2- من لا يريد الآخر؟
تفحصت أليزا بدقة الشعر الأسود الكثيف , والحاجبين اللذين يظهران عينيه كقطعتين من الفحم الحجري المحترق , كان يرتدي قميصا بيضاء وسترة خضراء , ويقود سيارته بشموخ وأنفة , هذا هو زوجها , زاكاري ستيوارت.
أحست بأن العمل الذي أقدمت عليه منطقي جدا وعملي للغاية , عاصمة نيفادا هي مدينة الأحلام ومركز الأعمال المثيرة , ولكن خطواتها كانت ذكية ومدروسة , كانت تربح أو تخسر وفقا للأرقام التي تختارها , أو الأوراق التي تطلبها , أو الطريقة التي ترمي بها النرد , أما الآن , فالربح والخسارة فبقررهما توقيعها على وثيقة زواج, صحيح أنها ستحظى بأختها , ولكن ماذا ستخسر مقابل ذلك؟
هل يمكنها أن تمحو من ذاكرتها ذلك الشعور الحزين الذي تملّكها , عندما توقفت سيارة الأجرة في اليوم السابق أمام مقر الزواج ؟ هل يمكنها أن تنسى أنزعاجها الفائق أثناء المراسم ؟ ألم تقل لنفسها آنذاك أن القسم والتعهد اللذين أدلت بهما لا معنى لهما أطلاقا ؟ تذكرت بأنقباض شديد السيدة التي وقفت قربها كشاهدة , وقارنتها بنفسها عندما حضرت ثلاث حفلات زواج لأمها العزيزة , تذكرت أيضا أن صوت زاكاري كان هادئا وصافيا أثناء المراسم , في حين أن صوتها هي كان خافتا ومتوترا... ويظهران السيطرة القوية التي كانت تحاول ممارستها أثناء الكلام , كادت تفقدها وتعود عن قرارها , عندما أضطرت للتعهد بأنها ستحترمه وتطيعه , وتألمت عندما تذكرت عينيه وهما تضحكان مرتين.... بمجرد أن وضع الخاتم الذهبي البسيط حول أصبعها , وأثناء تبادلهما قبلة الزواج.
منتديات ليلاس
لم يتوقف عن مضايقتها.... أو أذلالها , أصرّ أثناء حجزه مقعدين على الطائرة , وغرفتين منفصلتين في أحد فنادق سان فرانسيسكو , على الأشارة اليها كمجرد زوجته......السيدة ستيوارت , وحتى هذا الصباح , تبيّن لها في المصرف الذي تتعامل معه أن المدير صديق قديم لعائلته , وضعها ثانية في الظل ...... في المؤخرة , فقدت هويتها وشهرتها , لم تعد أليزا فرانكلين! أصبحت زوجة زاكاري ستيوارت! أصرّ طوال الوقت على تأكيد تلك الحقيقة المرة , فشعرت نحوه بكره وأحتقار شديدين!
" هل هذا هو المنزل؟".
أوقف زاكاري السيارة قبل أن تقول له نعم, تأمل المنزل الأبيض المؤلف من طبقتين , ثم نظر الى الحديقة الجميلة المحيطة به وقال:
" أنه منزل رائع!".
لم يكن شعور أليزا أتجاه هذا المنزل مماثلا لشعور ..... زوجها , أحست بأن الأبواب المغلقة والستائر المقفلة لا ترحب بها أطلاقا , أنتظرت بتململ واضح , كي ينزل زاكاري ويفتح لها بابها , خرجت من السيارة بلهفة , فيما كانت عيناها تشعان حبا وحماسة , وقبل أن يصعدا الدرجات الأربع التي تؤدي الى الباب , أمسك زاكاري بذراعيها تأدبا ومجاملة وقال:
" يبدو واضحا أنك تحبين الفتاة الى درجة كبيرة".
" طبعا أحبها! ولولا ذلك لما كنت أقدمت على مثل هذه الخطوة الغريبة المستهجنة! ".
طرقت أليزا الباب بنعومة مصطنعة , ففتحته بعد قليل أمرأة متوسطة العمر ذات شعر أسود خطه الشيب بشكل واضح , نظرت اليها السيدة بعينين توحيان بأنزعاج بالغ , ثم تظاهرت بالأبتسام وقالت :
" أليزا! دهشت جدا عندما أتصلت بي هذا الصباح وقلت أنك تزوجت!".
ثم تطلعت بسرعة نحو زاكاري وسألتها بسخرية واضحة:
" هل هذا زوجك؟".
شعرت أليزا بأن صبرها يكاد ينفد , وغضبها على وشك الأنفجار , قدمتهما الى بعضهما بلهجة جافة تقريبا , قائلة:
" زاكاري ستيوارت , زوجة خالي , مارغريت دنتون , أين كريستين؟".
فتحت المرأة الباب على مصراعيه وقالت لهما , متجاهلة تماما سؤال أليزا:
" يجب أن تدخلا وتشربا القهوة , تفضلا!".
جلست مارغريت فور دخولها القاعة وقالت لهما , فيما كانت تسكب القهوة:
" تزوجتما بسرعة فائقة , أليس كذلك؟".
نظر زاكاري نحو أليزا متظاهرا بأنه حقا يحبها , ثم قال للمضيفة بلهجة مرحة:
" تزوجنا بمجرد حصولي على موافقة أليزا , ترددت في أعطائها فرصة أطول , خوفا من عودتها عن قرارها".
قدمت فنجان القهوة الى أليزا, وهي تنظر اليها بعينين حاقدتين , ثم سألتها:
" هل قلت أنكما تزوجتما أمس؟ أتصور أنكما تريدان تمضية شهر عسل في مكان ما , سيكون من دواعي سروري وسعادتي أن أعتني بكريستين أن أنتما قررتما الذهاب بضعة أسابيع".
" لن يكون ذلك ضروريا".
تدخل زاكاري على الفور لأنقاذ الموقف , فقال لملرغريت برقة ونعومة وهو يوجه اليها أبتسامة ساحرة:
" أننا نشكرك كثيرا على عرضك اللطيف الطيّب , ونشعر نحوك بأمتنان كبير , ولكننا مهتمان بأن تعرف كريستين أن أليزا لم تتركها أو تتخلى عنها , نريدها أن تتأكد من أنها عضو هام جدا في عائلتنا , ألا تعتقدين أنني على حق؟".
" طبعا , طبعا".
كانت شفتاها ترتجفان بقوة وهي تحاول أخفاء غضبها وأنفعالها , وفيما راحت تنظر اليهما بذهول واضح , سألتها أليزا مرة أخرى:
" أين هي كريستين؟".
" أحست بأنقباض شديد هذا الصباح , عندما أبلغتها نبأ زواجك , أعتقد أنها تشعر بالأستقرار والراحة هنا , ومن المؤسف جدا أنها ستضطر للرحيل".
" أين هي الآن؟".
" في غرفتها , طلبت منها أن تستلقي بعض الوقت لأراحة أعصابها".
سألتها أليزا بلهجة التهديد ,فيما كانت عيناها تبرقان غضبا وتململا:
" هل ستحضرينها أنت أم أحضرها أنا بنفسي؟".
" سأذهب حالا لأحضارها".
هبت واقفة والشرر يتطاير من عينيها , ثم غادرت القاعة بسرعة وقد بلغ بها الغضب أشده , أشعلت أليزا سيجارة بعصبية بالغة , وهي مستاءة من نفسها لأنها أفسحت المجال أمام خالتها لأغضابها , لا شك في أن مارغريت فهمت اللعبة , والسبب الحقيقي لهذا الزواج السريع , قال زاكاري وكأنه قرأ أفكارها:
" ربما تشككت قليلا بالنسبة للهدف من زواجنا , ولكن لا سبب أطلاقا لأن تتأكد من ذلك , معرفتها بالحقيقة سلاح جديد في يدها".
" أنني قادرة تماما على معالجة أمرها , وليس لديها أي سلاح يمكنها أستخدامه ضدي".
" بلى , يا عزيزتي , خوفك منها وحبك لكريستين".
نظرت اليه بحدة بالغة , لأنها أدركت مدى صحة تحليله , أرادت أن تقول له شيئا , ولكنها سمعت صوت خطوات في الممر المؤدي الى القاعة , أستدارت أليزا بلهفة نحو الباب الداخلي , وشع وجهها ببريق الحب والعاطفة عندما شاهدت الطفلة الصغيرة قرب خالتها.
" كريستين ! حبيبتي!".
تأثرت كثيرا وتألمت..... لم تقترب منها الفتاة , بل ظلت واقفة الى جانب مارغريت وهي مطأطأة الرأس وتضع يديها وراء ظهرها , علت وجه السيدة المسنة أبتسامة الأنتصار , وقالت بهدوء قاس:
" أعتقد أن كريستين ليست متحمسة جدا لمقابلتك أو رؤيتك , يا أليزا".
رفعت الطفلة رأسها بعصبية بالغة , وقالت:
" هذا ليس صحيحا!".
ثم نظرت بتحد الى الخالة قبل أن تقول لأختها:
" يفترض بي أن أقول لك أنني أريد البقاء هنا , وأنني لست راغبة في الذهاب معك ".
أنهمرت الدموع من عيني الفتاة الصغيرة ومضت الى القول , بصوت متهدّج عال:
"ولكنني أريد الذهاب معك! أريد ذلك حقيقة , ومن صميم قلبي!".
وفي اللحظة التالية , كانت الطفلة تندفع نحو أختها , وتلقي بنفسها بين ذراعيها , نظرت مارغريت بلؤم الى أليزا وعينيها الشاكيتين , وقالت لها بعصبية :
" خذيها ! خديها , فهي بأي حال لا تفعل شيئا سوى مضايقتنا وأزعاجنا بتذمرها ..... ووقاحتها.... وأهمالها! أنها شقيّة مدللة لا تفهم شيئا! ولكن ماذا يمكننا أن نتوقع من أبنة أليانور؟".
" خذي كريستين الى السيارة , يا أليزا , سأتولى أنا معالجة هذا الأمر".
شاهدت أليزا بأستغراب بالغ الغضب الحقيقي في عيني زاكاري , فنظرت اليه بأمتنان وخرجت بسرعة وهي تحمل أختها الصغيرة , وضعتها في السيارة وجففت دموعها , ثم طمأنتها الى أنه لم يعد هناك بعد الآن ما يزعجها أو يقضّ مضجعها , أرتاحت الفتاة الصغيرة ووجهت نحو أختها أبتسامة محبة وشكر.
تطلعت أليزا نحو المنزل الأبيض , وهي تحاول التكهّن بما يجري في داخله , تذذكرت نظرات زاكاري الغاضبة ولهجته القوية الحازمة ,وتمنت لو بأمكانها حضور المجابهة بينه وبين مارغريت ..... تلك الخالة الخبيثة التي تستحق لهجة صارمة.
