أجبر ديمتريو نفسه على التفكير في إعداد الطعام , فقدم لها سكيناً حاداً و هو يقول :
(( بالنسبة إلى امرأة ترعرعت و هي محاطة بالخدم الذين يلبون كل طلباتها , لا أظن أن خبرتك في تقطيع الخضار تزيد خبرتك في الإعتناء بالحديقة . حاولي ألا تقطعي رؤوس أصابعك و أنت تقطعينها . اتفقنا ؟ ))
ضحكت لكلامه , و مرة ثانية أجبر نفسه على الإستدارة و النظر بعيداً , رنة ضحكتها , لمعان عيناها , بشرتها الناعمة كالحرير و استدارة عنقها و هي تميل رأسها إلى الوراء , تهدد بقوة سيطرته على نفسه .
قال لها :
(( لا تمضي الليل بطوله و أنت تقومين بذلك , فالمعكرونة أصبحت جاهزةً . ))
و دفع نحوها طبقاً واسعاً و إبريقين زجاجيين يحتوي أحدهما على الخل و الأخر على الزيت .
تناولت ناتالي العشاء في ضوء الشموع في أشهر مطاعم العالم , و في أجمل مدن العالم , تارة كضيفة دبلوماسية , و تارة أخرى كسليلة إحدى العائلات الإرستقراطية , أو كرئيسة لشركتها العالمية . تناولت وجبات أعدت من قبل طهاة ذوي شهرة عالمية , إلا إنها لم تتأثر يوماً بالأجواء الرومانسية كما تأثرت هذه الليلة , و هي برفقة ديمتريو , في ذلك المطبخ القديم الواسع . حيث تحولت قطعة خشبية واسعة إلى طاولة الطعام , عليها طبق واحد من المعكرونة كطعام رئيسي .
إنها غلطة ديمتريو . لو إنه ترك المصباح الوحيد في الغرفة مضاءً , لما وجدت نفسها محاطة بمثل هذا الدفء و هذا السحر . لفتهما دائرة من أضواء الشموع جعلت ما تبقى من مساحة الغرفة يتقلص و يتحول إلى ظلالة ملونة , و تشابكت نظراتها بنظراته معاً , و تحول صوتهما إلى همس أجش و هما يتبادلان نتفاً من الأحاديث المتعلقة بحياتهما الشخصية.
قالت تخبره :
(( أحببت المدرسة كثيراً ))
قال :
(( أنا كرهتها كثيراً ))
استغرقت في الذكريات متابعة :
(( كان كل يوم مليئاً بالوعود , و كنت أنام كل ليلة و أنا أحلم بما سيحمل لي الغد من مفاجأت ! ))
- لم أنم ليلة واحدة نوماً عميقاً , خشية أن أستسلم للكوابيس .
مدت يدها عبر الطاولة , و لفت أصابعها حول أصابعه , و سألته :
(( أي نوع من الكوابيس ؟ ))
- النوع الذي لا يتبخر و لا يندثر حتى في ضوء النهار .
لمعت عيناه بالألم , و بدا الحزن على وجهه و هو يتابع :
(( ما زلت أذكر ليلة محددة , كأنها حدثت البارحة , استيقظت على صراخ امرأة شابة مسكينة تتوسل جدي ليحافظ على حياة زوجها , تسللت خارجاً من غرفتي , و راقبت ما يجري من قاعة الموسيقى .
(( لم تتجاوز المرأة العشرين من عمرها يومها , رأيتها راكعة على ركبتيها عند قدمي جدي , و هي حامل في الأشهر الأخيرة . في ذلك الوقت اعتقدت إنها سمينة فقط .. رأيت زوجها واقفاً إلى الجانب الأخر و يداه مربوطتان وراء ظهره , و بدا وجهه شاحباً و هزيلاً . راحت المرأة تنتحب قائلة :
(( أنا احمل طفله دون برتولوزي ... أنت لديك عائلة , و تعرف معنى الحب .. كيف يمكنك أن تحرم هذا الطفل الذي لم يولد بعد من والده ؟ ))
تجمدت ناتالي في مكانها , فالألم الذي نضح من صوته جعل بشرتها تقشعر من الخوف و الحزن معاً , قالت :
(( ما الذي حدث ؟ ))
- سقط صراخها في أذني جدي الصماء , لم يتحرك , بل أومأ برأسه إيماءة خفيفة , ثم تنحى جانباً , بينما ظهر رجاله فجأة من الظلام , فسحبوا زوجها إلى الخارج , ثم رموه في سيارة و أخذوه بعيداً .
حدق ديمتريو في كوبه , و غاص في صمت مقلق كئيب بسبب ذكريات لا يمكنها أن تتصورها ولو في أغرب أحلامها .
أخيراً استأنف كلامه :
(( لم أعرف مطلقاً ما الذنب الذي اقترفه ذلك الرجل , لكن النظرة التي ارتسمت في عينيه و هو ينظر إلى زوجته النظرة الأخيرة , تلك النظرة المليئة باليأس المطلق و الخوف و الضياع , طاردت أحلامي لأشهر طويلة بعد ذلك الحادث ))منتديات ليلاس
تأثرت ناتالي إلى درجة لا يمكنها وصفها فقالت :
(( ديمتريو ! أشعر بالأسى لأنك شاهدت أشياء مخيفة و مرعبة كهذه . كم كان عمرك في ذلك الوقت ؟ ))
- كنت في السابعة أو ربما في الثامنة , لا أعرف بالتحديد .