ويوم الجمعة , قال لها كارلوس بعد أن أنتهى من الغداء :
" على فكرة , شرحت لأنطونيا في رسالتي أنك حفيدة رجل يحترف جمع الكتب النادرة , فسبفرح السيد يوبيرا بالتعرف اليك".
" لكنني لا أعرف شيئا عن المجلدات!".
" تعرفين أمورا كثيرة , أكثر من جميع أصدقاء أنطونيا!".
أضافت الماركيزة تقول:
" بيتهم رائع يشبه قصرا صغيرا , وأثاثهم جميل ونادرا .....".
كانت صوفيا ترتدي فستانا عندما دخلت لويزا الى غرفتها وصرخت وهي ترى الفستان الأصفر الحريري:
" آه , كم هو جميل ثوبك ! أنه بسيط ويدل عن ذوق رفيع , أفضّله عن الفساتين المعرّقة التي ترتديها عامة الأنكليزيات في السهرات".
أضافتلويزا تقول:
" كنا نعتقد لفترة طويلة أن كارلوس سيتزوج من أنطونيا يوبيرا , لكن كارلوس كان متشددا وكثير التطلب , لا تكفيه أمرأة جميلة وبصحة جيدة , لا , أنه يريد شيئا آخر أيضا , ماذا ؟ لا أعرف , ربما أنت تفهمين أكثر مني , يا صوفيا؟".
" أنا؟ لا...... لماذا؟".
رفعت لويزا كتفيها وقالت:
" ربما لأنه نصف أنكليزي , لأنني عما أعرف , فالشعب الأنكليزي يتزوج عن حب .. هل تؤمنين بالحب , يا صوفيا؟".
" آه , نعم , أؤمن بالحب الحقيقي , الذي يشمل العقل والجسد .... لا أعتقد أن كارلوس......".
توقفت عن متابعة الكلام لسماعها طرقا على الباب , فقالت:
" أدخل".
شق كارلوس الباب وسألها:
" هل أنت جاهزة؟".
قالت لويزا:
" أنا مع صوفيا وبأنكانك الدخول".
" آه , تصورت أنك سترتدين الثوب الأبيض والدثار المخملي الأخضر , كما كنت في برشلونة".
سألت صوفيا لويزا:
" هل يجب أن أرتدي الثوب الطويل؟".
نظرت لويزا الى كارلوس وقالت:
" لم تقل أنها سهرة كبيرة , يا كارلوس , لقد تصورت أنكما المدعوان الوحيدان....".
" نعم , أظن ذلك".
" أذن , هذا الثوب الأصفر رائع لهذه المناسبة".
أضاف كارلوس :
" وساحر أيضا , لم أكن أنوي النقد ,أو... لكن........".
نظر الى ساعة يده وقال:
" يجب أن نذهب الآن".
ولما أصبحا في السيارة , قال كارلوس:
" ليس هذا الثوب هو الذي لفت نظري , أنما أبتسامتك ....... في تلك السهرة....".
وخلال الطريق كان يحدّثها عن أسبانيا وأمله في أن يلعب هذا البلد دورا مهما في السوق الأوروبية المشتركة , لم يسبق أن تحدث عن هذا الموضوع, لا في برشلونة , ولا في برج الموورز , فأندهشت وفيا للأمر وفرحت له.
ومنزل آل يوبيرا الرائع كان يطل على قرية صغيرة قريبة من روندا , داخله متحف حقيقي.
أستقبلهما آل يوبيرا بدفء ثم أخذ صوفيا في الحال الى مكتبته الضخمة ليريها كنوزه.
هل دعاها كارلوس للمجيء معه ليكون أكثر حري في مغازبة أنطونيا؟
وبعد عشر دقائق جاءت أنطونيا الى المكتبة وقالت:
" آه , يا أبي , ألا تخجل لأنك إستأثرت بالآنسة لنغوود , حتى أنك لم تقدم لها شرابا الى الآن! العشاء جاهز".
وبالرغم من أحتجاجات والدها , توجهت أنطونيا الى غرفة الطعام , ودار الحديث حول مجموعة الكتب عند الرجلين , وكانت صوفيا تصغي بشغف , محتفظة بعدم البوم عن أهتمامها بأنتقاداتها وتعليقاتها.
وفي طريق العودة الى المزرعة , قال لها كارلوس:
" أخشى أن تكون هذه السهرة قد أزعجتك حتى السأم ... لو كنا قرب الساحل , لأخذتك الى مرقص في مكان ما , لكنه لا يوجد في الضواحي ناد راقص كما يجب , وحتى في روندا بالذات".
