كاتب الموضوع :
حسين السريعي
المنتدى :
ما وراء الطبيعة
وبعد ساعة قرعت باب الأستاذ عزت ، ففتح لي ، ودعوته همساً إلى أن يلحق بي في شقة رفعت 0
فلما أغلق الباب قلت له :
- وكيف دخلت أنت ؟
قال وهو يتأمل الرضيع :
- كما قرأت في المذكرات , كنت أتوقع شيء كهذا 00لهذا أصررت على الاحتفاظ بنسخة من المفتاح 00واليوم عند العصر سمعت بكاء طفل في الشقة ففتحتها ، ووجدت ابن ثلاثة أعوام يقف وحده مغطياً عينيه ، وهو لايكف عن البكاء ذعراً 00
- لحظة 00تعني أنه كان راقداً ؟
اتسعت عيناه ذعراً وقال :
- بل كان واقفاً 00أقول إن عمره كان ثلاثة أعوام عصر اليوم !!
- يا للهول !
ثم أنني قمت بترتيبات عملية كدأبي 0أولاً لا جدوى من البقاء هنا لأن هذه ليست دارنا ، وأن بقاءنا هنا مجلبة للأقاويل والأسئلة 0سيكون علي أن أخذ الرضيع إلى داري حيث أعنى به 0
ثانيا: سيكون على الأستاذ عزت أن يحاول جهده كي يتصل بذلك المعالج الروماني في نيويورك 0لو كان الرجل يعرف طريقة لوقف هذا التأثير المدمر فالوقت وقتها 0
سألني عزت :
- ألا ترين الصواب أن نطلب رأي الطب ؟
- لن يصدقنا أحد , وسنضيع وقتاً ثميناُ 00عامان ونصف في ست ساعات 00معنى هذا أن الصباح لن يطلع عليه إلا وقد تحول هذا البائس إلى نطفة !
لم تكن هناك مشكلة في مغادرة البناية باعتبارنا أسرة صغيرة سعيدة 0
وبعد ما تبادلت رقمي مع الأستاذ عزت ، حملت رفعت وعرجت على بعض المحلات ، فابتعت ما يلزم : غيارات ( لم يكن هناك حفاضات في هذا الوقت ) 00كوافيل 00علبة لبن مجفف 00
ثم استقليت سيارة أجرة إلى داري حيث أعيش وحيدة 0
وفي شقتي بدأت ممارسة مهمتي العسيرة , وأنا لم أعتن برضيع من قبل لكني خدشت القشرة الرفيعة التي تحيط بغرائزي ، فكانت تحتها امرأة كاملة 00أم تعرف كيف تعنى برضيع 00
إن الأمومة شيء غريزي لا يعلم 00وعلى حين يضيع الطفل الذكر وقته باللعب بالمسدسات والعربات ، تكون الطفلة عملية جداً : تلعب مع دميتها ، وتمشط شعرها وتبدل ثيابها 00باختصار 00تمارس الأمومة مراراً 00
نزعت الثياب عن الرضيع وحممته بالماء الفاتر 00
رباه ! إن الأمور تسوء بحق 0لم تعد له تلك النظرة الواعية المتابعة ن ولم يعد له ذلك التماسك العضلي السابق 00
الآن بدا يتحول إلى كتلة رخوة ، وصارت عيناه زجاجيتين عاجزتين عن الحملقة في شيء ، وغدا بكاؤه واهنا أقرب إلى الصرير 0هذا كله يميز حديثي الولادة 0
إن عمر رفعت الآن لا يزيد عن شهرين بحال 0دثرته كيفما اتفق ، وأعددت له رضعة دافئة ، ثم جلست القمه إياها ، ولدهشتي فطنت لحقيقة أن رفعت إسماعيل أستاذ أمراض الدم الشهير ينام بين ذراعي الآن ، وقد قمت بتحميمه كذلك ! لكني لشدة العجب وجدت أنني أحب هذا الـ رفعت أكثر ، وأرتاح إليه 00يمكنني رعايته أعواماً طويلة لو لم يتلاشى بعد ساعات 00
بعد ما هدأ الصغير أخيراً ، وقد تلذذ بالدفء والشبع حسب القوانين ( الفرويدية ) الصارمة ، فتحت المفكرة ورحت أطالع ما كتبه بدقة أكثر 0
وسرني أنه في يوم 24 أبريل جلس يقرأ كتابي وأحبه 0أنا أثق بنفسي كثيراً وأشعر أن الكتاب جيد 0لكني برغم هذا سررت أيما سرور حين عرفت أنه راق له حين كان يتمتع بعقلية راجحة 0