منتديات ليلاس
وتذكرت أليزا أيضا أنها كانت دائما تعالج مشاكلها بنفسها , كانت أمها تبدو دائما منشغلة عنها بصديق أو خطيب أو زوج جديد , واجهت أزمات نفسية متعددة في طفولتها , وأثناء فترة المراهقة العصبية والحساسة , لم تشعر أبدا طوال تلك السنوات بأي رابط عائلي أو بأي أنتماء الى عائلة وبيت , كانت أمها سعيدة جدا مع دايل باترسون , وحاولا معا أدخال أليزا في دائرة حبهما وعطفهما , لكنها بلغت آنئذ سنا جعلها ترفض أهتمام والدتها بها , وبخاصة لأن السنوات الطوال التي سبقت ذلك أفقدتها ثقتها بالأنسان.....وبالروابط العائلية , شعرت بالأشمئزاز عندما أبلغتها والدتها مرة أنها حامل ...... مع أنها كانت تجاوزت السابعة والثلاثين.
أحبت أليزا المولودة حبا كبيرا , لكنها لم تشعر أبدا بأنها جزء من تلك العائلة , كانت تبعد عنهم ولا تشعر بالأرتياح ألا عندما تنفرد بأختها , حوّلت حبها كله , الذي لم تتمكن سابقا من منحه لأحد , ألى أختها كريستين , تطلعت الى الطفلة التي كانت تجلس الى جانبها بسرور بالغ , ثم نظرت نحو البيت الذي يشهد بالتأكيد معركة حامية بين زاكاري وتلك الخالة التي تكرهها وتحتقرها , كان بريق الأمتنان لا يزال يشع من وجهها ومن نظراتها , عندما خرج زاكاري وهو يحمل حقيبة صغيرة في يده , لم تكن بحاجة لأن تدعه يهب للدفاع عنها , أنّبت نفسها على ذلك , لأنها كانت قادرة على حل مشاكلها مع مارغريت , وأحست أليزا بأنها لن تنسى أبدا تصرفه الطيب والشجاع , مع أنها تضايقت حتى الأزدراء والكره من غطرسته الساخرة واللاذعة.
جلس وراء المقود , وكان الغضب لا يزال باديا على وجهه , أرتجف جسمها خوفا ورهبة , عندما تصوّرته يصب جام غضبه عليها , لا شك أنه قادر تماما على تحطيم منافسيه وخصومه , أنه قاس لا يرحم , كما قال لها مايكل , أدار محرك السيارة وقال:
" جمعت بضعة أشياء لكريستين , أما بقية أغراضها فسوف يتم أرسالها الى بيتنا".
توترت أعصاب أليزا عندما سمعت تلك النبرة القوية المتسلطة , التي توحي صراحة بأنه أصبح يعتبر نفسه المسؤول الأول والأخير عن الأهتين , أنتبه لذلك ولكنه لم يقل شيئا , أو يعلق حتى بكلمة واحدة , نظرت اليه كريستين بتحد , فيما كان ذقنها يرتجف ويرتعش , وقالت له بلهجة صارمة وقوية:
" قالت لي أنك لا تحب الفتيات الصغيرات , قالت لي أيضا أنك لا تريدني معكما , وأنك ستعيدني الى هنا أذا أرتكبت أي خطأ على الأطلاق".
نظر زاكاري الى أليزا بعينين تقدحان نارا , وقالت له ببرود يحمل بعض الأشمئزاز :
" أنها تعني مرغريت".
رد على نظرات الأزدراء بأبتسامة مرحة وقال للطفلة:
" خالتك مخطئة , يا كريستين , أنا أحب الفتيات الصغيرات كثيرا , وبخاصة عندما يكبران ويصبحن جميلات مثل أختك , وأنا متأكدة من أن أليزا ستبذل أقصى جهودها لضمان عدم عودتك الى الخالة مارغريت , بغض النظر عما ستفعلين أو مهما كنت شقية ومزعجة".
ثم حوّل نظرات متغطرسة هازئة الى أليزا ,وراح يتأمل وجهها الجميل وعنقها الناعم ..... وسترتها البنية النافرة , لم يقل شيئا , ولكن ملامح وجهه أوحت بأنه مرتاح وراض , ألقى نظرة أخيرة على ذلك االمنزل الأبيض , وقاد السيارة الى الطريق العامة بتمهل وهدوء , لكن كريستين أصرّت على معرفة الحقيقة الكاملة , لأنها كانت بحاجة ماسة لأزالة مخاوفها بصورة نهائية , قالت له بحذر:
" أخبرتني خالتي بأنك تريد أليزا لنفسك طوال الوقت , وأنك لا تريدني أن أبقى معكما أو قربكما فترات طويلة".
ظل متطلعا أمامه , ولكنه أجابها بلهجة حنونة لم تتسم بجدية تامة:
"أخبرك ماذا سنفعل يا عزيزتي , أنا أعمل طوال النهار فما من أحد سيلهي أليزا عنك دقيقة واحدة , وعندما أعود من العمل , نجلس ثلاثتنا معا حتى يحين موعد نومك , وعند ذلك فقط , تخصص أليزا وقتها الكامل لي , ما رأيك بهذا التدبير؟".
" عظيم , ولكن........".
ترددت الفتاة قليلا , فنظر اليها زاكاري مستفسرا , تنهدت وقالت:
" كان أبي أيضا يذهب الى عمله , ولكننا كنا نقوم معا بأشياء متعددة , كنا نمضي أوقاتا ممتعة خارج البيت".
أبتسم زاكاري وقال لها:
" ونحن أيضا , يا عزيزتي , يمكننا أن نمضي أوقاتا سعيدة وممتعة , أليس كذلك يا أليزا؟".
كانت تتأجج غضبا وحنقا , ماتت بذور الرقة والنعومة التي زرعتها في قلبها قبل قليل , أتجاه هذا الرجل الأسمر القوي الذي أصبح زوجها قبل ساعات معدودة , ماتت تلك البذور الضعيفة تحت وطأة الجليد القاسي الذي يغطي مشاعرها , أحست من كلماته الرقيقة والجميلة لأختها الصغيرة بأنها تعتمد عليه ........ وبأنها تحتاج اليه من أجل الفتاة , هذه هي الحقيقة المرة , مهما حاولت أقناع نفسها بعكس ذلك , يجب أن يرضخ لها ويتصرف وفقا لما ترتأيه وتشتهيه , لأنها أشترته بمالها ! ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن!
" ألن نمضي معا وقتا ممتعا , يا أليزا ؟".
نظرت أليزا الى أختها وأرغمت نفسها على الأبتسام , ثم قالت :
" سيكون زاكاري منهمكا جدا في عمله لذا يجب ألا نتوقع منه أن يمضي معنا وقتا طويلا , أتصور أنه لن يتمكن ألا من تمضية وقت قصير جدا , ولكنني متأكدة أنك ستفرحين كثيرا خلال الفترات القصيرة التي سيسمح له وقته بتمضيتها معنا".
ضحك زاكاري بطريقة أثارت غضب أليزا , وقال :
" أننا الآن في بداية فصل الصيف , يا عزيزتي , لن نضطر للعمل بجد ونشاط قبل أواخره , وهذا يعني أنه ستتاح لنا ممجالات عديدة للتمتع بأوقات فراغنا".
صفقت كريستين بفرح ظاهر , حرم أليزا من المضي في معركتها مع الزوج الخبيث , أنها تحبها كثيرا وتريد أسعادها , وكانت تعلم منذ البداي أن ذاك لن يتحقق ألا على حساب أمور أخرى هامة بالنسبة اليها , تطلعت الصغيرة حولها وعيناها البنيتان العسليتان لا تزالان تشعان فرحا وسرورا , ثم سألت بلهفة:
" الى أين سنذهب الآن؟".
" الى بيتنا في وادي نابا".
لم تكتف بالأجابة المقتضبة , فعادت تسأل ثانية:
" وأين تقع هذه المنطقة؟".
أبتسم بحنان وقال لها , وهو يضع ذرعيه على كتفيها:
" على بعد ساعة ونصف بالسيارة عن سان فرانسيسكو".
بدا الأرتياح على وجه كريستين , فوضعت يدها على ذراع أليزا ........ وأسندت رأسها الى خاصرة زاكاري..... وأغمضت عينيها الجميلتين.
دخلت السيارة بين عامودين من القرميد الأحمر يعلوهما قوس حديدي حفرت عليه بأحرف كبيرة كلمتان....... ( بساتين ستيوارت) كانت أشجار السنديان تحيط بجانبي الممر الضيق , الذي يؤدي الى البساتين.... والى بيتها الزوجي.
ذهلت أليزا عندما شاهدت تلك المساحات الشاسعة والبساتين الضخمة والمعمل الكبير , كانت تتوقع معملا صغيرا ومنزلا متواضعا جدا تقزّمه مباني المعمل , كان المنزل جميلا والحديقة رائعة ,والى الجهة الجنوبية شرفة صغيرة جذّابة , أوقف زاكاري محرك السيارة ونزل ليفتح باب أليزا , أبتسم بشيء من الأستهزاء , عندما شاهد أستغرابها وذهولها اللذين أخفيا غضبها , هذا ليس منزل رجل فقير! أخذ يدها ليساعدها على النزول , ثم قال لها بلهجة عادية جدا :
" ثمة مشاكل قليلة جدا بالنسبة لأنابيب المياه , ولكنني أعتقد بأن كل شيء آخر سيرضيك .... يا سيدة ستيوارت".
حاولت أن تحد قليلا من أعجابها وقالت:
"أنه جميل جدا...... وبعيد كل البعد عما جعلتني أتصوره!".
" ولكنك لم تطلبي مني أن أؤكد أو أنفي معلوماتك , أنا لست بحاجة للمال ألا لتطوير المعمل وتزويده بمعدات حديثة".
منتديات ليلاس
تنفست أليزا الصعداء بصمت , كانت تنتظر منه خبرا مثيرا ينزل عليها كالصاعقة , أستدارت نحو كريستين , التي كانت تركض نحو الباب للحاق بها , كانت الطفلة متشوقة جدا لمشتهدة بيتها الجديد , وتقفز بفرح وسعادة أمام بابه الأبيض الكبير , أبتسم زاكاري بخبث وهو يأخذ ذراع أليزا ويتوجه بها نحو الباب , صرخت كريستين بصوت عال:
" أريد أن أراك تحمل عروسك الى الداخل!".
قطبت أليزا حاجبيها وقالت لها:
" أنه تقليد قديم سخيف , وأنت تعرفين , يا كريستين , أنني لا أؤمن بمثل هذه الأمور!".
ضحك زاكاري وغمز الصغيرة مشيرا اليها كي نفتح الباب, ثم رفع أليزا بسرعة بين ذراعيه وهو يقول:
" ولكن زوجك يحب هذه التقاليد ويريد المحافظة عليها".
وضعت يديها على صدره العريض وضغطت بقوة , في محاولة لأبعاده عنها , وهمست بحدة :
" أنزلني! أنزلني! ".
