أصابتها كلماته في صميم كرامتها فكأنه يقصد أن لا خبرة لها في مسائل الحب والقلب لأنها لا تعرفها , أو لا تستأهلها....
" أنها المرة الثانية تكون فيها فظا بكلامك , ولكن لا بأس فأنا أفهم وضعك ومدى غضبك , لا بد أنك تشعر الآن برغبة في الأطاحة برأس أحد ما , وبالطبع لن أسمح بأن أكون هذا الأحد".
عادت السخرية الى نبرته أذ قال:
" وهل بوسعك منعي من الأطاحة برأسك؟".
" عليك أن تجتاز هذا المخاض العسير يا رالف فالحياة محكومة بالأستمرار , قد يكون قولي تقليدي , ولكن هناك الكثير من الفتيات الجميلات في هذا العالم...".
عندما تكلم رالف كان في صوته حزن عميق أثار في نفس لورا أضطرابا:
" يا فتاتي الطيّبة لا حاجة لأن أحظى بفتاة جميلة! أي واحدة بعد جويس تناسبني لأنني فقدت كنزا لا مثيل له ".
ضحك بخيبة مضيفا:
" وبما أن الأمر كذلك لربما تزوجت منك".
وبدون أن تدري ما تقول سألته لورا:
" ولم لا تفعل؟".
كيف السبيل لأسترجاع هذه الكلمات التي لم تكن لورا لتحلم بقولها يوما ؟ ولكن السيف سبق العزل , وما قيل قد قيل , رفعت الفتاة عينيها لتلتقي نظراته الداكنة وملامحه الخالية من أي أنفعال أة دهشة.
" الحق معك يا لورا , لم لا أتزوجك؟ عليّ أن آخذ العبرة ما حصل ولا أقرب من فتاة تصغرني بكثير كجويس حتى لا تنتهي علاقتنا بالطريقة نفسها , أما أنت فتناسبينني تماما من حيث العمر لأنك ناهزت الثلاثين أن لم أكن مخطئا".
لم تفهم لورا سبب قساوته المتعمّدة , لربما أراد أن يروي غليله بطريقة ما ولم يجد أمامه سواها ضحية وكبش محرقة , ظلت الفتاة صامتة في حين أكمل رالف:
" كلانا تخطّى سن الأيمان بالحب وحماقات المراهقة , وأنا شفيت الآن تماما من هذا الوهم بعد أن هجرتني جويس , لكن فكرة قضاء بقية حياتي عازبا لم تعد تستهويني بعدما كنت قاب قوسين أو أدنى من دخول القفص الذهبي ".
أقترب منها وأردف بلطافة:
" الزواج بيننا سيكون زواج صديقين , أنا لا أريد حبا وهياما بل أمرأة تشاطرني عمري وتنتشلني من وحدتي , أمرأة تدير المنزل وتستقبل الضيوف والأصحاب , هذا جلّ ما أطلبه منك , أتقبلين بهذا العرض أم تبقين بأنتظار فتى الأحلام الآتي على فرس ليخطفك ويذهب بك الى البعيد؟".
" كن على ثقة أنني لم أعده بأنتظاره أبد , وما عليك سوى النظر اليّ جيدا لتعلم ذلك , فأنا أدق أبواب الثلاثين ولم أكن يوما تلك الفتاة الساحرة التي تجعل من فتى أحلامها , لو صادفته , يلتفت اليها لحظة".
أومأ رالف برأسه موافقا ومضيفا نقطة جيدية الى هذا الحوار الهادىء اللامألوف الخارج عن قواعد المنطق والعقل.
" أفهم من كلامك أنك مستعدة للزواج مني؟".
" نعم".
مرّر رالف نظراته عليها طولا وعرضا سائلا:
" لا أفهم مدى تصميمك".
تمنت لورا لو تستطيع البوح بالحقيقة وتقول أنه فتى الأحلام الذي تحدّث عنه , لكنها أكتفت بالقول:
" لا شك في أنك تذكر كلام الدكتور بيرنيت عندما أجتمعنا في مكتبه , والحق يقال أن فكرة تمضية بقية حياتي في المستشفى ترعبني , لقد أمضيت عشر سنوات حتى الآن في التمريض , وهي مهنة أحبها كثيرا , لكن حياة الممرضة صعبة وقاسية لا تتيح لها القيام بالأشياء التي تحبها".
