مصر تشهد الكثير من التغيرات في هذه الأيام , ومعظمها تغيرات أسطورية يصعب تصديقها . ولو عدت بذاكرتك إلي ثلاثة أشهر مضت لتتذكر ما كان يقال وما كنا نحلم به , لفهمت كم أن الوضع الراهن غريب . لو تخيلت منذ ثلاثة أشهر أن مبارك وولديه يمثلون للمحاكمة وكذلك العادلي وصفوت الشريف وكل لجنة السياسات تقريبا , لاتهمك الناس بالهلوسة . ولو تخيلت صفحة واحدة مما صار يكتب في الصحف الحكومية أو حتي مجلة الشباب التي تتصفحها الآن شهدت تغييرات كبيرة أرضت الجميع , سواء انتقال الأستاذ لبيب السباعي ليتبوأ منصبا أكبر بكثير , وهو الخبر الذي أرضي كل محبيه وهم كثير وأنا منهم بالطبع , أو تولي الأستاذ محمد عبد الله منصب رئيس التحرير التنفيذي وهو منصب يستحقه بالتأكيد وبجدارة .
ثلاثة أشهر فقط حدث فيها الكثير , وتم تفكيك جهاز الدولة بالكامل .. لا يوجد مسمار واحد في ذات موضعه اليوم .. لكننا ننتظر في لهفة اللحظة التي يتم فيها تجميع الجهاز من جديد ليبدأ العمل .. ننتظر أن يعود قلب الدولة للخفقان من جديد , وأن تنهض مصر الجديدة التي استردت عافيتها .. هل تشعر بأن هذه اللحظة تأتي ببطء شديد ؟ ..
إن ثلاثة أشهر زمن قليل في حياة الشعوب . عندما تقرأ تاريخ الثورات ستكتشف أن المسافات بين فصول قصة الثورة قد تستغرق أعواما .. فقط عندما تبتعد عن اللوحة قليلا , تتلاشي المسافات الزمنية وتشعر بأن التغيرات كانت خاطفة كالبرق .
عندما تقوم الثورات يتكلم الخبراء عن المنتمي واللا منتمي والمتسلل .. يتكلمون عن الثورة والثورة المضادة . يتكلمون عن فلول النظام القديم .. الخ .. أما أنا فسوف أكلمك عن العشب ... نعم .. العشب الصغير الذي كان موجودا قبل الثورة وسيظل موجودا بعدها .
هناك في ذلك الشارع المظلم تري عربة ( يسري )..
معالم العربة تشي بمهمتها .. الرجل يبيع الحلبسة , والحلبسة إن كنت لا تعرف هي ذلك المشروب الحارق الحريف المدعو ( حمص الشام ).. حلبسة ممتازة . عندما تقصده قل له إنك من طرفي , واطلب منه أن يضع لك كل شيء علي الكوب . لو وجد فأرا أو فردة حذاء سوف يضيف لك بعضه بينما جهاز الراديو الصغير المعلق بالحبال إلي العربة لا يكف عن الغناء بصوت أم كلثوم .. وخير ظروف لسماع صوت أم كلثوم هي من مذياع رديء كما تعلم , حيث الضوضاء الاستاتيكية تدخل كل شيء .. عندها تشعر أن الصوت قادم من عالم آخر ..
يمكنك إذا اشمأززت من الأكواب أن تحصل علي الحلبسة في كيس بلاستيكي طويل معه ملعقة , ولكن كن حذرا لأن تناول الحلبسة وقتها لا يقل خطورة عن التعامل مع زجاجة مولوتوف ..
( يسري ) هناك في كل ليلة حتي الصباح .. بقعة من الضوء الخافت والبخار زكي الرائحة وصوت ( الست ) طيلة الليل , وفي الصباح يرحل إلي ذلك المكان المجهول الذي يأتي منه باعة الحلبسة . وأعتقد أن مكسب الرجل في أكثر الليالي رواجا لن يتجاوز عشرين جنيها ..
( يسري ) هناك في كل ليلة ..
سمع أن هناك ثورة وأن الشباب يحتل ميدان التحرير , وأن الأمن مسعور والداخلية تطلق الرصاص علي المتظاهرين , لكنه ظل واقفا ..
لن يحدث فارق معه .. ربما أمسك الشيوعيون بالحكم .. ربما سيطر الاخوان علي السلطة . ربما نجح مبارك في الاحتفاظ بكرسيه .. لا يهتم كثيرا بهذه التفاصيل .. إنه بائع حلبسة , فما الذي يمكن أن يصير له بائع حلبسة ؟ لا يوجد وضع أقل أو أسوأ ..
