن أكلمه في الموضوع ".
" شكرا لك فرنسيس , شكرا".
" لا تشكريني الآن , فأنا لم أحقق شيئا بعد".
منتديات ليلاس
بدت السيدة هادسون راضية عندما أخبرتها جولي بما دار بينها وبين فرنسيس , وعلّقت قائلة:
" أذا كنت لا تدرين , فأن للسيد هيلينغدون طرقا في الأقناع".
أبتسمت جولي وهي تقول:
" نعم , لكن يبدو أن روبرت أخذ عليه دعوته أياي الى العشاء خارجا في نهاية الأسبوع الفائت , وهما لهذا ليسا على وفاق تام".
رفعت الخادمة حاجبيها:
" أحقا ما تقولين؟ ( ثم أبتسمت وهي تتمتم ) لا بأس , لا بأس".
هزت الخادمة رأسها وهي تزن كمية من الطحين تحضيرا لصنع قالب من الحلوى , وقالت:
" ليس هذا من شأني , سيدة بمبرتون".
" كيف يمكنك أن تقولي هذا , وقد علّقت منذ لحظة على الموضوع؟ ( أعتلت جولي كرسيا , ثم أردفت ) آه , لو يقبل روبرت , فقط , بأن تذهب أيما الى المدرسة , فتكوّن صداقات مع أطفال آخرين.......".
" والمربية التي أستقدمها ستصير خارج المنزل!".
" هذا بديهي , لا أستطيع أن أفهم سلوك أيما هذا , من عادتها أن تكون حسنة الطبع والسلوك".
أفرغت السيدة هادسون الطحين في وعاء صغير , قبل أن تقول :
" أعتقد أن الأهتمام الزائد بها والدلال من قبل جدتها والسيدين روبرت وهيلينغدون جعلاها تركب رأسها , ثم أنها طفلة في الخامسة من عمرها فقط , تصوري المتغيّرات التي كان عليها أن تتكيّف معها خلال هذه الأشهر القليلة الأخيرة!".
" هل تعتقدين , أذن , أنها مدللة كثيرا؟".
" رعاك الله , ليست الحقيقة شيئا من هذا , من حقها أن تكون مدللة إلى حد ما , هذا إذا ما سئلت في الموضوع , , أنها تحاول أن تجد لنفسها موطىء قدم في عالم يكثر فيه الناس حولها ".
" هل تعتقدين أن هذا هو السبب الذي يجعلها فرحة في كل مرة يأتي روبرت إلى هنا ؟".
" لا أعتقد أن هذا هو كل ما في الأمر , أنها طبعا ترى في روبرت الأمان , لكن المسألة أبعد من هذا , على ما أعتقد , أذ أن الطفلة متعلقة به كثيرا , فهي تتحدث عنه في شكل مستمر , كذلك نتحدث عن السيد هيلينغدون , إلا أن السيد روبرت هو الإنسان المصطفى لديها".\وضعت جولي راحتيها على خديها وقد أحست بدمعتين حارقتين في مقلتيها .
أردفت السيدة هادسون قائلة:
" أنه أهل لأن يكون كذلك ".
كان صوتها خافتا إلى درجة لم تسمعه جولي بوضوح :
" وسألتها:
" ماذا قلت؟".
تخصّب وجه السيدة هادسون :
" قلت.. أنه المفضل لديها , ألا تعتقدين ذلك؟".
" لماذا؟".
" حسنا , كونه أخ السيد مايكل , ويشبهه كثيرا".
" آه , فهمت ما ترمين إليه".
" ماذا ظننت أنني قصدت بقولي غير هذا؟".
رفعت جولي كتفيها تفتش عن جواب :
" لماذا؟ ........ لا شيء".
مسحت السيدة هادسون الطحين عن يديها بطرف مرولتها , وقالت:
" لو أنك كنت تزوجت السيد روبرت , سيدتي , لكان هو والد أيما ".
حدّقت فيها جولي وأجابتها في إقتضاب:
" لم يكن هذا ممكنا".
" صحيح , لأنك رفضت الزواج به قبل سفره إلى فنزويلا , أليس كذلك؟".
" وكيف عرفت هذا؟".