لم يعبأ كثيرا بأحتجاجها , وقال لها بمرح ظاهر :
" لماذا لا ترتاحي وتتمتعي بوضعك الحالي؟".
أجابته بصوت منخفض لئلا تسمعها أختها , ولكن نبرتها كانت توحي بأشمئزازها من لمساته , قالت له بعصبية :
" أنني لا أجد أي راحة أو متعة بين ذراعي رجل".
ضمها بقوة اليه وهمس في أذنها قائلا:
" يمكنني أن أعلّمك الكثير , أيتها العزيزة".
صرخت بهما كريستين من الداخل , وهي تضحك بحياء الطفولة:
" ألا تريدان دخول البيت؟".
تجاهل زاكاري تشنج أليزا ومحاولاتها اليائسة للأأبتعاد عن جسمه قدر أمكانها , وحملها الى القاعة الرئيسية , لم ينزلها الى الأرض , ولم يحاول بالتالي أخفاء أبتسامته الساخرة اللعينة , أنه يهزأ بملامح الأزدراء التي كانت تضج في وجهها وعينيها ! وفجأة سمعوا صوت أقدام تقترب من الغرفة المجاورة , أنزلها عن بين ذراعيه عندما دخلت سيدة مسنة تلك القاعة الجميلة , أقتربت السيدة قليلا , فهرعت كريستين الى جانب أليزا وأمسكت بيدها , كان زاكاري يطوّق خصر زوجته بذراعه , وشعرت أليزا بأن عليها تحمّل هذا العذاب لبضع دقائق , أخذت السيدة يد زاكاري بيديها وهي تقول بلهفة وحنان:
" زاكاري! حبيبي!".
ثم نظرت الى أليزا وكريستين بشيء من الأستغراب , وأضافت قائلة له:
" كنا نتوقع عودتك بعد يومين".
قبّل خدها بمحبة وقال لها مداعبا:
" أنت تعلمين أنه لا يمكنني الأبتعاد أكثر ممن أسبوع واحد عن ثاني أقرب أمرأة الى قلبي".
نظرت الى أليزا بسرعة بمجرّد سماعها ذلك التعبير المتعلّق بالقرب والأفضلية , تأملت بدقة تلك البرودة في نظرات أليزا , والتسريحة لشعرها الأشقر الناعم , والكمال المذهل في جمالها , قال لها زاكاري بلهجة صادقة خلت من سخريته اللاذعة المعتادة :
" تورا أعرّفك بزوجتي..... السيدة أليزا فرانكلين ستيوارت , أختها....... كريستين باترسون".
ثم شدّ على خصر أليزا برفق وحنان , وقال:
" أليزا , كريستين , أعرفكما بمدبرة المنزل الطيبة ...... نورا كاستيلو".
نظرت كل من أليزا ونورا الى بعضهما بأستغراب بالغ , كان أستغراب نورا نابعا من أعلان زاكاري المفاجىء عن زواجه , في حين كان أستغراب أليزا ناجما عن ترحيب زاكاري الحار والعاطفي .....بخادمته , حتى أمها الرومنطيقية الأفكار لم تكن لتفعل ذلك مع خادمتها , لم تتضايق أليزا كثيرا من الطريقة التي تفحصتها بها نورا , بعد أن علمت أنها السيدة زاكاري ستيوارت , تبادلتا التحية ببرودة وجفاف , وأوحت كل منهما للأخرى بأنها لا تحبها أو توافق على وجودها في هذا البيت , قطع زاكاري الصمت المخيّم على القاعة , قائلا:
" نريد وجبة خفيفة يا نورا , يمكننا أن نتناولها على الشرفة خلال ساعة من الآن , أنا متأكد من أن أليزا قد ترغب في الأستحمام , كما أن كريستين بحاجة الى ذلك , سأذهب خلال هذا الوقت لمقابلة جورج , خذي السيدة ستيوارت الى الغرفة الشرقية".
" الغرفة الشرقية؟".
رددت هاتين الكلمتين بدهشة بالغة , وهي تنظر الى أليزا كأنها أنسانة أرتكبت خطأ جسيما , حسم زاكاري الموقف بسرعة وحزم , قائلا لنورا بلهجة لا تقبل الأعتراض :
" نعم ,الى الغرفة الشرقية".
ثم نظر الى أليزا وسألها بهدوء:
" هل تحتاجين ألى أي شيء من السيارة؟".
هزت رأسها نفيا , فقال لها أنه سيحضر الحقائب في وقت لاحق , ثم ترك خصرها ورفع يده لمداعبة وجهها برقة ونعومة , قبل أن يغادر الغرفة على عجل , أرغمت أليزا نفسها على عدم أظهار أي أزدراء من لمسة يده , وشعرت أنه أحس بذلك , هزت كريستين يدها بتململ وسألتها:
" أين سأنام أنا؟".
حدقت أليزا بعيني نورا المتضايقتين , وسألتها بهدوء مزعج :
" هل ثمة غرفة قرب....... الغرفة الشرقية؟".
" نعم , فالغرفة الخضراء , تقع أيضا في نهاية الممر, أتبعيني من فضلك!".
كانت الأرض والجدران والنوافذ توحي بالثراء والأناقة والذوق السليم , صعدت أليزا الدرج الداخلي المبني من حجارة المرمر المصقولة اللماعة , ولما وصلت الى قمته , شاهدت سجادة ذهبية اللون تغطي الممر الطويل الذي يتفرّع في نهايته الى ممرين صغيرين , قادتهما نورا الى اليمين ثم وقفت أمام أول باب من يسارها وقالت:
" هذه هي الغرفة الخضراء".
فتحت الباب , فدخلت أليزا وكريستين الى غرفة جميلة ذات جدران خضراء , تخلت الطفلة عن خجلها وقالت بلهفة وحماس :
" أنه سرير يليق بالأميرات! هل هذه فعلا غرفتي؟".
هزت أليزا رأسها وكادت الدموع تطفر من عينيها بسبب سرور أختها وسعادتها , سارت نورا نحو باب داخلي وقالت:
" هذا هو باب الحمام المشترك بين غرفتيكما , يا سيدة ستيوارت".
أختفت أبتسامة أليزا لدى سماعها صوت مدبرة المنزل , وأمرتها ببرودة أن تريها غرفتها , دهشت ثانية , عندما شاهدت روعة غرفتها وجمالها , أعجبها الأثاث الأنيق ...... وكل شيء آخر.
" الغرفة المجاورة هي غرفة النوم الرئيسية التي يستخدمها زاكاري".
سألتها أليزا بسرعة:
" هل يوجد باب بين الغرفتين؟".
نظرت اليها نورا بشيء من التحدي وقالت:
" لا , هل تودين مشاهدة غرفة النوم الرئيسية؟".
" لا , لا أريد ذلك أعتقد أنني لم أعد بحاجة اليك , يمكنك أنتذهبي الى عملك".
أرادت أن تكون قاسية معها , لأنها تضايقت منها .... من تصرفها كأحد أفراد البيت , دخلت كريستين فجأة من باب الحمام المشترك , وتأملت غرفة أختها بسرعة ثم قالت:
" أليست غرفة رائعة حقا ؟ أنها جميلة جدا , مثل غرفتي! أوه , هل يمكنني القيام بجولة أستكشافية ؟ غسلت وجهي وعنقي ويدي , ولم يعد لديّ شيء آخر أفعله".
أبتسمت أليزا بمحبة وحنان , وضمت أختها بقوة الى صدرها , آه , كم تحبها! ترقرقت من عينيها دموع السعادة والفرح , وسمحت لها بالتجول في أرجاء البيت......بعد أن ذكّرتها بموعد الغداء , وحذّرتها من مغادة المنزل , ولما خيّم الصمت مرة أخرى على تلك الغرفة , جلست أليزا في مقعد وثير أمام المرآة ومدت يدها الى شعرها , بدت لها الشابة التي تراها أمامها ...... أنسانة غريبة ذات عينين صافيتين غير مرهقتين أو معذبتين أو قلقتين , تطلعت أليزا مرات عدة الى المرآة , ومع أنها لم تشاهد في أي مرة سوى فتاة جذابة جميلة تنظر اليها بأرتياح وسرور , ألا أنها كانت دائما تشعر بدهشة وأستغراب , تريد أن ترى شخصا متحررا وسعيدا , مثل كريستين , يضج حبا وحياة , ولكن العينين الباردتين ذاتهما كانتا تحدقان بها دائما , وتذكرانها بالخطوة التي أقدمت عليها..... وبالهدف من وراء ذلك القرار العجيب.
منتديات ليلاس
قالت لنفسها أن الحياة ليست مجرد فرح وسعادة , كما تقول القصص الخيالية , كذبت الروايات لأن مؤلفيها أرادوا للأنسان أن يتعلّق بالأمل .... والخيال ,لا......حبها لكريستين هو الشيء الوحيد المضمون الذي يمكنها التعلق به , والشيء الوحيد الذي تثق به , وقفت بسرعة ورمت سترتها على السرير ثم سارت نحو النافذة , لا شك في أن نورا هي شخص يعتقد بديمومة الزواج وتقاليده القديمة , وبأن الزوجة يجب أن تكون مطيعة لزوجها...... وأن تتصرف معه كحبيبة , وأم لأولاده , وخادمة للعائلة.
" هل تعجبك الغرفة؟".
أستدارت نحو مصدر الصوت , فشاهدت زاكاري يقف في الباب ومعه حقيبتها , أخفت دهشتها بسرعة وردت عليه بلهجة عادية:
" أنها غرفة جميلة جدا , لا يمكن لأحد ألا أن يعجب بها".
" أنت! كان عليّ أن أعرف أن ثمة أشياء لن تعجبك في بيتي".
تأملها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها , وكانت لهجته تحمل بعض السخرية , ردت عليه بخبث مماثل دون أي غضب أو أنفعال ظاهرين:
" لن أعيش هنا ألا سنة واحدة , وعليه فلن تكون هناك أي ضرورة لأجراء أي تعديلات أو تغييرات , أنها فترة قصيرة , ويمكنني أن أتحمل خلالها أي شيء هنا".
" ونورا ؟ ما هو رأيك بها؟".
كان سؤاله جديا , فنظرت اليه بجدية مماثلة ولكنها لم تجبه , ماذا يمكنها أن تقول له وهي تعرف مدى العلاقة القائمة بينهما ؟ بدا أنه يتأجج غضبا , ولكنه قال لها بصوت هادىء كاد أن يتحوّل الى أستهزاء:
" ماذا تقترحين ؟ هل أصرفها..... خلال هذه الفترة القصيرة؟".
" أعتقد أنه أقتراح ممتاز , ولكنه متطرف وقاس , الأفضل أن تتحدث معها وتجعلها تعلم أنها ليست ألا خادمة في هذا البيت".
