في الصباح التالي , بينما كانت ترتدي ملابسها , خطر لها أن تعتذر بالرغم من أنها لا ترى سببا وجيها لذلك سوى وجوب أقدام أحدهما على الخطوة الأولى , لكن لورا سرعان ما تخلت عن خطتها لما جلست قبالته ورأت عينيه القاسيتين وجموده التام , فظلت صامتة لا تجرؤ على الأتيانبحركة الى أن نهض أخيرا مبلغا أنه سيعود عند الظهر , أمضت المرأة وقتها بين توضيب غرفة نومها والأصغاء بشرود لشروحات رودي دوفال حول الفعل الماضي وتعقيداته , ثم جلست في الحديقة تلاعب كلبيها , وهناك وافاها يان الذي حضر ليترك رسالة لرالف تفيد بالتوجه لزيارة أحد المرضى , فقرر مجالسة لورا لبعض الوقت حول فنجانين من القهوةالساخنة التي أعدتها هانا , ومن الحديقة أنتقلا الى حافة حوض السباحة مع مزيد من القهوة بالرغم من أقتراب حلول موعد الغداء, وبعد التحادث في أمور مختلفة قال يان بأرتباك:
" أود أستشارتك في شيء لكنني أخشى أزعاجك..".
أزاء أمارات الدية والقلق على وجهه قالت:
" أنا صديقتك يا يان والصديق عند الضيق".
" حسنا سأتكلم, لقد أسكنني رالف في شقة يملكها في بارن وهي تناسبني تماما , كما وعدني بمنحي بيتا أوسع في المدينة نفسها , حين أنوي الزواج , وأنا أقدّر لفتته الكريمة كثيرا ,لكن خطيبتي روزا ترفض ذلك وتطالبني بشراء مسكن من مالي الخاص , وهي تأبى الزواج قبل ذلك معتبرة أن رالف لن يعطي دون منّة , وأنني سأظل مدينا له طوال حياتي....... هذا الكلام فارغ بالطبع غير أنني عاج عن أقناعها بأن رالف بعيد عن هذه العقلية وأننا صديقان نعطي بعضنا دون حساب , فلو كن مكان رالف للفعلت أتجاهه الشيء نفسه , فأرجو منك أن تتحدثي الى روزا لأفهامها الحقيقة وأقناع رالف ببيعي البيت بالتقسيط مع أن أمواله تغنيه عن أخذ الثمن , فقد يكون في ذلك حل وسط للمشكلة , وبصراحة لا أجرؤ على التحدث اليه بنفسي لأنه غارق بأعماله وزواجه ".
ضحكت لورا للكلمة الأخيرة وأكدت:
" سأبذل قصارى جهدي للمساعدة يا يان , أين تقطن خطيبتك الرافضة؟".
" في أوتريشت , حبذا لو قبلت بمرافقتي اليها في الغد فأصيب عصفورين بحجر واحد , أقناعها وصحبتك الحلوة".
" فكرة رائعة , المشكلة تكمن في أقناع روزا ولا أعتقد أن رالف سيمانع من جهته ببيع البيت كما أقترحت , شغل الأثنان بالحوار ولم ينتبها لوصول رالف ألا بعد أندفاع الكلبين نحوه , ألتفتا نحوه بشيء من الدهشة وزاد يان الأمر سوءا عندما نهض بسرعة وأنسحب ليعود الى عمله كما قال , رافقه رالف الى الباب بتهذيبه المعهود ولم يظهر عليه شيء الى درجة أنه لم يذكر أسمة مرة واحدة خلال الغداء , بل حاول أن يبدو مرحا أكثر من العادة وكأن علاقته بزوجته عظيمة لا تشوبها شائبة , ولما تركها عائدا الى عيادته وجدت لورا نفسها غائصة أعمق في رمال غموضه المتحركة وعاجزة عن فهم هذه الأحجية التي أسمها رالف.
فتحت لورا عينيها في اليوم التالي على طقس حار وهواء ساخن وأنباء رالف بتأخره حتى المساء , فهي لا تطلب أفضل من ذلك لتتمكن من موافاة يان الى بارن في العاشرة , ولهذه الغاية أستقلت الباص ووصلت الى مكان اللقاء , ومن هناك أنطلقا في سيارته نحو أوتريشت والحديث متمحور حول روزا وطباعها , كونت لورا أنطباعها جيدا عن خطيبة يان , فروزا فتاة جميلة بشعرها الأشقر وعينيها الخضراوين , وميزتها الأساسية تلك النبرة الواثقة والأرادة الحديدية التي تعرف ماذا تريد وكيفية الوصول الى المبتغى ,جلست وأياها في أحد المقاهي بعد أن تركهما يان واعدا بالرجوع ظهرا.
