قال كارلوس:
" لقد فكرت أنه بدلا من العودة من الطريق نفسه , بأمكاننا أن نسلك الطريق الآخر من الجهة المعاكسة".
قالت صوفيا متعجبة:
" أعتقدت أن الطريق تنتهي في القمة؟".
سأل ساشا:
" ومتى تنويان الرحيل؟".
نظر كارلوس الى ساعة يده وقال:
" متى تصبحان جاهزن , والأفضل أن نذهب باكرا".
بعد عشر دقائق وتحت سماء ملبدة بدأت رحلة العودة , عاصفة أخرى تنذر بالوقوع , تمثال ( عذراء الثلوج ) كان رماديا تحت الغيوم السوداء التي كانت تبث نورا غير محدد.
وعلى الطريق يفطة تنبّه السائقين بأن طرق الشمال يمكن أن تسلكها فقط الآليات الخفيفة وسيارات الجيب , مع بعض التحفظ , فقال كارلوس بعد أن خفّف سيره ونظر الى صوفيا :
" أذا كانت هذه الطريق تخيفك , فلسنا مضطرين لأخذها , بأستطاعتنا العودة كما أتينا ( ببساطة)".
سأل ساشا:
" هل تعرف الطريق جيدا ؟".
" نعم , أنها صعبة , لكنها غير خطرة .. ماذا , يا صوفيا , أنا بأنتظتر جوابك".
" أنا أثق بك كليا , كسائق محترف".
أكمل كارلوس طريقه بعد أن همس بأذن الفتاة قبل التركيز في القيادة :
" لكن , كسائق فقط..... أليس كذلك؟".
النزول المثير دام حوالي ثلاث ساعات , وشعرت صوفيا كأنها ضائعة في هذه الصحراء الصخرية التي نعصف بها الرياح , ولأميال شاسعة , كان المسكن الوحيد ملجأ لمتسلقي الجبال , وكان يدعى ( ملجأ ريو سيكو) , وفي كل لحظة كان يبدو لصوفيا أن طرف الطريق سيتهدم تحت عجلاتهم وسيقع معهم في الهاوية , أخيرا لمحوا آثارا للحياة : من بعيد ظهر ظطيع ماعز أسود , ومنزل صغير تقف أمامه أمرأة ترتدي ثيابا سوداء من رأسها حتى أخمص قدميها وكانت تنظر اليهما نظرة حادة.
توقفوا عن متابعة السير في قرية كابيليريا لتناول الغداء , فقد أخرج كارلوس زجاجة الماء المعدنية ووضعها في الماء المثلجة , وسلة المأكولات الباردة التي أحضرها من مطبخ الفندق , وبعد الأكل شعرت صوفيا بالنعاس وراحت تتثاءب مثل ساشا , أما كارلوس فكان نشيطا كأنه لم يأكل ولم يقد كل هذه المسافة.
وبعد كابيليرا , أصبحت الطريق محدودة بالغابات والحقول والعرائش , توقف كارلوس أمام مقهى صغير وسأل:
" قهوة؟".
وافق الجميع , وبينما كانوا يجتازون الطريق قال كارلوس بلطف:
" آمل أن تكون المراحيض هنا نظيفة!".
وفي أواخر بعض الظهر وصلوا الى المخيّم , أوقف كارلوس السيارة أمام الباب , فنزلت صوفيا وساشا قبل أن يتمكنا من شكره , كان قد أقلع في الحال .
وقالت صوفيا لنفسها في حزن كبير : هذه الصفحة قد أنتهت , وسأقضي الصيف وربما بقيةحياتي , نادمة على رجل سينساني بعد أيام معدودة....
ولما توجهت الى مقصورتها شعرت بحزن وكآبة , ولم تنم ليلتها جيدا بل أستيقظت بألم حاد في رأسها.
وفي منتصف الصباح رآها ساشا وأسرع يقول لها:
" يريد كارلوس أن يودعك , فهو ينتظرك أمام مقصورتك".
" آه , صحيح".
توجهت صوفيا ببطء نحو مقصورتها بعد جهد كبير لتبدو هادئة وغير مبالية , فقالت:
" قال لي ساشا أنك راحل , هل أمامك طريق طويلة؟".
" كلا , ليس كثيرا".
" أذن..... أتمنى لك رحلة موفقة, يا كارلوس".
مدت له يدها , أخذها وتركها لين يديه ثم تردد لحظة قبل أن يقول:
" في الواقع , جئت لأقنعك بالمجيء معي".
" المجيء معك؟".
" لا تتقلصي , لا أقوم بأقتراح وقح , لكن أبناء عمي تعرضوا لمشكلة بسيطة , ربما أنت قادرة على مساعدتي لحلها , مساء أمس , أتصلت هاتفيا بهيلاريو لأعلمه بوصولي , فأخبرني , أن مربية الأولاد , الآنسة سميث , دخلت المستشفى لأجراء عملية جراحية صغيرة , وسألني أذا كنت أعرف فتاة أنكليزية قادرة أن تحل مكانها لمدة أسبوعين أو ثلاثة , وقد فكرت فيك".
" لكن......... وعملي هنا؟ وسيارتي؟".
" كلمت بيدرو بالأمر , فلا مانع لديه أن يحررك , أما بالنسبة الى السيارة , فلن تكون مسألة أيصالها الى المزرعة عملية صعبة".
