4- زيارة المعمل
أخذت أليزا قفازين بيضاوين لتلبسهما , ونادت أختها:
" هل أنت جاهزة , يا كريستين؟".
أعادت القفازين الى مكانهما , لأنها لم تتمكن من أدخال يدها اليسرى بأحدهما بسبب خاتمها الكبير , دخلت كريستين وهي ترقص بلهفة وحماسة , وقالت:
" أنا مستعدة ! أوه , أسرعي بحق السماء!".
ضحكت أليزا بمحبة, قائلة:
" لن تباشري دراستك اليوم , سنكتفي بتسجيلك في المدرسة".
ولكن يدها الصغيرة أمسكت بذراع أليزا وجذبتها الى الخارج , كان زاكاري يراقب قدومهما صامتا , حدقت به أليزا مستغربة , لأنها لم تتوقع وجوده في مثل هذه الساعة , تركتها كريستين وهرعت نحوه , وهي تسأل بلهفة:
" وهل أنت مستعد أيضا , يا زاكاري؟".
نظرت اليه ألزي بمزيجمن الذهول وعدم الثقة ,وسألته:
" هل ستذهب معنا؟".
ردت عليها كريستين , وهي تمسك بيد زاكاري وتجذبه نحو الخارج:
" سنذهب اليوم كعائلة , هل جهزت كل شيء يا زاكاري؟".
هز لها برأسه , ولكن خطواته لم تكن سريعة كما تريدها .... فتركتهما وركضت نحو السيارة المتوقفة أمام الباب , نظرت اليه أليزا بحيرة وسألته بخبث:
" هل هذه كل الأشياء التي طلبتها منك كريستين؟".
أجابها بهدوء دون أن ينظر اليها ألا لحظة:
" سنقوم بنزهة بعد تسجيل كريستين في المدرسة , سيبدأ القطاف في الأسبوع المقبل , ومع بدء الدراسة , وكما قالت لي كريستين , أنها المرة الوحيدة التي يمكننا فيها القيام بأي شيء كعائلة".
" يؤسفني جدا أنك وعدتها بذلك".
" لا يهم , أنها فتاة طيبة غير معقدة , وليست لديها لحسن الحظ قساوة أختها وبرودتها , أنت ضحّيت كثيرا لأجلها حتى الآن , ومن المؤكد أنك قادرة على تحمل بضع ساعات أضافية".
تأملته ببرود ..... لو كان بأمكانها فقط أن تتأكد من أن هذه النزهة هي لاحقا لأجل كريستين , لم يكن لديها أي شك أن أختها هي صاحبة الفكرة , ولكن السؤال الكبير هو سبب موافقة زاكاري على الفكرة , ولكن السؤل الكبير هو سبب موافقة زاكاري على طلبها.... وهو الذي يتجاهل زوجته بشكل تام تقريبا منذ تلك الحفلة المأساة , وصلا الى السيارة فسألها عن جوابها , تنهدت بقوة , وقالت له:
" تركت كل شيء حتى اللحظة الأخيرة , ولم يعد أمامي أي خيار سوى القبول , أليس كذلك؟".
" هل يغيظك ذلك ويثير أعصابك؟".
ردت عليه أيجابا , ولكن بصوت منخفض لئلا تسمعها كريستين , أبتسم زاكاري بدهاء وهو يغلق باب السيارة , كانت الصغيرة تجلس في المقعد الخلفي.... وتتحدث طوال الوقت , ولما وصلوا ال المدرسة , سبقتهما كريستين مسرعة نحو الداخل , قال زاكاري بصوت خافت:
" أعتقد أننا راشدان بما فيه الكفاية لكي نضع مشاعرنا الخاصة جانبا , ونمنح كريستين وقتا ممتعا لا تشوبه الخلافات أو تعكر صفوه المشاكل".
" أنا على أستعداد تام للقيام بذلك من أجلها , أذا تمكنت أنت من أخفاء سخريتك وأمتنعت عن توجيه الملاحظات اللاذعة , فلن يكون لدي أي سبب للأنتقام أو للرد بعنف".
فتح زاكاري باب المدرسة , وقال لها باسما:
" أنها هدنة أذن , من يدري , فقد نفاجىء بعضناونتمتع نحن أنفسنا بهذه النزهة!".
أنهى الثلاثة معاملات التسجيل ودفع الرسوم المطلوبة , وعادوا بسرعة الى السيارة وتوجهوا الى المكان الذي حدّده زاكاري لنزهتهم , كانت منطقة صخرية رائعة , تتوسطها مطحنة قديمة , قال لهما زاكاري أنها تدعى مطحنة بابل لأن الطبيب أدوار بابل بناها لرواد الوادي الأوائل , بدأت كريستين تركض في تلك المنطقة الشاسعة , قائلة أنها ستجد المكان المناسب لجلوسهم وتناولهم الطعام الخفيف الذي يحملونه , وفجأة , زلت قدم أليزا على صخرة صغيرة ناعمة وكادت تهوي على الأرض , أمسكها زاكاري بسرعة وضمّها الى صدره قائلا:
" هل أنت بخير؟".
كانت تمسك بذراعيه بكل قوتها , لتحافظ توازنها , أحست بنبضه تحت أصابعها , فضحكت وقالت بصوت ضعيف:
" نعم , شكرا , أعتقد أن خفقان قلبك ينافس دقات قلبي من حيث السرعة".
" ربما لأنني فوجئت بك تتعلقين بي بمثل هذه اقوة , هل تعرفين أنك أمرأة جميلة وجذابة ومغرية جدا , أذا وضعت قناع الثلج هذا جانبا؟".
تركته بسرعة وقالت له بصوت ناعم يشوبه بعض الأرتعاش:
" وبأمكانك أنت أيضا أن تظهر أهتماما مذهلا , عندما يناسبك ذلك".
" الأفضل لنا أن نحاول اللحاق بكريستين".
سارا جنبا الى جنب وهو يضع ذراعه على خصرها , لم تحاول الأبتعاد عنه , تجنبا لسماع أي ملاحظات قاسية أو جمل خبيثة لاذعة , كان الجو هادئا للغاية , والمكان جميل جدا , وشعرت أليزا أن من العار تشويه الرحلة بجدالهما أو بمشاكساتهما , كما أنها أرادت لكريستين أن تمضي وقتا طيبا لا يعكره شيء , وسمعته يقول:
" أنني معجب جدا بأصرارك على الأحتفاظ بأختك , لا أعتقد أن أي أمرأة لها جمالك وثروتك تفعل الشيء ذاته , وبخاصة أتجاه أخت من والد آخر وأصغر منها الى هذه الدرجة , هل فكرت بما سيكون عليه مستقبلك , يا أليزا؟".
