وبرغم أن قوله هذا ألقاه بعدم أكتراث , فهو ينطوي على معان كثيرة , أيقظت التحدي في فاي وجعلت روحها الهادئة تهب في غضب جامح , أذ شعرت أنه واثق من طاعتها .... وتاثق أنها لن تخالفه في شيء , وأنها تعتير زواجهما شيئا رقيقا هشا كآنية زجاجية تخاف عليها وتعتني بألا تكسرها فيفشل زواجهما.
وبكل هيبة ووقار جابهته لتقول له:
" أذهب وراء مسرّاتك يا لو ... تعش وراقص مئات الشقراوات أذا شئت ولكنني سأبقى في المنزل وأتناول عشائي الرائع , ثم أدخلسريري ومعي كتابي , ولن أعاتبك حين تعود أبدا".
ثم أستدارت وتركته عائدة الى المطبخ , وهي تشعر بسعادة غامرة ولكن هذه السعادة تلاشت في الواحدة والنصف صباحا , عندما فتحت المصباح الجانبي للسرير للمرة الرابعة , وراحت تنظر الى الساعة الصغيرة بجانب السرير , وأخذت أصابعها تتخلّل شعرها وهي تحاول البحث عن النوم فلا تجده , ثم تغوص في السرير الكبير وتسحب الغطاء الحريري عليها حتى ذقنها.
وكان أعتداد لو بنفسه لا ينال منه شيء .... كان كالبريق الذي يكسو سطح الأشياء , ومن الصلابة بحيث لا يلينه الحب , وعكس فاي التي تلين لأقل عاطفة أما الآن فهي مشوشة العاطفة بعد الشجار بينهما وأخذت تلوم نفسها لأنها كانت السبب في هذه البلبلة , وكان من الأفضل أن تخضع له , فهو لم يطلب منها شيئا سوى أن تكون عونا له من تناسي تعبه بعد يوم عمل طويل قاس , كانت غلطتها أن تمثل دور ربة البيت , فهي لم تكن في الواقع كذلك بل هي تحفة أخرى من التحف الذي تزيّن منزله , والتي قد يعجب بها أذا أراد وقد يدعها في مكانها ثم نساها وأنكمشت في فراشها أذ شعرت بوقع أقدامه في غرفة الجلوس وسمعته يصفر أحد الألحان التي يحبها , فلم تتحرك من فراشها فربما ظن أنها نائمة , وفتح باب غرفة النوم ثم أوصده , وأقترب صوت صفيره من الفراش ثم فتح المصباح فسبحت فاي في نوره الوردي , وكانت تعرف أن لو يراقبها وينتظر أن تستدير له وتخاطبه , ولكنها لم تفعل فهو الذي يجب أن يتنازل أولا , وكم رغبت في ذلك.
وهمس لو يقول:
" فاي , هل أنت نائمة؟".
منتديات ليلاس
لم تتحرك ولكنه عرف بغريزته أنها ما زالت مستيقظة قلقة عليه ,وبضحكة خفيفة جلس على حافة الفراش ومد يده وجذبها من تحت الغطاء , وأخذها بين ذراعيه وتقلصت شفتاه وهو ينظر الى وجها الذي كساه التمرد , ومد أصبعه يداعب خدها ويقول:
" ألا تسألينني أين ذهبت وماذا فعلت؟".
فقابلت نظراته بتحد وقالت:
" لست أدري أن كنت قادرة على ذلك".
فسألها :
" هل أنت خائفة من الكذب أم من الحقيقة؟".
وكان من الواضح أنه يضحك منها فردت عليه:
" يبدو أنني خائفة من الأثنين معا".
قالت ذلك معترفة , وهي ترتجف قليلا من تأثير لمساته لها , وأحتقرت نفسها سرا لضعفها وخضوعها له.
ثم ضحك لو وقال لها:
" ألا تريدين التفتيش في سترتي على شعرة شقراء؟".
فهزت رأسها نافية , وهي تتراجع عن السخرية التي بدت في عينيه , عيناه كانتا تقولان أنه لا يهم أن تكتشف شعرات شقراء على سترته أو لا تكتشف , وشعرت بسهم الألم يخترق قلبها , فوجدت نفسها ترتمي في صدره , وتدفن وجهها في عنقه الدافىء , وراح ينفخ في شعرها المتناثر على جبهتها كشعر الأطفال , وأنتابه حب الأستطلاع وهو ينظر اليها وينقل نظره بين كتفيها الدقيقتين وبين تقوس قدميها الصغيرتين الظاهرتين من ذيل رداء نومها الأزرق , أنها تبدو طيبة فهل هي طيبة حقا؟ هذه المخلوقة ذات الفم الدافىء والقلب الذي يخفق بجنون تحت كفه , هل هي طيبة أم هي مثل غيرها من النساء... أمرأة مخادعة سطحية برغم مظهرها الذي ينم عن حلاوة ونعومة؟ وعندما تغطي أهدابها الطويلة عينيها , مثلما تغطيها الآن , أي سر تنطوي عليه هاتان العينان ولا ترضى أن تبوح به؟ ثم قال لها بلهجة آمرة:
" أنظري أليّ يا فاي".
لكن وجهها غاص أكثر في عنقه , وشعر لو أنها ترتجف قليلا وهمست تقول:
" لا أريد أن نتشاحن , يجب أن نكف عن ذلك يا لو , أرجوك".
فرد يقول:
" أنه شيء مؤلم... أليس كذلك؟".
ثم أخذ ذقنها بيده وأجبرها على أن تنظر اليه , فبدت صغيرة لا حول لها ولا قوة بين ذراعيه , وتناثر شعرها الذهبي على سترته السوداء, وأطهر قميص نومها الأزرق لون ذراعيها الرقيقتين وتخيّل لو , وهو يبتسم أنها كالفراشة الحبيسة فقال:
" أستمعي اليّ جيدا يا صغيرتي ... عندما يبذل المرء كثيرا من الجهد كي يروض مجموعة من الممثلين طوال اليوم عليه ألا ينقل هذا الجو المتوتر الى منزله , ولذا يجب أن نتجنب الأنفعالات التي لن أقبلها".
وجلست في الفراش, فأنحسر الغطاء الحريري عن كتفيها فبدتا رقيقتين بلونهما الأبيض , وأنعكس عليهما ضوء المصباح ذي اللون الوردي , ورآها لو في المرآة وبرغم أن عينيه أتسعتا دهشة وأن رقتها وشبابها ما زالا جديدين عليه وعلى فراشه وعلى منزله .... وأنها قادرة على أثارته برغم ذلك ألتفت اليها بوجه عابس وقال:
" أذا كنت مصممة على الرد فأقول لك أنك تشبهين فتاة كنت أعرفها , والآن دعينا نغير هذا الموضوع".
" فتاة كنت تعرفها؟".
وأتسعت عيناها وبان فيهما الألم.
وفجأة أطاحت بتحفظها وتحررت من كل ما يقف ضد صفحها عن لو , وفتحت له ذراعيها , ولم تهتم في تلك اللحظة أنه لم يقل لها , وربما لم تكن عنده النية أن يقول لها , أين وبصحبة من أمضى تلك الساعات التي تعذّبت فيها , ثم سألته وهي تتكلف الضحك قليلا :
" بعض من ماضيك يا لو؟".
فوقف بقامته الطويلة يراقب ضوء المصباح الوردي وتأثيره على ذراعيها الممدوتين , ثم أتى اليها وهو يضحك فأحتوته بين ذراعيها وشعر بها وهي تضمه فأجاب:
" نعم , بعض من الماضي!".