صرخت صوفيا محتجة:
" لم أسأم لحظة واحدة , وأرجو أن تصدقني! هل يسكن أصدقاؤك هنا طيلة السنة , أم خلال الصيف فقط؟".
" خلال الصيف فقط , لكنني أعتقد أن دون سلفادور لن يغادر قصره هذا متى تزوجت أنطونيا؟".
" هل هي مخطوبة ؟".
" نعم , لكن الأمر لم يصبح رسميا بعد , وجدت أخيرا الرجل الذي يليق بها , مع أنه لا يشاطر حب والدها الكتب , بنظرها , محترف واحد في العائلة , يكفي!".
" بعض النساء يقبلن أن يكون أزواجهن من محترفي الكتب النادرة , وهذه كانت حال جدتي".
" هذا أستثناء للقاعدة , فمعظم النساء يشعرن بغيرة من هذا الشغف , وهدف الهاوي يقع على أمرأة هاوية مثله , وهذا نادر جدا".
كانت صوفيا تفكر بجواب عندما سمعت كارلوس يطلق شتيمة وينعطف بشدة جانبا كي يتحاشى أصطداما بسيارة غير مضاءة برزت أمامه وسط الطريق بسرعتها الجنونية.
وبأعجوبة , لم يكن للصخر وجود في طريق أنعطاف السيارة التي غاصت في العشب والأشواك وتوقفت على بعد أنتفاضة أخيرة.
سأل كارلوس في الحال:
" هل أصبت بجراح".
أجابت بصوت متقطع :
" لا ..... لا........".
" هذا النوع من الناس يشكل خطرا كبيرا على السلامة , كان بأمكانهم قتلنا ببساطة , آه , لو كنت قرب الهاتف , لطلبت من شرطة المنطقة الألتفاف لملاحقتهم!".
" لماذا لم يشغلوا أضواء السيارة؟".
" الله وحده عالم بالأمر , لا شك أنهم سكارى ليقودوا بهذه السرعة الجنونية , كل ما أعرفه , هو أننا محظوظون أذ تمكّنا من الخروج سالمين".
كان على حق , فأحدى العجلات كانت ملتوية كليا , وبحاجة لأستدعاء فريق التصليح.
سألته صوفيا:
" هل ما نزال بعيدين عن المزرعة؟".
" 25 كيلومترا تقريبا من المزرعة , و15 كيلومترا من منزل آل يوبيرا .... يجب أن نطلب من هذه المزرعة القربة من هنا أن تؤوينا ..... لن تتمكني من المشي بسهولة في هذه الأحذية العالية ... أنتظري......".
فتح صندوق السيارة وقال:
" صباح اليوم ترك ستيفان كل معدات كرة المضرب داخل الصندوق , فسترتدين حذاءه ربما يكون واسعا , لكنه أفضل من حذائك العالي الكعب , أجلسي سأساعدك على أنتعاله".
أطاعت صوفيا بصمت وهي ما زالت تحت الصدمة العنيفة , ركع ليساعدها على خلع صندلها المقطع , فرأت الدم ينزّ من صدغه , فصرخت تقول:
" لكن , أنت مجروح؟".
" أنا , لا, أبدا!".
" بلى , يا كارلوس ! أنظر".
لمست خده النحيل وأرته أطراف أصابعها الملطخة بالدم.
" هذا جرح بسيط , لم أشعر به".
أخرج منديلا من جيبه ومسح وجهه , ثم قال لها:
" أعطني يدك لأمسح أصابعك وألا أتسخ فستانك ... لكنك باردة يا عزيزتي! أرتدي سترتي أذن!".
وبلحظة سريعة خلع سترته ووضعها على كتفي صوفيا فقالت:
" " لا أشعر بالبرد , لا شك أن ذلك ناتج عن الأنفعال والصدمة , وبعد قليل سأشعر بتحسن فلا داعي أن....".
" لا تناقشي أرجوك".
مشيا حوالي ثلاثة كيلومترات عبر الحقول قبل أن يصلا الى المزرعة البيضاء تحت ضوء القمر , لم يترك كارلوس يد صوفيا التي كانت تعود الى روعها.
" هل ستطلب من صاحب المزرعة أن يعيرك سيارته؟".
" ربما لا يملك سيارة ! سنضطر أن نقضي الليل هنا , هيلاريو يستيقظ باكرا ومتى لاحظ غيابنا , سيبدأ في البحث عنا وسيجدنا من دون شك".
