السلام عليكم
مع الدكتور أحمد خالد توفيق مـــــــــــــرة أخرى
بقصة جديدة و هـــــــــــــــــــي
نبدأ بأول فصل لـــــــــــها و لكنني هنا لن أقدم تحميل للقصة إلا في نهايتها
أترككم مع الد. أحمد خالد توفيق
تيك توك! (1)
كان في الصفّ.. وهنا رأى هذه الأشياء في كل مكان
في سن الخامسة عشرة أدرك إيهاب المليجي أنه مختلف..
هل ظهرت تلك الموهبة فجأة؟ لا يذكر قط أنها كانت عنده وهو طفل. يعرف أن هناك أمورًا خارقة للطبيعة تعلن عن نفسها في سن المراهقة، ولربما كانت هذه الموهبة موجودة، لكنها لم تظهر إلا في السن المناسبة..
كان في الصفّ.. وكان مرهقًا يتابع المعلم بنصف وعي ونصف عين، وقد بدا له موعد قرع الجرس موعدًا نورانيًا يصعد به إلى سموات الخلاص..
هنا رأى هذه الأشياء.. كانت في كل مكان، وكان المشهد لا يصدق ولا يمكن التعبير عنه بكلمات. كان عاجزًا تمامًا عن فهم ما يراه، لكنه أدرك أن هذه الأشياء حية.. كانت تتحرك بقصد وإرادة ذكية لا شك فيها..
أطلق صرخة قصيرة، وهنا فطن إلى أن كل الصف ينظر له..
المعلم نظر له بعينيه المتهمتين -وكل معلمي الرياضيات لهم عيون متهمة- وسأله بطريقة عابرة فيها نوع من السخرية:
ـ "هل من مشكلة ما؟"
كان على قدر من الذكاء يسمح له بأن ينفي أنه يرى شيئًا غريبًا.. قال كلمات مرتبكة معناها العام "لا شيء".. ثم أطرق وراح ينظر لكفّيه..
قال لنفسه إن هذا كله وهم.. نعم.. هو مرهق.. الهلاوس البصرية تحدث مع الإرهاق..
وانتهت الحصة، فمشى ناظرًا للأرض.. عندما صفعه رامي كما هي العادة لم يردّ ولم يقل شيئًا.. في العادة كان يلاحقه إلى أن يردّ له الصفعة..
عاد لبيته مطرقًا.. هناك كان أبوه يعدّ مائدة الغداء كما هي العادة..
رفع عينه في حذر، فأدرك في ذعر أن هذه الأشياء تملأ المكان هنا أيضا.. لا بد أن هناك ستة منها في هذه القاعة الضيقة، وقد اندهش بشدة لأن أباه يجد حيزًا يتحرك فيه..
أبوه لا يرى شيئًا.. أبوه لا يرى ما يراه.. هذه نقطة مهمة..
بدل ثيابه واغتسل وصلى الظهر داعيًا الله أن ينام ويصحو فلا يرى هذه الأشياء..
كان أبوه قد فرغ من إعداد المائدة.. عمته تأتي يوم الجمعة فتعد طعامًا يكفي لأسبوع.. تغلف كل وجبة في رقائق الألومنيوم وتضعها في فريزر الثلاجة، هكذا يكون طعام كل يوم محددًا سلفًا. الاثنين هو يوم البازلاء واللحم والأرز.. الثلاثاء يوم السمك والأرز الأحمر.. الأربعاء يوم الفول بالصلصة..
منذ الحادث صار أبوه يلعب دور الأب والأم معًا، وهي مهمة عسيرة.. لم يتزوج برغم أن الكثيرين نصحوه بذلك، لكن الرجل كان قد فقد رغبته في النساء، وبدا له غير إنساني أن يتزوج امرأة لتكون مجرد خادمة له ولابنه.. إن أخته تعنى بموضوع الطعام، وهناك عجوز تعنى بموضوع الغسيل ونظافة البيت.. لا بأس.. هكذا يمكن أن تستمر الحياة..
