3- خاتم وليل وحصان
لدى وصولها الى الفندق كانت لوريل مرهقة كليا , في الطريق توقفت عدة مرات , والآن لا تستطيع أن تقوم بخطوة أضافية من دون أن تقع أرضا.
كان الليل قد حل وشعرت بأرتياح عندما رأت أخيرا المصابيح الحديدية تبث نورا آمنا , وبصعوبة كبيرة أجتازت لوريل الشرفة الفارغة لتضع السلة على باب المطبخ , لا تطلب أكثر من حمان ساخن لتريح ساقيها المتألمتين , ثم النوم الباكر , ولحسن الحظ , الفندق لا يتبع التوقيت الأسباني , والعشاء يقدم في الثامنة بدل العاشرة , كما هو التقليد في أسبانيا.
كانت تجتاز البهو عندما سمعت صوتا يناديها , أنها السيدة آلين , زوجة صاحب الفندق , وعلى مضض توقفت , أشارت لها المرأة بالدخول الى الصالون الخاص , قائلة بصوت منخفض:
" لو سمحت بلحظة , يا آنسة , لدي شيء سأقوله لك".
" طبعا".
تبعتها لوريل الى الشرفة الصغيرة , محاولة أخفاء تعبها وقلقها . هل حصل شيء ما لأيفونفي غيابها؟
سألت بقلق :
" ماذا جرى؟ حادث ما؟".
أشارت السيدة آلين بعلامة النفي , لكن تعبير وجهها لم يكن مطمئنا , وما أن جلستا حتى باشرة السيدة الحديث قائلة:
" لا أريدك أن تعتبري كلامي عن سوء ظن ومن مبادئي ألا أتدخل في شؤون النزلاء.... لكن هذه المرة أعترف بأنني منزعجة جدا.....".
تقلصت يدا لوريل على طرف المقعد وسألتها:
" لماذا أذن؟".
يا ألهي , هل وصل خبر مغامرتها الى الفندق؟ هل هناك شكوى ضدها؟
تلعثمت وهي تضيف:
" ماذا ..... ماذا حدث؟ ماذا فعلت؟".
" آه , يا آنسة , الآمر لا يتعلق بك أنت! لو كان جميع النزلاء لطفاء مثلك, لكانت حياتنا عذبة ! للأسف , المشكلة تتعلق بالآنسة سيرل".
ماذا فعلت هذه الأبنة المدللة ؟
تابعت السيدة كلامها وكأنها تعتذر:
" أعرف جيدا بأنها ما زالت صبية ولا تفعل ألا ما يدور في رأسها , لكنني أعتقد أنه من واجبي أن أحذّرها".
" ضد ماذا؟".
" أنها تتصرف بطريقة تافهة وحمقاء مع أحد العاملين هنا , ألم تلاحظي ميلها الواضح الى رينالدو؟".
تجهم وجه لوريا وقالت:
" لا..... كيف أشك بذلك ؟ لقد وصلنا منذ ثلاثة أيام فقط , وهذه أول مرة أتركها وحدها.....".
قالت السيدة آلين بلهجة قاسية:
" أذن فهي لم تضع وقتها , لقد فاجأتهما في الحديقة , آه , لا تقلقي........ لا شيء يدعو الى القلق..... لكن يتهيأ لي أنهما أمضيا فترة بعد الظهر معا على الشاطىء .... المشكلة تحصل بسرعة ...... رينالدو شاب وسيم , لكن الفتيات الأسبانيات لا يتصرفن عامة بهذه الطريقة , آه , لا أعرف أذا كنت تفهمين ما أقصده , السياحة لم تقتحم الجزيرة بعد , في كل حال الكونت يمنع ذلك , نحن بعيدون جدا عن الوطن الأم وما زلنا نعيش هنا كما في العصر الماضي......".
لوريل تصغي بشرود لشدة تعبها والسيدة آلين تتابع قائلة:
" جزيرة المصير ملكية أسبانية منذ أربعمئة سنة تقريبا , وحاكمها الحقيقي هو الكونت ..... يعيش في القصر االذي يسيطر على الجزيرة كلها , لا يسمح بالتطور والأنماء ألا تدريجا – لدينا مستشفى صغير حديث الطراز , ومدرسة جديدة , الفقر غير وارد عندنا ...... لكن الباقي....
