ومد باتريك بصره الى الأمام وقد أكفهر وجهه , ثم بدأ يستجمع أفكاره:
"أسمع , سوف أخبر باربرا ,ثم ننطلق , وبعد ذهابنا توضح الأمر للضيوف , كما سأخبر سمانتا بالطبع لأنه من البديهي أن تحضر معنا , وقل لآندرو أن من الخير أن يبقى هنا , لأنني لا أظنه يرغب بالعودة معنا والأوضاع على ما هي الآن".
" كلا , كلا , سوف أتحدث الى آندرو , كما سأشرح الوضع لجينا , حاول أن تسرع قدر ما أستطعت , أتمنى لك حظا سعيدا يا باتريك".
وأخذ باتريك يبحث عن باربرا التي وقفت بجانب آلة التسجيل تعبث بالأشرطة وقد فكر لحظة كيف ستتلقى الخبر الذي سينقله اليها ... منذ قليل كان يفكر أنه يعاني بعض الصعوبات , غير أن هذا الحدث خلق ألوفا مؤلفة من التعقيدات الجديدة , وسمانتا , ماذا عن سمانتا الآن ؟ كان من المفترض أن تعيش مع جدتها , وأن تذهبا صباحا الى دافن , ماذا سيحل بها الآن؟
أنقبضت معدته , لقد أصبحت سمانتا شيئا مهما بالنسبة اليه, بل الشيء الأهم في حياته , وهي لا تحس ولا تدري.
وأتجه ببطء صوب باربرا التي أستدارت فور سماعها وقع أقدامه قائلة:
" حسنا ,هل أنتهى مؤتمركما؟ ولماذا أنت كئيب؟ ماذا هناك ؟ لا بد أن أعترف بأنني وجدت غرابة في تصرف جايلز".
قادها باتريك الى أحد المقاعد اخشبية الطويلة بجانب طاولة العشاء الخالية الآن:
" لدي شيء مهم أخبرك به يا حبيبتي , فأجلسي لأنني أريد أن أنتهي من الأمر بسرعة".
تراقصت عينا باربرا فرحا:
" شيء تخبرني به ؟ لماذا يا باتريك؟ يا للمتعة!".
ضاقت عينا باتريك , ولما جلست وضع أحدى قدميه على المقعد , وأنحنى فوقها فيما راقبته باربرا بشغف وعيناها تتلألأن كنجمتين ساطعتين , لقد تيقنت أن الأمر مهم , وتضرعت الى الله أن يكون ما طالما تمنت سماعه , وما أن تلفظ بكلماته , حتى دهشت بل ذعرت , وبان عل وجهها للحظة تقدمها الكبير في السن , وأحست أنها ستنهار على الأرض
بسبب الصدمة وخيبة الأمل , ثم سألت ببلادة :
" هل ماتت؟".
" كلا , ألا أنني فهمت أن الطبيب لا يعتقد أنها ستبقى حية الى الصباح".
وتقلصت عضلات وجه باربرا:
" آه , آه, باتريك , لماذا يجب أن يحدث ما حدث؟".
وأنفجرت باكية , وأخذت تنتحب بصوت عال.
" علينا أن نذهب الآن , ويجب أبلاغ سمانتا واالعودة الى المدينة بأقصى السرعة".
تأملته باربرا بغرابة , ثم أنتصبت واقفة وسألته برقة:
" ماذا يمكنني أن أفعل بدونك يا ساعدي الأيمن؟".
فرد بهدوء:
" أحسبني لا أنفع في معالجة النساء النائحات , وأنني أعزيك من كل قلبي".
وعادت باربرا الى البكاء ثانية , ولكن بهدوء هذه المرة.
" لنفترض أنها ماتت , ماذا أفعل؟ سأشعر بأقصى حالات العزلة والوحدة ,ولن أستطيع أن أعيش في وحدتي".
فعلّق باتريك بوقاحة:
" لكنك لا تعيشين مع أمك".
" صحيح , ألا أنها دائما تهّب الى نجدتي عندما أحتاج اليها".
تقزز باتريك وهو يفكر , ما أعظم أنانيتك أيتها المرأة ! هل تفكر باربرا بأحد سوى نفسها , ثم أستأنف حديثه:
" وهناك سمانتا , أنها تعيش وحيدة أيضا".
فحدقت برابارا فيه مستفهمة:
" سمانتا مستقلة بتفكيرها مثل والدها , وهي لا تحتاجني".
فسألها باتريك بأبهام:
" ألا تحتاجك؟ لكنها تحتاج أن يكون بجانبها شخص واحد على الأقل".
أغمضت باربرا عينيها نصف أغماضة ,وسألته:
" هل لديك أية أقتراحات؟".
تكلّف باتريك أبتسامة صغيرة:
" ولماذا تكون لدي أقتراحات؟ على أية حال , من الخير أن تعلمها الآن".
وأتجها الى حيث كانت شلة المراهقين ترقص على الرمال , وتطلعت سمانتا, التي تنتبه دائما الى وجود باتريك , لتواجههما في هذه اللحظة ,وفطن باتريك الى مشاعره مجددا , كانت رائعة في وقفتها هناك بقامتها المديدة وقدها الممشوق ونظرتها الغريبة , أصابه ألم شديد يفري الكبد, عندئذ أدرك أنه يحبها , وهنا نادتها باربرا بسرعة:
" سمانتا , أننا ذاهبون".
كانت رحلة العودة الى لندن أطول رحلة عرفتها سمانتا , وقد تجمدت يأسا وقلقا , ومع أنها لم تذرف دمعة واحدة عندما تلقت خبر أصابة جدتها بنوبة قلبية , ألا أنها أدركت أن دموعها ستسيل فيما بعد, وشعرت بذهول وعدم تصديق , أذ روعها أحتمال أن تكون السيدة العجوز المحبوبة , التي رحبت بها في أنكلترا , وأفهمتها أنها بحاجة اليها , تواجه سكرات الموت , ألا يحتمل أن يكون وصولها قد عجّل في حدوث الكارثة؟ هل يمكن أن يكون أرهاق جدتها في الأسبوع الماضي مسؤولا عن تخاذل قلبها , وأكتفت سمانتا بأن تكون هذه الأفكار رفيقة دربها , ولم تكن بحاجة الى سماع والدتها وهي تندب حظها وتبكي جدتها بين الحين والآخر وأيقنت أن باربرا تتظاهر بالحزن لتستدر عطف باتريك , ولم يتكلم باتريك منذ أنطلاقهم في رحلة العودة الا قليلا , وغرق في أفكاره الخاصة , فتساءلت سمانتا عما يدور في خلده خصوصا وأنه يعرف اللايدي دافنبورت , ويعرف جسامة الكارثة.
ووصلوا الى المدينة أخيرا , فساعد باربرا على الترجل , أما سمانتا , فسبقته الى الخروج , وأندفعت بسرعة الى داخل المبنى.