نظر اليها بعينين قاسيتين تقدحان شررا وقال:
" أنت متغطرسة ومتعجرفة , وغبية أيضا , أذا كان ثمة شخص يجب أن يذهب , فهو أنت...... يا سيدة ستيوارت".
ضحك بمرح وأحتقار عندما شاهد خيبة الأمل القوية في ملامحها , أضاف قائلا بخبث مرير:
" ولكنك لست قادرة على الذهاب , أليس كذلك ؟ أذا ذهبت , لن تتمكني من الأحتفاظ بكريستين! أليست هذه وصية والدتك , أيتها الزوجة العزيزة؟".
" أنت شخص جلف وفظ ومتسلط لا يمكن تحمله , يا سيد ستيوارت!".
رفضت أليزا أظهار الغضب الذي كان يمزّق أحشاءها , لأن في ذلك دليلا على ضعفها ..... وهذا أمر لن تسمح بحدوثه , سيطرت على أعصابها , ومضت الى القول بصوت ثابت وقوي:
" أعتقد أنني جعلتك تشعر بعدم الأطمئنان , فمع أنك طلبت مبلغا كبيرا للزواج مني , ألا أن قدرتي على الدفع أغاظتك وأزعجتك كثيرا , أنت تشعر الآن بأن عليك أرضاء غرورك بممارسة الأبتزاز , كي تحقق التسلط والهيمنة".
ثم أبتسمت بسخرية لاذعة , وأضافت قائلة:
" لن تنجح في ذلك , يا زوجي العزيز , لن تنجح لأن لديّ ما أريد , ولن تتمكن من حملي على التخلي عنه".
لم يبد أي أنفعال في ملامحه القوية عكس ما كانت تتوقع أليزا , كان يتأملها بمرح ظاهر وكأنه سمع نكتة أو طرفة , بدلا من الكلام القاسي الذي وجّهته اليه , أشعل سيجارة وقال لها باسما:
" معك حق..... فأنا أنوي حملك على التخلي عن شيء ما , ولكنني لا أعتقد أننا نتحدث عن الشيء ذاته".
ردت عليه بلهجة حادة وقاسية:
" لا بأس , المهم أنني غير راغبة أبدا في أطالة حديث الأسرار والألغاز معك , يا سيد ستيوارت , قلت أن الغداء سيكون جاهزا خلال ساعة , فلنذهب الآن".
سألها زاكاري , فيما كانت تمر قربه متجهة نحو الباب:
" هل هذه دعوة أم أمر؟".
وقفت لحظة وأدارت وجهها نحوه ببرودة , قائلة بتهكم:
" أعتبرها كما تشاء".
" أنا لا أتلقى أي أوامر من أحد , وبخاصة من زوجتي".
أبتسم بهدوء عندما نظرت اليه بعصبية , وقالت له بسخرية قاسية:
" يا للطرافة! ألا يمكنك أن تبدأ في التدرّب على ذلك منذ الآن؟".
نظر الى عينيها المشتعلتين غضبا وقال لها بتحد واضح:
" أذا كان هناك من تدرّب أو تعلم على أمور معينة , فأنت التي ستفعلين ذلك .... وأنا سأكون المدرّب".
أرعبتها نظراته القوية ولهجته القاسية , وخافت من مغبة الأستمرار في محاولات تحديه وأثارة أعصابه , تذكرت رغما عنها جملة مايكل عن قساوة زاكاري وعنفه, ولكن زاكاري لم يتعرف من قبل على شابة قوية مثلها , رفعت رأسها بشموخ وعنفوان , وقالت:
" بصراحة , لا يمكنك أن تعلمني شيئا , أضف الى ذلك , أنه لا يهمني أذا تناولت الغداء معي أم لا , أنا لست متحمسة أو متشوقة للجلوس معك الى طاولة واحدة , بأمكانك أذا شئت , أن تزحف عائدا الى حيثما كنت".
سارت نحو الممر دون أن تلتفت اليه , ولكنها شعرت أنه أصبح وراءها عندما قال لها متهكما:
" أنك حقا تريدينني أن أتبخّر في الهواء وأختفي بصورة نهائية , ولكنني أحذرك من القيام بأي محاولة لتجاهل وجودي هنا , كما أنني لن أسمح لك بأن تدوسي عليّ".
أبتسمت له بخبث فائق وقالت:
" أذن , سأحاول الألتفاف من حولك....... يا سيد ستيوارت".
أمسك بذراعها وضغط عليه بقوة , وهو يقول لها بلهجة الواثق من نفسه:
" حتى الألتفاف لن يكون سهلا, أيتها العزيزة!".
شعرت أليزا , أثناء الغداء أن كريستين لم تعد تشعر بأي رهبة أو حياء أتجاه بيتها الجديد , كانت تتحدث طوال الوقت , وبحريّة تامة , غير عابئة بصمت أختها , وكان زاكاري يرد على كافة أسئلتها بأهتمام ظاهر , شارحا لها بالتفصيل وبدون تردد كل المعلومات التي كانت تطلبها , لم ينظر مرة واحدة الى أليزا , ولم يوجّه اليها أي كلمة على الأطلاق , بدا وكأنه يتوقع منها أن تظل صامتة , كان موقفه أتجاهها يوحي بأنه يشجعها على الصمت , وعلى عزل نفسها عن الآخرين...... فصمتها وعزلتها لا يؤذيانه البتة.
عندما تناولوا الحلوى والفاكهة , كان غضبها بلغ أشدّه , توقعت ألا يحاول حملها على المشاركة في الحديث , ولكنها أنتظرت منه على اأقل ملاحظة قاسية أو خبيثة بشأن صمتها المتواصل , لم يفعل ذلك , بل أعتذر لكريستين وحدها عن أضطراره لمغادرة البيت الى مكتبه في المعمل , هرع كلب الحراسة القوي المدرّب الى جانب سيده , وتبعه بين الأشجار الى المعمل الذي يقع على قمة تلة مرتفعة , تضايقت أليزا من كلمات الأعجاب الصادقة التي قالتها كريستين عن الكلب ماكس , كان واضحا أن فترة ما قبل الظهر سمحت للفتاة الصغيرة بمصادقة الكلب , وجعلتها تتعلق به. خرجت أليزا عن صمتها المطبق , عندما طلبت من أختها أن ترافقها الى غرفتيهما لأفراغ حقيبتيهما والتجول في أرجاء البيت وحوله.
منتديات ليلاس
ولأن معظم ثيابهما وأغراضهما لم تأت بعد , فقد أنهتا عملهما خلال فترة وجيزة جدا , أصرّت كريستين فور ذلك على أن تقوم بدور الدليل , فأخذت بيد أختها وراحتا تتفرجان على غرف البيت وقاعاته, قالت لها كريستين أن الغرف الموجودة في نهاية الممر هي للضيوف , ثم سبقتها على الدرج وفتحت الباب المزدوج مشيرة بأعتزاز الى قاعة الأستقبال الرسمية , تأملت أليزا بأعجاب الأثاث البني الفاتح , أنتقلت الأختان بعد ذلك الى قاعة الطعام , حيث لم تسمح كريستين لأختها ألا ببضع لحظات وجيزة قبل أن تفتح بابا مزدوجا آخر وتقول بسرور:
" هذه هي غرفتي المفضلة!".
أخذت الطفلة الصغيرة ترقص بفرح ظاهر حول الكنبة الوثيرة الجميلة وقرب الطاولة الصغيرة البيضاء , ثم جلست في مقعد هزّاز في أحدى الزوايا , وقالت:
" أخبرتني نورا أن هذه الغرفة تسمى قاعة الصباح , هل تعرفين لماذا سمّيت هكذا؟".
هزت أليزا رأسها نفيا , فمضت الصغيرة الى القول:
" لأنها المكان الذي نتناول فيه فطور الصباح , قالت ورا أن ما من أحد يحب الذهاب الى قاعة الطعام الرئيسية لأنها أنيقة ورسمية , ولأن الأنسان لا يشعر بأنه أنيق ورسمي في الصباح!".
شعرت أليزا بأن نورا على حق , فالغرفة جميلة ومريحة ومشرقة للغاية , أنها فعلا المكان المناسب للأشخاص الذين لم يستيقظوا بعد تماما.
" هذا هو باب المطبخ , ولكن نورا قالت أن الطاهية لا تحب دخول الناس الى مطبخها وخروجهم منه كأنه ساحة عامة".
عادت الأختان الى الممر , ووقفت كريستين أمام باب مزدوج مقابل قاعة الجلوس ثم قالت ضاحكة:
" هذه هي غرفة الأسد".
" غرفة الأسد؟".
ظهرت في عينيها فجأة ملامح حزن , وقالت:
" هكذا كنا نسميها أنا وأمي , كان أبي يصفها بأنها العرين المنزلي الذي يختلي فيه , ولأنه كان يزأر عندما يزعجه أحد , فقد قررنا أن نسميها.....غرفة الأسد , قالت لي نورا أن هذه الغرفة هي مكتب زاكاري الخاص , وأنه يفترض بي ألا أدخلها".
" نعم , لأنه من المحتمل جدا أن يصدر عن زاكاري أيضا زئير هادر أذا أزعجه أحد".
أخفت أليزا أبتسامتها لسرعة وقالت لأختها بجدية:
" بالمناسبة , يجب ألا تتحدثي مع مدبرة المنزل أو عنها بأسمها الأول , يجب أن تقولي السيدة كاستيلو".
هزت الطفلة الصغيرة كتفيها وقالت:
" طلبت منها أن تستخدم معي أسم كريستين , فقالت لي أن بأمكاني مناداتها بأسمها الأول نورا , وبما أن زاكاري يناديها أيضا على هذا النحو , فلا بأس أطلاقا من أن أفعل مثله".
أصرّت أليزا على تعليم أختها بعض الأصول والتقاليد , وخاصة لأنها أحست بالغضب عندما أشارت كريستين الى زاكاري كأنه هو السلطة العليا في البيت.
" صحيح أنه يناديها بأسمها الأول , ولكن الفتاة الصغيرة المهذبة يجب أن تنادي الأشخاص الراشدين بأسماء عائلاتهم مع أستخدام كلمة سيد أو سيدة , أنه دليل على التأدب والأحترام".
أتسعت العينان العسليتان ببراءة وأستغراب ظاهرين , وقالت الفتاة لأختها:
" ولكنني سأكون مضطرة لمناداتك ...... سيدة ستيوارت".
" الوضع مختلف بالنسبة أليّ , فأنا أختك , أنا فرد من أفراد عائلتك".
ردت عليها كريستين بعناد :
" وكذلك نورا , قالت لي ذلك بنفسها , وكذلك فعل زاكاري".
شعرت أليزا بأن الجدل مع كريستين لن يكون مفيدا , ما لم تسنح لها فرصة للتحدث مع زاكاري ووضع الأمور في نصابها , قالت لها بهدوء:
" سنبحث هذا الأمر في وقت لاحق , علينا أن نعود الآن لأستبدال ثيابنا , أذا كنا نريد القيام بجولة خارج المنزل".
