كاتب الموضوع :
عهد Amsdsei
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
السلام عليكم
الثورة.. أحمد
في تكاسل -كالمعتاد- فَتَح (أحمد) عينيه في الصباح، وتثاءب في بطء، قبل أن يفرك عينيه، ويمدّ يده ليلتقط نسخة الدستور، التي أهداه إياها (سامي).
وعلى الرغم من تكاسله الصباحي هذا، لم يكن يمكنك أن تصف (أحمد)؛ إلا بأنه شاب شديد الحيوية، جمّ النشاط، لا يمكنك أن تُحصي كمّ هواياته أو اهتماماته؛ خاصة أنه كتوم بطبعه، يصعب أن تقرأ من ملامحه ما يدور بخلَده.
كان الوحيد بين رفاقه، الذي قلما تحدَّث عن حياته المنزلية؛ فهو يرى أن أموره الشخصية حِكْر له وحده، لا يجوز للآخرين مجَّرد الاطلاع عليها.
لم يكن متفوقاً في حياته الدراسية؛ ربما لأن الأسلوب الذي تُدرّس به مواده الدراسية، لم يكن يرقى إلى مستوى طموحاته الأدبية أو العلمية.
ولكنه -وبكل المقاييس- شاب ملتزم، يمكنك الاعتماد عليه، وكتمان أسرارك في خزانة صمته.
ولقد راقت له هدية (سامي) للغاية؛ وخاصة بعد كل ما حدث، وما يتابعه عبر شبكة الإنترنت، عن أخبار التحقيقات في قضية الشرطة في (الإسكندرية)، والتظاهرات هناك؛ للمطالبة بمعاقبة قاتليه أشد العقاب، وما أعقب هذا من تصريحات الداخلية، التي حاولت أن تنسب إليه شتى التهم، وكأن هذا يبيح لهم قتله، بهذه الوسيلة الوحشية، اللا آدمية، والمسعورة.
لم يفهم أبداً ما الذي يحاول الأمن الوصول إليه بالضبط، بحمايته الهستيرية هذه، لرجال تجردّوا من إنسانيتهم، وتمادوا في جبروتهم، إلى حد قتل شاب أعزل، أمام عشرات الشهود، دون ذرة من الرحمة أو الشفقة.
أي دور يلعبه الأمن بالضبط؟ خدمة الشعب وحمايته، أم عبودية النظام، وبلوغ أحطّ الأساليب، في سبيل هذا؟!
مطالعته للدستور تؤكّد أن الشرطة في خدمة الشعب، وليس النظام الحاكم..
وهذا أمر، ينبغي أن يكون طبيعياً ومنطقياً؛ فالنظام زائل، والشعب باقٍ..
هو يدرك هذا..
ورفاقه يدركون هذا..
والدنيا كلها تدرك هذا..
ولكن العجيب أنه، لا النظام ولا أمنه يُدركون هذا..
كلاهما راهَن على أمر يخالف كل منطق وعقل..
كلاهما راهن على أن دوام الحال ليس من المحال..
ويا له من رهان خاسر!
بلغ هذه النقطة؛ فنفض عنه التكاسل دفعة واحدة، ونهض من الفراش، وهو يحمل نسخة الدستور التي لم تفارقه، وهو يمارس طقوسه الصباحية المعتادة، وحتى خرج إلى الشرفة ليكمل مطالعتها في الهواء النقي، كما يعشق..
وهناك، لمح ذلك الرجل..
كان يجلس على مقعد صغير إلى جوار ذلك الكشك، المواجه لمنزله، على الجانب الآخر من الشارع، ويتطلّع إليه مباشرة، في اهتمام واضح..
لم تكن المرة الأولى، التي يلمحه فيها، في الموضع نفسه، وبالنظرة نفسها؛ فمنذ عدة أيام، يتّخذ نفس المجلس، من الصباح إلى قرب غروب الشمس، دون أن يرفع عينيه عن الشرفة لحظة واحدة.. لمحه (أحمد)، وإن تظاهر بعكس هذا، وراح يقرأ الدستور بضع لحظات، ويراجع بعض مواده، الخاصة بالحريات، ثم لم يلبث أن عاد إلى الداخل، وأغلق الشرفة..
أو أنه -في الواقع- تظاهر بهذا..
فمن خلال فرجة ضيقة، راح يراقب ذلك الرجل؛ ليتأكّد من أنه على حق؛ فالرجل بالفعل لم يرفع عينيه عن الشرفة أبداً..
وعلى الرغم منه، شعر (أحمد) بمزيج من الخوف والقلق، يتسلّل إلى أعماقه..
ذلك الرجل تنقصه لافتة مضيئة، تشفّ عن هويته الواضحة؛ فهو نسخة طِبْق الأصل من المخبرين، كما تصوّرهم أفلام السينما..
ضخم، أسمر، غليظ الملامح، له شارب ضخم، يبدو من ضخامته أنه يحاول أن يخفي به ضعفاً آخر، ينغّص لياليه..
ولقد أثار هذا خوف وقلق (أحمد) أكثر..
فلماذا يراقبه مخبر من الشرطة؟
لأي سبب..
راح يراجع تصرفاته، خلال الشهر الماضي كله؛ فلم يجد فيها ما يمكن أن يكون سبباً لهذا..
أي سبب!!
واصل مراقبة الرجل لنصف ساعة كاملة، قبل أن يعود إلى حجرته، ويلتقط هاتفه المحمول؛ ليقول عبره هامساً، وكأنه يخشى أن يسمعه الرجل:
- (خالد).. هناك أمر مقلق.