إنه لا يخشي تغير الأنظمة , ولا يخشي إفلاس البنوك , ولا تهمه البورصة لأنه لم يسمع عنها أصلا ..
بعد أيام معدودات جاء من يصرخ أن الداخلية تلاشت تماما .. ذابت , وفي تلك الليلة بالذات عرف أنه لم تعد هناك شرطة .. سادت الإشاعة مدينة طنطا بأن هناك ميكروباصا محملا بالبلطجية المدججين بالأسلحة الآلية قادما من المحلة الكبري - ثلث ساعة - ومع الوقت صار الميكروباص سبعة ميكروباصات . طريقة البلطجية بسيطة هي إغلاق الشارع وإطلاق الرصاص في الهواء وتهديد سكان الشارع كي يدفعوا ما معهم من مال مقابل حياتهم , وهكذا ولدت اللجان الشعبية , وسرعان ما امتلأت شوارع طنطا بالشباب الذين تسلح كل واحد منهم بما يقدر عليه , واشتعلت الإطارات عند التقاطعات ووضعت متاريس تعطل اندفاع السيارات . ظل أهل طنطا ساهرين متوترين يراقبون كل سيارة في رعب .. ولا شك أن بعض قصص سوء الفهم المؤسفة وقعت لأن انفلات الأعصاب قادر علي كل شيء .
وسط هذا كله ظل ( يسري ) ساهرا .. لم يلحظ أي شيء مقلق سوي أن معدلات بيع الحلبسة قد ازدادت .. الشباب الساهر في اللجان الشعبية يحب الحلبسة كثيرا . أما هو فلا خوف عليه .. من المجنون الذي يهاجم بائع حلبسة أو يحاول أن يسلبه ماله؟ ..
كلما رأيته واقفا في الظلام بقعة نور وحيدة لا تخشي , تذكرت الراعي وبوذا ... الراعي أدخل زوجته الكوخ وكذا أولاده ووضع خرافه في الحظيرة وكوم الشوفان والشعير .. ثم قال : الآن فلتزأر العاصفة .. بينما يقول بوذا إنه ليست لديه زوجة ولا أولاد ولا كوخ ولا شوفان ولا شعير ... إذن فلتزأر العاصفة .! فلتزأر العاصفة !!
تمر الأيام .. يسمع يسري أن الثورة نجحت ..
ثم يأتي اليوم الذي يقف فيه ليلا كعادته يصغي لأم كلثوم , وهنا يدنو منه هذان العاشقان . الفتاة متأنقة بتلك الطريقة التي توحي بأن هذا خطيبها .. يبتاع الفتي لها كوبا من الحلبسة , وعلي سبيل الرجولة يتأكد من أن كوبه هو الوحيد الذي يحوي الشطة .. ينصرفان وهما يتناجيان .. يبدو أن الغد كله لهما وأنهما سعيدان حقا .. صحيح أن الشوارع لم تصر آمنة تماما لكن ليس كما كانت منذ شهرين ..
لاحظ يسري أن هناك من جمع القمامة في هذه البقعة تماما , ولاحظ أن هناك من لون الرصيف باللون الأحمر والأسود والأبيض , ولاحظ أن هناك بعض إعلانات كانت معلقة عن الحزب الوطني تم تمزيقها بعنف وغل ..
هو لا يعرف معني الحزب الوطني ولا يعرف القصة كلها . لا يهتم بلعبة السياسة كلها ما لم يصدر قانون بمنع الحلبسة .. فقط هو يعرف أن الشباب قاموا بعمل كبير جدا ومتفائلون جدا , وهذا يسره بالتأكيد .
هذا عن يسري .. أما عن شلبي فموضوع آخر ...
شلبي الصغير ذو السبعة أعوام هو وأخوه ذو الثلاثة أعوام . الأب بواب إحدي العمارات في الشارع وهو رجل مكافح نشط ..
شلبي الصغير تربي في الشارع .. يقضي في الشارع ست عشرة ساعة يوميا . لهذا هو مشاكس تتراقص علي ملامحه ضحكة شيطان صغير .
شلبي يلبس بيجامة ( جيل ) صغير تبرع بها أحد السكان .. وكما لك أن تتخيل هو اليوم يعيش أروع ساعات حياته . هناك ثورة .. لذا لم يعد يذهب للمدرسة وإجازة نصف العام تستطيل بلا توقف , وهناك زحام عند المحافظة كله ناس يصرخون .. وهناك قنابل غاز وطلقات رصاص وكل ما من شأنه ان يجعل الحياة رائعة . أما موضوع اللجان الشعبية فقد بلغ قمة الإثارة ..