" هل تحاول الأيحاء بأنها عالة عليّ ؟ أنا لا أقوم حقا بأي تضحية عظيمة , أذ لا يجوز تسمية عمل كهذا تضحية عندما نقوم به لأجل شخص تحبه".
نظرت اليه وهي تتوقع أن تجد أبتسامة ساخرة على وجهه ولكنها فوجئت بأنه ينظر أليها بأهتمام حقيقي وجدّي , مضت الى القول :
" أعرف أنني أكرر كلام أشخاص آخرين , عندما أقول أنني أريدها أن تنمو وتكبر بطريقة مختلفة عني , أريدها أن تشعر بالأطمئنان والحماية , ويأنني سأكون دائما قربها عندما تحتاج ألي.... لأنني أحبها".
" كيف كانت طفولتك أنت؟".
" صف طويل من المعجبين بأمي ومن أزواجها".
ثم ضحكت وقالت بلهجة أرادتها أن تكون مرحة , مع أنها أتسمت بالحزن والمرارة.
" أعتقد أنها نسيت أسم أبي في أواخر أيامها".
" يبدو أن هذا هو سبب كرهك لجنس الرجال".
" لا , أعتقد أن السبب الأساسي يعود الى عدم أقتناعي بوجود حب حقيقي بين أفراد الجنسين , أظن بأن المغناطيس الذي يجذب الرجل والمرأة الى بعضهما هو تلك الرغبة الحيوانية لأشباع الرغبات".
" ولهذا وضعت مغناطيسك في الثلاجة , أليس كذلك؟ الحب موجود وقائم , يا أليزا , وآمل من صميم قلبي في أن تكتشفيه يوما بنفسك".
" تتحدث عن هذا الأمر وكأنك متأكد من وجوده كحقيقة وواقع".
" هل تجدين صعوبة في التصديق بأن هناك حبا في هذا العالم , وبأنني أنا مثلا واقع في الحب؟".
حدّقت به , وهي تحاول سبر أغواره وأكتشاف السبب الذي جعلها تراه مختلفا جدا عن السابق , أحنت رأسها وأغمضت عينيها , ثم قالت:
" لا أجد صعوبة في الأقتناع بأنك تريد رينيه , أنا متأكدة من أنك تجدها جميلة جدا ".
" ها أنت مرة ثانية , تستخدمين كلمة ( تريد ) عوضا عن كلمة تحب".
" أنهما كلمة واحدة , من حيث الأسلوب والنتيجة".
" عندما تحتاجين الى شخص لأنك تحبينه , فهذا هو الحب , أنك تقولين عكس ذلك...... يحب الأنسان شخصا لأنه بحاجة اليه , هذا موضوعان مختلفان تماما , يا أليزا , أرى أنك لا تصدقين , وأنك على ةشك الدخول معي في جدال قوي حول هذه المسألة , ولذلك , فأني أقترح التحول الى موضوع آخر , لأن هذه النزهة مخصصة أصلا لأسعاد كريستين ولأننا أتفقنا على قيام هدنة فيما بيننا".
وافقت أليزا بتردد ...... أنه يؤمن فعلا بما قاله لها , وأكثر من ذلك , أنه لم يستخدم معها أي خبث ودهاء , كان صادقا..... و..........
" زاكاري! هل تعتقد أن نورا ستهيء لي طعامي كي أحمله معي في سيارة المدرسة كبقية الصغار؟".
" أعتقد أن معظم الصغار يتناولون طعامهم في مطعم المدرسة , ولكنني متأكد من أنها ستقوم ببعض الترتيبات مع السيدة مارش , أذا كنت حقا راغبة في ذلك".
تدخلت أليزا قائلة:
" لا أعتقد أن كريستين بحاجة لأستخدام سيارة المدرسة , لأنني أنا قادرة على أخذها وأعادتها".
" لا , يا أليزا , لا أريد أن أكون مختلفة عن بقية الصغالا , أريد مرافقتهم في سيارة المدرسة".
علّق زاكاري على كلامها , قائلا:
" أعتقد أنها نقطة يجب أخذها بعين الأعتبار , يا أليزا".
" حسنا , يا حبيبتي , يمكنك ذلك".
أنتهى الجميع من تناول طعامهم , فركضت كريستين نحو المطحنة لتفحصها عن كثب , جمعت أليزا كافة الأغراض ووضعتها في صنندوق السيارة , فيما أستلقى زاكاري على الأرض مغمض العينين.
" أنا مسرور لأنك سمحت لكريستين لأستخدام سيارة المدرسة , فمن شأن ذلك أن يساعدها على التأقلم مع جو المدرسة وأقامة صداقات مع بقية التلاميذ".
" آمل في ذلك , ولكنني أتمنى في الوقت ذاته ألا تتعلق كثيرا بأصدقائها الجدد , لأنها ستجد صعوبة بالغة عندما تضطر للأبتعاد عنهم في نهاية العام الدراسي".
" أنها ليست مضطرة للذهاب".
" ماذا تعني بذلك؟ أنت تعرف جيدا أننا سنجري معاملات الطلاق في نهاية العام ونغادر بالتالي وادي نابا".
" صحيح أنك ستغادرين بيتي , ولكنك لست مضطرة لمغادرة هذه المنطقة , أعتقد أنك ستبقين , أذا كانت كريستين مرتاحة وسعيدة هنا".
شعرت أليزا بوضوح مذهل أنها لن تتمكن أبدا من البقاء في منطقة واحدة معه , بمجرد طلاقهما , ولكنها هزت رأسها بأن الأحتمال وارد , وأخذت منه السيجارة التي أشعلها لها , أحست بدفء عقبها لأنها كانت بين شفتيه وتذكرت مغازلاته القاسية والعنيفة التي أذلتها وآلمتها , كانت الذكرى جلية لدرجة أنها حطمت الهدنة القائمة بينهما , ولاحظت أليزا أن زاكاري قرأ أفكارها , لأنه قام من مكانه وتوجه نحو المطحنة لأحضار كريستين.
منتديات ليلاس
تعكر الجو الصافي....... والهدوء المخيم عليهما , وغابت السكينة التي غلفتهما لبعض الوقت ..... وعادت الكراهية وروح العداء تسيطران مرة أخرى!
مضت الأسابيع القليلة الأولى في نهاية الصيف ببطء شديد , وكان كل يوم يبدو أطول من سابقه , كان الصباح يضج حياة ونشاطا قبل أن تركض كريستين نحو سيارة المدرسة , ثم تمر ساعات النهار متثاقلة ومتكاسلة ومملة ...... الى أن تعود الأخت الصغرى في فترة ما بعد الظهر.