" السيد روبرت نفسه أخبرني , كنت نتحدث , تلك الليلة التي بات فيها هنا , عن تلك الأيام التي كان يكثر فيها من أسفاره".
" وماذا أخبرك أيضا غير ذلك؟".
" لا شيء يذكر , سوى أنك كنت ثائرة يومها على قراره في السفر ".
" كان ذلك أمرا بديهيا ".
" كان في إمكانك أن تسافري معه , بعد زواجكما".
أحست جولي بالصقيع يغلّف قلبها :
" أعرف ذلك , إلا أننا تجادلنا تلك الليلة......".
" والسبب إضطراره إلى السفر قبل أسبوع من موعد زفافكما؟".
" نعم , أوه , أنني أدرك أن الأمر يبدو الآن سخيفا , غير أنه في ذلك الوقت كانت مسألة مبدأ كنت في التاسعة عشرة من عمري".
أضاف السيدة هادسون كمية من السكر غلى الطحين في الوعاء , وسألتها تستزيد:
" وماذا حدث بعد ذلك؟".
" ما نفع أستذكار هذا كله الآن ؟ فليس في الإمكان تبديل ما كان ".
" أخبريني كيف تعرفت إليه؟".
" كنت أعمل في الشركة خاصتهم .... في الواقع , مديري هو الذي عرّفني إليه , كنت قد سمعت عنه قبل ذلك , ذلك أن شهرته كانت في كل مكتب من الشركة".
" أكملي".
" أوه , كان روبرت شخصا ينال أي شيء يسعى وراءه , وبالتالي أخذ يوجه الأعذار ليأتي إلى مكتب السيد هارفي حيث كان عملي , كان يعرض عليّ أن يوصلني بسيارته , أو أن يدعوني إلى غداء , وكانت الفتيات الأخريات يحذرنني منه , غير أن ذلك لم يكن ضروريا بالنسبة لي , أذ كنت أدرك تماما أي نوع من الشباب هو , كان معتادا على أن يصل إلى مبتغاه إل أنه لم يحاول شيئا من هذا معي بعد خروجنا معا للمرة الأولى , ظننت أن علاقتنا لن تتعدى هذا الحد , غير أنني كنت مخطئة , أذ هو سألني ذات يوم إن كنت أقبل الزواج به! ( هزّت رأسها في أسى ) لم أصدق آنئذ عرضه , ظننت أن الأمر لا يعدو كونه مناورة كي يستطيع أن يحصل مني على ما يريد , إلا أن الحقيقة كانت غير ذلك , لقد كان يحبني فعلا".
" وماذا حدث بعد ذلك؟".
" ما يحصل عادة في مسائل كهذه أصطحبني ليقدمني إلى والدته , وكانت هذه آنذاك تملك منزلا في منطقة ريتشموند ... أوه , طبعا , أنت تعرفين هذا , حسنا , في أي حال , لم تشغف والدته بي , لكنها أدركت يومئذ كم كان روبرت جادا , وكان عليها بالتالي أن تسلم بالأمر بطريقة تحفظ ماء الوجه , ثم وضعت كل الترتيبات تحضيرا لحفلة الزواج , ولم يكن هناك من يساعدني على تحضير نفسي , ذلك أنني , بعد مقتل والدي في حادث سيارة , أرسلت إلى ميتم حيث ترعرعت , فأخذت السيدة بمبرتون على عاتقها أمر مساعدتي في التحضير لحفلة الزواج , ثم طرأت فجأة حادثة فنزويلا التي فجّرت المسألة برمتها".
" وألغيت حفلة الزواج؟".
" نعم".
منتديات ليلاس
أستدارت جولي مبتعدة , لم يعد في إستطاعتها أن تسترسل أكثر في الحديث , وأدركت السيدة هادسون معاناة جولي فغيّرت موضوع الحديث , وبدت جولي مقدّرة لها ما فعلت.
عاودتها ذكرى تلك الليلة التي كان على روبرت أن يخبرها أنه مضطر إلى السفر إلى فنزويلا .
