أضافت كلمتها الاخيرة باسمة ، ثم سألته :- وماذا عنك أنت ؟ هل ترى والديك كثيرا؟
- ليس كثيرا .
وعاد يتأمل الصورة وهو يقول بفتور :- لقد تطلقا عندما كنت فى الخامسة ، ثم عادا الى بعضهما البعض وأنا فى الثامنة ، ثم عادا فتطلقا عندما كنت أقترب من سن المراهقة. ومنذ ذلك الحين تزوجا مرات عدة . تزوجت أمى والد سيلاين حينكنت فى الثامنة عشرة حيث تعارفنا ، انا وسيلاين ، لاول مرة . وكان هذا زواج ابيها الثالث .
ولم تعرف ماريغولد ماذا تقول .
- دام زواج أبوينا ثلاث سنوات ، ولكن الى ان تطلقا ، كنا ، انا وسيلاين ، قد أصبحنا صديقين حميمين . كنا نفهم بعضنا البعض لاننا كما أظن مررنا بظروف متشابهة فى طفولتنا .
أومأت ماريغولد من دون أن تنبس بكلمة . سماعها اسم المرأة من بين شفتيه آلمها اكثر مما تتصور .
- تربيت فى جو ثراء بالغ واهداف قليلة للغاية . وكنت بحاجة الى ان أحطم هذه الدائرة قبل ان تحطمنى . لهذا ، اخترت مهنة الطب .
ونظر اليها وابتسامة باردة تلوى فمه :- واذا بذلك يتحول بضربة حظ ، الى ما يناسبنى تماما ، كنت طالبا جيدا ، وقد أثارت اهتمامى أمراض الجهاز العصبى ، والبقية ، كما يقال أصبح تاريخا .
أرادت ماريغولد ان تسأله المزيد عن سيلاين . متى أدركا انهما يحبان بعضهما البعض ؟ ما الذى تسبب بفصم خطوبتهما ؟ لكنها أدركت ان هذه اللمحة القصيرة عن ماضيه انتهت .
ابتلعت جرعة كبيرة من العصير علها تشعر بالهدوء ثم ابتعدت عنه قائلة :- اجلس واسترح ريثما أهتم بالعشاء . يمكنك ان تشاهد التلفزيون فى هذه الاثناء .
وسرعان ما هربت الى حيث الامان الضعيف فى مطبخها الصغير ز أشعلت الفرن بعد أن وضعت فيه صينية الشواء التى تحتوى على فخد العجل ثم حضرت بسرعة الصلصة المناسبة والمؤلفة من الليمون وصلصة الصويا والعسل والثوم والزنجبيل ومكونات اخرى ، ثم سكبتها على الفخد المشوى . ودست الصينية فى الفرن ، ثم وسارت الى غرفة الجلوس .
كان شبه مستلق على الاريكة فى وضع مربك وكأن النوم باغته فجأة ، كما ظنت ماريغولد عند سماع دقات قلبها الفزعة . كانت احدى يديه على رأسه فيما يمسك كوبه باليد الاخرى .فكرت ماريغولد فى ان هذه هى المرة الاولى التى تراه فيها ضعيفا عديم الدفاع . وكادت هذه الفكرة تخطف أنفاسها.
بدا أثناء نومه مختلفا وكأنه أصغر سنا .كما بدت الخطوط الخفيفة حول عينيه وفمه أقل وضوحا وساهمت أهدابه الكثيفة السوداء فى اضفاء مظهر الفتوة عليه . حتى النوم لم يستطع ان يخفى رجولته الفياضة التى تشكل جزء هاما من جاذبيته .
لم تستطع ماريغولد ان تمنع نفسها من التقدم نحوه، رغم ان جزءا منها راح يعترض بأنه لو انعكس الوضع وكانت نائمة ، لكرهت ان يتأملها فلين طويلا من دون ان تدرك ذلك .
