كاتب الموضوع :
عهد Amsdsei
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
السلام عليكم
الفصل الأخيـــــــــــــــــــر
الثورة.. (الأخيرة)
تلفّت الدكتور عبد الله حوله، غير مصدق لما تراه عيناه، في ذلك الميدان الشهير في قلب العاصمة..
الشعب كله خرج بالفعل، ينادي برحيل النظام..
شباب من مختلف الفئات والأعمار..
شيوخ.. ونساء.. وحتى أطفال..
مثقفون.. وحرفيون.. وموظّفون.. وعمال..
الكل اتّفق على هتاف واحد، ينادي بالرحيل..
حتى هو، لم يصدّق يوماً أنه يمكن أن يخرج في مشهد كهذا، وهو الذي تحاشى السياسة طيلة عمره، وها هو ذا الآن وسط تظاهرة كبرى، ضمّت كل الشعب تقريباً..
حتى زوجته نوال خرجت، والحاج فؤاد وزوجته، وأبناء جيرانه، وزملاء الجامعة، ورجال الأزهر...
صحيح أن الرئيس قد أعلن عدم ترشيح نفسه للرئاسة في الانتخابات القادمة، ولكن هذا لم يُثلج قلب الشعب كما تصوّر، وإنما زاده غضباً واشتعالاً ومطالبة بالرحيل..
من بعيد لمح مجموعة خالد، وهي تهتف وسط المتظاهرين، فتهللت أساريره، وحاول أن يشقّ طريقه إليهم، و...
وفجأة، حدث أمر يفوق كل خيال..
جمال وخيول وحمير اخترقت الميدان براكبيها، واندفعت وسط المتظاهرين، وكأننا في مشهد من القرن التاسع عشر، أو في مشهد من فيلم رديء من أفلام الدرجة الثالثة وما تحتها..
وبلا رحمة، وفي اندفاع أعمى، راح من يقودون تلك الحيوانات يصطدمون بالمتظاهرين، ويدوسونهم تحت حوافر وخفاف، وساد هرج ومرج بلا حدود..
ومن أسطح البنايات، سقطت زجاجات مشتعلة، وانطلقت رصاصات حية..
وسقط شهداء..
شباب في عمر الزهور سقطوا..
دماء طاهرة أريقت في الميدان..
ثورة عارمة حلّت في المكان..
"لا تتراجعوا"
هتف خالد بالعبارة وهو يحمي علياء بجسده، ويشير إلى رفاقه، وصرخ فتحي يؤيده في حماس:
- نحن أكثر عدداً.. لا تسمحوا لهم بتفريقكم.
كانت صرخاته تضيع وسط صرخات الآخرين، ولكن سامي اندفع نحو أحد الخيول، وانضم إليه علاء، في حين خلع أحمد حزامه، وألقاه ممسكاً بطرفه، ليلتف حول قائم أحد الجمال، وساعده تامر في جذب الطرف الثاني للحزام..
واختل توازن الجمل، وسقط مع راكبه وسط المتظاهرين..
وبدأ قتال من نوع عجيب..
شباب المتظاهرين انقضّ على ركاب الخيول والجمال والحمير، وامتلأ قلبه ببسالة تشفّ عن معدنه، وبدأت الصورة تنقلب رأساً على عقب، واستعاد المتظاهرون السيطرة على الموقف..
وكانت مفاجأة للمعتدين..
لم يتصوّروا أبداً أن يكون شباب مصر بهذه البسالة..
لم يتصوّروا..
ولم يتوقعوا..
ومن أعلى أسطح البنايات، المطلة على ميدان التحرير، بدأ مجموعة من قناصة الأمن عملهم القذر، وانطلقت من بنادقهم رصاصات حية..
رصاصات أصابت الكثير من الأهداف..
الحية أيضا..
وتساقط الشهداء..
تساقطوا، وامتزجت دماء بعضهم ببعض، وتحوّل الميدان إلى ساحة حرب غير عادلة، فيها طرف يقتل بلا رحمة، وآخر يفتح صدره للنيران، ويواصل هتافه المطالب برحيل النظام، مضافاً إليه هتاف آخر، بمحاسبة من يفعل هذا..
وفي ديوان رئاسة الجمهورية، بدا الرئيس عصبياً، وهو يتساءل:
- ماذا يحدث في مصر بالضبط؟!
ناوله رئيس الديوان المذكرة الرسمية، المرسلة من وزارة الداخلية، والتي تؤكّد -رسمياً- أن الأمر كله يقتصر على ألف وخمسمائة متظاهر في مدينة السويس، وضِعفهم في ميدان التحرير، ونسبتهم جميعاً إلى جماعة الإخوان المسلمين، وأكّدت القدرة على السيطرة عليهم، في غضون ساعات..
قرأ الرئيس التقرير في سرعة، ثم رفع عينيه إلى رئيس الديوان، يسأله:
- أهذا صحيح؟!
كانت مشكلة الرئيس الأساسية، هي أنه قد عزل نفسه عن شعبه تماماً، منذ أمد بعيد، بعد أن أقام الأمن حوله أسواراً عالية، بحجة حمايته من شعبه، وارتضى هو بتلك الأسوار، مولياً ثقته لأمن لا يوليه ثقته، ولا يفترض أنه هناك في شعبه من يضمر له خيراً..
ولقد أقام هو بدوره مزيداً من الأسوار حول نفسه، عندما عزف عن مطالعة الصحف، أو مشاهدة البرامج التليفزيونية العالمية، مكتفياً بالتقارير المختصرة، التي يقدّمها له رئيس الديوان، والذي حرص على إيصال صورة زائفة له طوال الوقت، كجزء من ضمان لعبة السيطرة عليه..