رفعت السيدة آلين كتفيها بأناقة , فهزت لوريل رأسها موافقة بينما كانت تفكر بشيء آخر , تابعت المرأة تقول:
" ولهذا السبب أطلب منك أن تتحدثي مع الآنسة سبرل , حاولي أن تفهميها أن سكان الجزيرة سيعتبرون تصرفها هذا فاسقا , بالنسبة اليهم , تنقص قيمة الفتاة أذا تصرفت بوقاحة مع الرجال , أما الصبيان بدورهم فلا يتذمرون أبدا , بل بالعكس , خاصة أمثال رينالدو الذي قضى مواسم السياحة على شاطىء الكوستا برافا ود ليتباه بأنتصاراته النسائية , لا نريد شيئا كهذا هنا , قضية آل سميث تكفينا......
حبست لوريل أنفاسها وبتهذيب وليس عن فضول , سألتها:
" آل سميت أتوا الى هنا لتمضية بضعة أشهر مع أبنتهما الوحيدة , التي ولدت بعد زواج دام عشرين سنة , ربياها تربية صارمة وجدية , والسيدة سميث جاءت لتقضي فترة النقاهة في هذه الجزيرة بعد مرض طويل , ولم يسبق للأبنة أن رأت من قبل شابا وسيما مثل رينالدو ,وبسرعة وقعت في غرامه , وصل السيد سميث الى هذه الجزيرة مع زوجته وأبنته وبقي معهما أسبوعا واحدا ثم عاد الى لندن لمتابعة أعماله , لكن عندما جاء ليصطحبهما الى بلاده في الوقت المحدد , كانت المصيبة قد حلت!".
" ماذا حصل؟".
" حملت الفتاة!".
" وهل حصل ذلك هنا؟".
" نعم , رينالدو أعترف بمسؤولية ما حدث , لقد أرتمت سارة في أحضانه , ومع أنه طلب يدها , لكن السيد سميث رفض بأصرار , لم يسمح لأبنته الوحيدة أن تعقد زواجا جبريا وهي ما تزال في السادسة عشرة من عمرها , وبسرعة حمل السيد سميث عائلته وعاد بهما الى لندن , بعدئذ لم نسمع بأخبارهم , أتساءل أحيانا ما حل بسارة ..... والأهم أن الكونت كان حانقا جدا........".
وبعد هذا السرد الطويل توقفت السيدة آلين عن الكلام لاهثة , أما لوريل فكانت تفكر بما سمعته , نهضت وقالت:
" أشكرك لتنبيهي لما حصل , سأتحدث في الأمر مع أيفون".
في أعماق تفكيرها تعرف لوريل بأنكلامها مع أيفون لن يجدي نفعا , في كل حال أيفون ليست فتاة بسيطة وساذجة وتعرف ما ينتظر منها في حال قامت بمغامرة عاطفية.
غيّرت السيدة آلين الموضوع وسألتها:
" هل قضيت نهارا جميلا؟".
" نعم , والآن أعذريني , أنا متعبة وأريد أن آخذ حماما ساخنا ".
لكنها أدركت أن الوقت لن يسمح لها بأخذ حمام طويل , بل أكتفت بدوش سريع , التعب يضنيها لكنها قررت توضيح الأمور نهائيا مع أيفون من دون تأخير , فذهبت للتفتيش عنها , لكنها لم تجدها , ومن باب غرفة الطعام رأت رينالدو يضع الصحون على الطاولات , فشعرت بأرتياح وراحت تغيّر ملابسها.
فوجئت لوريل بوجه أيفون وشعرها المشعث عندما وافتها الى صالة الطعام , بالكاد ذاقت وجبة الدجاج وتصف الحلوى , ودفعت فنجان القهوة جانبا .
أنحنت لوريل نحو الفتاة الشاردة وسألتها:
" ماذا جرى , يا أيفون؟ لم تأكلي شيئا".
" لست جائعة".
" هل الأمور سيئة الى هذه الدرجة؟".