راح الشعر الأسمر المحمر يتطاير في الهواء , فيما كانت كريستين تقفز بمرح فوق الحبل الذي كانت أليزا تدوره بسرعة كبيرة , توقفت الفتاة بعد فترة طويلة وألقت بنفسها على المقعد المجاور لأختها , ألتقطت بعض أنفاسها وسألت أليزا بحماسة منقطعة النظير :
" كم مرة قفزت؟".
أبتسمت أليزا وهي تنظر الى أختها بمحبة وحنان , وقالت:
" أكثر من ستين مرة".
صححت لها الرقم بسرعة وحدّة , قائلة:
" خطأ لم أقفز سوى تسع وأربعين مرة".أرادت أليزا أن تغيظها قليلا , فسألتها بهدوء:
" كيف عرفت ذلك؟".
" لأنني أعددتها بنفسي".
" لماذا طلبت مني أذن أن أحصي لك عدد المرات , مع أنك لم تكوني بحاجة أليّ ؟".
أبتسمت كريستين وقالت بهدوء:
" طلبت منك ذلك كي أتأكد أنك ستراقبينني".
أختفت ملامح التحفظ والجدية التي تطبع عادة وجه أليزا الجميل , وحلت محلها ملامح الحب والعطف والحنان , قالت لأختها الجالسة أمامها:
" أيتها البطة الغبية , أنني أراقبك دائما وبأستمرار".
" لماذا لا نذهب الآن الى هذه المباني الواقعة على قمة التلة ونرى ماذا يفعل زاكاري هناك؟".
تضايقت أليزا من طلب أختها الذي كررته مرات عديدة طوال فترة ما بعد الظهر , فآخر شيء تريده في هذه المرحلة هو أظهار أي أهتمام بزاكاري أو بأعماله.
" قلت لك أكثر من مرة أننا لن نذهب الى المعمل".
" سنتناول طعام العشاء في السابعة , ألا تعتقدين أن علينا أبلاغه بذلك؟".
" أنا متأكدة أنه يعرف موعد العشاء وليس بحاجة لمن يذكّره به".
وقفت الفتاة الصغيرة وقالت لأختها بعنفوان وتحد:
" أنا ذاهبة اليه , أذا أردت مرافقتي , فأهلا وسهلا ..... وألا فأنني ذاهبة بمفردي".
" كريستين , لا تكوني صعبة!".
هزت الطفلة كتفيها وقالت:
" أنا لست صعبة , أنت التي تصعّبين الأمور!".
ردت عليها أليزا بحدة:
" هذا تصرف وقح ! قلت لك أنك لن تذهبي الى التلة , أذا كنت مهتمة الى هذه الدرجة برؤية زاكاري , فبأمكانك أن تسيري الى تلك الشجرة الكبيرة وتنتظريه هناك , ولكنك لن تذهبي الى المعمل , وهذا قرار نهائي!".
سارت كريستين بعصبية بالغة نحو الشجرة البعيدة , فيما تنهدت أليزا بأستغراب شديد , يبدو أن والدتها دلّلت أختها الى درجة لم تعد معها الصغيرة لتقبل الأوامر المعطاة اليها ألا بأنزعاج بالغ , حملت أليزا نفسها مسؤولية مماثلة , لأنها لم ترفض لأختها أبدا أي طلب أو تحرمها من تحقيق أي رغبة , ربما حان الوقت كي تفهم أختها بأنها لم تعد قادرة أن تحصل على أي شيء تريده , أو تنفيذ كل مطالبها ورغباتها.
وقفت ببطء ومشت مسافة قصيرة , قبل أن تسمع صوت عجلات سيارة تدخل باحة المنزل , توقفت السيارة أمام المدخل الرئيسي ونزل سائقها منها , ثم راح يحدّق بأليزا الواقفة على الشرفة , رفضت قدماه أطاعة أوامر عقاه , القاضية بعدم التحرك قبل سماع أي دعوة أو كلمة ترحيب , سار نحوها بهدوء وهو يردد أسمها , نظرت اليه بذهول , فيما كانت عيناه تتأملان وجهها وشعرها , مد أصابعه الطويلة الرفيعة وأمسك بيديها , تسمّرت في مكانها وهي تنظر الى بول أندروز الشخص الذي تحدثت عنه الى زاكاري بكثير من الأستخفاء والأستهزاء , لم تحاول حتى أن تسحب يديها من بين يديه , نظر اليها بوله وأعجاب واضحين , وقال :
" ظننت أنني أرى شبحا , لم أصدق عيني عندما شاهدتك على هذه الشرفة , ماذا تفعلين هنا؟".
فتحت فمها لتشرح له ما حدث , لكنه أسكتها بهزة من رأسه وقال:
" لا سبب لأن تقولي شيئا , أظن أنني أعرف.... زاكاري أحضرك الى هنا".
حاولت مرة أخرى أن توضح له حقيقة ما جرى , ألا أنه ضحك بسرور ومضى يقول:
" لم أعرف صديقا مثله من قبل , يا أليزا , لا يمكنك أن تصدقي الأمور التي قام بها نحوي , عندما قلت لي أنك لا تريدين رؤيتي مرة أخرى , شعرت بأنني تحطمت , كرهت العالم كله! ولكن زاكاري كان هناك , كعادته , ليساعدني ويعيد اليّ ثقتي بنفسي , علم بالتأكيد أنني لا أزال أحبك , هذا هو الأمر , أليس كذلك؟ أحضرك الى هنا كي تكوني معي؟".
" بول , توقف!".
شعرت بالشفقة عليه وبالخجل منه ..... هذا الرجل الوسيم الذي لم يثر في نفسها قبلا ألا الأزدراء وعدم الأكتراث.
" كيف يمكنني أن أتوقف , وأنا بمثل هذه السعادة!".
حاول ضمّها اليه , ولكنها أبعدته عنها وهي تصرخ قائلة:
" أنك لا تفهم! ليس الأمر كما تتصوره أطلاقا!".
جمد بول في مكانه , عندما سمع صوتها الحاد وشاهد نظرات الألم في عينيها , عقد جبينه وسألها بقلق:
" ماذا تعنين؟".
أستعادت شيئا من الهدوء وقالت:
" لم أعرف أنك كنت قادما الى هنا".
ضحك بول وقال:
" أراد اللعين أن يفاجئنا معا , أليس كذلك؟".
ثم تأملها مليا قائلا:
" أنك أجمل بكثير مما أتذكرك".
قالت له بهدوء , وهي تحاول أبعاد نفسها عنه:
" لا أعتقد , يا بول , أن زاكاري هو صديقك الى الدرجة التي تتخيّلها".
" يا له من أسلوب رائع تستخدمه زوجتي بمجرد أن أدير لها ظهري لأول مرة!". أستدار بول وأليزا بسرعة عندما سمعا كلمات زاكاري الضاحكة التي كانت تضجّ أزدراء وأحتقار , شاهدت أليزا بريق الأنتصار في عينيه الجمليتين الواسعتين , أبتعد عنها بول بسرعة وأخذ يحدق بصديقه بذهول وأستغراب شديدين , لم ينظر اليه زاكاري عندما أقترب من أليزا وضمها اليه بقوة , تجاهل نظراتها الباردة وتظاهر بأنه يتأملها بمحبة وحنان , ثم قال للرجل الآخر:
" أنها كما وصفتها , يا بول, وأكثر بكثير , كنت أنوي الأتصال بك هاتفيا وأبلاغك النبأ السعيد , تزوجنا أمس في نيفادا!".
أصفرّ وجه بول الذي لفحته الشمس , وبدا عليه الشحوب , تمتم بكلمة تهنئة , ولكن زاكاري تجاهلها ومضى الى القول:
" يجب أن أشكرك , يا بول , لأنك أعطيتني فكرة واضحة ومفصّلة عن أليزا قبل أن ألتقي بها , يتحدثون عن التودد السريع , ولكنني لا أعتقد أن أحدا سبقني في هذا المضمار ! لم أترك لها فرصة للتفكير بما تقوم به , الى أن تزوجنا ووقّعنا وثيقة الزواج".
تمتمت أليزا قائلة:
" زواج سريع وندم بطيء! ".
ضغط زاكاري على ذراعها بقوة , حتى عضّت على شفتيها لتمنع نفسها من الصراخ , ثم نظر اليها معاتبا بخبث واضح:
" هذا ليس بالكلام الذي يفترض بعروس أن تقوله , يا حبيبتي".
أراد أن يقبّلهاعلى شفتيها , ولكنها أبعدت وجهها قليلا فحطت قبلته على خدها , نظر اليها بغضب قبل أن يتركها , ويدفعها بحنان مصطنع نحو البيت قائلا:
" أذهبي , يا أمرأة , وأحضري لنا بعض القهوة والحلوى , هذه هي أقل واجبات الضيافة".
تطلّعت أليزا بتردد نحو بول, فأزعجتها كثيرا تلك النظرة الباردة على ملامح وجهه الوسيم , فهمت الآن لماذا حاول الأنتحار عندما شعرها بأنه فقدها , كان الألم والمرارة واضحين في عينيه , ولكنها شعرت بأن الشفقة الخفيفة التي أحست بها أتجاهه ذهبت هباء بسبب تصرف زوجها , تألمت كثيرا بسب قساوة زاكاري وتصرّفه المتعجرف أتجاه بول , لو أنه طعنه في ظهره , لكانت تلك طريقة أيذاء أقل أيلاما من هذا التحدي الساخر وجها لوجه.
منتديات ليلاس
عادت أليزا بعد قليل ومعها قطع الحلوى وأبريق القهوة وثلاثة فناجين , كان الرجلان يجلسان الى أحدى الطاولات , وكانت وجنتا بول أستعادتا بعض اللون , ألا أن نظرة الذهول كانت لا تزال بادية بوضوح في عينيه الحالمتين , تمنى لهما السعادة بكلمات مقتضبة , ثم سأل زاكاري بهدوء:
" هل علمت رينيه بالأمر؟".
تأمل زاكاري فنجان القهوة وكأنه يراه لأول مرة , ثم أجابه بكلمة نفي واحدة قبل أن يحوّل نظره الى وجه أليزا العابس , تطلع بول نحوها بسرعة وعصبية , وكأنه شعر بالذنب لتوجيهه مثل هذا السؤال أمامها , ولكنه أصرّ على متابعة الحديث فقال لزاكاري :
" أظن أن عليك الأتصال بها لأطلاعها عما حدث".
نظر زاكاري الى أليزا وتأمل وجهها وعنقها بتمعّن قبل أن يقول لصديقه:
" دعها تعرف ذلك بنفسها , أو ربما كان من الأفضل أن تطلعها أنت عما حدث".
تطلعت أليزا نحو بول وسألته بلهجة باردة , وكأنها غير مكترثة بالأمر:
" هل رينيه هي أحدى صديقات زاكاري القديمات؟".