أما الكتاب ذاته فقد قمت بجمعه من شقته ، وكان في كل مكان وقد رسمت على صفحاته كلها تقريباً أرانب ومناطيد وسيارات و( بطابيط ) 0بعض الصفحات تحولت إلى مراوح أو مراكب 0يبدو أن هذه الأخيرة قد تم عملها حين كان في سن العاشرة 0
لكنني أعتقد أنه كان كاملاً 0
ورحت أجوب صفحات المفكرة وعيناي على الرضيع النائم الذي أوشك على القول إنني اراه وهو يصغر 0
هنا دق جرس الهاتف فرفعت السماعة 0كان هذا الأستاذ عزت كما توقعت ، قال لي ما توقعته :
- مستحيل أن أتصل بـ نيو يورك 00لقد حاولت كثيراً 00
- حاول ثانية 00إن الأمر صار جد لا هزل فيه 00إنه يزول 00
- سأحاول 00لكن الأمور ليست بهذه البساطة 00
كنا في تلك الأعوام التي وصلت فيها شبكة الهاتف إلى نهاية عمرها , وكان من المستحيل أن يتصل المرء ببيت أمه ، فما بالك بـ نيويورك !!؟
وكان على من يريد الاتصال بالخارج أن يسافر إلى قبرص ليتصل من هناك ( حقيقة )
ورحت من جديد أطالع المفكرة في قلق 0
يوجد هناك احتمالان لا ثالث لهما هنا : إما أن المعالج الروماني كان أحمق قليل التقدير للأمور / وأما أن رفعت قد نسي نصيحة معينة أو أنسيها في غمرة الاستهتار الذي اجتاح أفكاره 00
بالطبع لا يتعلق الأمر بشيء يتعاطاه رفعت بانتظام طيلة الفترة الماضية ، لأنه لم يأكل شيء منذ يوم السبت 9مايو ، وبرغم هذا هو مستمر في التلاشي ، الأمر يتعلق إذن بشيء أخذه في أثناء المعالجة أو زرع فيه وقتها 0
زرع فيه ؟
ومن جديد رحت أطالع الرسوم التي خطها حين فقد قدرته على الكتابة ، وحين تسربت الأجرافيا إليه كما تسربت أشياء كثيرة 0أنه يرسم هذا الرسم بكثرة شكل شبه بيضاوي يشبه الصرصور )
رأيته في أوراقي فحسبته يرسم مناطيد , ورأيته في آخر صفحتين من مذكراته 0مال هذا الصبي والمناطيد ؟ وكيف يعرفها ؟ الجواب المنطقي أن هذا ليس منطاد إنما هو شيء آخر 0
شيء يحاول البائس ، في غمرة انزلاق الوعي ، أن ينبهنا إليه 00شيء يكمن فيه خلاصه من هاوية العدم 00لقد راح يرسمه مراراً بعد ما عجز عن كتابته ، لم يجد الكلمات ليقولها 0
رحت أتأمله نائما , ثم أنني حملته إلى غرفة النوم ، لشد ما خف وزنه حتى لا يزيد على أربعة كيلوجرامات 0
نزعت ثيابه تماما 0ثم رحت أتحسس جسده الصغير بحثاً عن شيء ما ، علامة ما ، لم أعرف قط أن لـ رفعت أصابع قدم مبتورة 00
وفي النهاية شعرت به ، على لوح كتفه الأيمن شيء بارز في حجم ظفر الإبهام !! تأملته بعناية فوجدت أنه مدفون هناك تحت الجلد وكان ينزلق في أربعة الاتجاهات 0
أرحت الصغير على ساعدي لأتأمل الشيء بشكل أدق ، هناك جرح صغير ملتئم طوله نحو نصف السنتمتر ، جرح نظيف كالذي يتخلف عن الجرحات ن أما الشيء البارز فكان له ملمس على سيء من الصلابة كأنه أرنبة أنف ، وكان ينزلق بسهولة تامة 0
شعرت بما يشبه اليقين أن هذا الشيء تم فتح جلد رفعت وزرعه هناك ، كما يفعلون بحبيبات منع الحمل التي تزرع تحت جلد الساعد0وكان موقفي عسير بحق 00
لو أنني أخذت الصغير الآن فلن أجد طبيب جراح في هذه الساعات الأولي من فجر يوم الخميس ، ولو هرعت إلى طوارئ أحدى المستشفيات فلن يصدقني أحد ، أن كل شيء يمكنه الانتظار إلى الصباح 0
أما لو كنت مخطئة وكان هذا الانتفاخ كيس دهني ، أو شيء من الأشياء التي يكسب الأطباء عيشهم من معرفتها ، فمن العسير تبرير أن أحاول أنا أنتزاع هذا الشيء !!