أنتفضت أيفون بأنزعاج وقالت:
" نعم , وأذا كنت تريدين معرفة كل شيء , فأنا أعاني من آلام المغص ومن ألم حاد في الرأس , سأتركك وأذهب الى فراشي".
خرجت من الغرفة كالصاعقة , ألتفتت الوجوه اليها , وزوجة الكولونيل عبرت عن أستيائها بحركة من رأسها.
وما أن أنتهت لوريل من أحتساء قهوتها حتى نهضت بدورها , هذا المساء لن تخرج الى الشرفة للقاء بقية نزلاء الفندق , كما هي عادتها بل صعدت الى غرفتها الواسعة التي تتقاسمها مع أيفون , مصممة على أعطاء أيفون حبة أسبرين مع فنجان شاي.
دخلت الغرفة على رؤوس أصابعها.
الغرفة مظلمة , أقتربت لوريل ببطء من سرير أيفون وأنحنت فوقها وسألتها بصوت منخفض:
" هل تريدين شيئا؟".
لا جواب , وجه أيفون تحت الوسادة وتنفسها متناسق , كانت تنام نوما عميقا.
منتديات ليلاس
نظرت لوريل الى ساعة يدها : أنها التاسعة , ترددت , الوقت ما زال باكرا للجوء الى النوم , لكنها متعبة جدا , خرجت الى الشرف , في النهار يبدو المنظر رائعا مطلا على البحر , لكن هذا المساء , القمر هلال والجو غامض , مصابيح الحديقة تبث نورا شحيحا فوق التماثيل والقوارير الفخارية والشجيرات المنثورة فوق العشب الأخضر , الفراشات ترتمي على الزهر وغناء زيزان الحصاد يقطع الصمت الليلي.
وأمام هذا الجو الرومنسي بدأت لوريل تحلم.... حلمت بأن فيليب هنا , قربها ...... بأنها أخطأت أتجاهه..... بأنه يحبحا حقا.... ليلة الكارثة أنمحت وعاد السلام كما من قبل.
أغمضت عينيها وهي تفكر به , لكن لم يكن وجه فيليب ما رأت.... بغضب شديد دخلت الى غرفتها , ألا يكفي أن فاجأها هذا الرجل الغريب وحيدة في الماء وعرّض حياته للخطر , أنه الآن يحتل أفكارها ..... حاولت لوريل أن تطرد صورته من ذهنها , فراحت تخلع ملابسها وتسرح شعرها وتلملم أغراض أيفون المبعثرة على البساط , ثم دخلت الى فراشها , لكن النوم طال: حوادث النهار ظلت تدور في رأسها كشريط سينمائي , ترى الشمس الحارقة والماء الشفافة والرجل الغريب المتعجرف بشعره الأسود وصوته العميق , الشمس والملح وذكرى ذراعي الرجل , كلها تحرقها بنار غريبة....
وبعدما تقلبت في سريرها مرات عدة , تمكنت أخيرا من النوم , لم تعد تسمع الأصوات الآتية من طرف الغرفة.
ألقت أيفون نظرات أرتباك على لوريل النائمة , ورفعت أغطيتها وأرتدت ملابسها بسرعة , نظرت الى ساعتها المعلقة بسلسال في عنقها , ثم حملت صندلها , وعلى رؤوس أصابعها خرجت من الغرفة.
عندما أنغلق الباب وراءها أحدث ضجة صغيرة , فأنزعجت لوريل في نومها , وجلست في سريرها وأضاءت المصباح , ولما لم تر أيفون في سريرها , قفزت بسرعة وفتحت الباب , شاهدت أيفون على السلالم , فأسرعت نحوها وسألتها:
" ما بك؟ هل أنت مريضة؟".
" لا عودي الى فراشك!".
" ألى أين ذاهبة؟".
غضبت أيفون وقالت:
" أخفضي صوتك , ستوقظين الجميع , أنا نازلة الى الطابق ألأرضي فقط".
" ولماذا أذن؟ لماذا لم توقظيني ؟ لجلب لك ما.....".
ولما رأت أيفون تهبط السلالم حافية القدمين , تبعتها وهمست تقول:
" لماذا أرتديت ملابسك؟".
" لأنني خارجة , حاولي أن تمنعيني! فهمت؟".