أبتسم زاكاري وقال لها بسخرية مؤلمة:
" لا داع للغيرة , يا زوجت المحبة , أنها فتاة سمراء صغيرة القد ورشيقة للغاية , أي على العكس تماما من الشابة البريئة العفيفة التي تزوجتها".
أعتذر بول قائلا:
" آسف , لم أقصد أبدا أن يكون سؤالي سببا للجدال".
" لا تقلق أو تهتم".
وضحك زاكاري ثم مدّ يده وجذب أليزا نحوه , أفلت يدها وطوّق خصرها بذراعه , على الرغم من محاولاتها اليائسة للتملّص منه , ثم قال:
" أجد متعة كبيرة في أغاظة زوجتي بسبب ترددها في أظهار حبها لي , ولكنني سأعالج مرضها هذا وأشفيها منه خلال فترة قصيرة".
همست أليزا بعصبية بالغة:
" يكفي ! توقف!".
كانت يده الأخرى آنذاك تداعبها , حاولت أبعاد تلك تلك اليد عنها , ولكنه أمسك بيدها وجذبها نحوه , حاولت جاهدة سحب يدها ولكنه رفع تلك اليد الى شفتيه وقبّلها , أبتسم بدهاء وهو يتأمل ملامحها الباردة والقاسية , ولم يترك يدها خوفا من أن تصفعه , وسأل زاكاري صديقه فجأة :
" لديّ فكرة , لماذا لا تبقى هنا وتتناول معنا طعام العشاء , يا بول؟".
أوحت كلماته بأنها مجرد دعوة لم تخطر بباله قبل تلك اللحظة بالذات , ولكن أليزا شعرت بصورة مؤكدة أنه فكّر بهذه الدعوة منذ بعض الوقت , أجابه بول بشيء من المرارة:
" لا يمكنني ذلك , أنها ليلتكما الأولى هنا , وأتصوّر أنكما تريدان تمضيتها بكاملها على أنفراد".
أشار زاكاري بيده نحو كريستين , التي كانت تلاعب كلب الحراسة ماكس , وقال:
" لدينا في أي حال مرافقة في السابعة من عمرها , ونحن بحاجة لشخص رابع كي نقيم حفلة خاصة , نريدك أن تبقى , أليس كذلك يا أليزا؟".
" ربما لديه خطط أخرى , يا زاكاري".برقت عيناه بقسوة مخيفة , قبل أن ينظر الى بول ويقول بشيء من الرقة... والحزم:
" أنني آمره بصفتي رئيسه في العمل بأن يلغي جميع خططه ويتناول العشاء معنا".
وضع بول يده على شعره الأشقر , وهو يحاول مواجهة النبرة القوية المفزعة في صوت زاكاري , وقال:
" أنا...... أنا.....".
" عظيم , أتفقنا , أذهبي يا أليزا وأخبري نورا بأن أربعة أشخاص سيتناولون العشاء".
أبتسم لها بعصبية وكأنه يتحداها بأن ترفض أوامره , أبتسمت له بدورها , وأعتذرت بصوت خافت عن أضطرارها لمغادرتهما ....... وتوجهت الى البت , لم تعرف هي نفسها السبب الحقيقي لهذا الأنصياع غير المتوقع , هل فعلت ذلك لأن عنجهيته كانت تؤكد له بأنها ستحاول تحديه , أم لأنها شعرت فعلا بالخوف والرهبة من تسلطه وغطرسته؟
أبلغت مدبرة المنزل بأن السيد ستيوارت دعا بول أندروز الى العشاء , وقررت ألا تعود الى الحديقة والتعرّض للمزيد من ملاحظات زاكاري القاسية وكلماته اللاذعة , دخل زاكاري بعد حوالي ربع ساعة الى قاعة الأستقبال , حيث كانت أليزا تجلس بأرتياح وتتصفح أحدى مجلات الأزياء.
" وجدتك أخيرا! أعتقد أن عدم أنضمامك الينا ثانية يعتبر وقاحة , أيتها العزيزة".
" ليس بمثل وقاحتك وأنعدام شعورك أنت , أيها السيد ".
ثم رمت المجلة بعصبية على الطاولة وسألته بحدة:
" ألم تكن عديم الشعور وقاسيا جدا عندما دعوته الى العشاء؟".
جلس زاكاري بهدوء على مقعد مقابل وقال لها:
" حان الوقت لكي يتوقف بول عن تصوّرك فتاة أحلامه العفيفة النقية, سوف تساعده الصدمة , التي شعر بها عندما علم بزواجك مني , على الوقوف بقوة على رجليه ومواجهة التحديات , سيتأقلم أثناء العشاء مع الواقع الجديد ويتعلّم كيف يواجهه , قبل أن يذهب ويغرق نفسه في جو من الحزن والمرارة والأسى".
توقف لحظة ليتأمل نظرات السخرية والتهكم في عينيها , ثم مضى الى القول:
"سوف يعطيك العشاء أيضا فرصة لتظهري لي مدى أستعدادك الحقيقي لقبول الشروط التي نص عليها أتفاق زواجنا".
توترت أعصابها بسبب لهجته المتسلطة ونظرت اليه بأحتقار قبل أن تسأله بأستغراب:
" ماذا تعني بذلك؟".
" أتفقنا على أن نتصرف أمام الآخرين وكأننا فعلا نحب بعضنا وأذا كنت تحاولين تطبيق الأتفاق منذ وصول بول , فأنك ... يا حبيبتي ... ممثلة رديئة للغاية".
هبّت أليزا واقفة بعصبية بالغة , وقالت له بغضب واضح :
" أذا كنت تظن بأنني سأسمح لك بمداعبتي أو مغازلتي أو ضمّي كلما جاء أحد الى هذا البيت , فأنك جاء أحد الى هذا البيت , فأنك ترتكب خطأ جسيما! لن يحدث هذا على الأطلاق!".
" ما أجمل النظر اليك , يا أليزا , وما أقبح ملامستك ! هل تعتبرين وضع ذراعي على كتفك ضما , أو وضع يدي على يدك مداعبة ومغازلة ؟ أشك كثيرا في أن لديك خبرة كافية لتعرفي الفرق الشاسع بين هذه وتلك , سأكون راضيا جدا للحصول على أبتسامة منك , مع أنني أعلم أنها ستلحق ضررا بالغا بهذا القناع الذي ترتدينه على وجهك".
ردت عليه بلهجة ساخرة:
" يمكنني أن أبتسم مرات عديدة , وأذا كانت أبتسامتي تكفي لمنعك من ضمّي اليك , فسوف أبتسم طوال الوقت , قد لا تكون لدي خبرة كافية في هذا المجال , ولكنني أعرف حق المعرفة أن ما قمت به كان مداعبة وضما".
سألها زاكاري متهكما:
" من أين أكتسبت هذه المعرفة الكبيرة كلها , أيتها العزيزة؟".
رفعت رأسها بعنفوان وتحد , وقالت:
" من رجل".
" أشك في أنك تعرفت الى رجل في حياتك ".
" تعلمت الكثير من قريبي مايكل , الذي يرافقني بأستمرار منذ حوالي خمس سنوات".
ضحك زاكاري بدهاء وأزدراء قائلا:
" ذلك الجرو المدلل الذي كان يتبعك في أندية نيفادا ليلتقط بعض ما يفيض عنك من مبالغ تافهة!".
ثم وقف وقال :
" أكرر لك ما قلته قبل لحظات.. أنت لم تتعرفي بعد الى رجل حقيقي".
نظرت اليه بأزدراء وقالت:
" أتصوّر أنك تظن نفسك رجلا حقيقيا !".
تأمل وجهها وشعرها الأشقر ,ثم قال لها بتأفف:
" قد أقرر يوما أن أثبت ذلك , يا أليزا".
" لا تحاول أضاعة وقتك !".
" أنا لا أضيّع وقتي أبدا!".
ثم نظر الى الوراء ولوّح بيده قائلا:
" نحن هنا , يا بول , هل شاهدت كريستين؟".
" كانت تركض نحو قاعة الطعام عندما كنت أنزل الدرج".
" أعتقد , أذن , أننا أصبحنا جميعا مستعدين لتناول العشاء , هيّا بنا".
كانت كريستين تتكىء على كرسي وتضع قدمها على أخرى , وهي تتأمل الطاولة الأنيقة , ولما أستدارت نحو القادمين الثلاثة , لاحظت أليزا أن أختها تبدو حزينة الى حد ما , ساعدتها على الجلوس وسألتها بصوت منخفض:
" ماذا في الأمر يا حبيبتي؟".
لم تحاول الصغيرة الأجابة بهدوء مماثل , فجاء ردها عاليا أخجل أختها , قالت دون تردد:
" أتصور أنني لن أحصل هنا أبدا على طعامي المفضل ... شريحة من لحم البقر وكمية كبيرة من البطاطا المقلية".
ضحك زاكاري بصوت عال وقال لزوجته , التي كانت على وشك تأنيب أختها :
" لا تقولي لها شيئا , لأنها لم ترتكب أي خطأ , كل ما في الأمر أنها صادقة وصريحة".
ثم نظر الى الطفلة الصغيرة , وقال:
" أعتقد أن بأمكاني أقناع الطاهية بأعداد شرائح اللحم هذه مع متطلباتها الأخرى مرات عديدة في الشهر فما رأيك , يا كريستين؟".
" عظيم! عظيم!".
كررت كريستين هذه الكلمة بسعادة بالغة , قبل أن يمضي زاكاري الى القول:
" هذه أول وجبة طعام تتناولينها مع أختك في لبتكما الجديد , وأعتقد أن السيدة مارش حاولت أعطاكما أنطباعا جيدا عن عملها".
منتديات ليلاس
دهشت أليزا لتحليه بمثل هذا الصبر , ولقدرته العجيبة في تفهم مشاكل كريستين وأهتمامه السريع والحاسم بحلّها , لكن لم يكن هناك أي حنان في وجهه... لم يكن ثمة مجال للرقة والحنان في تلك الملامح القاسية , وشعرت أليزا أن لهجته القوية هي التي تثير أعجاب كريستين به , وأحست مرة أخرى بالضيق والأنقباض المتزايدين لأنه قادر على فرض نفسه وشخصيته على كل من يلتقيه ..... بأستثناء أليزا فرانكلين! لن تتأثر بتسلطه وهيمنته! يمكنه أن يأمر من يشاء , وأن يكون السيد المطاع لأي شخص يقبل بالركوع أمامه والرضوخ اليه.... ولكنها لن تعترف أبدا بسلطته عليها وقدرته على التحكم بها! لن تسمح له بذلك .... أبدا!