لا أثر لأي شعاع نور من خلال النوافذ الخشبية المقفلة , طرق كارلوس الباب عدة مرات , وبعد دقائق طويلة , أنفتحت مافذة فوق رأسيهما وظهرت بندقية مصوّبة أليهما , لكن عندما شرح كارلوس سبب وجودهما , أختفت البندقية , وبدأت تسمع أصوات الأقفال , أخيرا أنفتح الباب.\كان الرجل ذا لحية بيضاء طويلة تخفي خدين غائرين ومجعدين , وبدأ يتكلم األأسبانية بلهجة لم تتمكن صوفيا من فهمها.
أضاء الفلاح قنديلا على الغاز وأخذهما إلى غرفة في الطابق الأول ولشدة دهشة صوفيا كان السرير واسعا يحتل وسط الغرفة والجدران مليئة باللوحات الزيتية.
فتح المزارع العجوز باب الخزانة وقال :
" خذي ما تريدينه من شراش وأغطية".
فشرح كارلوس لصوفيا بالأنكليزية ثم أضاف:
"" توفيت زوجته , وهو لا يعرف شيئا حتى تأتي خادمة من القرية لتهتم بهذه الأمور".
فتح المزارع درجا وشرح لها كارلوس ما قاله:
" أنه يقدم لك قميص نوم كانت تملكه زوجته .. هل تعتقدين أته بإستطاعتك النوم في هذا الجو؟".
" على الأقل , في هذا المناخ , الفراش ليس رطبا , غرفتك ربما جوّها رهيب أكثر...".
" من يعلم , ربما عليّ أن أتقاسم سريره؟".
وبعد أن أشعل الضوء , تمنى المزارع لصوفيا ليلة سعيدة وخرج برفقة كارلوس.
كانت الشراشف تعبق فيها رائحة زهرة أكليل الجبل , وقميص النوم المزينة بالدانتيل على طرف الأكمام وحول العنق , كانت تغلف الفتاة من قدميها حتى ذقنها.
فتحت النوافذ الخشبية وراحت تتنفس بملء رئتيها الهواء المنعش , وعندما أنتفضت لسماعها طرقا على الباب , هتفت:
" أدخل".
دخل كارلوس حاملا بيده فنجانا ساكنا .
" المزارع أعدّ لك فنجان زهورات , أظن أنه زهي البرتقال ".
أجابت صوفيا وهي تضع الفنجان على الطاولة :
" أنه ساخن جدا , سأدعه ليبرد قليلا قبل أن أحتسيه , لقد فتحت النوافذ الخشبية .... لأنني كنت أكاد أختنق...".
" وهذا القميص الواسع الطويل ليس معدا لمثل هذه الظروف ".
" ماذا سنفعل في حال لم يجدنا إبن عمك صباح الغد؟ هل يمر الباص من هنا ؟".
" لا تقلقي , سيصل هيلاريو إلى هنا حتى قبل أن تستيقظي".
" هذا إذا إعتقد بوجود حادث , آه , طبعا ...... لكن , ربما ظن.... أن هنالك شيء آخر....".
" ماذا مثلا؟".
" أوه ...... أنه لا يعرفني ....... وبإمكانه أن يتخيّل أنه ..... أننا نحن.....".
" هذا ما تفكرين فيه , أنت؟".
" لم أقل هذا ........لكن......".
" أذن أنت لن تثقي بي أبدا ! بإمكاني أن أتصرّف معك مثل أخ لمدة شهور عديدة , لكنك ستظلين دائما متحفظة وبإستعداد للدفاع.......".
" عذا غير صحيح".
لكنه لم يسمع من شدة الغضب.
" هذاالفلاح يتصوّر أنك خطيبتي , يبدو أنه شامخ بأنفه ومتكلّف , أذا لم يرني عائدا إلى المطبخ بعد بضع دقائق , سيصعد إلى هنا حاملا بندقيته ويخرجني بالقوة , أذن , بإنتظار ذلك , ما دمت قد قررت عدم الثقة بي , فمن الأفضل لك أن تبرري خوفك......".
جذبها بشدة بين ذراعيه وراح يعانقها بشغف كأنه يعرفها ويحبها من زمن بعيد وقد ألتقاها بعد أشهر عديدة من الفراق....
وقبل أن تستعيد صوفيا وعيها , دفعها بعنف وخرج صافقا الباب , سمعته يهبط السلالم ويصفق بابا آخر , ثم عمّ الصمت الكامل.
وفي اليوم التالي أيقظتها أشعة الشمس التي خرقت وجهها , ولما نظرت إلى نفسها وشاهدت قميص النوم , تذكرت كل شيء , نظرت إلى ساعة يدها : التاسعة.