أمسكت لوريل بمعصم أيفون وقالت:
" أريد تفسيرا مفصى , ماذا جرى؟".
" لا شيء".
في هذه اللحظة أنفتح الباب على الممر وخرج منه السيد بينكلي الذي قال:
" ماذا يجري هنا ؟ آه, آه........ فتاتان جميلتان ! هل أنتما ذاهبتان الى موعد جميل؟".
صرخت أيفون :
" أوف , يا لحظي السيء!".
عادت الى الوراء ومرت قرب الرجل العجوز ثم دخلت الى غرفتها وصفعت الباب , بعد تردد قصير تبعتها لوريل والأحمرار يعلو وجهها........
أرتمت أيفون في سريرها تنتحب باكية فسألتها لوريل بجفاف :
" هل ستشرحين لي سبب كل هذا؟".
ناحت أيفون ورأسها على الوسادة وقالت:
" أنها غلطتك , لقد دمرت كل شيء , أذهبي عني , أنا أكرهك!".
" ماذا تعنين ؟ منذ قليل قلت لي بأنك متعبة والآن تهربين في السر..... أريد أن أعرف لماذا؟".
لم ترد , فأقتربت لوريل من سرير أيفون وقالت:
" هل سمعت ما أقوله؟ الى أين كنت ذاهبة؟".
" لدي موعد".
" موعد؟ في هذه الساعة المتأخرة؟".
" والآن , فات الأوان! لن يسعني الحصول عليه , أه , ماذا سأفعل؟".
أرتبكت لوريل وأنحنت فوق أيفون الباكية وقالت:
" ماذا تعني هذه القصة الغامضة؟ هل ستشرحين لي مفصلا؟".
" أنه خاتمي".
" الخاتم؟".
" خاتم الياقوت , سعره باهظ , أهداني أياه والدي في عيد ميلادي , وسيغضب مني".
" هل أضعت الخاتم".
" نعم , اليوم".
تذكرت لوريل الخاتم الذهبي وحبتي الياقوت على شكل حية , لاحظته في أصبع أيفون عندما دعاهما غوردن سبرل الى الغداء ., لماذا أرتدت أيفون هذا الخاتم الثمين في هذا المكان المنعزل؟
" متى رأيته آخر مرة؟".
" لا أتذكر جيدا.........".
" هل كنت تلبسينه اليوم؟".
" نعم".
" الى أين ذهبت في غيابي؟".
" أوه...... لا أدري.... الى شاطىء البحر.......".
فجأة أنتفضت الفتاة وجلست على السرير وصرخت وهي لا تجرؤ على النظر الى لوريل:
" آه , وماذا بعد؟ سأقول بأنني أضعته وهذا كل ما في الأمر !".
" لا أفهم ما تقولين , أذا لم تجدي هذا الخاتم , سأضطر الى أعلام السيدة آلين بذلك كي تعلن بدورها عنه في مركز الشرطة".
" آه , لا ! لا ! , أرجوك , لا تقولي شيئا!".
" هيا أخبريني كل شيء".
" شرط أن تعديني بالأحتفاظ بالسر".
تنهدت لوريل وقالت:
" لا أريد سوى صالحك , يا أيفون".
" أذن , دعيني أخرج من هنا , وأذا عارضت , ستوقظين جميع نزلاء القصر".
" أسمعي , يا أيفون , لست ساذجة ولا فتاة صغيرة , لن تدعيني أصدق بأنك أضعت هذا الخاتم , مع من كنت على موعد؟".
" مع رينالدو , هو الذي يحمل خاتمي".
" وكيف حصل هذا......".
" كنا على الشاطىء بعد الظهر ونسيت أنني ألبس الخاتم , فلاحظه رينالدو وقال لي بأنني ربما أضعته في الماء , أردت أن أعود الى الفندق لأخبئه في حقيبتي , لكنه أقترح علي أن يعلقه بسلسلة عنقه".
هزت لوريل رأسها , فتابعت أيفون الكلام:
" قبلت عرضه , لكن عندما طلبت منه أن يعيد لي الخاتم , بعد السباحة , قال لي أن آتي لآخذه بنفسي , وحينئذ بدأ يعانقني و....... و.....".