في بدء سهرتهما , لم يخبرها شيئا , وكانا ألتقيا , عل عادتهما , في وسط المدينة , ثم تناولا طعام العشاء في أحد المطاعم كانا يكثران من أرتياده , تلك الأمسية , بدا روبرت قليل الكلام مكتئبا قليلا , إلا أن جولي لم تلاحظ ذلك , كونها كانت تحس بسعادة عارمة لعلمها أن أسبوعا واحدا يفصلها عن زواجهما , تصير بعده السيدة روبرت بمبرتون.
لكنها أضطرت إلى أن تعترف لنفسها , وقد فرغا من عشائهما, أن شيئا ما ليس على أحسن حال , وملكت قلبها رعشة من الخوف , وعندما أقترح روبرت أن يعرجا على منزل والدته في ؤيشتموند , لم تمانع , غير أنها تساءلت , على رغم أن كل شيء أصبح جاهزا في شأن حفلة الزواج , عما أذا كانت هذه هي اللحظة التي سينهار فيها كل شيء بينهما.
عندما توقفت السيارة في الباحة , لاحظت جولي أن المنزل غارق في ظلام دامس , وتطلعت نحو روبرت مستفسرة .بادر هو يوضح لها:
" والدتي تقضي نهاية الأسبوع هذه خارج المنزل".
وخرج من السيارة ليأتي ناحيتها ويفتح لها الباب .
خرجت من السيارة مترددة :
" لماذا أتيت بي إلى هنا , روبرت؟".
أغلق الباب , قبل أن يجيب :
" تعالي إلى الداخل , أنا في حاجة إلى فنجان قهوة".
في الرواق المترف الأثاث , أغلق الباب خلفه , وقادها إلى الصالون , وفيما هما في طريقهما إذا بالسيدة هيوز , خادمة السيدة بمبرتون , تطل من باب المطبخ وفي عينيها إستغراب.
بادرت تسأله :
" ظننتك , سيدي , ستمضي سهرتك في المدينة؟".
أجابها بنبرة لا تخلو من حدة:
" كنت أعتزم هذا , لا تزعجي نفسك , سيدة هيوز , لن نكون في حاجة إلى شيء , يمكنك الذهاب".
" كما يشاء سيدي".
وقفت جولي خلف الكنبة , تراقب روبرت يسكب لنفسه فنجان شاي مثلج , فجأة , إستدار في حركة عصبية , وقال لها:
" إنزعي عنك معطفك وإجلسي , لن أضايقك في شيء فلا تجزعي".
إلا أنها لم تستطع أخفاء قلقها , فسألته:
" لماذا أتيت بي إلى هنا؟".
" لا سبب لقلقك هذا , جولي , أردت أن أحدثك عن أمر في مكان حيث نستطيع ذلك في هدوء , هذا كل ما في الأمر , إجلسي , أرجوك ".
فكّت جولي أزرار معطفها , نزعته ثم ألقته على مقعد قريب منها , أقتربت لتأخذ لنفسها مكانا على كنبة وثيرة .
" ألا ترغبين في فنجان شاي؟".
" كلا , شكرا".
" لدي نبأ غير سار , جولي".
أحست كأن يدا باردة أخذت تعصر قلبها :
" نبأ غير سار ! أي نبأ هذا؟ ليس.... في شأن مايكل؟".
كان مايكل في ذلك الوقت في رحلة على متن سفينته , وظنت أنه قد يكون وقع له حادث.
هز روبرت رأسه نفيا , يحررها من قلق ليأسرها من جديد:
" كلا , ليس مايكل , بل موران الذي قتل في فنزويلا , البارحة ".
وضعت يدا على عنقها , وفي عينيها حيرة وتساؤل , ورددت :
" موران ؟ تقصد دنيس موران؟".
كان دنيس موران مهندسا أستشاريا يعمل لشركة بمبرتون.
" نعم , هو بالذات , كان يعمل في مشروع وادي نهر غوابا ( صمت لحظة , ثم سألها ) هل سمعت بهذا المشروع؟".
" بالكاد ( حاولت جولي أن تتذكر ) أليس هو المشروع الذي بدأته أنت شخصيا؟".
" نعم ".
أجاب روبرت يومىء برأسه .
