السلام عليكم
الثورة ... خالد
********************
الثورة.. خالد
"حاول ألا تتأخرّ يا خالد"..
هتفت أمه بالعبارة، وهو يقف عند مدخل المنزل، فالتقط نفساً عميقاً، وبذل جهداً أكثر عمقاً، للسيطرة على أعصابه، ودفع فيضاً من الهدوء إلى صوته، وهو يقول:
- إن شاء الله يا أمي.
كانت تقول شيئاً آخر، ولكنه دفع جسده عبر الباب، وأغلقه خلفه في سرعة، حتى لا يستمع إلى سيل النصائح التقليدي..
لم تكن عقارب الساعة قد تجاوزت التاسعة والنصف مساءً بعدُ، وسنوات عمره تجاوزت العشرين بشهرين وبضعة أيام، وما زالت أمه تتعامل معه باعتباره صغيرها، الذي يرتجف قلبها عليه كلما تأخرّ في العودة إلى المنزل..
المشكلة الرئيسية في حياته هي أنه ابن وحيد..
وبالنسبة إليها هو رجلها الوحيد؛ فقد تُوفّي والده رحمه الله، وهو بعدُ في التاسعة من عمره، وكافحت هي طويلاً، كأم وحيدة، كي تجعل منه ما هو عليه الآن.
إنه طالب نابِهٌ، في واحدة مِن كليات القمة، كما يطلقون عليها، ويقضي معظم أوقاته في استذكار دروسه، ولكن أوقات فراغه هي مشكلته الكبرى.
لسنوات طفولته كلها لم تكن أن تسمح له بالاختلاط بأطفال الشارع، أو باللعب معهم، مما جعله شاباً منزلياً، كما أطلقوا عليه في شارعه، ولكنه لم يكد يبدأ حياته الجامعية حتى تغيّرت هذه الصورة تماماً.
في الجامعة حياته اجتماعية، لم يعتدها من قبل قط..
وربما لهذا انغمس فيها أكثر مما ينبغي..
كانت ارتباطاته بصداقاته قوية، أكثر من اللازم..
كان يعطي..
ويعطي..
ويعطي..
ولا ينتظر أبداً أن يأخذ..
ولقد اعتاد أصدقاؤه هذا..
اعتادوا أن خالد للعطاء..
فقط للعطاء..
كان أكثر ذكاءً، على نحو ملموس، وأكثر رصانة أيضا، يتحدّث في العديد من الأمور السياسية والاجتماعية، وأحياناً الدينية، ولكن المشكلة الحقيقية أن أحداً منهم لم يكن يُشاركه حديثه على المستوى المطلوب..
لا أحد..
باستثناء علياء..
وحدها كانت تتابع أحاديثه في اهتمام بالغ، وتحاوره في بعض آرائه، أو تحاول الاستفسار منه عن البعض الآخر..
ولقد لاحظت المجموعة كلها اهتمامها الواضح به..
وربما قبل أن ينتبه هو نفسه إلى هذا..
لاحظوه.. واحترموه..
ومع مرور الوقت نضج جانب آخر من جوانب خالد..
الجانب العاطفي..
رويداً رويداً أيضا بدأ هذا الأمر يتخذ سمة شبه رسمية..
حتى عندما يلتقي الجميع، في كافيه بعينه، كانوا يتركون المقعد المجاور لخالد خالياً، حتى تصل علياء، أو العكس بالعكس..
هم اعتادوا هذا...
وهو اعتاد هذا..
وهي اعتادت هذا..
و..
"مرحباً يا بطل"..
قطع حديث أحمد حبل أفكاره، فابتسم له خالد، وقال في هدوئه المعتاد:
- مرحباً.. أأنت أوّل مَن وصل؟!
هزّ أحمد كتفيه، وقال:
- علاء وتامر في الطريق.
سأله في اهتمام:
- وماذا عن فتحي؟!
عاد أحمد يهز كتفيه، وكأنها عادة تلازمه، وهو يجيب:
- والده عاد اليوم من الكويت، وستجتمع الأسرة كلها على العشاء.
ابتسم خالد، قائلاً:
- عظيم.
وفي بساطة، ارتكن على مقدّمة سيارة أحمد، وهو يسأله:
- لماذا لا نجلس حتى يصلوا؟!
هزّ أحمد كتفيه، وقال:
- إنها ليلة شتاء دافئة، أحبّ أن أتمتع فيها بالهواء النقي.