وحتى عندما كان الرئيس يلتقي بالصحافة والإعلام، كان رئيس الديوان ومعاونوه يطالبون رجال الإعلام بعدم ترديد ما يزعج الرئيس..
لقد كان معزولاً ومغيّباً بالفعل..
وبكامل إرادته..
وداخل قصر الرئاسة، وعلى الرغم من إدراك الجميع لما يحدث، لم يحاول شخص واحد، أو يجرؤ، على إخباره بالحقيقة..
بل على العكس تماماً، كانوا يخبرونه طوال الوقت بأن الأمور محدودة، وأنها مجرّد عاصفة مؤقتة، سرعان ما تمضي في سلام..
ولقد اكتفى الرئيس برد رئيس الديوان، وغمغم في تهالك، يتناسب مع سنوات عمره، التي اقتربت من الثمانين:
- ماذا يريدون إذن؟!
تبادل الموجودون نظرة صامتة، دون أن يجيب أحدهم بحرف واحد، فواصل وصوته يزداد تهالكاً:
- لقد أخبرتهم أنني لن أتقدّم للترشيح في الانتخابات القادمة، وقبلت استقالة ابني من الحزب، وهذا يعني إنهاء فكرة التوريث، التي كانت تغضبهم، فماذا يريدون؟!
تجرأ أحدهم، وغمغم:
- يريدون إسقاط النظام كله.
تساءل الرئيس، وقد انكشف قناع الثبات الزائف عنه، وبدا على حقيقته، كشيخ عجوز:
- ولماذا يريدون إسقاط النظام؟! لقد وعدتهم بإصلاح كل الأمور، في الشهور المتبقية.. سأقوم بتعديل الدستور، وحذف المواد التي يرفضونها، وسأطلق الحريات، و.....
غمغم ذلك الشخص، دون أن ينتبه إلى ما في هذا من مجافاة للرسميات:
- يبدو أن القرار قد جاء متأخراً للغاية يا سيادة الرئيس.
التفت إليه الرئيس بنظرة غاضبة، فأمسك رئيس الديوان بيد الرجل، وقال في صرامة:
- انصرف فوراً.
لم يكتفِ بالقول، وإنما جذبه من يده إلى الخارج، وهو يهمس في صرامة:
- ما كان ينبغي أن تقول هذا في مثل هذه الظروف.
أجابه الرجل في عصبية:
- بل هذا ما كان ينبغي أن تقوله أنت في مثل هذه الظروف.. البلد في حالة ثورة، ولا توجد سوى طريقة واحدة لتهدئتها.
سأله رئيس الديوان في غضب:
- وما هي؟!
توقّف الرجل فجأة، والتفت إليه، مجيباً في حزم:
- تنحّي الرئيس.
ولم يعترض رئيس الديوان..
بل لم ينبس بحرف واحد..
"لقد هزمناهم"..
هتف بها خالد في حماس، بعد إتمام السيطرة على ركاب الخيول والجمال، وهتفت معه علياء، في حماس أكثر:
- لن نتراجع حتى يرحل الرئيس.
بدأ الفريق كله يردّد الهتافات بسقوط الرئيس، واحتضنت علياء كفّ خالد، وكأنها تجد فيه الدفء والأمان، وهي تهتف بكل الحماس، هتاف شاركها فيه الشعب كله..
ومن سطح بناية عالية لمح أحد القناصة من خلال عدسة منظار بندقيته الغادرة، أيديهما المتشابكة، فصوّب بندقيته إلى رأس خالد، مدفوعاً برغبة وحشية في هدم تلك العاطفة الشريفة..
وبلا تردّد.. ضغط الزناد..
وانطلقت رصاصته..
وفي نفس اللحظة كان الدكتور عبد الله قد اقترب من المجموعة، ولمح ذلك الوميض أعلى البناية، فصرخ وهو يندفع نحوهم:
- احترسوا.
حمى خالد بجسده، دون أن يدري حتى أنه الهدف المنشود..
ولكن الرصاصة واصلت طريقها.. وأصابت هدفاً..
أصابت جسد الدكتور عبد الله.. مباشرة..
واتسعت عينا الأستاذ الجامعي، وهو يسقط بين أيدي تلامذته، فهتف خالد، وهو يلتقطه بذراعيه مذعوراً:
- دكتور عبد الله!!
رفع الرجل عينيه إليه، متسائلاً في وهن:
- أأنتم بخير؟!
هتف سامي:
- أنت مصاب يا دكتور.
أشار الدكتور عبد الله بيده في ضعف، قائلاً بابتسامة تُحتضر:
- المهم أنكم بخير.. أنتم المستقبل.
كانت آخر عبارة خرجت من بين شفتيه، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين أيديهم..
وفي ذهول ملتاع حدّق أفراد المجموعة كلهم في جسده الطاهر، وفي دماء الشهادة، التي سالت منه؛ لتروي أرض ميدان التحرير، ثم تبادلوا نظرة قوية، حلّ الإصرار فيها محلّ الذهول والألم، قبل أن ترتفع رؤوسهم عالية..
كانت الرصاصات الغادرة ما زالت تنطلق، والدماء ما زالت تراق من أجل الحرية، ولكنهم، وبلا كلمة واحدة، اتخذوا قراراً واحداً حاسماً..
لقد فتحوا صدورهم للنيران، وأطلقوا صرخة رجل واحد..
وانقضّوا..
واشتعلت الثورة كاملة..
حتى النصر.
تمت بحمد الله
|