قررت فجأة الخروج عن صمتها , فركزت أهتمامها على بول أندروز وراحت تسأله عن عمله في معامل ستيوارت , لم تكشف لأحد عن دهشتها عندما علمت منه أنه يتولى مهمة المبيعات والعلاقات العامة , أنه صاحب شخصية محببة , وأبن عائلة ثرية ذات نفوذ قوي في هذا الجزء من ولاية كاليفورنيا , ضعفه الوحيد هو تعلّقه الأعمى بها , لأنها كانت أول شخص أو أول شيء لم يتمكن من شرائه على الرغم من الثروة والأسم العريق , ولكنه قادر على أن يكون جذابا وساحرا ..... عندما يريد ذلك , وأكتشفت أليزا أثناء السهرة ,أنه تخلى تدريجا عن شعور المرارة الذي كان ينتابه وأخذ يجيب على أسئلتها المتلاحقة بأهتمام وجدية شديدين.
شعرت أليزا أن زاكاري متضايق جدا لأنها تتحدث مع بول بأستمرار , أبتسمت له أكثر من مرة , وبنعومة مذهلة , عندما كانت تسأله بين الحين والآخر أذا كان يوافقها على جملة أو ملاحظة , ولكنها كانت تواصل حديثها دون أن تفسح له أي مجال للتعليق أو المشاركة , وأخيرا , تدخل زاكاري في الحديث وأقترح على الجميع التوجه الى قاعة الأستقبال , حاول بول السير قرب أليزا , ولكن نظرات زاكاري الحادة أرغمته على الذهاب أمامهما.
منتديات ليلاس
هرعت كريستين فور دخولهم القاعة الى الكلب الكبير , الذي كان مستلقيا على السجادة العجمية الزرقاء قرب المدفأة البيضاء وجلست قربه , أختارت أليزا مقعدا وثيرا قرب الكنب التي جلس عليها بول , وذلك لعدم أفساح المجال أمام زاكاري لمحاولة الجلوس قربها , ألا أن زوجها الخبيث أسند نفسه على حافة المقعد , ووضع ذراعه بشكل يسمح له بمداعبة شعرها , بدأت يحدث بول عن البساتين والمعمل , نظرت اليه ببرودة فائقة , فوجّه اليها نظرات قاسية غاضبة , وأحست عندما أمسك بخصلة من شعرها بأنها تكرهه .... تكرهه بعنف , ومن صميم قلبها , وأبتسم بخبث ودهاء , بمجرد أن أبعدت رأسها عن متناول يده , وقال لها بهدوء:
" لا شك أن هذا اليوم كان طويلا جدا بالنسبة لكريستين , أعتقد أن عليك الآن أخذها الى النوم".
نظرت أليزا بسرعة نحو أختها الصغيرة التي كانت تتثاءب قرب الكلب النائم , وأحست بأن حبها للفتاة وأهتمامها بها يمنعانها من معارضة أوامره , أعتذرت لبول وقالت له أنها مسرورة لتمكنهما من مقابلة بعضهما مرات عديدة في المستقبل , وجّه اليها زاكاري نظرة قاسية أخرى , ثم قال بلهجة الآمر الناهي:
" يجب أن تنضمي الينا ثانية بعد أن تنام كريستين".
لم تعلق بشيء على كلامه , وأكتفت بتوجيه أبتسامة حنان مصطنعة قبل أن تطلب من أختها أن تتمنى للرجلين ليلة سعيدة , كانت مسرورة جدا لتمكنها من مغادرة تلك الغرفة , والأبتعاد عن جو زوجها الخانق.
أمضت أليزا ساعة كاملة قبل أن تتمكن من أقناع كريستين بالأستحمام وأرتداء ثياب النوم , وبعد أن عانت كثيرا من حديث أختها المتواصل عن كلب الحراسة ماكس , وضعتها في سريرها وطبعت قبلة محبة وحنان على جبينها , وهي تبتسم لها وتطمئنها الى أنها ستكون في الغرفة المجاورة.... وأنها ستفتح بابي الحمام المشترك بين غرفتيهما كي تشعر الصغيرة كأنهما في غرفة واحدة , لم تكن لدى أليزا أيّ نية لأطاعة أوامر زاكاري والنزول ثانية الى قاعة الجلوس.
لن تتحمل بعد الآن أن يجلس قريبا منها الى تلك الدرجة , وأن ينظر اليها بمثل ذلك الأزدراء والأحتقار , لو حدث ذلك مرة أخرى , لأضطرت للصراخ.... أو حتى لصفعه على وجهه , جلست أمام المرآة بعد أن أرتدت ثياب النوم , وراحت تسرح شعرها بحدة وعصبية , أنها تكره هذا الرجل الذي تزوجته رغما عنها! يثق بنفسه لدرجة الغطرسة والعنجهية , ويتصوّر أنه رمز للرجل المتفوّق ! تكاد تتقيأ لمجرد التفكير به , وبالطريقة التي يحاول السيطرة عليها! وشاهدت فجأة في المرآة أمامها عينين تنظران اليها بقساوة وغضب , أستدارت بسرعة نحوه , وسألته :
" ماذا تفعل هنا؟".
" لم تعودي الى القاعة كما طلبت منك".
أوه , كم أنها تكره ذلك الأسلوب الناعم الذي يضعها دائما في موقف الدفاع عن النفس!
أستأنفت تسريح شعرها وهي تقول له ببرود:
" لم أكن قادرة على ذلك".
لم يجبها , فوضعت الفرشاة بعصبية على طاولتها وأستدارت نحوه صارخة:
" هذه غرفتي , فهل تفضلت بالخروج منها حالا!".
أشعل سيكارة بهدوء مثير للأعصاب , وقال لها بتهكم جارح:
" من المؤسف جدا أنك لم تنزلي الى القاعة , قدمت عرضا ممتازا لبول عن مدى تشوّق عروستي الجميلة لموافاتها الى غرفة النوم , كان منظرا طريفا ومسليا جدا , عندما أحمرت وجنتاه حياء وخجلا وغادر البيت على عجل".
ردت عليه بشراسة وغضب مميزين:
" لا أجد في هذا التصرف طرافة أو تسلية , أنني أشعر بالأشمئزاز , هل تسرق الحلوى أيضا من أيدي الأطفال؟".
ضحك زاكاري وقال لها بتهكم:
" ما هذا , أيتها العزيزة ؟ وخز ضمير في مثل هذا الوقت المتأخر؟ أنا لم أكن الشخص الذي دفع ببول الى تناول تلك الكمية الكبيرة من الحبوب المنومة , بهدف الأنتحار! أنت التي فعلت ذلك..... وأنت التي وصفته بتلك الكلمات القاسية اللاذعة! هل تحاولين أبلاغي الآن بأنك ستعاملينه بطريقة مختلفة لو أنك عرفت أنه سيحاول قتل نفسه؟".
أبعدت أليزا وجهها عنه لأخفاء الأحمرار الذي غطى وجنتيها , والناجم عن شعورها بالذنب لأنها كانت صلبة وقاسية القلب والفؤاد مع ذلك المسكين ثم تمتمت قائلة :
" لا أعرف".
توقفت لحظة وأضافت بلهجة أقوى وأكثر ثقة بالنفس:
"لا , لم أكن لأعامله بطريقة مختلفة , ولكنني لم أكن قاسية ومتحجرة القلب مثلك! هل تعرف ماذا ظن في بداية الأمر ؟ ظن أنك أحضرتني الى هنا لأجله, تصور أنك أقنعتني بأعطائه فرصة أخرى , تخيل أنك تفعل ذلك , لأنك صديقه وتحبه وتهتم به , لم أشعر طوال حياتي بمثل الأسف والأسى اللذين شعرت بهما اليلة أتجاه بول , عندما أخبرته بسماجة ووقاحة أنني تزوجتك , كان يأمكانك أن تبلغه النبأ الحزين بطريقة أكثر أنسانية ورقة , ولكنك رميتني في وجهه كجلد نمر أصطدته بسهولة ".
أبتسم زاكاري بخبث ودهاء , وقال:
" أنت لست تذكارا من أحد أنتصاراتي ... أنت جائزة وغنيمة ! لا ينفع الغنج والدلال , أو الشعور بالشفقة , في تقوية العزيمة وتعليم الشجاعة , فلا تحاولي هذه الطريقة مع بول! لو تعاونت معي الليلة , عوضا عن محاريتي ومعارضتي , لتمكنا من تحقيق أنجاز رائع معه".
نظرت اليه بعينين فولاذيتين وسألته بسخرية لاذعة جدا :
" وكيف سنساعد بول لو أنني سمحت لك بمداعبتي أو مغازلتي؟".
قطّب زاكاري حاجبيه ونظر الى وجهها محذرا منذرا , ثم قال :
" أجبت عن هذا السؤال في وقت سابق من هذه الليلة , ولا أنوي أبدا تكرار ما أقوله".
ثم أبتسم بتحدّ صارخ وأضاف قائلا:
" ذكرت لي على الأقل السبب الحقيقي لرفضك العودة الى قاعة الأستقبال , كنت خائفة مني , أو بالتحديد .. من ممارستي الغزل معك , بغض النظر عن البراءة التي ستتم بها".
بصقت في وجهه وصرخت بأستياء شديد:
" كذّاب ! كذّتب! أنك تثير في نفسي الأشمئزاز ولكنني لا أخاف منك أو من محاولاتك المقرفة لأظهار رجولتك أمام الآخرين ! عقدنا أتفاقا تجاريا فيما بيننا.. وأذا كنت تتصوّر أن العلاقة ستتحول الى أي شيء آخر , فأنت مخطىء تماما , أنني أحتقر جميع الرجال..... وخصوصا أنت, يا سيد ستيوارت!".
هز زاكاري كتفيه بأستخفاف بالغ ,وقال:
" أننا نتجه منذ يوم أمس الى مثل هذه المناقشة , هل تحدينني عمدا , أم أنك تريدين مني ضمنا وبطريقة لا شعورية أن أقوم بأغوائك؟".
لم تعد أليزا قادرة على ضبط أعصابها بعد سماعها تلك الكلمات الحقيرة والمذلة , أمسكت بفرشاتها كسلاح وهجمت عليه بعنف وشراسة , أمسك زاكاري باليد التي تحمل الفرشاة , ولوى الذراع حتى أفلتتها وهي تصرخ من الألم , دافعت عن نفسها بيدها الأخرى , ولكنه أمسك بها أيضا ووضع اليدين معا وراء ظهرها .... ثم ضمّها اليه بقوة , شعرت بأن عظامها سوف تتحطم , فصرخت به بحقد بالغ:
" أكرهك! أكرهك! ".
ضحك زاكاري ورفع وجهها نحوه قائلا:
" هل تتوقعين مني أن أصدق ذلك؟ كنت تعلمين ماذا سيحدث عندما قمت بهجومك النسائي المثير للشفقة , كنت تعرفين جيدا أنك ستنتهين كأسيرة بين ذراعي القويتين".
أرتجف جسمها عندما أحست أن كلماته تحمل بعض الحقيقة , ولكن الفكرة بحد ذاتها منافية للعقل والمنطق , لم تهاجمه ألا بسبب غضبها الشديد , من غروره المستبد وأنساها ذلك الغضب مدى ضعفها الجسدي أمام هذا الرجل العملاق.