بدأ موسم القطاف وأخذت البساتين تعج بالعمال والآليات , يستيقظ زاكاري في الصباح الباكر جدا , ويصل الى البساتين قبل العمال ثم يبقى لفترة طويلة بعد ذهابهم , كانت أليزا وكريستين تتناولان طعام العشاء قبل عودته , والفطور بعد خروجه , لم يكن ينضم اليها في قاعة الجلوس ألا نادرا , وكان يمضي تلك الأوقات القليلة والقصيرة صامتا يقرأ صحيفة أو كتابا , ثم يعتذر منها ويدخل الى غرفة المكتب لينكب على بعض الأعمال الكتابية والحسابية.
وكانت تسمع بين الحين والآخر أصوات حوافر حصان , وتعلم أن الشخص الوحيد الذي يركب الخيل في تلك المنطقة الصغيرة هو.... رينيه , لم يتحدث زاكاري عنها مة واحدة , ولم يذكر أطلاقا لزوجته عن حضورها أو ذهابها , لم تكن تتوقعه أن يفعل ذلك , لأنه يعرف شعورها أتجاه تلك الفتاة ولكنها كانت تشعر بالحنق والأستياء , لأنه لا يزال يلتقي بها .... متحديا زوجته بصورة علنية.
حملها أنعدام النشاط وعدم رغبتها في ملاقاة رينيه صدفة في الخارج , على الأنزواء داخل البيت , فرضت مساعدتها على مدبرة المنزل , متحججة بأن نورا ترهق نفسها بالعمل , وخلال أيام قليلة , أخذت أليزا على عاتقها مسؤوليات عدة في البيت , أصبحت تعنى بترتيب الأسرّة , وتنظيف المفروشات والأرض...... وأي شيء آخر يساعدها على قتل الفراغ المؤلم.
حملت يوما سترة لزاكاري وصلت لتوها من التنظيف, وأخذتها الى غرفة النوم الرئيسية التي ينام فيها , تأملت تلك الغرفة افسيحة بأعجاب بالغ , وتذكرت أنها أحبتها منذ اليوم الأول لمشاهدتها أياها , شعرت وهي ترتّب تلك الغرفة بشيء من الغيرة والحسد , لأنه خصّصها لنفسه دون سواه , وأرتعش جسمها فجأة عندما لاحظت أن بأمكانها مشاطرته تلك الغرفة... كزوجة! لا ... ستكتفي بترتيبها له , وبالأعجاب بها عن بعد , أما الغرفة المجاورة .... أوه , أنها تحبها كثيرا ! وقفت في وسطها وتأملتها بمزيج من السرور والأسى , أنها أضغر من أن تكون غرفة نوم , وأكبر من غرفة للملابس , جدرانها متّسخة ... وكذلك أثاثها , أنها مهملة جدا , و...... آه ! شهقت أليزا بصوت مرتفع ...... أنها غرفة حضانة! نعم , غرفة لطفل رضيع يجب أن يكون قريبا من والديه! ضمت السترة ببين ذراعيها , وأحنت رأسها قليلا , لامست أطراف السترة وجهها , فأبتعدت عنها بعصبية ..... وكأن الرجل موجود في داخلها , ثم ضحكت أستهزاء من تصرفها الأرعن , داعبت خدّها بجزء من تلك السترة , وراحت تتخيّل الزوجات اللواتي يداعبن أزواجهن وستراتهم ..... ويحلمن بعاطفة سخيفة وغباء واضح بوجود الأطفال! أبتسمت بأرتياح لأنها ليست من هذا النوع من النساء!
" أتساءل منذ بعض الوقت كم سيطول حلم اليقظة هذا , تبدين مرتاحة لدرجة أنني متضايق من أضطراري لأزعاجك".
" ماذا تفعل هنا؟ أليس من المفترض أن تكون الآن في المعمل؟".
" يجب أن أذهب الى السوق لشراء بعض قطع الغيار , وقررت بالتالي أن أستحم وأستبدل ثيابي قبل ذلك , والسؤال الأهم هو... ماذا تفعلين أنت هنا؟".
" أتيت لأضع لك سترتك في مكتنها , أحضرتها نورا من التنظيف هذا الصباح".
أشار الى الغرفة الرئيسية , وقال بهدوء:
" خزانة ملابسي هناك".
" أعرف أتيت الى تلك الغرفة مرات عديدة".
رفع حاجبيه بخبث واضح عندما سألها قائلا:
" حقا؟".
" أحضر الى الغرفة لترتيبها , لا أكثر ولا أقل".
حوّل نظره عن وجنتيها اللتين أحمرتا حياء , الى ذراعيها ويديها كادت ترميها أرضا ,وهي تحاول أبعادها عنها , أستجمعت قواها بعض الشيء , وقالت له بشيء من الحدة:
" سأعلّقها لك في مكانها أذا حدت عن طريقي وتركتني أخرج من هذه الغرفة".
" تفضلي , أهلا وسهلا".
نظرت اليه بتردد , متمنية لو أنه يبتعد كليا عن الباب, تظاهرت بالبرود وسارت نحو الغرفة الأخرى ولكنه سدّ الباب بذراعه ومنعها من المرور.
" هل تسمح لي بالمرور؟".
وضع ذراعه الأخرى وراءها كي يمنعها من التراجع , وسألها بهدوء:
" بماذا كنت تفكرين قبل قليل , عندما كنت تقفين وسط الغرفة غارقة في أحلام اليقظة؟".
" أذا كنت تفكرين قبل قليل , عندما كنت تقفين وسط الغرفة غارقة في أحلام اليقظة؟".
" أذا كنت تريد حقيقة أن تعرف ماذا كان يجول في خاطري , فقد كنت أتصورها بعد تغيير أثاثها".
" هل تعرفين أنها بنيت كغرفة حضانة؟".
ردت عليه بغطرسة جافة:
" تصورت ذلك , والآن , هل تسمح لي بالخروج؟".
تجاهل طلبها مرة أخرى وقال:
" لاحظت أنك تنادين نورا بأسمها الأول , هل أصبحت الأمور على ما يرام بينكما؟ وكيف حدث ذلك؟".
" لم أجد ضرورة في الأصرار على الرسميات , لأن ما من أحد هنا يفعل ذلك , أكتشفت أن لدي أوقات فراغ هائلة منذ دخول كريستين المدرسة , ولذلك قررت مساعدة نورا في الأهتمام بشؤون المنزل , هذا كل ما في الأمر".
" سينتهي العمل في البساتين خلال أسابيع قليلة , وستصبح لدي عندئذ بعض أوقات الفراغ".
قالت له أليزا بسخرية لاذعة:
" سوف تسعد رينيه بذلك".
" أعتقد أن عطرك هذا هو الذي ساعدني على النوم بأرتياح الليالي القليلة الماضية , أنه طيب الرائحة ويحمل عطر زهور الربيع البريئة".