هو ذا يقف حاملا عصا مكنسة حتي ساعة متأخرة من الليل ويدق الأرض بها بلا توقف , وأخوه الصغير يفعل ذات الشيء بعصا أصغر حجما .. يقفان وسط رجال وشباب كبار السن يملأون الشارع ليلا .. هناك إطارات مشتعلة ولم يعد أحد ينام ...
دنوت منه وسألته مداعبا عن عدد البلطجية الذين قتلهم , فقال في أسي وخجل إنه لم يقتل أحدا بعد ..
كان هذا في الواحدة بعد منتصف الليل . لا أعرف ما حدث ولا متي أدركت أمه زوجة البواب أن بنطلونه متسخ , فكان ما فعلته ببساطة هو أن نزعت بنطلونه وجذبته من يده لتغير له في الغرفة تحت السلم . هكذا وقف هذا المناضل الثوري عاري النصف السفلي يدق بالعصا علي الأرض ويصيح مصدرا تعليماته لأخيه ذي الثلاث سنوات :
ـ ' وله .. أي ميكروباث يعدي وانا مش موجود تكثره علي طول !'
يريد الاطمئنان إلي أن أمن الشارع لن يتهاوي بمجرد اختفائه . ولفظة ( ميكروباث ) هنا تنتهي بحرف هو مزيج من الثاء والصاد .. لابد أن هناك أناسا كثيرين وجدوا أنفسهم في الثورة وآلمهم أنها انتهت , لكن لن أجد مثالا أصدق من شلبي الصغير الذي وجد نفسه في الثورة بالمعني الحرفي لها .. ولا شك أن يوم عودته للمدرسة كان أسوأ يوم في حياته .
نترك شلبي ونتكلم عن المحصل المتحمس ....
في تلك الأيام تلاشت الدولة تماما .. لم تعد هناك شرطة .. لا مصارف .. لا مصالح حكومية ... لا شيء .. والسبب هو أن النظام يعاقب الشعب الذي ثار ضده .. أنتم غير راضين بحكمي .. إذن جربوا الحياة من دون دولة . لا توجد دولة .. هناك خطر أن يأتي يوم لا تجد فيه طعاما ولا ماء ولا كهرباء , وفي الأسبوع الأول للثورة انقطعت اتصالات الهاتف المحمول وخدمة الإنترنت , توطئة لأن تتوقف القطارات كذلك ..
وسط هذا كله , كنت أري هذا الشاب المتحمس الذي يحمل دفترا ومجموعة من الإيصالات ويدور علي البيوت . لا يحتاج لأن يضع بطاقة كي تعرف أنه محصل .. محصل كهرباء أو ماء أو غاز طبيعي ..
تشتعل الشوارع وتسمع عن حريق في شارع كذا , وأن المتظاهرين يحرقون بناية كذا , وأن دبابات الجيش تتحرك في المنطقة الفلانية .. الشوارع خالية من الناس , لكن الأخ المتحمس يمشي وحده في الشارع بحثا عن عنوان آخر , لا يخاف ولا يجري ولا يهمد ..
من يصدر له التعليمات؟ .. من يدفع له راتبه ؟ .. لو كان محصلا فلأي جهة يسلم الأموال التي يحصلها؟ .. ومن يدفع له إذا كانت جيوب الناس خاويـــــة أصلا ؟
كنت أشعر بالنحس فعلا .. من دون دولة يمكنك أن تسطو علي من تريد , ويمكنك أن تمشي بسيارتك عكس الاتجاه في أي شارع , ويمكنك أن تتجاهل إشارات المرور تماما , ويمكنك أن تتناسي سداد فاتورة الهاتف .. حتي دفاتر مخالفات المرور أحرقها المتظاهرون ... لكن يشاء حظي العاثر أن الموظف الوحيد الباقي علي حاله وحماسه في مصر كلها هو محصل , وهذا المحصل يعمل في شارعنا !
أدركت أن هذا الرجل أكبر من الواقع ذاته . إنه بطل من الأساطير الإغريقية .. الكاتب المصري الجالس القرفصاء الذي يمثل البيروقراطية المصرية العتيدة إنه آلة بدأت العمل وانكسر الزر الذي يوقفها فلن تتوقف أبدا .. سوف يحصل إلي أن يموت وليس لديه خيار آخر ..
انطلقت أركض هاربا منه , بينما هو يناديني في إلحاح .. يثب فوق الحجارة والمجاري التي طفحت والرصيف المهشم :
ـ ' ما اسمك يا أستاذ ؟ .. لابد أن عندي فاتورة لك !.. انتظر يا أستاذ !!'
( تمــــت )