قفزت من السرير وأول ما فكرت به إيجاد المرحاض أو الحمام , أرتدت ثيابها بسرعة ومشطت شعرها ونزلت.
سمعت حديثا بالأسبانية أوصلها إلى داخل المطبخ , فتحت الباب المشقوق , ولدى دخولها , نهض المزارع وأحد خدم السيد هيلاريو , فتحت صوفيا عينيها المندهشتين وقالت بعد أن حيت الرجلين:
" أين دون كارلوس؟".
" ذهب إلى المطار , يا آنسة , طلب مني دون هيلاريو أن آتي لآخذك الى المنزل , ستجدين ثيابك وكل أمتعتك في هذه الحقيبة".
" شكرا , لكن.... لا أفهم , متى ذهب دون كارلوس ؟ ولماذا ذهب إلى المطار ؟ وأي مطار؟".
" مطار مالاغا , يا آنسة , لا أعرف المزيد, أظن أن دون هيلاريو سيشرح كل الأمر بالتفصيل , ولا يمكنني أن أقول لك في أي ساعة ذهب , لقد تلقيت الأوامر بإنتظار نهوضك من النوم".
" فهمت....".
ذهب كارلوس من دون أن يودعها! هذا أمر لا يصدق ! أهذه هي نهاية المطاف؟".
" هل بإمكانك أن تسأل صاحب المنزل أين هي المراحيض؟".
بعد أستشارة المزارع أجابها الخادم :
" المراحيض صغيرة جدا وتقع خلف المزرعة , في حجرة مبنية من ألواح الخشب السميكة , سيدلك العجوز إلى مكانها , وفي هذا الوقت سآخذ دلوا وماء ساخنا إلى غرفتك".
بعد ساعة كانت صوفيا قد وصلت إلى المزرعة , لم يكن هناك أحد , وحتى عودة الماركيز وعائلته من روندا , ظل القلق ينخر أعصابها.
قال لها هيلاريو لدى عودته:
" لا شك أنك ستفرحين أذا علمت أن المسؤولين عن الحادث قد أعتقلوا , كانوا يهرّبون المخدرات , سيسجنون عل الأقل مدة ست سنوات".
" لا شك أن البوليس يريد التحقيق معنا , وكارلوس هل سيعود للشهادة؟".
" طبعا , لكن في الوقت الحاضر , عنده أعمال طارئة تتطلب وجوده هناك , يا شعب مايوركا المساكين!..... كان حظهم أنحس من حظكما , أمس......".
قالت صوفيا من دون أن تفهم شيئا:
" شعب مايوركا؟".
قالت الدونا لويزا وهي تنظر إلى الفتاة:
" لا يمكن لصوفيا أن تكون قد عرفت ما حدث , يا هيلاريو , ما بالك! علمنا أمس , في آخر السهرة أن حادثا قد حصل مع خمسين سائحا أنكليزيا كانوا في الباص متوجهين إلى زيارة معمل اللؤلؤ , وكارلوس صاحب الفندق حيث أرادوا النزول , فسافر للحال ليساعدهم , سيشعرون بأمان وإرتياح إذا ما زارهم في المستشفى , خاصة أنه يتكلم الأنكليزية".
عاد الماركيز يقول:
"عندما وجدت كارلوس في المزرعة , صعدنا إلى غرفتك لنعلمك بالأمر , لكنك كنت تنامين بعم , ولم يرد كارلوس إزعاجك".
وفي الواقع , لم تفهم إلا شيئا واحدا , وهو أن رحيل كارلوس المفاجىء ليس له علاقة بما حصل لهما مساء أمس في غرفتها , مباشرة قبل النوم , وشعرت بإرتياح كبير .
قالت في لهجة قلقة:
" لكنه لم ينم ما فيه الكفاية".
" آه , لا شك أنه يعوّض في الطائرة , يعرف كارلوس كيف يستريح عند الطلب , ولو حصل ذلك مع غيره لأنزعج لأن سيارته قد تحطمت أو صدم بما حصل , أما كارلوس , فلا يجب التوقف عند مشاكله , يكفي أن يتصفح كتابا من كتبه العزيزة على قلبه لينسى ما تبقى".
راحت تسترجع بمخيّلتها تصرّف كارلوس الشهم , عندما كان بينها وبين البندقية المصوبة إليهما من قبل مزارع عجوز غير واثق... ما زالت تسمع حتى الآن صوته العذب عندما قال لها : ( لكنك باردة , يا عزيزتي! ) وبالإضافة إلى كل هذه الأمور , فهي تتذكر عناقه , هذه اللحظات المضطربة التي لا توصف , وفي الوقت الذي كادت فيه أن تسترجع وعيها لتضمه بدورها بين ذراعيها , كان قد دفعها بعنف وخرج من الغرفة كالمجنون......