وأردفت قائلة:
" طبيعي أن أشعر بأسى لفقدان أي إنسان , إلا أنني لا أرى , عدا هذا , ما الذي........".
" لست ترين أي علاقة بين مقتله وبيننا نتيجة هذه الحادثة , أهذا ما أردت قوله؟".
" نعم , أهذا كل ما في الأمر؟".
" أخشى أن يكون غير هذا , كان مفترضا أن نكمل هذا المشروع منذ وقت طويل , لكن حدث تأخر في التنفيذ , وعلينا أن ننتهي من بناء السد قبل موسم الشتاء الذي أخذ يقترب".
حبست جولي أنفاسها:
" وماذا يعني هذا؟".
صرخ فيها روبرت وقد عيل بصره .
" أنت لا تسهلين الأمر علي لأشرح لك الموضوع".
قالت وهي تحدّق فيه:
" ماذا تريدني أن أقول؟ لست أرى كيف أن مقتل هذا الرجل يمكن أن ينعكس علينا".
" ألا ترين العلاقة ؟ أم أنك لا تريدين ذلك؟".
أراح يده على الجدار وأحنى رأسه يسنده إل ذراعه , وأضاف:
" أن الأمر واضح ( صمت قليلا ثم أكمل بصوت ضعيف) علي أن أسافر إلى هناك لأحل محل موران في الإشراف على تنفيذ المشروع".
أنتصبت جولي كمن لدغ , وهتفت بصوت عال وبغضب:
" عليك أن تسافر إلى فنزويلا؟".
" نعم ".
" لماذا أنت؟".
في هذه اللحظة نسيت جولي كل ما يتعلق بحفلة الزفاف التي لا يفصلهما عنها سوى أيام معدودة.
" لأنه..... وكما ذكرت أنت بنفسك للحظات , أنا الذي بدأ هذا المشروع , وقد تسلّم موران إدارته مني".
هزت رأسها بعنف غير مقتنعة:
" وإن يكن هذا , فهناك مهندسون آخرون في الشركة ....... ( وإنهارت فجأة ) ماذا يعني كل هذا؟ ماذا تحاول أن تخبرني ؟ متى ستسافر؟".
إستدار نحوها وبدا وجهه مكفهرا:
" علي أن أغادر في مهلة .... يومين أو ثلاثة".
تملّكها الخوف , وهتفت:
" لكنك لا تستطيع أن تفعل هذا ! هل نسيت , روبرت؟".
غمغم بصوت حمّله كل ما في داخله من مرارة:
" بحق السماء , كيف أستطيع أن أنسى ؟ ولهذا جئت بك إلى هنا لأخبرك الحقيقة من دون مواربة , كل ما أطلبه منك أن تحاولي تفهّم وضعي......".
صرخت به قائلة:
" وضعك أنت! وماذا عني؟ لا يمكنك أن تقدم على عمل كهذا ؟ لم لا يذهب أحد غيرك ؟ لماذا يجب أن تكون أنت بالضرورة البديل؟".
أشار إليها بيده أن تهدىء من ثورتها وإنفعالها , وقال بصوت أجش :
" حاولي أن تنظري إلى المسألة بعين المنطق , هل تظنين أنني راغب في السفر إلى فنزويلا؟".
" لست متأكدة , حقيقة , ما الذي ترغب فيه".
تنهد روبرت , وقال بصوت متهدج:
" بالطبع تعرفين ماذا أريد , أريد أن أبقى هنا , معك , أريد أن أتزوجك! أردت هذا وأنتظرته لفترة طويلة , كيف تتصورين أحساسي , والحال هذه؟".
أجابته , وهي تكاد لا تصدق ما يقوله:
" لست أدري شيئا , لم تعطني بعد عذرا مقبولا يوجب ذهابك".
قاطعها بأنفعال , قائلا:
" أنني لا أقدم أعذارا , إسمعي , سأحاول أن أوضح لك المسألة بالتفصيل , المشروع هذا من تصميمي , أنا الذي رعاه وأشرف عليه في بداياته , وعندما بدا أن كل شيء يسير بحسب ما هو مرسوم , وقع أنفجار في السد , قتل بنتيجته موران , فكيف , بالله , أستطيع أن أرسل شخصا آخر لينجز ما بدأته أنا؟".