" ورفض أن يعيد لك الخاتم , أليس كذلك؟".
" نعم , وعدني أن يعيده الي هذا المساء , في منتصف الليل , في الخليج الصغير الواقع خلف القرية".
" يا مسكينة ! وصدقت كلامه؟ ألا تعرفين بأنه يسخر منك ؟".
" آه , ثقي بي , أعرف تماما كيف أعامل هذا النوع من الأشخاص".
" حتى الآن فشلت في ذلك , هيا يا أيفون , دعك من هذا من التصرف الطفيلي , رينالدو ليس سوى رجل متهتك يفتخر بمفاته النسائية , لقد حدّثتني عنه اليوم السيدة آلين".
" لكنه لم يخف علي شيئا , هل غلطته أذا كانت النساء ترتمي في أحضانه؟ ومهنته تطلب منه أن يهتم بهن , لكنه لا يذهب أبعد من ذلك , أرجوك لا تعامليه كأي غاو سخيف!".
" هل تعرفين , بأنك تذهبين وراء الكارثة , يا أيفون؟ أنا التي ستستعيد الخاتم منه".
" أنت!".
" نعم , وعدت والدك بأن أسهر عليك وسأفعل ذلك , هيا , يا أيفون , عودي الى فراشك ونامي وألا سأغضب منك".
منتديات ليلاس
أرتدت لوريل ملابسها بسرعة وأقنعت أيفون بالبقاء وخرجت من غرفتها ببطء وصمت كالظل , وبينما كانت تهبط في سرعة عبر الطريق المتعرجة الى اقرية تمنت لو كانت هذه الجزيرة تعج بالسكان , كانت ترى وراء النوافذ المطلة على الشرفات الحديدية , أضواء وأصواتا وصراخ الأولاد وضجة المذياع , وحدها في الخارج , فريسة هلع كبير , حبست صرخة رعب لدى عبور هرة بشكل مفاجىء.
وما أن أجتازت القرية حتى وجدت نفسها في قلب الريف توجهت الى الخليج الصغير حيث موعد اللقاء , ماذا سيحدث أذا تمنع رينالدو عن أعادة الخاتم؟ ليس لديها القوة الكافية لأخذه منه قسرا , وربما لن يأتي الى الموعد بنية مناكدة أيفون , من المستحيل الآن أن ترجع الى الوراء , تقدمت بخطوات حذرة وسط الظلال التي تعكسها أوراق الشجر , وما أن وصلت الى الشاطىء الرملي الفاتر حتى نظرت حولها تصغي : الصمت تام تقريبا , العصافير نائمة , والأمواج الصغيرة تلتقي بهمس بالشاطىء القاحل , سيطرت على خوفها وتقدمت خطوات قليلة قبل أن تتسمر مكانها , هل نصب رينالدو فخا لأيفون؟
" سينيوريتا........".
حبست لوريل صرخة رعب ودارت حول نفسها باحثة عن مصدر الصوت , وخلال ثوان قليلة , لم تر أحدا , ثم ظهر ظل قرب الصخرة وسمعت ضحكة صغيرة.
" ها أنت أخيرا , بدأت أصدق بخيبة الأمل".
ظل وجه لوريل في الظل , فقالت ببرود:
" لكنني سأخيب أملك , يا سيد".
أختفت الأبتسامة عن وجه الرجل الذي أنتفض لدى سماعه صوتا مجهولا , ثم قال :
" لا أفهم , ماذا تفعلين هنا ؟ أين الآنسة سبرل؟".
" في الفندق".
تقدم منها وقال بقسوة :
" لماذا لم تأت الى الموعد؟".
" هذا ليس من شأنك , أين خاتمها؟".
قال بسذاجة متصنعة:
" أي خاتم؟".
سيطرت لوريل على أرتجاف يديها وقالت:
" أنت تعرف جيدا , أعني خاتم الآنسة سبرل الذي وكّلتك به بعد ظهر اليوم....".
وضع يده خلف ظهره وقال:
" أنه ليس لك , يا آنسة , لن أعيده ألا لصاحبته".
" أولا , لا يحق لك الأحتفاظ به!".
" هل هذا تهديد , الآن؟".
