وخيّل الى لو أن صوت عجلات القطار يردد تلك الكلمات فأراد أن يهرب من سماعها , وعجب من أن فاي ترفض الحب وهي التي خلقت له , فهب واقفا وقال لها بخشونة:
" سأخرج الى الممر لأدخن , أتسمحين؟".
راح لو يدخن وهو يفكر , وينظر الى الظلام خارج نافذة الممر فلا يرى ألا الظلام الذي يغلف تفكيره.
وبعد نصف ساعة , عندما رجع اليها , وجدها ما زالت جالسة في ركنها تنظر من النافذة , ولم تشعر بدخوله عليها فوقف يراقبها وهو يهتز مع حركة القطار.
وفجأة تغيّرت دقات عجلات القطار وعبرته رجفة أحس بها لو تحت العجلات وفوق السقف , ولكنها مرّت كالبرق , وفي تلك اللحظة نظرت فاي الى لو الذي أحس بالخطر بغريزته , فوثب اليها مادا ذراعيه وغطاها بجسمه ليحميها لحظة خرج القطار عن القضبان وغمر المكان صراخ ممزوج بصوت تمزق المعادن وتكسر الأخشاب وتفتت الزجاج , وساد اظلام يتخلله عويل الألم والخوف.
ومرت لحظة الصدمة الأولى , ثم شعرت فاي أنها تجاهد كي تتنفس وتزيح عن صدرها ذلك الثقل الذي يضغط على رئتيها , ولم تتمكن من رؤية شيء ولكنها شعرت بألم في جسدها , وكان يدور في رأسها صوت مذعور يردد:
" وقع حادث.... لا بد أن أتحرر من هذا الثقل , لا بد , لا بد".
وأخذت تدفع ذلك الثقل الجاثم عليها وهو يكاد يزهق روحها , وكان هذا الثقل دافئا وتحسسته فشعرت بقماش سترة لو ... وتذكرته عندما دخل ووثب نحوها عندما تنبه الى أن القطار كان على وشك الوقوع في كارثة , وظهر في عينيه تصميمه على أن يبلغها قبل حلول الرعب والهول , وقرأت شيئا في عينيه لم تتمكن من فهمه الآن وهي تكاد لا تقوى على التنفس.... ربما ذلك الذي رأته حلما لكنها لن تفكر فيه .
منتديات ليلاس
وجاهدت بعناء كي تخلص نفسها من ثقل جسم لو , ثم أمكنها أن تخرج يديها فرفعت لو وخرجت من تحته لتجد نفسها بين أطلال الخشب والزجاج , وراحت تلهث , وشعرت بجفاف حلقها من أثر التراب والدخان , وعندما أستعادت أنفاسها تحسست لو ثانية فأمكنها سماع صوت تنفسه.
وودّت فاي لو تبدد الظلام قليلا لترى مدى أصابة لو وفجأة أندلعت نار في الخارج لتنير حطام العربة بضوء أحمر متوهج .
وركعت فاي بجانب لو وأزاحت الحطام المتراكم على ظهره , وعندما مست جانبه الأيسر شعرت أن يدها مبتلة , ورأته على ضوء الحريق يستلقي بشكل غريب , وعندما تحسست جانبه الأيسر ثانية زادت المساحة المبتلة التي تنذر بالخطر , ووجدت أن ذراعه ممدودة وكأنها تدرأ الخطر الداهم , ولكنها لاحظت أنها مضغوطة بين فكي قطعة من المعدن الصلب فوق الكوع.
حلّت فاي رباط عنق لو بأصابع متدربة , وأخرجت من جيبه قلمه الفضي ومطواته , ثم قطعت كم سترته وقميصه ونزعتهما لتعري ذراعه حتى يمكنها الضغط على مكان النزيف , فسال الدم على يديها من الشرايين المقطوعة وراحت تعمل بيد ثابتة واثقة رغم هلعها.
ثم قطعت جزءا من قميصها حتى تجعل منه ضاغطا لشريان الذراع الرئيسي ولفت الذراع برباط العنق مارا بالقطعة الضاغطة , ثم لفت الرباط في نصف عقدة في الجهة الأخرى من الذراع , وأدخلت فيها القلم وأكملت االعقدة , ثم راحت تلف القلم حتى يضغط الرباط بشدة على القطعة الضاغطة ليوقف النزيف.
وكان الناس يهرولون ويروحون ويجيئون وهم في حالة هستيريا.... يصيحون وينتحبون ويطغى على هذه الأصوات صوت عربات الأسعاف وسيارات الشرطة وأجراس عربات المطافىء , أما فاي فشعرت أنها وحيدة خارج هذه الفوضى على جزيرة نائية من الأسى مع لو , وكان همها أن تأتي بالنجدة له وهي تحمد الله على أن شرايين لو قد كفت عن نزف دمه , ثم عقدت الرباط جيدا بيد ثابتة برغم خفقان قلبها وأرتجاف جسمها... والآن يجب أن تأتي بالطبيب.
وتركت لو وخرجت من النافذة التي تفتت زجاجها , ولم تأبه بالبقايا التي تعلقت بأطار النافذة ومزقت ساقيها ويديها.
كانت النيران تندلع والضباب يملأ المكان وفاي تعدو بين الضباب كشبح صغير , تتحاشى النظر الى القتلى , ثم لمحت الطبيب بمعطفه الأبيض ينحني على النقالة الموضوعة عبر القضبان فقصدته لاهثة , وكان الطبيب قد فرغ لتوه من أسعاف مصاب , ورأت رجال الأسعاف يحملون النقالة ويمضون بها فأمسكت بذراع الطبيب وقالت له:
" هناك شخص مصاب, أرجو أن تأتي معي".