" أنك تافه الى درجة لا تصدق!".
"يمكنني أن أحملك على الوقوع في حبي , ولكن هذا الأمر ليس من ضمن الصفقة المعقودة بيننا ".
أبعدها عنه بأزدراء , ومضى الى القول:
" قبلت مبلغ المئتي ألف دولاء لأمنحك أسمي وأسمح لك بالعيش في منزلي لمدة سنة , ولكن الأتفاق لم ينص على أن أحملك الى سريري , أليس كذلك؟ هذا مع العلم أن لي الحق في ذلك...... كزوج".
" لن أسمح لك بذلك أبدا".
ظهر الغضب على وجهه وفي عينيه , قال لها:
" لنوضح هذا الأمر بصورة نهائية , يا أليزا , أنا لست راغبا أبدا في حملك الى سريري".
تسمّرت في مكانها بسبب غروره وعنجهيته , وفتحت فمها لتوجه اليه كلمات جارحة وترد له الصاع صاعين , ولكنها توقفت عن ذلك عندما سمعت صوتا ناعما يقول بأنزعاج:
" أيقظتماني !".
هرعت نحو أختها , ولكنها سمعته يقول لها وهو يغادر الغرفة :
" أنك محظوظة للغاية!".
أمضت أليزا حوالي عشرين دقيقة مع كريستين حتى غطت في نوم عميق , عادت الى غرفتها وتأملت بأنزعاج بالغ الأحمرار الشديد في معصميها , أزداد كرهها له , ولكنها أدركت أنه ليس بأمكانها أن تقاومه جسديا , ومع أنها فرحت لأنه لا يريدها , ألا أنها عرفت أن السلاحين الوحيدين المتوفرين لديها لم يعد لهما أي نفع أو فائدة , لديها المال والجمال , اللذان تستطيع بهما تحقيق أهدافها ومآربها , ولكن زاكاري أصبح يملك كمية كبيرة من المال , كما أنه أوضح لها قبل قليل أن جمالها وجاذبيتها لا يثيرانه أبدا..... وأنه عازف منها.
وأمضت أليزا ليلة مزعجة ومقلقة...
أستيقظت أليزا وكريستين في وقت متأخر , وفيما كانت الأخت الكبرى تزيّن وجهها وتحاول أخفاء الأرهاق البادي عليه , كانت الصغرى تقفز حولها بنشاط وشوق لمواجهة يوم جديد.
نزلتا الى غرفة الصباح , فأبلغتها مدبرة المنزل بأن زاكاري أستيقظ في السادسة وتوجه الى عمله فور تناوله فطوره , كانت كلماتها مقتضبة وتوحي بأنها متضايقة من نزولهما في مثل هذه الساعة المتأخرة , ألا أنها لم تتردد لحظة في تجهيز الكاولة بنوعين مختلفين من الطعام , تناولت كريستين طعامها وشربت كوب العصير ثم أكلت برتقالتين كبيرتين فيما أكتفت أليزا بشرب القهوة.
كان الوقت ظهرا , عندما تمكنت كريستين من أقناع أختها بمرافقتها الى الخارج , سارت الأختان بين أشجار السنديان الضخمة التي تحيط بالمنزل , وتوقفتا قليلا قرب الحاجز الخشبي الذي يفصلهما عن البساتين , كانت أليزا شاردة الذهن , فلم تبد أهتماما كاملا بأختها وبالأسئلة المتعددة التي كانت توجهها , تأففت الصغيرة وقررت أن تطلق لخيالها العنان , بدأن تجمع بعض الأغصان وكمية من أوراق الشجر لتبني بيتا صغيرا , يعيش فيه أولئك الأشخاص اللذين لا يزيد حجمهم عن أصبع يدها , راقبتها أليزا وهي تبني الجدران والسقف بعناية فائقة , وتحدث أصدقاء أحلامها وخيالها برقة ونعومة.
أنهمكت كريستين في مهمتها , فتمكنت أليزا من الأنفراد بنفسها وبأفكارها , ألا أن تلك الأفكار تحولت فجأة , ورغما عنها , الى زاكاري ستيوارت , تعرف أنها جميلة وجذابة , وتعلم أن معرفتها تلك ليست نابعة من غرور أو نفاق , أنها جميلة جدا , ويجب أن يثير جمالها الفتان أهتمام زاكاري ورغباته , ولكنه يبدو أنه معجب بها حينا , ويتجاهلها تماما معظم الأحيان الأخرى , كان مالها وجمالها دائما أفضل شيئين تملكهما , وكانا دائما يجذبان اليها أعدادا لا تحصى من المعجبين , صحيح أنها لم تكن راغبة في أي منهم , ولكنهم كانوا جميعا هناك..... وتحت تصرفها وسيطرتها. ألا أن هذا الرجل القوي العنيف الذي تزوجته , ليس منهم. حاولت في الليلة الماضية أن تتخذ موقفا صارما , وأن تبلغه عزمها على عدم أطاعة أوامره , ولكنها لم تنجح ألا في حمله على توجيه الأهانات اليها وأنتقاد شخصيتها وتصرفاتها , كانت غبية جدا عندما فقدت سيطرتها عل أعصابها ورباطة جأشها , وكان زاكاري ذكيا جدا عندما سارع لأستغلال هذين الأمرين , تذكرت العنف البارد الذي واجهها به عندما حاولت مهاجمته , وتذكرت أيضا السهولة التي شلّ بها مقاومتها , قبل أن يضمها بقوة الى صدره , كانت ترفض دائما في السابق أن يقترب منها أي رجل الى هذه الدرجة , لم تواجه مثل هذا الوضع ألا مرات قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة , أقنعت نفسها بأن هذا هو السبب أذن في عدم قدرتها على الدفاع بقوة , عندما أصطدمت بجسمه القاسي كالحجر و ثارت أحاسيسها ومشاعرها , وجعلتها تدرك تماما وجود الذراعين القويتين اللتين طوقتاها وشعرت برائحة عطره تداعب أنفها , وبأنفاسه الحارة بين خصلات شعرها , ألا أن أكثر شيء أزعجها وقضّ مضجعها , كان تهديده بصوت ناعم أنه قادر على أيقاعها بحبه , أحست آنذاك بأنها تحتقره ..... ولكن المشهد يعود الآن بسرعة الى ذاكرتها ومخيلتها.
تركها زاكاري فور أطلاقه تلك الجملة الرهيبة , مؤكدا لها بقساوةبالغة أن زواجهما أضحوكة تافهة .... وأنه سيظل على هذا الحال طالما أنه هو يريد ذلك , حاولت أليزا جاهدة أن تقنع نفسها بعكس ذلك..... بأنها هي التي تقرر مصير زواجهما , ولكنها أضطرت للأعتراف بالحقيقة , خافت منه , ولكنها لم تكشف له عن ذلك , كانت بعض مشاعرها , على ما يبدو , راضية بسطوته وقوته وعنفه........ولكنها رفضت الأستسلام , حاربت وناضلت طوال سنوات عديدة , فكيف تسمح لنفسها بالأنهيار خلال لحظة واحدة ؟ وتساءلت بحيرة عما كان سيحدث معها لو أن كريستين لم تستيقظ وتوقف الجدال الذي كان سيؤدي بالتأكيد الى أنتصاره!
لا شك في أنها تعرف زاكاري على حقيقته... وأنها قللت من أهميته , كان الزواج وسيلتها الوحيدة لتطبيق الشروط التي نصت عليها وصية أمها.... كان تضحية بمبادئها وأفكارها لأجل أختها, أختارت زاكاري ظنا منها أنها قادرة أن تسيطر عليه , ولكنها فشلت فشلا ذريعا ومؤلما , لم يعد بأمكانها أن تسلّط ثروتها فوق رأسه كسيف قاتل , فأصبح من واجبها أذن أن تواجهه ببرودة أعصاب حتى لو أضطرت لتحمل توبيخه وتهكمه , تصورت سابقا أن جاذبيتها سلاح ماض , وحزنت كثيرا لأنها لم تعد قادرة على أستخدام هذا السلاح , لكنها أحست الآن بالأمتنان , لأنه لا يريدهاأطلاقا , بأمكانه أن يكون قاسيا جدا لا يعرف الشفقة أو الرحمة , أذا أراد الحصول على شيء ما , شعرت بأنها سعيدة الحظ لأنها لا تثير رغباته وغرائزه ..... مع أن أنوثتها كانت تصرخ مطالبة بمعرفة السبب.
وبما أن بودتها لن تبعده عنها , وغضبها لن يؤدي الى أثارة غضبه , فقد قررت أن تتجنبه قدر الأمكان , ستبني وأختها عالما خاصا بهما يستثني زاكاري ستيوارت , وقالت أليزا لنفسها أن النار لا تشتعل بدون وقود..... ولا تحرق أولئك الذين لا يقتربون منها كثيرا , أرتاحت نفسيا للقرار الذي توصلت اليه لتوّها , فعادت تراقب كريستين والنتائج التي أسفر عنها خيالها الخصب , سمعت صوت حوافر حصان , فتطلعت نحو مصدره وشاهدت شابة صغيرة القد تمتطي حصانا بني اللون , كانت ترتدي سروالا أسود ضسقا وقميصا دون أكمام , وفجأة , حولت الشابة الحصان بأتجاه آخر, وكأن شخصا ناداها.
رأت أليزا زوجها يقف بعنفوان قرب أحد أبنية المعمل , وراكبة الحصان تحدث معه دون أن تنزل الى الأرض , كانا بعيدين عنها , فلم تسمع الحوار الذي يجري بينهما , ولكن الفتاة بدت غاضبة , في حين أن زاكاري المتغطرس كان يبدو هادئا ومسيطرا على أعصابه , رفعت الفتاة يدها دون سابق أنذار وهوت بها على وجه زاكاري لكنه أمسك بتلك اليد ثم جذب الشابة عن السرج , شاهدته أليزا وهو يضحك , فيما كانت الشابة تحاول الأفلات من بين ذراعيه , وعدأت الفتاة , بعدما بدأ يحدثها , ثم رفعت ذراعيها فجأة وطوقت عنقه.... وجذبت رأسه نحوها , أحست أليزا بالغثيان , ولكنها لم تتمكن من تحويل نظرها عنهما ....... وعن عناقهما العاطفي , أغمضت عينيها بعد قليل لأنها لم تعد تتحمل رؤية تلك الفتاة وهي تذوب بين ذراعيه .
كرهت زاكاري ستيوارت وأحتقرته ! أرتعش جسمها بضراوة وتوترت أعصابها بعنف , أنه حيوان , حيوان متوحش! وتمنت لو أنها لن تراه بعد الآن ! كيف يمكنهما أن يفعلا ذلك في العراء , حيث يقدر أي شخص على مشاهدتهما! وأرتاحت نوعا ما , عندما لاحظت أن كريستين لم تشاهد هذا المنظر المقزز والمثير للأشمئزاز........