كانت جولي في حال عصبية ظاهرة , تشبك أصابعها وتباعدها في حركة مستمرة , وعلّقت قائلة:
" لكن الوقت ليس عاديا , روبرت , أذ أن كل الترتيبات وضعت تحضيرا لزواجنا الأسبوع المقبل , ولا يمكننا أن نلغي كل شيء".
أجابها روبرت غاضبا:
" أنني لا أقترح ألغاء كل شيء , كل ما أطلبه منك أن توافقي على تأجيل الموعد المقرر".
" أن نؤجله ! ترى , في رأيك , كيف سيقبل الناس هذا الأمر؟".
" ماذا تقصدين ؟".
" تماما ما أقوله ( كانت حركات رأسها تواكب حدة كلماتها ) ألا ترى كيف سيفسرون هذه الخطوة ؟ هل فقدت بصيرتك أيضا؟ مجرد ذهابك في هذه المهمة دلالة على أن العلاقة بيننا قد قطعت ..... أنتهت! وأن تأجيل موعد الزواج ما هو إلا إلغاء تدريجي لعلاقتنا برمتها".
" ما تقولين هراء بهراء , ( بدأ صبر روبرت ينفد , وأعصابه تزداد توترا إذ فاجأته كل هذه العقبات غير المنتظرة لخططه ) لن نؤجل موعد زواجنا فترة طويلة.... شهر أو شهران على الأكثر".
" شهران ! ( أشاحت بنظرها بعيدا عنه ) دع شخصا آخر يسافر بدلا منك".
أجابها معاندا وقد عقد الرأي على المضي في ما رآه .
" لا أستطيع ذلك , إسمعي , جولي , لقد حاولت أن أشرح لك المشكلة , وأذا كنت لا تصدقينني , فلست أدري سبيلا آخر لأقناعك ".
أحنت جولي رأسها في إنكسار:
" كيف لي أن أصدقك ؟ هل والدتك على دراية بالأمر؟".
" نعم , أنها تعرف".
" غالب الظن أنها هللت للحدث ( قالت بصوت ضعيف , ثم أضافت وفي نبرتها مرارة اليأس ) على كل , أنها فرصة توفر لها أسبوعا أو أسبوعين تستطيع خلالها أن تقنعك بأنك تقترف بزواجك أعظم خطأ في حياتك , أليس كذلك؟".
بدا روبرت في حال من المعاناة الشديدة , فصرخ فيها :
" جولي! ".
وأقترب منها يضع يديه على كتفيها محاولا أن يجعلها تلتفت إليه ثانية , إلا أنها تخلصت منه وإبتعدت.
وهتفت بصوت عال :
" لا تلمسني ".
تمالك روبرت غضبه .
" أنك سخيفة , تتصرفين كما لو أنني أحاول أن أنكث بعهدي لك ".
" أوليس هذا ما تفعله ؟".
" كلا!".
أبى أن يعترف بكل ما أوتي من قوته , كذلك , فإن جولي بدت في حال يرثى لها , لا تستطيع أن تتبصر بفكر سليم.
قالت بصوت لا حياة فيه:
" أريد أن أعود إلى منزلي".
" جولي! ( هتف فيها والغضب يتملكه ) لا يمكنك أن تذهبي هكذا ببساطة , نحن لم ننه حديثنا بعد , هناك ترتيبات علينا القيام بها في شأن إرسال إشعار بتأجيل موعد الزواج....".
قالت تكرر طلبها:
" أريد أن أعود إلى منزلي ! ( ثم إستدارت نحوه ) قم بالترتيبات التي تراها ملائمة فهذا شأنك , خصوصا أن والدتك هي التي خطّطت لكل هذا ".
" لن أدعك تذهبين وأنت في هذه الحال....... كوني عاقلة , جولي! أنني أحبك , ألا يعني لك هذا شيئا؟".
" لو كنت تحبني , لما سمحت لنفسك أن تفعل بي هذا . بل بنا نحن الأثنين ( حدقت فيه , ونداء رجاء أخير في عينيها ) أرجوك روبرت , دع أحدا آخر يذهب , بيتر مثلا أو ليونل غرانت".
