ولما أغلق الباب خلفه , أشعلت باربرا سيكارة بأصابع مرتجفة , وأعتراها غضب عارم , غضب مكبوت , لقد أظهرت كثيرا من اللين مع باتريك , ألا أنه لم يفطن لذلك , فلماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ وذرعت الردهة ذهابا وأيابا بغضب.
كان من واجبها أن تفعل أشياء كثيرة , والحقيقة أن مشهد باتريك وهو يقف بجانب سمانتا ناظرا اليها بعينين قلقتين تنمّان عن الرقة , قوّض مشاريعها , وسمانتا! أنه لأمر محزن , لقد ظنها أبنة ست عشرة سنة , ولو كانت كذلك , لكان هو بمثابة والدها , ألا يملك ذرة من الكبرياء؟
هل تقف مكتوفة اليدين تتفرج على الرجل الذي أخلصت له يتصرف تصرفا أحمق مع أبنتها؟ كلا , أنها لن تسمح بحدوث مثل هذا الأمر لا بد من فعل شيء ما , ماذا يمكنها أن تفعل؟
كان لا بد من دفن اللايدي دافنبورت في دافن لأنها أعربت عن رغبتها في أن ترقد في مقبرة العائلة هناك , وهكذا رأت سمانتا بيت المستقبل في أوضاع تختلف كثيرا عن تلك التي توقعتها , وأصابها الدوار منذ ليلة وفاة جدتها المشؤومة , وعاودها نفس الشعور عند غياب والدها , ومع أنها لم تعرف جدتها مدة طويلة , فأن علاقتهما كانت حميمة , والآن , لم تعد تشعر بالأمان الذي أنتزع منها فجأة ,ألا في حضور باتريك.
وأتسم سلوك باربرا أتجاه أبنتها بالبرودة والتحفظ , ولم تظهر الحنان والأنفتاح ألا أمام الصحفيين الذين حضروا لمقابلة السيدتين وأخذ الصور اللتذكارية لهما , وروعت الشهرة سمانتا التي طالما أعتبرت حادث الوفاة في أسرتها أمرا عائليا بحتا , كما أنها أشمأزت من أرتداء باربرا ثياب الحداد السوداء التي زادت شقرتها بروزا , وتأديتها دور الأبنة المهجورة المتعلقة بمسانتا طلبا للمساندة , وتكاثرت زيارات مارتن برايور , المعلّق المعروف , وكان على سمانتا أن تبتعد عن دائرة الضوء قدر المستطاع , فيما حاول برايور جهده أن يدخلها في كل مقال يكتبه أذ أذهلته رباطة جأشها التي لا تظهر في أولاد بعمرها , وتساءلت سمانتا , وقد فطنت الى الأمر , متى سيزور برايور دائرة تسجيل الولادات كما فعل باتريك , ثم يرجع ليواجه باربرا بالحقائق المجرّدة؟ وخشيت أن تفكر بما يحدث لو علمت باربرا أن باتريك يعرف الحقيقة.
وصلت سمانتا الى مسكن دافن في سيارة الرولز رويس بصحبة بارنز قبل الدفن بيوك كامل , اما باربرا , فكانت قد سبقتها الى المكان للقيام بالترتيبات اللازمة , ولذلك لم يكن بأمكانها أن ترى أبنتها كثيرا.
وبعد تناولها العشاء بمفردها , آوت الى سرير عريض كاد يتسع لعشرة أشخاص معها , ووجدت سمانتا صعوبة مضاعفة في الخلود الى النوم لأن الفراش الوثير المحشو بالريش وفر لها دفئا شديدا لم تألفه, وأستيقظت مع خيوط الفجر الأولى قبل صياح الديك , وأزاحت الستائر حتى تسمح للضوء الناعم بالتسرب من الخارج , ثم تأملت مشهدا طبيعيا وادعا أعاد الهدوء الى أفكارها المضطربة , وأمكن لسمانتا أن تلمح بين المروج الخضراء روضة أزهار أحيطت بسياج عال , كما شاهدت بركة صغيرة , فتساءلت أذا كانت أسماك الذهب الصغيرة تستطيع ة , وقضت هذا الصباح مزهوة بأستطلاع الأراضي المحيطة بالمنزل , فوجدت أصطبلات للخيول كما قالت جدتها , وأفرحها جوادان لامساها بأنفيهما طلبا للسكر , وقدم لها سائس الخيل العجوز بعض السكر لتطعمهما , وكان هناك بغل صغير بني اللون لحق بسمانتا , وتأكدت من محبتها له , ولما أخبرها صاحب الأصطبلات أنه لم يطلق عليه أسما بعد , أمضت بضع دقائق تختار له أسما بقصد السلوى.
كانت مراسم الدفن ستتم عند الساعة الحادية عشرة , ولما عادت سمانتا لتناول فطورها , وجدت باربرا ترشف بعض القهوة المرة وهي تدخن,ولشد ما سرت حين حان الوقت للأستعداد , وأيقظ أرتداء ملابس الحداد فيها العزم على ألا تبكي علنا.
حضر باتريك من لندن بعد العاشرة بقليل , ولا شك أنه نهض أبكر بكثير من عادته , وبدا متأنقا في بزته الصباحية القاتمة وربطة عنقه السوداء , وكاد قلب سمانتا يضيع من صدرها أذ رأته , لقد أضحى حبيبا بالنسبة اليها , وحبيبا جدا , وأحست أنها وحيدة في العالم مرة أخرى , خصوصا وأنه لم يكن بمقدورها الأعتماد على باربرا , التي أوضحت لها بجلاء في الأيام القليلة الماضية , أن دوافعها لأدخالها دائرة الضوء معها بدأت تتلاشى بسرعة , وأنها كلما أسرعت في العودة الى حيث جاءت, كلما فرحت بها وأحبتها , وكلمها باتريك بعطف:
" مرحبا , هل أنت بخير؟".
فحدقت فيه وقد ضاقت نفسها , ثم همست:
" أنني... أنني بخير الآن".
" أين أمك؟".
" أحسب أنها في قاعة الجلوس مع متعهّدي الطعام الذين يعدون الغداء....".