وغادرت الفيللا بأتجاه الشاطىء متجاوزة الشرفة ثم التلة المنحدرة , وعدت نحو البحر الدافىء , حيث ألقت بنفسها .... فغمرتها مياهه قليلا قبل أن تطفو على السطح وتسبح بثبات فوق الأمواج , كانت تسبح كل يوم , وكان بوسعها أن تتناسى مضاعفات الرسالة الخطيرة بعض الوقت وهي في الماء , ولكن , لا بد أن تعود سريعا وتخبر ماتيلد بالأمر , وتطلب مشورتها , أما الآن , فلا يخطر لها على بال سوى دفء الشمس والسعادة التي توفرها لها المياه , ولم تنتبه الى أنها أبعدت عنها , وللمرة الأولى , شبح الكآبة التي سيطرت عليها منذ وفاة والدها.
ولما تطلعت الى الشاطىء خلفها , أدركت أنها وهي السبّاحة القوية , قطعت مسافة أكبر بكثير مما ظننت , وأستدارت , فرأت صياد ممتلىء الجسم يراقبها , فلوحت له بيدها أذ عرفته , وسرعان ما بلغت الأماكن الضحلة , فخاضت في مياهها الى أن بلغت الشاطىء.
وقف بنتيتو يراقب تقدم سمانثا بعينين دافئتين يملأهما الشوق , لله ما أجمل هذه الفتاة الأنكليزية الشقراء بشعرها الحريري الكثيف المنسدل رطبا فوق كتفيها , وتفرّست سمانثا بكتفيه مبتسمة , وتوازت عيونهما بسبب طول قامتها , وسألها بنيتو باللغة الأيطالية:
" أنك أفضل , أليس كذلك؟".
خفضت سمانثا رأسها , ومع أنه لا يحتمل أن يترك بنيتو قريته , فقد عكفت سمانثا على تعليمه الأنكليزية , التي خاطبته بها الآن :
" أجل , أشكرك يا بنيتو ".
فكشر مرتبكا , وتابع حديثه بلغته:
" ستذهب أتعابك سدى , فأنا لن أتعلم".
أرخت عقدة شعرها , وأرتمت فوق الرمال متمددة بأسترخاء فيما أجابته بالأيطالية:
" أنك لن تتعلم أذا لم تحاول , ما أروع المياه!".
وجثم بنتيو بجانبها , وعلّق بقوله:
" أنك تسبحين بعيدا لوحدك".
فتنهدت وقد بدا أنها عوقبت على نحو ملائم :
" أعلم ذلك".
أحتار بنتيو لأن سمانثا لم تضع وقتها في الأحاديث الفارغة منذ وفاة والدها , أما اليوم , فقد أختلف الوضع , وهنا خاطبته وكأنها قرأت أفكاره:
" الحقيقة أنني مذهولة بعض الشيء , فقد تلقيت هذا الصباح رسالة من أنكلترا".
تجهمت قسمات بنتيو وقال:
" أنكلترا! هل تعرفين أحدا في أنكلترا؟".
أجابت سمانثا وهي تنقلب على وجهها :
" يبدو أنني أعرف".
" أحدا يعرف والديك؟".
" أجل.... وكلمة ( يعرف ) ليست معبرة بشكل كاف".
وهزت رأسها , أما هو , فتمدد بقربها :
" أذن أخبريني من هو مرسل الخطاب".
فأبتعدت عنه بغضب , ثم جلست:
" أنني لا أمزح , فالرسالة من جدّتي , هل فهمت الآن؟".
تخلّى بنتيتو عن تكاسله ودعابته :
" جدتك! لكن والدك قال أن لا أقارب لك".
" أعلم ذلك , لكن يبدو أن لي أقارب , هذا أذا لم يكن أحدهم يهزأ مني ويسخر بمشاعري , والأهم من ذلك أن لي أمّا!".
فصاح بنتيو:
" يا الله!".
" هذا هو شعوري بالضبط , فأنت ترى أنني أواجه مشكلة".
" وما هي؟".
" جدتي تريدني أن أذهب الى أنكلترا".
أرتسم الغضب على ملامح بنتيو :
" كلا , أنك لن تذهبي".
تنهدت سمانثا:
" هذا ما لم أقرره بعد".
مال بنتيو نحوها:
" هراء ! وماذا عنا؟ أنك تعرفين حقيقة مشاعري أتجاهك , وقد ظننت .... آملت .... أنه سرعان ما....".
أطرقت سمانثا قبل أن ترد:
" أنني أعلم".
لم يعد يساورها الشك بصحة مشاعر بنتيو نحوها , لقد كبرا معا دون أن يفترقا معظم الوقت , فعلّمها السباحة والصيد وأدارة المركب , تماما مثل أي شاب في القرية , ولم يعترض جون , علما بأنه لم يكن شديد الأهتمام ببنتيو أحيانا , ولم يستطع أن يرى ماذا كان يحدث بالقرب منه , ودخل في روع سمانثا أن صداقتهما متينة وحميمة بحيث لا تسمح بنشوء قصة حب وغرام , لكن أقتران أبناء الجيران وبناتهم ببعضهم أمر طبيعي في أيطاليا , وعليه , لم يخف بنيتو أمر مشاعره.
وأنتظر أهل بنيتو يوم العرس , وتناقل أهل القرية أخبار كوخ شغر حديثا يلائم العروسين , خصوصا وأن أيجار الفيللا التي يقطنها جون كنغزلي مرتفع بالنسبة لهما , كما رغب بنتيو بالبقاء وسط أهله الذين أعجبت صحبتهم سمانثا , وفتنت بأولاد أشقائه وشقيقاته , لكن الزواج كان خطوة كبيرة , ولن ينقضي وقت طويل قبل أن ترى نفسها وسط أسرتها وقد أضاعت كل فرصة بمغادرة اقرية ثانية , هل هذا ما تريده فعلا؟ لقد طرحت هذا السؤال على نفسها مرارا وتكرارا , وطلعت بجواب واحد غير مقنع.