قررت أن أتبع حدسي وهو ما لم اعتده من قبل لقد اعتدت أن أتبع عقلي ومنطقي ، لكن هذا الموقف يتحدى كل عقل ومنطق ، ولا ينفع أن أكون فيه حاصلة على الدكتوراه في الفلسفة ، إن هذا لا يجعلني أكثر فهماً للموقف 0
توكلت على الله تعالى ، وذهبت إلى المطبخ فانتقيت سكين صغيرة ، ثم قمت بتسخينها للتطهير على نيران الموقد ، وانتظرت حتى بردت ، ثم عدت إلى الرضيع وقلبته على بطنه ، وبطرف السكين بدأت أشق الجلد فوق الجسم الصلب ، بالضبط على لوح كتفه الأيمن 0
أن الرضيع وتأوه ، لكنه كان من الضعف بحيث لم يقاوم أو يصرخ ، وسال الدمع من عيني وسال أنفي ورحت أردد كالمجنونة :
- سامحني يابني 00سامحني !!
،إنها لمهمة عسيرة تقتضي قلب أغلظ وأقسى مني ، لكن على أحد أن يقوم بها ، وأخيراً – وسط الدماء – تمكنت من شق جرح طوله بضعة ملليمترات واعتصرت الجسم الصلب محاولة إخراجه 0
لم يكن الجرح كافياً فقمت بتوسيعه أكثر وأنا أغمغم :
- سامحني يابني00لقد انتهيت تقريباً 00الله! كم أنت شجاع ! رجل صغير شجاع 00هلم !
واعتصرت الجسم الكريه ثانية ، فانزلق إلى الخارج أخيراً 00وحين رأيته حمدت الله على صدق حدسي ، كان جعرانا ( خنفساء ) فرعونياً حقيقياً محنطاً , هكذا حاول الصغير أن يرسمه فبدا كمنطاد0
وضعت الشيء الرهيب على الملاءة التي تلوثت بالدم ، ثم رحت أحاول أن أضمد الجرح ، وضعت عليه البن ( ويبدو أنها ليست طريقة طبية فعالة ن ولكن أمي كانت تمارسها معي ، وكانت تنجح )
ثم وضعت بعض الشاش والشريط اللاصق كيفما اتفق 0
ولحسن الحظ أن ذاكرة الرضع لا تحتفظ بشيء , ولحسن حظي أنهم لا يملكون حقدنا وتذكرنا الإساءات 00لقد بكى قليلاً ثم استكان ونام في حضني ، فدثرته بثيابه ، وأخذته إلى الصالة وأنا أهدهده ، وقد أمسكت الجعران بقطعة من الشاش 00
وتحسست الجرح فوجدته قد كف عن النزف ، غداً صباحاً سآخذه إلى طبيب كي يعنى به كما ينبغي 00هذا لو ظل رفعت موجود حتى الصباح 00
****************************************
|