" لم أبدأ بعد , أطلب منك ببساطة أن تعطيني الخاتم الآن".
" بأمكانك أن تطلبيه بلطف , في كل حال , أنها مزحة وحسب.....".
" أنا لا أفهم المزاج الأسباني , الوقت متأخر وأنا متعبة , أعطني الآن الخاتم وتنتهي المشكلة!".
نظر اليها مفصلا , من رأسها حتى أخمص قدميها ثم قال:
" آه لا , ليس بهذه السرعة , لا تنسي بأنك سببت لي ضررا كبيرا".
" هيا , لا تكن أحمق!".
" بلى , لقد حرمتني من لقاء جميل مع الآنسة أيفون , هذا اللقاء الذي كنت أتوق اليه بشدة .... لقد حدّثتني عنك كثيرا .... أعرف أن والدها وكلك بها , وبأنك تقيدين حريتها........".
أكتفت بالرد ببرود:
" لا أنوي متابعة هذا النقاش , هل ستعيد الخاتم الي؟ أم تريدني أن أستنجد بالشرطة؟".
" آه , لا , لكنك تقومين بتهديدي على ما أرى!".
بحركة مفاجئة وغير منتظرة , أمسكها من كتفيها وقال متابعا:
" أو ربما هذا التدخل من قبلك يخفي نوايا سرية؟".
أبتعدت عنه وقالت:
" وعن أية نيّة تتحدث؟".
أمسكها من جديد من كتفيها وشد عليهما وقال بصوت لطيف ومتصنع:
" الغيرة مثلا".
" ماذا بعد! يا له من غرور وغطرسة ! لا ينقصك شيء , لا المخيّلة ولا الوقاحة! أبتعد عني!".
" هذا الأمر غير وارد! هذا الكلام يقال دائما ..... في البداية... قولي لي , هل صديقتك خائفة مني؟ هل أرسلتك لتدفعي عنها الرهن؟".
" الرهن! أي رهن! لكنك بدأت تهذي أبتعد عني وألا سأصرخ!".
جذبها اليه وحاول أن يعانقها , راحت تتخبط بكل قواها , لكنه تمكن من وضع ذراعها وراء ظهرها , أعرف جيدا ما تريدينه ! أنتن النساء كلكن شبيهات!".
ضحك وشد عناقه , صرخت لوريل بغضب عندما مد يده الى صدرها , رفست كاحله , فصرخ ألما وقال:
" يا أيتها الشريرة الفاسقة! ستدفعين ثمن فعلتك!".
نجح في رميها على الرمل , فراحت تنتحب وتبكي ( يا ألهي , كيف سأستطيع التخلص من هذا المجنون الغاضب الذي يصمم على الحصول علي ؟ ) راحت تجاهد بكل قواها ضد هذا الحيوان المفترس وتمكنت من تحرير ذراعها والصراخ:
" النجدة ! النجدة! ".
فجأة أنعكس ظل عليهما , وسمع شجار قصير وسقوط , وجدت لوريل نفسها حرة , أنتشلتها يدان قويتان من كتفيها لمساعدتها على النهوض , ثم سمعت صوتا ناعما يقول:
" هل أصبت بأذى , يا آنسة؟".
( آه , لقد نجوت ! حقا نجوت! ) رأت من جديد السماء المنجمة ووجه الرجل الواقف على بعد سنتيمترات من رأسها , لمن هذا الصوت المعروف , لكن..... أليس صاحبه الرجل الغريب؟
وضعت يدها على جبينها لتبعد خصلات شعرها المشعث , بالكاد تعي ما حدث لها , لكن عندما رأت رينالدو ينهض ويستعد للهرب , أرادت أن تلحق به وصرخت:
" أوقفه! لقد أخذ خاتمي!".
خانتها قدماها , فسقطت بثقل على الرمل , وفي هذه الأثناء , كان مخلّصها قد ألتقط رينالدو , فقال الرجل الغريب:
" يا أيها القذر , ألا يكفي أن تتحرش بالنساء , بل تسرقهم أيضا؟".
بعد مناقش عنيفة بالأسبانية , أختفى رينالدو وراء الجدار وعاد الغريب الى لوريل , ويده مفتوحة نحوها وقال:
" هل هذا لك؟".