ثم التفت إليه، يسأله في اهتمام:
- هل دخلت الموقع اليوم؟!
سأله بنفس البساطة:
- أي موقع؟!
تزايد حماس أحمد على نحو عجيب، وهو يجيب:
- موقع فيس بوك.. إنهم يتحدّثون عن شاب لقي مصرعه على يد أفراد من الشرطة..
سرت ارتجافة سريعة في جسد خالد، وهو يتساءل:
- حقا؟!
بدا أحمد شديد التوتر، وهو يقول:
- كان يجلس في مقهى للإنترنت، وحدثت مشادة بينه وبينهم، تطوّرت إلى اعتداء بالضرب، تصاعد بسرعة، حتى لقي مصرعه.
شعر خالد بامتعاض، جعله يقول في اشمئزاز:
- ولماذا تتطوّر الأمور إلى هذا الحد؟! ماذا كانت الاتهامات الموجّهة إليه؟!
عاد أحمد يهز كتفيه، قائلاً:
- لا شيء.
اتسعت عينا خالد، وهو يرددّ، في لهجة أقرب إلى الذهول:
- ماذا تعني بلا شيء؟!
مطّ أحمد شفتيه، وأشار بيده في الهواء، قائلاً:
- فقط اعترض على طلب هويته.
هتف خالد مستنكراً:
- فقط؟!
أومأ أحمد برأسه، مجيباً:
- فقط.
ظهر تامر وعلاء في هذه اللحظة، فتهللّت أسارير أحمد، وكأنما نسي ما كانا يتحدّثان فيه منذ لحظات، ولوّح لهما، هاتفاً:
- نحن هنا.
تصافح الأربعة، وبدا أحمد مرحاً، بما لا يتناسب مع الموقف، وشاركه علاء وتامر مرحه، واتجه الثلاثة نحو المكان، الذي اعتادوا الجلوس فيه، دون أن ينتبه الثلاثة إلى حالة الوجوم العجيب، التي انتابت خالد..
كان يبدو كالمصدوم، غير مصدّق لما سمعه منذ قليل..
شاب اعترض على طلب إبراز هويته، دون ذنب جناه، فاعتدى عليه أفراد من الشرطة، حتى لقي مصرعه!!!
أي منطق في هذا؟!
أي عقل يقبله؟!
ثم ماذا لو كان هو هذا الشاب؟!
ماذا لو حاول أن يمارس حقه كمواطن، في ألا يعترضه أحد، أو يضيق عليه الخناق، دون ذنب جناه؟!
أيصبح الموت عقابه حينذاك؟!
وعقاب على ماذا؟!
على أنه يطالب بحقه..
وحريته..
وكرامته..
مستحيل!!
"أين أنت؟!".
انتزعه تامر من أفكاره بعبارته المرحة، قبل أن يميل نحوه، مستطرداً:
- لا أسكت الله سبحانه وتعالى لك حساً... إنك لم تنطق حرفاً واحداً، منذ أن جلسنا.
أشار إليه علاء، متسائلاً، بالمرح نفسه:
- حقاً.. أين مناقشاتك الفلسفية، التي ترهق عقولنا دوماً.
رفع خالد عينه إليه، وسأله فجأة:
- ترى ما حقوقنا في وطننا؟!
بدت الدهشة على وجوه ثلاثتهم، وتساءل أحمد في حيرة:
– ما مناسبة هذا السؤال؟!
حمل صوت خالد حدة، لم يعتدها منه رفاقه، وهو يواصل تساؤله:
- هل قرأ أحدكم الدستور؟!
تضاعفت دهشتهم، قبل أن يطلق علاء ضحكة مرتبكة، قائلاً:
- إننا نقرأ مقرراتنا الدراسية بالكاد.
مال خالد نحوهم، وبدا صوته أكثر حدة، وهو يقول:
- كيف يمكن أن تطالب بحقوقك إذن، وليست لديك أية فكرة عنها؟!
هتف به تامر في استنكار:
- ماذا أصابك الليلة؟!
صاح فيه خالد في حدة:
- بل ماذا أصابكم أنتم؟!
قالها، وهبّ من مقعده، واندفع خارجاً، تاركاً ثلاثتهم في حَيرة من أمرهم، فمن المؤكّد أن أحداً منهم لم يُدرك أنه في تلك اللحظة بالذات، انقلبت حياة خالد رأساً على عقب..
وبقوة.
يُتبَع،،،،
صدر من هذه القصة حتى الآن :