قصة قصيرة
جوهرة
ذلك الغائب
مُسْجَاةُ بين الراحلين، كأنك لم تكوني شيئا، هكذا عُنْوةً على ثـَرىَ الغربةِ والحنينِ، وحيدةٌ أنتِ كما كُنتِ، حتى في الرحيل، ألِفـْتِ الوجودَ توأماً، معاناةُ الحياةِ وغَصَّاتُ المماتِ والقوافلُ الماضيةُ في صحرائِها القاحلةِ، سَارَت بكِ الأيامُ في مواكبِها قسراً وقهراً دونَ رحمَة، تجاربُ الحياةِ والوطنِ والفقدِ مَرَّت في ذاكرتكِ البعيدةِ كأطيافٍ زرقاءَ مخيفة لا تستهويها إلا الدموعُ الحارقةُ التي لم يرها العابرون في طريق الحياة ولا يلتفت إليها إلا الماضونَ بغيرِ رجعة..
مَنْ أنتِ بعد أن تـَركتِ كل شيء، ومَنْ كُنتِ عندما كنتِ بيننا لا شيء أو كل شيء أو بعض شيء، فقد أتينا في أزمانٍٍٍٍٍٍ متقاربةٍ، جِئـْنا في عَامٍ غَصَّ بالجائعين والثـُّكالى ونذهبُ في عامٍ كثر فيه العطشىَ والأراملُ وكنتِ بينَ تلكَ الأعوام وردةً ندية تأنس بها الثكالى ونسمة منعشة تعيدُ الأملَ لكلِ أراملِ الأرض.
ذهبتِ سريعاً، طاهرةً من أدناس الدنيا، فالمرضُ ما كان له أن يُبْقِِ لك ذنبا ولا يذكر لكِ حوبا - بإذن الله تعالى - ولاشك أننا ذاهبون لنجتمع في نفسِ الطريقِ الموحشةِ عما قريب أو بعيد، انسللتِ هكذا من بيننا كجوهرة ثمينةٍِِ سقطتْ من عقدِنا التليد، ذلكَ العقدُ المتلألأُ الذي ثبتَ دهرا دونَ مساس، تلكَ الراحلة هي أنتِ، جوهرة ولؤلؤة حزينة فقدكِ الدهرُ ومن فيهِ اليومَ وكل يوم.
لم ألحق يوم مغادرتها سوى نظرة سريعة أو بضع نظرة وهي مطوية بعنفوانها وشبابها الذي لم تأنس به يوما، مضت ومضى معها كل شيء، أحلامها وذكرياتها وأيام الصبا والحزن التي رافقتها طول حياتها.
وصلتُ حيثُ سُجيت في مشهدها الأخير، رائحة الفناء والهلاك تستدعى الدموع جبرا كي تهطل سجيا على الوجوه الجميلة التي استقرت أخيرا بعد طول تجوال، أكوام التراب المتناثرة التي ستوضع بعد قليل على قبرها... الناس الصامتون ... الشاحبة وجوههم من أثر السفر والشمس الحارقة، بضع أعشاب خضراء آلت على نفسها إلا أن تنبت بين الأجداث .. تنشر بين أزقة بيوتهم الخاوية شيئا من الشذى وقليلا من اللطف .. تلك النباتات داسها الناس وهم ينقلون أقدامهم بحذر بين تلك القبور التي سيؤوي واحدٌ منها بعد قليل رفاتها، أعين تدور متفحصة وجوه القادمين من بوابة المقبرة المتهالكة،سور طويل يلتف حول الجميع ، يغتال كل أحلامهم وشخوصهم عما قريب .. يحاولون الانتهاء من كل شيء قبل أن يوصد عليهم ذلك السور إلى غير رجعه ، فهم المطلوبون للفناء ولو بعد حين .. تلك الأمكنة تحن إليهم كل يوم ، وهم يهربون منها في كل لحظة .... قبران جاهزان إلا من تراب متساقط لا يدري أي الحاضرين من تكون مقره الأبدي.
وقفت بين صمتهم وقلوبهم التي ابتلت بالسكون، وأنا خَجِلٌ من نفسي ومن كل الوجوه التي تراني ،...كم كنت أحترم هذه المرأة وأقدرها وعندما مرضت كانت في ذاكرتي كل يوم ، غدا سأزورها .. اليوم بعد انقضاء ساعات العمل، ولكن الأمل يخدعني باستمرار، وتمضي الأيام وتذهب أمي لزيارتها، وأسألها عن أخبارها، فأرى العبرات الحارقة تنتشجها ... أمي ... أمي ... بكل مرارة، كأنها ليست هي ، هكذا قالت أمي ، ولم أردف شيئا ، بل عدت ساهما .. ساكتا وأنا أرتسم صورتها التي أعرفها منذ زمن بعيد ، والطريق التي تسلكها عندما تأتي زائرة لأهلها ، وصديق قديم ما تزال تخنقني ذكراه منذ سنوات طويلة .. عندما زرته في المشفى .. كان طريح الفراش .. عندما رأيته ، قلت : كأنه ليس هو .
أهكذا تذهب دون وداع .. والطريق التي تسلكها مرورا ببيتنا تسأل عنها .. والأعين الحزينة التي كانت تنظر بها مازالت عالقة على أبواب المنازل وعلى هامات النخيل العالية والأسوار السعفية المتهالكة التي تحيط بالمزارع، كانت تسلك ذلك الطريق وحيدة ساهمة ، تمضي وفي عقلها ألف سؤال عن حياتها الجديدة والمدن التي سكنتها وتغربت مع نفسها تاركة في كل مدينة ألف ذكرى وألف دمعة .
المرض عندما يداهمنا .. يقطع عنا حبال الدنيا وخيوطها.. وينذرنا بالرحيل ، وتبدأ الوجوه المبتسمة والأعين النظرة في الذبول والجفاف .. والزائرون لنا في لحظات المرض يشفقون علينا من الموت، ويُودِعونَ في أنفسنا الدعاء ويعدوننا بأنهم سيحضرون مأتمنا لا محالة. فتأدية الواجب ضرورة حتمية .
ذهبت كما يذهب الآخرون ، نبأ رحيلها أصابني بالذهول .. الوقت قبل صلاة الجمعة .. الداخلون إلى المساجد بملابسهم البيضاء الناصعة ، هم أنفسهم من يحملونها في لفةٍ بيضاء الى مثواها الأخير ، ذلك اللون الأبيض هو الذي سيرافقها الى نهايتها ، فهذه الرفقة مع البياض لا تنتهي ، وأن نتلون بألوان أخرى .