" أشياء مثل ماذا؟".
علمت لورا أن رالف يحاول أن يعيرها شيئا من أهتمامه في حين أن فكره منصب على الخبر المفجع الذي زفّته اليه , وبالرغم من ذلك تابعت الكلام لتضفي على الجو المشحون أكبر قدر ممكن من الواقعية , وبالفعل نجحت لورا في كبح جماح غضبه ومنعه من الأنفجار غيظا وأرتكاب أي عمل أحمق , وأزاء ذلك قالت في نفسها أن الأطفال محظوظون لأنهم قادرون على التعبير عمّا يجول في خواطرهم بحرّية , بينما هي ورالف يكتفيان بهذه المحادثة السخيفة مصطدمين بحواجز التعامل وسلاسل التقاليد الأجتماعية.
تمتمت لورا:
" أحب مثلا مطالعة كل الكتب التي تعجبني ".
وأضافت لما رأته يبتسم:
" أهوى الأعتناء بالحديقة والأزهار ,معاشرة أناس كثيرين ولقاء المجرّبين الذين يزيدونني غنى ومعرفة , لا كالذين ألقاهم يوميا في المستشفى ويمضون وقتهم بالتحدث عن الأمراض والويلات.....".
ظنّت لورا أنه لا يصغي اليها ولا يأبه بكلامها , لكنها غيّرت رأيها لما رأت نظراته المهتمة وظنّت لوهل أنه نسي جويس.
" أيكفيك أن تؤمن حياتنا الزوجية هذه الأشياء البسيطة؟ ألن تطالبي بالسفر مثلا أو حضور المسرحيات أو الذهاب الى حفلات؟ أتقنعين بحياتي الهادئة؟".
" أكنت مستعدا لتغيير أسلوب حياتك من أجل جويس؟".
تحجّر وجهه عندما سمع أسمها وأجاب:
" بالطبع كنت سأغير وجهة حياتي من أجل من أحب , كنت على أستعداد لفعل أي شيء يرضيها".
كانت جويس ستحظى بسعادة كبيرة أين منها ربع ما تحلم به لورا التي قالت:
" لن أزعجك أبدا ولن أكون متطلبة , أعترف أنني لا أرضي طموحك يا رالف لكن وجودي قربك يظل أفضل من الوحدة والأنعزال ".
وأستدركت أذ رأت التردد في عينيه:
" لا تخجل من القول أنك لم تقصد كلمة واحدة مما قلت , فالأنسان يتفوّه بأشياء بلهاء عندما يكون غاضبا".
قاطعها الرجل بقسوة:
" عنيت كل كلمة قلتها يا لورا وأن كنت أجهل الحافز الذي يدفعني الى الزواج منك , وهذا ما يجب أن يحملك على التفكير مليا قبل الأقدام على أي خطوة , عليك أن تفهمي أنني أبحث فيك عن مضيفة لأصدقائي , مدبرة لمنزلي , ضحية لساعات غضبي .... وبالمقابل لن تحظي بالكثير من رجل كسير القلب محطم الآمال , من رجل أعتاد العيش وحيدا وفشل بأنارة حياته عندما خذلته حبيبته وأدارت له ظهرها , أحذرك يا لورا من أنك ستعانين الكثير وستكرهينني وتلعنين الساعة التي قبلت فيها بهذا الزواج ".
توقف رالف منتظرا منها تعليقا:
" قد يكون كلامك صحيحا".
لم يفهم رالف الكثير من قول لورا فتابع:
" لماذا لا تعطين أدارة المستشفى شهر أنذار بترك العمل , فهذا يتيح لك التفكير مليا بقرارك".
شعرت لورا أن الوقت حان لوضع حد لهذا الحوار المجنون , فقالت:
" حسنا , ما رأيك بفنجان من الشاي فأنت لا بد متعب بعد رحلة طويلة؟".
قهقه رالف عاليا وأجاب:
" لا لست تعب , ولكنني أرحب بالشاي فهو الدواء الشافي لكل داء".