بدت بذلته رائعة التفصيل وغالية الثمن ، وكذلك القميص وربطة العنق . لكنها رأت فلين يبدو رائعا ايضا وهو يرتدى بنطلون الجينز والكنزة اللذين كان يرتديهما عندما أحضر لها شجرة العيد من الغابة .
نظرت الى فمه الذى بدا مسترخيا لكنه مازال يتمتع بتلك الجاذبية المدمرة . وتأملت ذقنه المربعة فيما بدت لحيته السوداء النابتة حديثا واضحا تماما.
مجرد النظر اليه جعلها تشعر بالوهن فى ركبتيها .
ركعت بجانب الاريكة ، محدثة نفسها بأنه تريد فقط ان تأخذ الكوب الفارغ من بين أصابعة المتراخية لتضعه على منضدة القهوة الصغيرة .
قربها منه الى هذا الحد وهالة الرجولة التى تحيط به أثارا اضطرابها , اخذت الكوب من بين أصابعه ببطء بالغ ثم وضعته على الارض بجانب الاريكة من دون أن تلتفت الى منضدة القهوة ، فهى لم تستطع ان تحول عينيها عن وجهه النائم .
لمست ذقنه الخشنة بأصابعها بخفة بالغة . لم تستطع ان تمنع نفسها . واغمضت عينيها لحظة واحدة ، عالمة ان عليها ان تبتعد عنه وتذهب الى المطبخ . وعندما فتحتهما ، كانت العينان الفضيتان تحدقان مباشرة الى عينيها البنفسجيتين المصدومتين .
بدا وكأنها لا تستطيع القيام بحركة ما عدا مبادلته النظر ،فقد جمدتها الصدمة . طوقتها ذراعاه وهو يتمتم :- هذا حسن ...
كانت هذه تمتمة رجل راض وهو يحتضنها بشدة واحكام بحيث لم تجد فائدة من المقاومة . ولم تشأ ذلك على اى حال .
أرسل عناقة شلالا صغيرا من المشاعر فى اعصابها وعضلاتها . فجأة ، كأنما انذار رن فى رأسها فتصلب جسدها ، واحس فلين بتراجعها فقال بصوت رقيق اجش :- لا بأس ، يا حبيبتى . انا لست فتى غير ناضج لالح عليك لتعطينى أكثر مما تسمحين به . ارتاحى ...
- على ... على ان انتبه للعشاء .
واستقامت فى جلستها ولم يحاول هو ان يمسكها :- تبا للعشاء .
لكن صوته بدا كسولا اكثر منه مزعجا .
وقفت بسرعة وقد توهج وجهها .
ابتسمت بضعف وهى تعود الى المطبخ وراحت تقطع البصل الى شرائح بحركة عنيفة . بعد كل ما قالته عن بقائهما صديقين اذا بها تذهب الى الرجل وتكاد ترتمى بين احضانه .
هل يدعو كل نسائه ياحبيبتى ؟
جاءتها هذه الفكرة من مكان ما فجمدتها مكانها ، وأمضت نصف دقيقة وهى تحدق الى الجزر، بانتظار ان تهدأ اعصابها ، بعد ما رأت تصرفها السابق مع البصل .
ثم هزت رأسها بضيق . هذا لا يهم ! حدثت نفسها بحزم فقد أخبرها للتو انه يريد ان يخرجا معا اثناء وجوده فى المدينة وذلك لكى يتعرفا الى بعضهما البعض بشكل افضل . وتوهج وجهها احمرارا وهى تتذكر عناقه لها .
زلكن هذا ذنبها هى ، وليس ذنبه، كما ذكرت نفسها بنزاهة . فقد كان الرجل المسكين مرهقا تماما ومستغرقا فى النوم فجاءت لمستها لتوقظه من نومه فوجدها قريبة جدا منه .
فى تلك اللحظة سمعت صوته الناعس من عند عتبة الباب :- أتريدين اى مساعدة ؟
- لا. انا بخير .
والقت بالبصل فى مقلاة واسعة ، وابتدأت تقطع الجزر من دون ان تلتفت اليه، ثم اضافت بسرعة :- انا اسفة لاننى ايقظتك . لم اكن أقصد ذلك...