تجمدت أليزا في مكانها وتوترت أعصابها لدرجة الأنفجار , عندما شعرت بلهاثه الدافىء يداعب عنقها.
" أين تضعين العطر يا أليزا؟ هنا , على جانب عنقك؟ على كتفك ؟ قرب أذنك؟".
كان يسألها بصوت هامس , فيما كان أنفه يداعب الأمكنة التي كان يذكرها , وقفت أمامه دون حراك ,وهي مصممة على التظاهر بأن مداعباته ومغازلاته لا تهمها أو تؤثر فيها أطلاقا .
ولكنها أحست بشعور غريب...... بأرتعاش في عروقها وشرايينها.
" هل شملت أحلام اليقظة أحتمال تأهيل غرفة الحضانة ؟".
شعرت بأن الدم تجمّد في عروقها , فتنفست بصعوبة تكشف عن صدمتها وقالت :
" طبعا لا !".
" أنه لأمر مؤسف حقا , أظن أنك لاحظت مدى أتساع سريري , أليس كذلك؟".
تأملها طويلا وهو يقول لها هذه الكلمات , ثم عاد الى مداعبة عنقها , رفعت رأسها بعنفوان وكبرياء , وسألته بحدة :
" ما بك؟ ألم تلتق رينيه أبدا خلال الأيام الماضية؟".
" ألتقيتها صباح هذا اليوم بالذات , ولكن ذلك لم يحل مشكلتك بالنسبة الى الطفل , كيف تتصورين الشكل الذي سيكون عليه طفلنا؟".
بدأت أليزا تشعر بالضعف لوجودها قربه الى هذا الحد.
" أنا لست عبدة مضطرة لتلبية رغبات سيدها , يا زاكاري , وأؤكد لك أنني لم أفكر أبدا بموضوع .... بموضوع.... الأطفال , وبخاصة أطفالك أنت!".
" لماذا لا تفكرين بهذا الموضوع الآن؟".
منتديات ليلاس
أبتسم بدهاء ثم أقترب منها مرة أخرى ..... ولكنه أختار في هذه المرحلة عناقها , صممت ألا تحرك فمها تجاوبا , وألا تظهر تأثرها ..... على الرغم من أزدياد حدة النار في داخلها لدرجة أنها بدأت تهدد بجدية تحفّظها المثلج , وعندما شعرت بأنها لم تعد قادرة على الأحتفاظ ببرودة أعصابها , وبأن دفاعاتها بدأت تنهار أمام هجماته الناجحة ....... توقفت وأبتعد عنها وتأملها بسرعة وسألها:
" هل تمنحك معرفتك بأنك تثيرينني شعورا بالقوة والعظمة والتفوق؟".
تفحصته بدقة متناهية , فلم تشاهد في وجهه ما يدعم تصريحه سوى تلك النار المشتعلة في عينيه , وفيما عدا ذلك , فقد بدا وكأنه يضحك عليها ويهزأ منها.
" وهل شعرت أنت بالهزيمة والفشل عندما لم تتمكن من أثارة رغباتي؟".
" أوه , أنت مخطئة في في تصورك هذا , أنني لم أشك لحظة في أنني لم أدغدغ هذه الرغبات المخبأة في الثلاجة , كان قلبك أسرع من حصان أصيل , وجسمك يصرخ ألما.... من المؤسف جدا أنني مضطر للذهاب الآن الى البلدة , وألا لكان هذا اللقاء دام فترة أطول , ما يثير أهتمامي فعلا , هو أن أعرف الوقت الذي أحتاجه معك قبل أن تبادلينني الغزل........".
" يا لغطرستك وعنجهيتك وغرورك ! أنك.....".
" رجل".
لم تضع أليزا الوقت بالتفكير ..... كانت يدها أسرع من العقل الذي يأمرها , لم تدرك أنها صفعته , ألا عندما أحست بأن يدها تلامس خده , نظر اليها بهدوء مزعج , ثم ضحك وقال:
" الأفضل لك أن تخرجي من هذه الغرفة بأسرع ما يمكن , علّقي سترتي أو أنهي ما كنت تقومين به , سوف أستحم الآن وأستبدل ثيابي , أذا أردت البقاء , فأنت على الرحب والسعة".
علّقت السترة بعصبية وخرجت من غرفة النوم الرئيسية بسرعة البرق , أغلقت الباب وراءها بعنف وقوة ..... وهي تتمنى لو أن بأمكانها سجنه هناك الى الأبد!
نادتها نورا وهي تقف قرب السلم:
" أتمنى أن تتركي هذه النوافذ لأحد الرجال , يا سيدة ستيوارت , أنك تعرضين نفسك للأخطار عندما تقفين على رأس سلم عال كهذا , أذا علم زاكاري بالأمر , فأنه سيغضب مني كثيرا".
" هذه النوافذ متّسخة الى درجة كبيرة بسبب الغبار المتراكم عليها , بحيث أنها أصبحت تحجب نور الشمس , على أي حال , أنها النافذة الأخيرة ولن أنزل من على السلم قبل الأنتهاء من تنظيفها".
" لا يمكنني القول بأنني مرتاحة لوجودك في مكان بمثل هذا الأرتفاع , ولكنني أحمد الله عزّ وجل , لأن الشاحنات ستتوقف أبتداء من يوم غد عن التنقل أمام البيت وأطلاق هذه الكميات الكبيرة من الغبار".
لم تكن أليزا متأكدة من أنها توافق مدبرة المنزل على رأيها وتمنياتها , فالعمل في البساتين أبعد زاكاري عنها , وحال دون حصول المزيد من لقاءات الصدفة كما في غرفة نومه , ومع أنها أصبحت تحب نورا كثيرا لم تتمكن من الأعراب أمامها عن حقيقة مشاعرها بالنسبة لأنتهاء العمل , أرغمت أليزا نفسها على أن تقول أنها ترحب بالسكينة والهدوء بعد هذا الضجيج والحركة المتواصلين لأسابيع عديدة , قالت لها نورا:
" جئت لأتأكد من أنك لست بحاجة اليّ في فترة بعد الظهر , ولأقول لك أن الغداء جاهز ويمكنك تناوله عندما تريدين ذلك".
منتديات ليلاس
نزلت أليزا عن السلم الذي كانت نورا تمسك به بقوة , وقالت :
" لا يا عزيزتي , لست بحاجة لأي شيء , أذهبي الى البلدة وقابلي حفيدك الحبيب , ولا تدعي أي أمر هنا يقلقك أو يعرقل مشاريعك لهذا اليوم".
" أنه موجود في المستشفى بسبب ألتهاب اللوزتين , سيعود غدا لأن الأمر بسيط , ولكنك تعرفين الأطفال ومطالبهم , أنه يتوقع من جدته أن تزوره وتأخذ له حلوى أو ألعابا".