" كلا ( قالها بحزم ) علي أن أذهب بنفسي , أرجوك أن تتقبلي الأمر ".
تلفت روبرت حوله بحركات يائسة , كما لو كان يفتش عن كلمات يثبت بها صدقه في ما قاله :
" جولي , لا يمكنك أن تفعلي بي هذا..... ...أنا في حاجة إليك !".
" أريد العودة إلى بيتي , هلا أوصلتني ؟ أم أن عليّ أن أسير إلى المحطة لأستقل قطارا؟".
نهض روبرت من مقعده وهو يحدّق فيها بكآبة يخالطها الحقد , وقال غاضبا:
" لن تذهبي الآن , وكما قلت لك قبل قليل , هناك ترتيبات علينا أن نقوم بها".
أجابته جولي بحدة , أذ لم تعد تحتمل المكوث:
" ليس في ما يخصني شخصيا".
وتناولت معطفها تبغي الخروج.
عندئذ , تحرك روبرت نحوها بغضب عارم , وقبض على ذراعيها , وأنفاسه تحرق بشرتها الرقيقة , وصرخ بها:
" أحبك ! أريد أن أتزوجك !".
حدقت فيه جولي , والألم يعتصرها , الحقيقة أنها كانت مستعدة أن تنتظره مهما طال غيابه , إلا أنها أبت تلك اللحظة أن تستسلم للواقع , وأجابته:
" لكنني أكرهك ! ولن يكون هناك زواج !".
إكفهر وجهه , وشدّها إليه يحاول , كمجنون , أن يعانقها , أما هي , ومع علمها أن رد فعله هذا طبيعي , فقد قاومته بشراسة .
إلا أن معركتها معه كانت معركة خاسرة.
كان البرد قارسا في الخارج , على عكس الجو الدافىء الذي لفّها وهي قرب الموقد , وتراءت لها الحياة في غياب ساندرا راحة مطلقة , في أي حال , كانت هناك مشاكل أخرى تقلقها بمقدار ما كانت تعذبها , وأحست بحاجة ماسة إلى رفقة أيما فقصدت غرفتها تتفقدها , إلا أنها , ما أن وصلت إلى باب الغرفة , حتى وجدتها خالية , دخلت إلى الحمام , عاقدة الجبين , فلم تجد لها أثرا , وخالجها إحساس رهيب بأن أيما ربما ذهبت إلى غرفة ساندرا بغية تحطيم بعض أغراضها إنتقاما لما فعلته بها وبإرجوحتها , فأسرعت جولي في الرواق المؤدي إلى غرفة المربية , لكنها وجدتها خالية , هزّت رأسها مستغربة أختفاء طفلتها , ونزلت ثانية إلى الطبقة الأرضية , وفكرت أن إبنتها لا بد أن تكون مع السيدة هادسون , كانت السيدة هادسون وحيدة في غرفتها , وقالت لجولي أنها لم تشاهد الطفلة , فبدأ القلق يداخلها شيئا فشيئا , ترى أين هي؟
قالت السيدة هادسون:
" ربما خرجت إلى الحديقة".
" آه , طبعا , كيف لم يخطر هذا ببالي , خصوصا أنها لم تصعد إلى غرفتها بعد الغداء".
" سآتي معك".
الطقس الضبابي ألقى ظلالا على الحديقة , وغشاوة رقيقة حجبت رؤوس الأشجار , وبدأ الغسق يهجم , والبرد قارس إلى درجة جعلت جولي تحبس أنفاسها , وسرت قشعريرة في جسمها , كان السكون يخيّم على المكان , وبدا لهما أنه من غير الممكن أن تكون أيما خرجت إل الحديقة , هذا , إلى أنهما لم تسمعا لها صوتا ولا لاحظتا لها أثرا , نادت جولي بصوت عالي:
" أيما ! أين أنت يا حبيبتي؟".
لم يلق نداؤها جوابا , وإلتفتت الى السيدة هادسون التي لحقت بها , بدت هذه قلقة وهزت رأسها في حيرة:
" أليست في الحديقة؟".
" كلا , هل..... يا ربي , هل هذه أيما هناك؟".