كان الأب يعرف أن هناك لغزًا ما يحيط بابنه منذ جاء العالم. بعض الأطباء قالوا إنه داء التوحد Autism لكن طبيبًا نفسيًا بارعًا أقنعه أن هذا كلام فارغ.. إذن ماذا يعانيه الصبي؟ لا أحد يعرف..
جلس يلتهم البازلاء وهو يرفع عينه فيرى تلك الأشياء تحوم حوله
فيما بعد وقع الحادث وسقطت السيارة في الترعة وفيها الأم وإيهاب.. الأب استطاع بمعجزة ما أن يُنزل الزجاج وهكذا استطاع أن يفتح الباب ويطفو للسطح. بعد دقيقة جاء فلاحون كثيرون وتعاونوا على إخراج الضحيتين.. الأم لم تتحمل.. إيهاب ظل حيًا..
ترى هل كان لهذا الحادث يد فيما جرى؟
هل لهذا الحادث دور في الأشياء التي يراها؟
ربما.. فيما بعد كبر إيهاب وقرأ أن نقص الأكسجين يوقظ مراكز معينة في المخ، لكن إثبات هذا صعب جدًا.. هناك اختبار باهظ الثمن اسمه "الأشعة المقطعية باستعمال انبثاق البوزيترون PET"، لكن أين وكيف يقدر على إجراء أشعة كهذه؟ دعك من أنه يعرف نتيجة التقرير: هناك نشاط زائد في البقعة الفلانية.. هل تحب أن نزيلها جراحيًا؟ هنا سوف يرفض لأنه -لسبب ما- ليس ممن يحبون أن يقطع المبضع جزءًا من أمخاخهم.. قلت لك إنه غريب الأطوار..
في ذلك اليوم جلس يلتهم البازلاء والأرز، وهو يرفع عينه من حين لآخر لأبيه فيرى تلك الأشياء تحوم حوله.. كانت أشياء بشرية إلى حد ما، لكنها كذلك غير بشرية على الإطلاق..
لم يندهش أبوه فقد اعتاد أن ابنه ليس أفضل محدّث في العالم.. أحيانًا تمر ثلاثة أيام دون أن يتبادلا كلمة..
بعد الغداء أخلد إيهاب للنوم وهو يرتجف..
عندما صحا بعد ساعتين، كان أول ما رآه أن هذه الأطياف تملأ الغرفة من حوله.. فقط اكتسبت بريقًا ملونًا فوسفوريًا في ظلام الحجرة..
سوف أختصر هذه التجربة القاسية إذن..
لقد تعلم إيهاب أن هذه الأطياف ضيوف سمجون لا يمكن الخلاص منهم.. سوف يكونون معه بقية حياته..
على الأرجح هو ليس مجنونًا.. ليست هذه رؤى مما يراها المخابيل. ما مال لاعتقاده هو أنه يملك شفافية خاصة.. الكلاب تسمع موجات خاصة من الصفارات، لا يسمعها كائن آخر.. ترددات أعلى من اللازم، وعلى الأرجح يحدث هذا مع البصر كذلك. إذن هو يستطيع رؤية ما لا يراه الآخرون.. هذه الأطياف حولنا في كل لحظة.. فقط لا يراها الناس..
وبرغم حداثة سنه فقد قرر أن هذا سره.. سره الخطير الذي يجب ألا يعرفه أحد. هو يجد صعوبة في تصديق أنه ليس مجنونًا فكيف يتوقع أن يعامله الناس؟ إن مستشفيات الأمراض العقلية تعجّ بأمثاله.. أمس قابل في الشارع متسولاً يرفع يده بالسلام ويكلم الهواء، وقال له إن سيدنا الخضر كان مارًا أمامه! لماذا لم يصدقه؟ لماذا اعتبره مجنونًا؟ قد يكون هذا المتسول يملك موهبة أخرى من هذا الطراز، لكن إفساح المجال للتسامح في هذه الأمور يؤدي لفوضى شاملة.. في النهاية لا يمكن أن نقبل إلا ما يُرى ويُسمع ويُشمّ ويُلمس ويُعقل..
إذن عليه أن يصمت..
عليه أن يحتفظ بهذا السرّ للأبد...
يُتبع