وتلاشى صوتها...
- انا مسرور لانك فعلت ذلك ... أعنى أيقظتنى .
أمكنها ان تشعر بنظراته على رقبتها ، وادركت ان هذا الرجل يسخر منها رغم انها لم تجرؤ على ان تلتفت اليه :- مادمت قد استيقظت الان ، هل لك ان تعد المائدة فى غرفة الجلوس؟
كانت المائدة مطوية الى جانب الجدار ولم تكن ماريغولد تستخدمها الا عندما يزورها ضيف. لكنها تكفى لجلوس شخصين .
- ستجد الفوط والكؤوس وبقية الاغراض فى الخزانة .
والتفتت تشير الى خزانة الجدار عند باب المطبخ وهى تتجنب النظر الى عينيه.
- حسنا .
بعد عشر دقائق أنهت تحضير الخضار المقلية مع لحم العجل وزينت الاطباق بشرائح الليمون الطازج . كانت قد هدأت بما يكفى لكى تواجهه بابتسامة متألقة وهى تسير الى غرفة الجلوس حاملة الصحنين .
- آوه !
لقد طهت كمية كبيرة اذ يبدو عليه الجوع بقدر ما يبدو عليه الارهاق وكانت مكافأتها ان رأت وجهه يشرق لمرأى الطبقين الممتلئين .
- الحلوى هى فطيرة البندق والايس كريم لكنى اشتريتها من المحل، مع الاسف . لدى ايضا أرز بالحليب حضرته بالامس اذا كنت تفضل .
- هل لديك مربى فريز مع الارز بالحليب ؟
سالها مسببا لها الاضطراب مرة اخرى ، وهو يسحب لها كرسيا تجلس عليه عند المائدة قبل ان يجلس هو .
لم يعاملها اى رجل عرفته ، حتى دين ، بمثل هذا التهذيب . بدا لها ذلك حسنا ... حسنا جدا . لم تجرؤ على ان تعتاد على هذا ، وان كان هذا لا يعنى ان فلين يحبها طبعا . قالت له :- مربى الفريز؟ أظن ذلك .
- عظيم .
وابتسم لها ابتسامة عريضة فتساءلت كم من النساء وقعن فى غرامه من أول نظرة ، ام ان هناك من تطلب معها ذلك بعض الوقت ؟
راح فلين يتصرف بشكل طبيعى ما جعلها تشعر بالارتياح . ووجدت نفسها تستمتع ببقية السهرة .
انتهت السهرة بهدوء فشربا القهوة مع الحلوى . ولم يكن فلين يبدو مهددا بل مرافقا مسليا أخذ يبهجها بقصص خلابة عن حياته وعمله . احست انه يطلعها على
قصص النجاح ولحظات التفاؤل ، وان ثمة ناحية مظلمة فى عمله ، لكنها انسجمت مستمتعة بكل لحظة . وادهشها ان بامكانه ان يسخر من نفسه ومن مركزه ووضعه الاجتماعى واحترامه لذاته. بدا ذلك محببا جدا حتى ان ماريغولد كان عليها ، اكثر من مرة أن تمسك قلبها من التأثر .
وعندما اراد ان يخرج حوالى الساعة الحادية عشرة ، شجعت نفسها متوقعة عناقا محموما قبل النوم أو ربما تلميحا الى ان بامكانه ان يبقى , لكنه بدلا من ذلك طلب سيارة اجرة ثم ارتدى سترته ومعطفه وعانقها عناقا عابرا قبل ان يسير الى الباب الخارجى. وعندما وقفا عند العتبة سألها برقة :- هل تسمحين لى بأن ادعوك على العشاء تعبيرا عن شكرى لهذه الليلة ؟
أومأت ماريغولد برأسها موافقة .
- الساعة الثامنة من مساء الغد ؟
فأومأت مرة اخرى .
- تصبحين على خير ، يا حبيبتى .
ثـــم خرج .
*******************
نهاية الفصل السابع