" أنه في صف كريستين , وهي تتمنى له شفاء عاجلا وعودة سريعة الى الدراسة , ويبدو أن أطفال المدرسة يعدون حفلة رائعة للأسبوع المقبل".
" سأنقل له رسالتها بكل سرور , هل أنت متأكدة من أنك لست بحاجة الى أي شيء قبل ذهابي؟".
" متأكدة تماما , هيا أسرعي".
تحدثت السيدتان بضع دقائق أخرى , قبل أن تشعر نورا بالثقى التامة من أن كل شيء على ما يرام ...... وبأن وجودها لتلك الفترة القصيرة ليس ضروريا أطلاقا , جمعت أليزا كافة الأغراض التي كانت تستخدمها في الخارج , ودخلت الى البيت , ترددت بعض الشيء بين الأستحمام قبل الأكل أو بعده , ولكنها قررت أخيرا أن تبدأ بتناول طعامها لأنها لم تعد تتحمل جوعها , وما أن أقتربت من المطبخ , حتى سمعت السيدة مارش تتأفف بصوت عال وتغلق أبواب الخزائن بعصبية , رفعت أليزا رأسها بشموخ وأهدت نفسها لمواجهة الطاهية ذات المزاج السيء , فتحت الباب وحيّتها بمرح , قائلة:
" أسعدت صباحا , يا سيدة مارش , كيف حالك هذا اليوم؟".
" أذا كنت تريدين الحقيقة , فأنا في حال سيئة , أنا لست من الأشخاص الذين يشكون ويتذمرون , كما تعلمين".
أخفت أليزا أبتسامتها , وهي تتذكر أطباق الطعام الشهية والمتنوعة التي تعدها هذه الطاهية , أذا كانت عصبية المزاج ولا تضر أحدا , فهذا شأنها.
" ولكن تلك الأمرأة تذهب وتتركني بمفردي , مع أنها تعرف أنني أصنع قالبا كبيرا من الحلوى لهذه الليلة , أنني بحاجة لساعة أو أكثر كي أنتهي منه!".
أغلقت خزانة أخرى بعصبية بالغة , سألتها أليزا بهدوء , علّها تفلح في التخفيف من حدة توترها :
" لا أفهم , ما هي المشكلة؟".
أجابتها بصوت عال وبحدة واضحة :
" أخبريني أذن كيف سأنتهي من قالب الحلوى , وأتمكن في الوقت ذاته من أعداد طعام السيد ستيوارت كي يكون جاهزا في تمام الواحدة؟".
" لماذا لم تطلبي منها أن تأخذ له الغداء قبل ذهابها؟".
هزت السيدة مارش رأسها بحزم وقالت:
" لأنها كانت ستلقي علي محاضرة غاضبة أخرى بالنسبة الى حفيدها المريض! لا , لم يكن بأمكاني تحمل ذلك! أعتقد أن تجاهل هذا القالب الجميل بصورة تامة , وأن أرميه في سلة المهملات , لا أحد في هذا البيت يهتم أبدا بالوقت والأهتمام اللذين أخصصهما لأعداد الطعام وتجهيزه على هذا النحو الرائع! لا أحد يهمه شيء , طالما أن الطعام جيد!".
" أنت تعرفين جيدا كم نقدر لك جهدك وعملك , أنا والسيد ستيوارت على حد سواء".
" يوجد بعض الأشخاص هنا , ولن أذكر أي أسماء , لا يهمهم أطلاقا ما يجري".
عرفت أليزا ماذا كانت تعنيه السيدة مارش , ولكنها قالت لها:
" أنا متأكدة من وجود حل لهذه المشكلة".
" وما هو الحل , يا ترى ؟ هل يكمن في أستدعاء السيد ستيوارت لتناول طعامه هنا ,مع أنه يعمل طوال النهار بجد ونشاط مذهلين؟ ربما كان من الأفضل له ألا يتناول أي طعام على الأطلاق!".
رمت ملعقة في وعاء نحاسي بشكل أحدث دويا مزعجا , أبتسمت أليزا وقالت لها:
" الحل أبسط من ذلك بكثير , يا سيدة مارش , سأنتهي من طعامي ثم أحمل له طعامه بنفسي , وأوفر عليه مشقة الحضور الى هنا".
نظرت اليها الطاهية بشيء من الأمتنان , وقالت:
" كيف لم يخطر هذا الحل البسيط ببالي , يا سيدة ستيوارت؟".
أبتسمت أليزا ثانية , مع أنها أحست بأن قلبها أختفى من مكانه لمجرد تفكيرها بحمل طعامه الى المعمل , وقالت :
" أتصور أن عدم تفكيره بهذا الحل عائد الى أنهماكك الشديد في العمل , سأغسل يدي الآن وأتناول طعامي".
" سأعد لك كل شيء في غرفة الصباح يا سيدة ستيوارت , أنك فعلا منقذة!".
قالت أليزا لنفسها أنها حقا طريقة ناجحة لأفساد يوم جميل , لماذا أفسحت المجال أمام الطاهية لأيقاعها بمثل هذا الشرك ؟ طبعا , ثمة أحتمال أن يكون زاكاري موجودا في مكان آخر عندما تأخذ له طعامه......... وعندها تتركه له مع أحد العمال وتعود بسرعة دون الأضطرار لرؤيته , أنه أمل ضعيف جدا..... ولكنه الأمل الوحيد الذي يمكنها التعلق به.
منتديات ليلاس
لم يعجبها طعامها , مع أنه كان شهيا ولذيذا للغاية , ربما فقدت شهيتها لأنها تفكر بأحتمال مقابلته! أكلت نصف الكمية المخصصة لها , وأعادت الباقي , حملت صينية طعامه التي أعدتها الطاهية بعناية فائقة , وسارت بعصبية نحو المعمل , لم تكن تعرف أبدا أين ستجده , أو أين يقع مكتبه في تلك المباني الصغيرة المتقاربة , وأنتبهت فجأة الى أن مشكلة أيجاده لم تعد قائمة , وقفت بلا حراك في ظل شجرة باسقة , تحدق به , كان عاري الصدر حتى الخصر ويبدو كتمثال من البرونز , أرتعش جسمها قليلا , ولكنها حاولت على الفور أقناع نفسها بأنها شاهدت في حياتها كثيرا من الرجال في ثياب أقل ...... على الشاطىء أو قرب بركة سباحة , ألا أن زاكاري بدا مختلفا عن غيره , وتجاوب مشاعرها بدا على غير عادته ! أرغمت نظراتها أخيرا على التحول الى الرجل الآخر الذي يقف الى جانبه , شعرت بالأرتياح بعض الشيء عندما تبيّن لها أنه بول , لن يحاول زاكاري , بوجود بول , مداعبتها أو مغازلتها , تسلحت بهذه الثقة الجديدة , ومشت نحوهما بشموخ وأنفة , أدار زاكاري رأسه نحوها عندما سمع صوت قدميها وقال:
" أوه , أوه , أنظروا أيها الناس الى من تجرأ أخيرا على دخول عرين الأسد".