وبعد يومين على الحادث وصل شرطي إلى المزرعة لأخذ شهادة صوفيا , وكان يجب أنتظار يومين آخرين قبل الحصول على أخبار من كارلوس , ولم يتكلم إلا عن الحادث الذي تعرّض له الباص الذي كان ينقل السياح الأنكليز , ولم يشر برسالته المقتضبة عن الحادث الذي تعرض له مع صوفيا , أو عن صوفيا , أو عن تاريخ عودته........
وأخذت الأيام تبد طويلة لصوفيا التي لم تتلق بطاقة بريدية واحدة منه , هل نسيها؟ هل ندم على تصرفه؟ هل سيعود؟ أسئلة عديدة كانت تعذب الفتاة بصورة مستمرة.
وبعد أسبوع , عندما كانت في غرفتها تكتب رسالة الى عمتها روزا في وقت القيلولة , جاءت الخادمة لتخبرها أن دون هيلاريو يريد أن يراها في الحال في الصالون التابع لجناح الماركيزة.
فوجئت صوفيا بالخبر , وإرتدت فستانا وتوجهت بسرعة إلى جناح لويزا , ولما رأت التعبير الحزين على وجه الماركيز وزوجته , والتلغراف في يد هيلاريو , أنتابها خوف شديد فصرخت بصوت مخنوق:
" يا ألهي... كارلوس؟".
قالت لويزا وهي تنهض من مقعدها :
" لا , لا , صوفيا , الخبر لا يتعلق بكارلوس! أنها أخبار سيئة من أنكلترا".
تناولت البرقية من يد زوجها ومدتها إلى صوفيا التي قرأت ما يلي:
" جدك في حالة مرضية خطيرة يعتقد الأطباء أن شفاءه مستحيل , هل بإمكانك الحضور؟".
الله وحده يعرف كم كانت صوفيا تحب جدها , وكم كان خبر نهايته تمزيقا رهيبا لها.... لكن لو حدث شيء كريه لكارلوس , لكان الأمر فاجعة لا توصف........
أجلستها لويزا لشدة أرتجافها وقال لها الماركيز :
" سنفعل كل ما في جهدنا أن نجد لك مكانا فارغا في رحلة مالاغا- لندن لهذا المساء, وفي منتصف الليل , تصلين إلى منزل جدك".
" والأولاد ؟ ماذا ستفعلون؟".
أجابت المرأة بلطف ومحبة:
" لا تقلقي من أجلي سنتدبر أمرنا , المهم أن تعودي إلى عائلتك في هذا الوقت العصيب , سيأخذك هيلاريو إلى مالاغا ..... من المؤسف أن كارلوس ليس هنا , لكان أوصلك حتى منزل جدك".
" في كل حال , لقد تعودت السفر وحدي".
" لا أشك في الأمر , لكن , ألا تعتقدين أنه لو كان كارلوس معك لكان أهتم بك كثيرا؟".
" نعم , بكل تأكيد ".
تذكّرت صوفيا رحلتها إلى السييرا والإهتمام الزائد الذي أحاطها كارلوس به , نعم , لا شك أنها تفرح كثيرا لو يرافقها كارلوس في سفرها إلى لندن .... لكن , من الآن فصاعدا , يقول لها أن عقلها عليها أن تتكل على نفسها , فلن تجد أحدا تستند إليه.... هل بإمكانها أن تنسى كارلوس؟
وصلا إلى المطار نصف ساعة قبل أقلاع الطائرة وكان من المستحيل الإتصال هاتفيا بالعمة روزا لإعلامها بمجيئها.
" لا تقلق علي , يا هيلاريو , الطريق من مطار غاتويك ليست معقدة".
كانت الشمس تغيب عندما أقلعت الطائرة حاملة السيّاح ورجال الأعمال , وبحزن وصمت جلست صوفيا في المقعد وأغمضت عينيها.
وبينما كانت الطائرة تحلّق فوق الساحل بإتجاه الشمال , عادت إلى ذاكرتها أبيات الشاعرة الأسبانية , روزالبا كاسترو , التي كتبت تقول:
" ولا في أي مكان على هذه الأرض , يا أيتها السعادة , بإمكاني أن أجدك بعد الآن , غير أنني أعرف أنك موجودة ولست فقط حلما جميلا".