فتحت فيكتوريا حقيبة يدها وسحبت منها الظرف الحاوي على الرسالة التي حملتها الى النمسا , قرأتها مرة ثانية بأهتمام كبير محاولة أن تكتشف شيئا حول كاتبها , كانت معنونة بعبارة( قصر ريشيستين ) ومذيلة بتوقيع هورست فون ريشيستين , أنه لا يقل مرتبة عن البارون فعرّابتها أخبرتها بذلك نقلا عن أصدقائها في النمسا الذين أمنوا لفيكتوريا هذه الوظيفة.
أطلقت أبتسامة خفيفة وأجالت نظرها في ما حولها , ساورتها الشكوك عن السبب الذي دعا البارون فون ريشيستين أن يستخدم مربية في هذه الأيام التي أرتفعت فيها الأجور وقلّت ساعات العمل , على الأقل لم تكن تراودها أية أوهام حول المكان المنعزل , فقصر فون ريشيستين حيث سيتوقف القطار دقائق معدودة , أنتابتها رعشة وراودها القلق ولم يكن لها خيار في ذلك.
كانت أرتباطات عرابتها بآل فون ريشيستين قاصرة على صداقة في أيام الطفولة مع أبنة عم البارون الحالي وهي بارونة كهلة ذات أطوار غريبة , معظم أوقاتها متنقلة بين لندن وغيرها من العواصم الأوروبية مستفيدة من كرم ضيافة رفقائها.
والذي عرفته عن مقرها المقبل لم يكن مطمئنا , فموقع القصر المنعزل والمواصلات الصعبة وتربية بنت في العاشرة من عمرها أصابها منذ فترة وجيزة مرض الشلل منعها من متابعة دراستها في المدرسة الداخلية ثم شفيت منه بعدئذ والتقارير المتعلقة بها كانت رهيبة , كانت قرة عين والدها فهو يغضّ الطرف عن جميع أخطائها.
بعد مضي ثلاثة أشهر على شفائها أضطر لأستخدام مربيتين لم تستطيعا أقامة علاقات طيبة معها , حدث أحتكاك شديد مصم للآذان في عجلات القطار فأرتمت فيكتوريا على حافة مقعدها وظهرت علامات الخوف فأبتسمت المرأة في المقعد المجاور قائلة بأقتضاب وبنبرة قوية :
" ريشستين يا آنسة".
منتدى ليلاس
أطلقا فيكتوريا تنهيدة وأومأت شاكرة ونهضت.
فتحت فيكتوريا باب عربة الحافلة عندما توقف القطار وقفزت منها ثم أستدارت لتحمل حقيبتها.
على مسافة قصيرة من ساحة المحطة تراءت لها الأنوار المشعة في القرية الواقعة على سهل واسع مرتفع يكون فيه المشهد رائعا في نهار مشرق , على أن الثلج كان لا يزال يتساقط فأنتابها البرد والتعب وصاحت وقد آلمتها الأنفعالات النفسية والشفقة على نفسها , لم أكن أرغب في المجيء الى هنا بادىء الأمر , هل يعلم أحد بأنني مبللة وأرتعش من البرد وأكاد أموت متجمدة؟ فجأة سمعت صوتا غريبا لم تدر ما عساه يكون , كان صوتا مريبا صاخبا خشنا , بدأ الصوت يتجه نحوها , ربما كان شخص من القصر , أرتسمت أبتسامة خفيفة على شفتيها وتذكرت مشاهد السينما القديمة المرعبة عندما يكون هذا المدخل نذيرا بوصول الوحش المخيف.
أستعادت شجاعتها وعندما ظهر الحمال أمامها قدمت اليه تذكرتها وعلائم المرح تبدو عليها , تناولها الحمّال بصمت وكانت تعابيره متصلبة , قطبت فيكتوريا حاجبيها بلا مبالاة وأمتنعت عن سؤاله عن مكان تبيت فيه وخرجت من المحطة مترقبة ما حولها.
أصبح الصوت أكثر شدة يتردد صداه في الهواء البارد المكسو بالصقيع , ولم تكن مستعدة لتلقي ضربات الثلج الخفيفة المتطايرة حول وجهها, حجبت حبات الثلج الصغيرة بصرها فتراجعت الى الوراء وتعثرت فوق حقيبة سفرها وسقطت على ركام ثلج كثيف , شابها شعور بالمرارة عندما ناضلت لتنهض , وثب رجل من حافلة المحطة وجاء مسرعا اليها , ظنت في بادىء الأمر أن شعره أبيض على أنها تيقنت الآن أنه فضي جميل , كانت أهدابه وحاجباه سوداء وكانت الخطوط الكثيفة المحفورة قرب فمه تزيد في سني عمره , هز كتفيه ثم أنحنى ورفع حقيبة سفرها وحاول أن يكمل سيره عندما بادرته بالكلام:
" من فضلك لحظة".
أستوى الرجل في وقفته , تقلصت عيناه وقطب وجهه قائلا بلطف:
" أنت الآنسة فيكتوريا مونرو , أليس كذلك؟".
لوت فيكتوريا بعنف شريط حقيبتها اليدوية وقالت:
" ماذا لو كنت بالفعل فيكتوريا؟".
" تذهبين الى قصر ريشستين , أنني من هناك".
كانت فيكتوريا لا تزال مترددة , لم يكن يخامرها أدنى شك بأنه بالفعل من القصر كما يقول ولكنها لن تركن اليه في حال وجود أي أثر للفساد في تصرفاته , كانت قد نهضت ترتجف بشدة وهي ساخطة , قال بنبرة خفيضة جذابة:
" أرجوك المعذرة يا آنسة , لا شك أنك علمت بوجوب الأنتظار في المكتب".
ثبتت فيكتوريا كتفيها وألقت نظرة شاملة عليه بغضب , وأجابت بنبرة باردة:
" لم أكلف بالأنتظار في المكتب , ربما أخبروك بوجوب الحضور الى هنا في الوقت المحدد لملاقاتي".
تحدته عيناها السوداوان وفكرت بأنها لن تسمح لهذا السائق أن يوقفها عند حدها , ولئن كان الأمر كذلك فأن نظرتها المحدقة أصيبت بنظراته المتلألئة , فأرتسمت أبتسامة خفيفة على شفتيه , أغاظ هذا الجواب فيكتوريا, ربما كان بسبب مبادرتها الخرقاء غير المألوفة بينما ظل هو هادئا رابط الجأش , وتبين لها أنه كان جذابا فارع الطول , واسع الصدر ونامي العضلات , رمقته بنظرة أزدراء قائلة:
" كيف أتأكد من ذلك؟".