وقفت أليزا قربهما وقالت بهدوء:
" السلام عليكما , ذهبت نورا الى البلدة لمشاهدة حفيدها المريض , فتبرعت بأحضار طعامك يا زاكاري".
أبتسم بول بأرتياح ظاهر , وقال لها:
" أليزا أنك تبدين في وضع جيد جدا ....... كالمعتاد".
تراقصت نظرات زاكاري على وجهها , وقال:
" يبدو أن وجنتيها تشعان ببريق جديد , ربما أعتدت كثيرا على مشاهدتك وأنت مرتدية أفضل الثياب وأفخمها , فنسيت أنك تبدين جميلة ورائعة....... كصباح ذلك اليوم الذي تزوجنا فيه".
تشنّجت أعصابها حنقا وأرادت أن تقول له شيئا قاسيا , ألا أنها أمتنعت عن ذلك , وحولت أنتباهها فورا الى بول قائلة:
" ليتني علمت أنك هنا , كان من السهل جدا أن أطلب من السيدة مارش أعداد وجبتين كاملتين عوضا عن واحدة".
" شكرا , تناولت فطور الصباح في وقت متأخر جدا".
نظرت أليزا الى زاكاري لتسأله عن المكان الذي سيتناول فيه طعامه:
" أين تريدني أن أضع......؟".
توقفت عن أتمام جملتها , عندما سمعت صوت عجلات سيارة مسرعة تتجه نحو التلة , أدار الثلاثة رؤوسهم نحو الطريق لمشاهدة سيارة سباق حمراء جميلة تتوقف أمامهم بعنف وعنفوان , توترت أعصاب أليزا كثيرا عندما رأت رينيه وراء المقود , ومما أغاظها أكثر من ذلك , أن تلك الشابة السمراء وقفت في سيارتها المكشوفة ورمت نفسها على المقعد الخلفي قائلة بغنج:
" أنه لمقعد مناسب جدا!".
كانت تنظر بأعجاب الى زاكاري وبدلال نحو بول , وبحقد حارق نحو أليزا.
" جئت لأخبركم بأن أبي حدّد يوم الجمعة من الأسبوع المقبل موعدا لحفلتنا , يمكنك أعتبار هذا الأبلاغ دعوة رسمية للحضور".
سألتها أليزا بأستخفاف مبطّن:
" حفلة؟".
" يقيم أبي دائما حفلة للأحتفال بالمواسم الناجحة الموفقة , أنها حفلة صغيرة وغير رسمية ..... وكلها مرح , أليس كذلك يا زاكاري؟".
رد زاكاري على أبتسامتها بالمثل , وسألها بهدوء ..... متجاهلا ملاحظتها:
" ألا يزعجك الهواء قليلا عندما تزيلين غطاء السيارة؟".
" أنت تعرف كم أحب مداعبة الهواء لشعري , يذكرني ذلك ....أوه , أنت تعرف بماذا يذكّرني ذلك يا زاكاري".
تضايقت أليزا كثيرا من هذا الأيحاء وتلك الأبتسامة الخبيثة , وسألته بحدة:
" أين تريدني أن أضع طعامك , يا زاكاري؟".
" أرشدها الى مكتبي , يا بول".
ثم أستدار نحو رينيه وسألها بحنان:
" كيف كان موسمكم هذه السنة؟".
رفعت أليزا رأسها بصعوبة ,وسارت مع بول نحو المكتب , كانت غاضبة حتى الأنفجار .....أرسلها بعيدا بكل هدوء لينفرد برينيه! وجفّ حلقها عندما سمعت ضحكتها تتردد في تلك المنطقة , وتخترق أذنيها محدثة دويا رهيبا:
" ألا تعرف أين مكتبك؟".
لو لم تنو رينيه أسماع سؤالها هذا الى أليزا , لما رفعت صوتها الى تلك الدرجة العالية جدا , ولكن أليزا علمت بالتأكيد أن رينيه لا تهدف فقط أثارة أعصابها بكلمة أو بأخرى , بقدر ما تريد أفهامها بأن أليزا فرانكلين هي الغريبة....... وليس رينيه غوتيار.
أرشدها بول الى غرفة زاكاري الفسيحة التي لا تضم سوى مكتبه ومقعده , بالأضافة الى طاولة كبيرة تحيط بها مقاعد خشبية قاسي .
" هذا هو مكتب زاكاري , الذي نستخدمه بين الحين والآخر لتذوّق أنواع العصير ومناقشة كيفية تحسينها , يمكنك أن تضعي الأطباق هنا , سيأتي خلال فترة وجيزة".
وضعت الطعام على الطاولة الكبيرة , وهي شبه متأكدة أن زاكاري لن يعود قريبا , تطلعت حولها ثم سألته عن القوارير الكبيرة الموجوده خارج الغرفة , سار معها الى المدخل لتشاهد القوارير عن كثب , وراح يشرح لها عن أنواع العصير المختلفة التي توجد فيها , ثم سألها:
" هل تريدين القيام بجولة تفقدية مع دليل سياحي ممتاز؟".
منتديات ليلاس
وافقته بسرعة على أقتراحه , لا لأنها تريد ذلك فعلا .... بل لأنها غير راغبة في مقابلة زاكاري ورينيه في الخارج , أخذها بول الى النقطة التي تبدأ منها العملية كلها ...... الى المكان الذي يفرغ فيه العمال حمولة الشاحنات من الليمون والبرتقال , وأخذ يشرح لها تباعا , وبالتفصيل , كيفية سير العمل والآلآت الموجودة , وقفت في الغرفة البالغة الأهمية , حيث تتم التعبئة , وراحت تتأمل ما حولها بهدوء تام , وفجأة , دوى صوت زاكاري مخاطبا بول:
" الى هنا أحضرت زوجتي أيضا؟".
ضحك بول بسهولة وأرتياح , وهو أمر لم يكن ليقدر عليه في ظروف مماثلة قبل أشهر قليلة , وقال:
" أنك خبيث , يا زاكاري , كل ما أفعله هو أطلاعها على كيفية سير العمل وجميع أسراره".
" أذا كان الأمر كذلك , فلا بأس , أوه! لديك مكالمة هاتفية من سان فرانسيسكو , أستخدم الهاتف الموجود في مكتبي".