وأرتاحت لورا لكون الفتاة تتكلم الأنكليزية بطلاقة مما يتيح لهما التفاهم أكثر , وشعرت المرأة يتقديمها النصح والأرشاد للفتاة الهولندية أنها عجوز مجربة تحمل في ذهنها حكمة الدهر كله , وهو شعور لا يمكن أن يروق للمرأة , والغريب في الأمر محاولة لورا أغناء ( تلميذتها ) بالمعلومات عن طبائع الأزواج وطريقة أرضائهم وهي لم تعرف بعد الى ذلك سبيلا , لكن طريقة عرضها للأمر جاءت واقعية بشكل خفف من تصلب روزا التي أبدت أستعدادا للتنازل عن شروطها من أجل أن يتوج حبها ليان بالزواج.
هكذا ساهمت لورا في تغليب وجهة نظر يان الذي لم يخف فرحه وهو ينزل لورا قرب منزلها بعد أن عانقها عناقا أخويا , قالت لورا:
" ما عليك الآن سوى مفاتحة رالف بموضوع شراء البيت".
" ألن تتولي هذه المهمة عني؟".
" لا , خصوصا أنه عليك التأكد من قبول روزا النهائي وعدم تفكيرها بالعدول , فلو فعلت لا فائدة من التحدث الى زوجي".
هم بأن يعانقها من جديد لما فتح الباب وخرج رالف اليهما , لم تلم لورا من أين أتتها دفعة شجاعة فحيته بثقة:
" مرحبا يا رالف , ذهبت مع يان الى أوتريشت للتسوق هناك , وها قد أعادني في طريقه".
أبتسم رالف بمكر دون أن ينبس ببنت شفة فأضافت لورا:
" لكن رحلتي لم تجد نفعا لأنني لم أعثر على ما أريد ".
نظرت الى يان وتابعت :
" شكرا لك ولا تطل الغيبة".
وهنا تدخل رالف:
" لا تنسى الأجتماع في المستشفى في التاسعة ليلا".
صعد الطبيب الى سيارته بسرعة كمن يفر من جلاده مؤكدا:
" سأكون هناك".
دخل الزوجان المنزل حيث بادر رالف الى السؤال:
" هل أمضيت نهارا ممتعا؟".
" نعم , شكرا".
" كنت تتوقعين عودتي في العشية , أليس كذلك؟".
" هذا ما قلته لي".
" أرجو ألا تكون عودتي المبكرة قد أفسدت برنامجك ويان".
عقدت الدهشة لسان الزوجة فنطقت بعد جهد:
" برنامجي ويان؟ عما تتكلم؟".
" لا أتكلم بالطبع عن التسوق في أوتريشت فهذه كذبة جلية".
" لا أنكر ذلك , ولكن لماذا الغضب والتشكيك؟".
أضاء وجهه أبتسامة قصيرة حين أجاب:
" ستفاجئين لو أخبرتك , وأنا كذلك مصاب بالمفاجأة ".
أقترب منها وأردف :
" هل فات الأوان لنعيد ترميم صداقة أردنا أواصرها متينة وعروتها وثقى؟ أعترف أنني مخطىء , فقد عاملتك بطريقة سيئة تجعل من أي أمرأة أخرى تدير ظهرها لي وترحل , لكنك عضضت على الجرح وأكملت دورك كزوجة كاملة تدير بيتها بشكل رائع , وأنتزعت ببراعة أعجاب عائلتي وأصدقائي , كما أنك تفاهمت جيدا مع خدام المنزل وبذلت مجهودا جبارا لتعلم لغتي ".
توقف قليلا ليسأل :
" أنادمة أنت على الزواج مني؟".
أرادت لورا الأعتراف بالخيبة الصغيرة التي تشعر بها لا لزواجها منه بل لفشلها في كسب حبه , غير أنها عدلت عن ذلك وأجابت:
" لست نادمة على شيء يا رالف , ولا أرى سببا يحول بينا وبين الصداقة التي أتفقنا عليها , وأنا أدرك مدى عمق الأزمة العاطفية التي أجتزتها والتي تجعلك سيء المزاج أحيانا ".
أكملت بنعومة :
" لم لا نكرر المحاولة؟ أتعلم أنني ظننتك هاجما لقتلي عندما خرجت من المنزل".
ألتمعت عيناه وعلق:
" ترى لماذا تولد في نفسك هذا الأعتقاد؟ هلمي لنشرب الشاي في الحديقة".
" أنا أتضور جوعا وأستطيع ألتهام كل قالب الحلوى الذي أعدته هانا".
حمدت لورا ربها على مرور العاصفة بسلام وشعرت أن أملها بالسعادة لم ينطفىء كليا , ورأت قبسا يلوح في ديجور حياتها.