لكن هذا البرنامج على كثافته لم يفلح في أنتشالها من الوحدة أو منعها عن التفكير برالف ولو للحظة , فصورته لا تفارق خيالها , والأسئلة الكثيرة ملآت بصيرتها : أين هو الآن ؟ ماذا يفعل؟ مع من يعمل ؟ أنه لغريب حقا أن تغرم أمرأة برجل ولا تعلم عنه ألا النزر اليسير , عاد الطبيب الهولندي في ساعة متأخرة من مساء اليوم الثاني لذهابه , وكانت لورا في هذا الوقت في فراشها تستمع الى دقات ساعة الحائط تعلن حلول منتصف الليل , وما أن سمعت صوت محرك السيارة حتى تركت سريرها وفتحت النافذة لتشاهد زوجها , لكن الظلام الدامس الذي لف الدنيا لم يتح لها الرؤية بوضوح فأقفلت النافذة وهي ترتدف بردا , ثم عادت الى مضجعها , وفكرت بالنزول اليه لعلّه جائع أو عطشان , غير أنها سرعان ما أستبعدت الفكرة , وفي أي حال , فأن مجرد عودته الى المنزل أمر مطمئن ومفرح بالنسبة للحبيبة المتيمة , وفي الصباح عندما تستفيق بأمكانها أستيضاحه عن مسألة تعلمها اللغة الهولندية , وغفت لورا على حلم جميل رأت فيه نفسها تتكلم الهولندية بطلاقة أدهشت رالف... أثارت لورا المسألة في اليوم التالي وفوجئت برد رالف الأيجابي:
" من الضرور جدا تعلمك اللغة , وأنا أعرف الرجل المناسب للمهمة , سأتصل به اليوم وأتفق معه على التفاصيل , المهم أن تحددي الوقت الذي يناسبك لأخذ الدروس حتى أكون واضحا مع الرجل".
" العاشرة صباحا , رغبتي في الألمام بالهولندية كبيرة جدا , لذا سألت شريكك يان عن أستاذ فأجاب أنك تستطيع تدبر الأمر بسهولة".
" لماذا سألت يان؟".
بدا الأنزعاج واضحا في صوت رالف دون أن يظهر أي شيء على قسمات وجهه الساكنة.
" لم أشأ شغلك بهذه القضية يا رالف لكثرة أعمالك".
ترك رالف قول لورا يمر بلا تعليق فجمع أوراقه ورسائله قائلا:
" أذا سأتفق مع رودي دوفال على مجيئه يوميا في العاشرة , عدا السبت والأحد".
" أستطيع الذهاب اليه بالباص أذا كان يقطن في بارن أو في هيلفرسوم".
أنهى الرجل النقاش بحزم:
" أفضل أن يأتي هو الى منزلي , سأعود في موعد الشاي".
بدأت لورا بتعلم الهولندية على يد رودي دوفال , رجل في وقار الخمسين , ذو شاربين عريضين ولحية صغيرة , يعرف ماذا يريد ومصمم على جعل تلميذاته تحسن الهولندية ولو كان هذا آخر عمل يحققه في حياته , تمتعت التلميذة بالدرس الأول ونوت أخبار رالف بأخطائها الغبية حتى تنتزع الضحكة من شفتيه , بيد أن الرجل أكتفى بالأطمئنان الى بدء الدروس ودقة الأستاذ في مواعيده غير مكترث بالأستعلام عن تقدم زوجته ومدى أستيعابها , وهكذا عندما دعيا الى منزل والده بمناسبة الحفل العائلي , أستطاعت لورا أن تفاجئهما بعبارا هولندية بليغة تعلمتها خصيصا للمناسبة , وهذه الدعوة لم تحمل فقط رضى لورا عن هولنديتها بل رضاها عن تصرف رالف , لأنه طلب منها أرتداء فستان العرس للمناسبة , ولما نزلت كان في غرفة الجلوس ينتظرها ببدلته الأنيقة منفرج الأسارير.
منتديات ليلاس
" طلبت منك أرتداء هذا الثوب لأن لونه يناسب هذه , أبقي بدون حراك قليلا".
أقترب منها وفي عينيه بريق لم تلحظه لورا من قبل وأحست أن رجلا آخر ينظر اليها , وضع رالف حول عنقها عقدا وأتبعه بسوار في معصمها فغمرتها الدهشة ونظرت في المرآة الكبيرة المعلقة في الحائط وقالت بصوت مرتفع:
" هذا رائع......".
كفت المرأة عن الكلام بمجرد أن رأت للعقد والسوار تكملة : قرطان ذهبيان في وسط كل منهما حبيبات من الياقوت والماس.
" هذه المرة عليك وضعهما بنفسك لأن الأذنين حساستان ولا أجرؤ على مس نعومتهما بخشونتي".
أخذت لورا تتأمل طقم المصوغات الكامل والأمل يزهر في أعماقها . هل بدأ رالف يتغير ؟ هل نجح رهانها على الوقت عاملا ينسيه جويس ويولد في نفسه عاطفة أتجاهها؟ وكفأس مجرمة قطعت براعم الأمل جاء كلامه الواقعي:
"لا فضل لي بأهدائك هذا , فالتقليد يملي أن زوجة الأبن الأكبر ترث هذه المجوهرات العائلية".
علقت لورا والحسرة تخنقها:
" فهمت , يجب أن أضعها الليلة".
" تماما , أمستعدة للأنطلاق؟".
بالرغم من الحادثة المخيبة أمضت لورا سهرة حلوة , فوالد رالف يحبها كثيرا معوضا بذلك عن حنان مفقود , ومارغريت , شقيقة زوجها , تعاملها بلطف وبقدر كبير من الصداقة , وهي أمرأة في عقدها الثالث , جميلة بعينيها السوداوين وقامتها الفارغة المليئة , وبشعرها الأسود الطويل المضفي على مظهرها لمحى غجرية ساحرة , وزوج مارغريت رجل أنيق ووسيم , عامل لورا بما تقتضيه أصول التهذيب واللياقة ما أراح لورا الى وجوده , أما لورانت الشقيق الأصغر فلم يخف أعجابه ومحبته لزوجة رالف منذ المرة الأولى , وهكذا تصادق وأياها بسرعة وملأ وقتها بنكاته ومرحه , وبالنتجة وجدت المرأة الأنكليزية التائهة في هذا المجتمع الغريب أن أمر التأقلم في جو عائلة فان ميروم ليس عسيرا جدا .... ويبقى الأهم: تأقلمها مع رالف ..... أو العكس.