نظرت لوريل الى الخاتم البرّاق في قعر يده وأكتفت بأشارة من رأسها , مضيفة:
" أنه خاتم صديقتي".
" هل أنت أكيدة بأن هذا الرجل لم يؤذك؟".
أحمرت خجلا وقالت بتلعثم:
" أشعر.....شكرا......لكن.........لو لم تأت.....".
وبينما كانت تتكلم , كانت تحاول النهوض وترتيب ملابسها , لكن يداها خانتاها فراحت ترتجف كورقة غير قادرة على حبس دموعها .
وبعدما تأملها الغريب فترة طويلة , أنحنى فجأة وحملها كأنها طفل صغير وقال:
" لست بحالة جيدة , حادثتان في يوم واحد هل هذا من عادتك؟".
لم تستطع أن ترد بوضوح , فهزت رأسها متعبة , فألتفت الغريب الى حصانه وقال:
" أذا حملتك على ظهر حصاني , هل تستطيعين الجلوس وحدك فترة قصيرة كي أتمكن من الصعود بدوري؟".
" نعم".
حملها الى ظهر الحصان , شعرت كأن الدنيا تدور من حولها , فتمسكت بعنق الفرس وبعد ثانية كان مخلصها وراءها , متمسكا بها لئلا تقع.
" أسندي ظهرك ألي وأسترخي.....".
" أنا..... هذا لطف منك , يا سيد , لكن لا حاجة لأيصالي , فأنا قادرة أن.....".
" في هذه الحالة ؟ لا تستطيعين أجتياز خمسة أمتار!".
بدأ الجواد يهز رأسه , فتقلّصت لوريل عفويا , أمرها بلطف قائلا:
" قلت لك أن تسترخي! أنا متمسك بك ولا خطر عليك من السقوط".
لكز الحصان بلطف , فسار ببطء على طول الشاطىء , غير منزعج من الحمل الثقيل , وشيئا فشيئا , هدأت لوريل وأسترخت على صدر الرجل الغريب , وشعرت بالأمان , لكن عندما لاحظت بعد قليل أنها ليست في طريق العودة الى القرية , شعرت بالخوف وأنتفضت, فقال لها الرجل وهو يشد عليها:
" لا تخافي ,يا آنسة , سآخذك الى منزلي , لست في حالة تسمح لك بالعودة الى الفندق".
" لكن , أنا.....".
" دعيني أهتم بالأمر بنفسي , معي لا خطر عليك أطلاقا , أنا والعاملون لدي أشخاص متمدنون".
" هذا لطف منك , يا سيد وأنا مدينة لك , لكن الوقت ليل والساعة تجاوزت منتصفه....".
" وماذا بعد؟".
ما هو ردّها على هذا السؤال؟ لو لم يصل الى الشاطىء في هذه الساعة المتأخرة من الليل , لحلت بها الكارثة! فضّلت عدم التفكير بالأمر , أذن لماذا المناقشة ؟ لماذا طرح الأسئلة ؟ في هذه الزاوية البعيدة من هذا العالم , تشعر وكأنها وحيدة مع هذا الرجل الصامت الذي تنبع منه حرارة تبعث على الأطمئنان والأضطراب في آن واحد , لا شيء له أهمية بعد ذلك , الكاوبوس أبتعد.
منتديات ليلاس
على بعد بضعة مئات من الأمتار أنعطف الشاطىء نحو لسان الجبل الداخل في البحر , فأخذ الحصان طريقا قاسية تحيط بها الشجيرات النحيلة , وشيئا فشيئا أصبحت النباتات أكثر كثافة وأتسعت الطريق , في الهواء الفاتر , الأزهار غير المرئية تفح عطورها الزاهية , والحشرات الليلية تطير حولهما وتلسمهما بأجنحتها .
فتحت عينيها ورأت سياجا قرب السماء الزرقاء الغامقة , ثم قصرا ضخما مزينا بالأبراج , أظهرت تعجبا لا أراديا , كيف لم تفطن الى ذلك من قبل؟
وصلا الآن الى القصر , هذا الرجل الغريب الذي قفز ثم مد لها ذراعيه , ليس هو أذن .... سوى الكونت.