كانت ترغب في أن تسأله كم من الوقت سيبقى عند أبناء عمه , لكنها وجدت الأمر دقيقا للغاية , فقالت:
" هل يعيدني بيدرو الى المخيّم متى عادت المربية الى عملها؟".
" طبعا , ربما أقترح أبناء عمي عليك شيئا آخر , عملا مثيرا أذا ما أردت تمديد مدة أقامتك في أسبانيا , صحيح أن عملك هنا في المخيم ممتع لكن لا يمكنه أن يقدم لك ألا نظرة محدودة عن حياتنا , ألا ترغبين في أكتشاف أسبانيا الحقيقية خارج السياحة؟".
" بلى , طبعا ".
" أذن , أنت موافقة للذهاب".
" لكنني لم أهتم كثيرا بالأولاد .... وأخاف أن....".
" لا أهمية لذلك , سيطلب منك مراقبتهم , وقراءة القصص.... أحيانا تضطر لويز في غياب المربية أن تحل مكانها , لكنها الآن حامل وعليها الأهتمام بنفسها على أكمل وجه".
" أذن, سأغتنم هذه الفرصة لأكتشاف الحياة العائلية في أسبانيا ".
" عظيم جدا".
كان يبدو أنه لم يشك لحظة واحدة أنها سترفض طلبه".
" كم تحتاجين من وقت لتحضري حقائبك؟".
" نصف ساعة".
وبعد ساعة , ودّعت صوفيا آل فينغيلد وساشا وكل العاملين في المخيم ورافقت كارلوس في طريقه الى مالاغا , هل هذا القرار كان عاقلا؟ لا شيء يؤكد ذلك....
أخرج من الصندوق الداخلي خريطة وأعطاها لصوفيا التي فتحتها ورأت أمامها كوستا ديل سول بكاملها , لكنها ما لبثت أن عادت تتذكر سهرتها الأولى في برشلونة عندما همس كارلوس في أذنيها بعد أن عانقها :
" تصبحين على خير , يا حبيبتي".
رأت نفسها من جديد بين ذراعيه وراحت تحلم في اليقظة... وتتخيّل أنهما ذاهبان في رحلة شهر العسل.....
أنتفضت وعادت الى الواقع عندما سمعت زمورا قويا , يا ألهي ما هذا الجنون في الأسترسال بأطلاق العنان لمخيلتها المجنونة! كانت السيارة البيضاء الكبيرة تلتهم الأميال , توقفا للغداء في محطة ماريبللا الأرستقراطية ثم وصلا الى سان بيدرو في حوالي الرابعة , ومن هناك أنعطفت السيارة من الطريق الدولي لتدخل الطرق الفرعية داخل الأراضي , ولاحظت صوفيا أن منطقة روندا الجبلية هي أكثر توحشا من منطقة غرناطة الساحلية.
قال كارلوس كأنه قرأ ما يراود أفكارها:
" هذه المنطقة كانت في الماضي مليئة بالأرهابيين اللصوص حتى نجح البوليس بالتخلص منهم منذ عشرين سنة تقريبا".
ومن وقت الى آخر , كان يبطىء سرعته كي تتمكن من رؤية الوديان المنحدرة والقمم البعيدة , في هذا المكان الضائع , المخصّص فقط للنسور.... البرية , يبدو وجودهما عملية وقحة.
وبقيا مدة ساعتين يغوصان في هذه الصحراء , خفّت أشعة الشمس الحارة وأصبح الهواء منعشا , ولما وصلا الى القمة , توقف كارلوس ليفتح صندوق السيارة وفي هذا الصمت المفاجىء رأت صوفيا من بعيد قطيع ماعز , أنخفضت الشمس قرب المحيط وبعد قليل سيحل الظلام.
أعطاها السترة الكحلية وقال:
" عليك أن تضعي السترة من جديد".
فأرتدى هو أيضا سترة بنية وظلّ مدة غير قصيرة واضعا يديه على وركيه يتأمل المنظر الرائع , والنسيم الناعم يلعب بشعره الأسود ونور شمس المغيب أعطى بريقا برونزيا على وجهه , ولاحظت صوفيا أن كارلوس هو فعلا أبن هذا البلد الخشن, وفي الحال عادت الى ذاكرتها جميع القصص التي حاكتها حول ( حاكم السيبرا) ..... وخاصة رحلة الخيل في الجبل...... هل هذا نذير..........؟
وكأنه لاحظ أنه مراقب , نفض يديه وصعد الى السيارة , لكن , بدل أن يقلع كالعادة , جلس جانبا وراح يحدق مطولا بصوفيا.
سألته بصوت متوتر عن الطريق وطوله:
ط كلا , ليس كثيرا , هل أنت متعبة؟".
" لا , أبدا , لكن هذه المنطقة منعزلة تماما , أليس كذلك ؟".
ظل كارلوس صامتا مدة طويلة حتى رمقته بنظرة سريعة , فنظر اليها بشغف قوي لم يسبق أن رأته هكذا من قبل , ألا في أحلامها العديدة.
" ألم يخطر ببالك أن أبناء عمي ليسوا سوى حجة وأنني لم أعد مرتبطا بوعدي؟".
في أحلامها الماضية كانت ترى أنه من السحر أن تقع في أيدي رجل جذاب يحاول أغراءها , لكنها أكتشفت اليوم أن هذا الوضع ليس مريحا ولا وجود للسحر فيه!