نظر بول الى أليزا وعلى وجهه أبتسامة حنونة صادقة , وفي عينيه ندم , ثم قال لزاكاري :
" غطت جولتنا كل شيء , بما في ذلك موضوع التعبئة , يمكنك أن تتابع الجولة معها من هنا".
تطلّع نحو أليزا ثانية وقال لها:
" لن تخسري شيئا بذهابي , لأن زاكاري سيشرح لك بأسلوب أفضل وأقرب الى القلب".
تمنت أليزا لو بأمكانها أبلاغه بأنها لا تحب أبدا الأنفراد بزوجها , وخاصة في هذا المكان المنعزل بالذات , قالت له بصوت ناعم:
" أنك تقلل من أهمية نفسك , يا بول , ولا تمنحها حق قدرها".
نظر اليها زاكاري بحدة , بمجرد خروج بول , وقال لها:
" لا زلت تلعبين معه , يا أليزا , أليس كذلك؟ لماذا تعاملينه وكأنه سمكة عالقة بصنارة؟".
ردت عليه ببرودة فائقة:
" لم نفعل شيئا سوى تفقد المعمل , هل يمكن أن تكون هناك براءة أكثر من ذلك؟".
أصرّ على عدم التوقف عند هذا الحد فقال لها:
" علمت أنه حضر الى البيت مرات عديدة في الآونة الأخيرة".
نظرت اليه بتحد وشموخ , وقالت:
" لم يدخل البيت أبدا , كنا نجلس في الحديقة , حيث يمكن لأي شخص أن يراقبنا , بالمناسبة , هل يمكن تطبيق الكلام ذاته على زيارات رينيه؟".
أبتسم زاكاري بأستخفاف ومرارة , وقال لها:
" تحاربين دائما , وبكل ما لديك من قوة , أليس كذلك؟ الهجوم الناجح هو أفضل وسيلة للدفاع , صحيح؟".
أدارت وجهها نحوه بعصبية , وردت عليه بصوت غاضب:
" بالنسبة اليك........نعم".
ثم تطلعت نحو المستوعبات الكبيرة , وسألته بهدوء:
" أخبرني , كم يبقى العصير هنا قبل تعبئته؟".
سألها ضاحكا:
" لماذا تحاولين تغيير الموضوع ؟ هل أنت خائفة؟".
" نعم".
" لم أعتقد أبدا أنك ستكونين صريحة بما فيه الكفاية للأعتراف بذلك , هل أنت خائفة مني .... أم من نفسك؟".
شعرت بأنه يقترب منها ويلتصق بها .... مع أنها لم تسمع أي حركة من جانبه , لا شك أنه أقترب منها نفسيا وعاطفيا ! هزت كتفيها بأحتقار , وقالت له فيما كانت تبتعد عنه قليلا:
" أنه لسؤال سخيف وتافه للغاية! أحب مشاهدة بقية أنحاء المعمل , أن لم تكن في مرافقتي , فسوف أذهب الى المكتب وأنتظر بول".
أستدارت نحوه لتعرف رد فعله , كان ينظر اليها بمرح ظاهر ووجدت صعوبة في مواجهة نظراته , ولكنها قررت أن تحدق به.... وتتحداه , سألها بهدوء:
" هل أنت فعلا مهتمة بأمور المعمل؟".
ردت عليه بسخرية لاذعة:
" طبعا! أليس هذا هو عمل زوجي ومصدر رزقه؟".
تجاهل تحدّيها له , وقال:
" لم يهمك ذلك أبدا من قبل , لذلك لن أصدقك بأن عملي هو سبب أهتمامك المفاجىء , وأفترض أنك حقا مهتمة بمشاهدة المعمل , أنه , لا شك ,حب الأستطلاع ".
ثم أضاف قائلا , وهما يغادران تلك الغرفة:
" أعذريني فيما لو كررت لك بعض المعلومات التي أطلعك عليها بول سابقا".
تحول زاكاري فجأة من رجل قاس متغطرس الى رجل يحب عمله ويفخر به أخذ يحدثها بجدية , مستخدما كلمات سهل وواضحة , فحولت كل أنتباهها اليه ........ على رغم روح العداء والكراهية , وبعد جولة أستمرت بعض الوقت , وجه اليها زاكاري أبتسامة مهذبة وقال:
" سأعود بك الآن الى الطابق العلوي , وأرشدك الى طريق البيت".
أفلتت ذراعها من اليد التي أمسكت بها لمساعدتها , وقالت بحدة فائقة:
" يعني ذلك أنني غير قادر على البقاء في معملك , ما لم تكن أنت راغبا في ذلك".
" لا , بل يعني أني لمم أتناول غدائي بعد ..... وأنني جائع جدا.... وأن لدي أعمالا كثيرة يجب الأنتهاء منها هذا اليوم!".
ثم نظر اليها غاضبا , وقال:
" أضافة الى ذلك, لست في مزاج يسمح لي بالدخول معك في شجار أو جدال!".تظاهرت بأنه أفزعها وأرغمها على الخضوع , ثم أبتسمت بخبث ودهاء ,وقالت:
" سمعا وطاعة , يا سيدي! من المؤسف أنك لا تجدني سهلة معك مثل رينيه".
" أنه حقا لأمر مؤسف!".
صعدت أليزا الدرجات القليلة بحدة وعصبية , وأنتظرته كي يرشدها الى الطريق , لم يلحق بها بعد خروجها لأنه توجه فورا على ما يبدو الى مكتبه , تنشقت هواء نظيفا , وصممت ألا تدع أحدا يرى غضبها وملامح وجهها المتوترة , سمعت بول يناديها , وهو واقف قرب سيارته:
" هل أنتهت الجولة؟".
أرغمت نفسها على الأبتسام , وقالت:
" نعم , نعم , أنتهت , الى أين أنت ذاهب؟".
أجابها بهدوء , فيما كانت تقترب منه :
" ليس الى مكان معين , كنت أنوي مقابلة بعض الموزعين قبل توجهي الى سان فرانسيسكو , هل تريدين شيئا؟".
تنهدت بعمق وقالت:
" لا شيء خاصا , كنت أريد دعوتك الى فنجان من القهوة".
أبتسم وقال مرحبا بدعوتها:
" لدي الوقت الكافي لذلك , هل نذهب بسيارتي أم سيرا على الأقدام؟".
ضحكت أليزا , وهي تتأمل وجهه الجذاب وعينيه الزرقاوين وشعره الأشقر , وقالت:
"لنذهب بالسيارة ! يبدو أنني سرت اليوم بما فيه الكفاية".
أدركت أنها تقوم بمحاولة سخيفة وتافهة للأنتقام من زاكاري... ومن تلميحاته المستمرة بأن ثمة علاقة تربطها ببول , أرادت أن تغيظه ما يغيظها , وتثير أعصابه كما يفعل بأعصابها , وبالأضافة الى ذلك , أرادت أن تعرف بعض الأمور..... وبول هو الشخص المناسب لتزويدها بأي معلومات تريدها.
جلسا في الحديقة يشربان القهوة بهدوء وسكينة , لم تتحدث أليزا عن المعمل والأشياء الأخرى التي شاهدتها , أستغربت قدرتها على توجيه بول كما تريد , وعلى توجيه الحديث بالطريقة التي تريدها وتفضلها , لم تكن تدرك أنها ذكية وقادرة الى هذه الدرجة , وأنها تمكنت بعد قليل من حمله على التحدث عن رينيه والحفلة المقبلة.
" ماذا تعرف عن رينيه وزاكاري؟".
شاهدت نظرات الأستغراب والدهشة في عينيه , فأضافت بسرعة:
" أعني , قبل زواجنا بالطبع!".
أختار بول كلماته بدقة وعناية , قائلا لها بعد لحظات:
" أمضيا معا فترة طويلة , أعتقد أن الجميع تقريبا كانوا يتوقعون زواجهما من بعضهما , وكانت رينيه تتوقع ذلك أكثر من غيرها , وهذا هو على الأرجح سبب عدم زيارتها لكما ألا نادرا".
قطبت أليزا حاجبيها قليلا , وسألته بأهتمام بالغ:
" ما هو السبب في نظرك لعدم زواج زاكاري منها؟ أعتقد أن الزوجة تتوق عادة لمعرفة بعض الأمور عن الفتيات اللواتي كان زوجها يعرفهن قبل أرتباطه بها , ألم يكن زواجه من رينيه مثلا مناسبا له الى أبعد حد؟".
تردد بول قليلا , لأنه لم يكن راغبا أصلا في مناقشة هذا الموضوع مع أليزا , ولكنه قال لها بعد لحظات:
" صحيح, كان السيد غوتيار صريحا جدا في رغبته في أن يولى زاكاري أمور بساتينه ومعامله , لم يكن كشخص يحاول أغراء زاكاري بالمال لتزويجه أبنته القبيحة أو المجنونة , رينيه شابة جميلة جدا , قد تكون مدللة كثيرا , ولكنها بالتأكيد جميلة وذكية".
عاد التوتر الى أعصاب أليز..... وعاد ذلك الشك الرهيب يقض مضجعها , لماذا تزوجها زاكاري , مع أنه كان بأمكانه الحصول على كل شيء يريده من لويس غوتيار؟ لماذا يصر أن المال وحده هو سبب قبوله الزواج منها ؟ سألته:
" ألم يكن السيد غوتيار على أستعداد تام لتزويده بالمال الكافي لتحديث معمله ؟".
" طبعا , طبعا , أنا متأكد من ذلك , ولكن زاكاري رجل يريد السيطرة بنفسه على حاضره ومستقبله .... ومصيره , تمكن المعمل في العامين الماضيين من تحقيق أرباح كافية لتزويده بأحدث الآلآت والمعدات , رينيه, كما قلت , شابة مدللة وذات مطالب كثيرة ومتعددة ,ولذا , فأنني أتصور زاكاري قرر تمضية أوقات ممتعة معها دون الأرتباط بزواج نتيجة الرغبة في المال".
ولكن.... ألم يحدث ذلك معها؟ ألم يتزوجها لأجل المال؟ آه , الفارق الوحيد هو أنه يوجد بينهما عقد لمدة سنة واحدة ... وليس فيه نص أو بند يشير الى أحتمال التجديد! أقتربت من بول وسألته بطريقة تشير الى أنها متحرقة لمعرفة الجواب:
" بول! الى ....... الى أي درجة وصلت علاقتهما؟".
أحمرت وجنتاه خجلا وقال لها , بعد أن أبعد وجهه عنها:
" لا أظن أن زاكاري كان بحاجة للزواج منها لكي يحصل على ما يريد , من حيث الرغبات".
ثم حدّق بها بقلق وأنقباض , ومضى الى القول:
" أليزا! هذه أمور للتاريخ , ولا يجدر بنا حتى أن نتحدث بها , زاكاري متزوج منك الآن , ولم تعد هناك أي علاقة تربطه برينيه".
بدت مسحة قوية من الألم في عينيها , عندما قالت له:
" ما رأيك لو قلت لك أن هذه العلاقة لم.... لم تنته بعد؟".
" لا يمكنك أن تكوني جادة , يا أليزا , لا يمكن لزاكاري أبدا أن يفعل ذلك معك , أعرف أنه يتصرف أحيانا بشدة وقساوة , ولكنه ليس من الأشخاص الذين يقومون على مثل هذه الأمور بعد زواجهم , صدقيني , يا أليزا!".
" أتمنى لو أقدر على ذلك , يا بول , أنني أشعر بأذلال قوي عندما...".
هل هذه غيرة ؟ هل بدأت تشعر بالغيرة؟ لا , لا يمكن!".
" أنت تعرف كم من مرة تذهب فيها رينيه الى المعمل دون أن تمر من هنا! لا تذهب ألا الى المعمل...... حيث يكون زاكاري".
" هل تحدثت معه بهذا الخصوص؟".
" أنه يرفض بحث هذا الموضوع معي , آسفة , يا بول , كنت بحاجة الى شخص ما لأحدثه بشأن هذه المسألة , ليس لدي أي شخص غيرك يمكنني التحدث معه بأرتياح".
" أنت تعرفين كيفية شعوري أتجاهك , يا أليزا , لم يتغير أي شيء , أنني أتمنى لو أن الذي تقولينه عن زاكاري ورينيه صحيح..... أذا ساءت الأمور بالنسبة اليك , فأعلمي أن بأمكانك الأعتماد علي والأتصال بي ... في أي زمان أو مكان".
أبتسمت شاكرة , ثم سألته بهدوء:
" هل لهذه الحفلة أهمية بالغة , يا بول؟ أعني.... أعني أنني لست متحمسة جدا لحضورها".
" يجب أن تحضريها , يا أليزا ستكون أهانة كبيرة للويس وأيستل غوتيار , أذا رفضت الذهاب , أنهما يدعوان عددا قليلا ومختارا من الأصدقاء , ورفض دعوتهما هو أسوأ شيء يمكنك القيام به".
" فكرة.. مجرد فكرة فقط".
كانت تعلم أن زاكاري سيجرها من شعرها لو تجرأت على الرفض , لذا قررت أن تذهب برضاها وتواجه رينيه في عقر دارها.
" يجب أن أذهب الآن , يا أليزا , ولكن تذكري أن بأمكانك الأتصال بي في أي وقت".
" سأتذكر ذلك , يا بول , شكرا لحضورك".
شعرت بالأرتياح , وهي تنظر الى الأهتمام الحقيقي والصادق في عينيه.........