سأله (خالد) في اهتمام:
- أي أمر؟!
أجابه بنفس الهمس المتوتر:
- هناك مخبر يراقب منزلنا، منذ ما يزيد عن الأسبوع.
لم يتلقّ جواباً لبضع لحظات؛ حتى إنه هتف في صوت عصبي خفيض:
- (خالد).
أجابه (خالد) في رصانة، حملت رنة قلق:
- أنا هنا يا (أحمد)، ولكنني أتساءل: لماذا يراقب هذا المخبر منزلكم؟!
قال ( أحمد ) في توتر:
- ولماذا أسألك، لو أنني أعلم؟!
صمت (خالد) لحظات أخرى، ثم قال في حزم:
- ليس هذا من حقه، ما دمتَ لم ترتكب شيئاً.
انقلب توتر (أحمد) إلى لهجة عصبية، وهو يقول:
- لسنا هنا في حوار حول الحقوق والواجبات.. إنه هنا، وأريد أن أعرف ما الذي ينبغي أن أفعله في هذا الشأن..
أجابه (خالد) على الفور:
- واجهه.
ارتدّ (أحمد) في دهشة، وهو يقول مستنكراً:
- أواجهه؟!
أجابه (خالد) في حماس:
- نعم.. واجهه، وسلْه لماذا يراقب منزلكم.. لا تخشَه؛ لأن هؤلاء يكتسبون قوتهم من ضعفنا، وجبروتهم من خوفنا.. إنهم أشبه بخفافيش الكهوف، يعملون فقط في الظلام؛ فلو أضأت الضوء، فروا واختفوا.
هزَّ (أحمد) رأسه في عصبية، وهو يقول:
- لست مستعداً لسماع محاضرتك الفلسفية هذه الآن.. أخبرني بأسلوب منطقي؛ للتعامل مع الموقف.
سأله (خالد) في حدة:
- ولماذا تسألني أنا، ما دمت ترفض فلسفتي؟!
هتف (أحمد) في تلقائية عصبية:
- لأنك زعيمنا.
بدَت دهشة (خالد) واضحة في صوته، وهو يقول:
- أنا؟!
هتف به (أحمد)، وهو يحاول خفض صوته بقدر المستطاع، على الرغم من انفعاله:
- ألست من بدأ كل هذا؟ ألست من أثار لدينا فكرة الدستور والحقوق؟ ألست من طلب منا دراسته وفهمه؟
لم يسمع (صفوت) باقي العبارة، وهو يراجع تسجيل المحادثة، وبرقت عيناه، على نحو أشبه بعيني الصياد، عندما تقع طريدته في الفخ، وغمغم في ظفر:
- آه.. هو الزعيم إذن!
أضاف المعلومة -التي بدت له شديدة الخطورة- إلى ذلك التقرير، الذي أعدّه لتقديمه إلى رئيسه، وحمل الملف في ثقة وزهو، واتجه إلى مكتب هذا الأخير، وطرق الباب طرقة واحدة، ثم دخل مباشرة..
كان رئيسه منهمكاً في حديث تليفوني هام؛ فأشار إليه بالجلوس، وهو يقول عبر الهاتف:
- لا تقلق أبداً يا سيادة النائب.. مظاهرات (الإسكندرية) و(القاهرة) محدودة، وجاري السيطرة عليها.. لا.. لا تشغل جنابك بهذا..
البلد في قبضتنا تماماً، وسيادة الوزير لديه خطة مضمونة، للقبض عليها بقبضة من حديد.. اطمئن.
أنهى المحادثة، وأطلق زفرة متوترة، ومسح عرقاً وهمياً عن جبهته، وهو يقول:
- هذا الولد، الذي قتلوه في (الإسكندرية)، أصبح صداعاً كبيراً في رءوسنا جميعاً.. الناس تتعامل كما لو أننا قتلنا (عنترة بن شداد)..
غمغم (صفوت):
- هوجة عيال يا باشا، سنرصد أسماء القائمين عليها، ونعمل على اعتقالهم جميعاً.
لوّح رئيسه بكفه، قائلاً:
- الأمر ليس بهذه البساطة يا (صفوت).. هناك ناشطون عديدون، انضموا إلى تلك المظاهرات، وأسماء لامعة، يصعب المساس بها.
عقد (صفوت) حاجبيه، وهو يقول في صرامة:
- لا يوجد من لا يمكن المساس به.
أومأ رئيسه رأسه، وهزَّ كتفيه، ولوّح بيده في وقت واحد، على نحو لا يحمل أي معنى بعينه، وجلس خلف مكتبه، وهو يقول، ولم يفارقه توتره بعد:
- ماذا لديك؟!
وضع (صفوت) الملف على مكتبه، وربَت عليه في اتّعاظ، وهو يقول:
- اكتملت الصورة يا باشا.
أمسك رئيسه الملف، وهو يسأله:
- هل توصّلت إلى جديد؟!
أجابه (صفوت) في زهو:
- رصدنا كل تحركات تنظيم (الدستور) الجديد يا باشا، واليوم عرفنا من هو زعيم.
وأشار إلى اسم (خالد) على الملف، مضيفاً:
- هذا.
ألقى رئيسه نظرة مطوّلة على الأسماء، ثم رفع عينيه إليه، والتقط نفساً عميقاً، لم ينجح في إخفاء أو تخفيف توتره، وهو يقول في حزم:
- نفّذ يا (صفوت)..
وعادت عينا (صفوت) تلتمعان..
لقد بدأ التنفيذ..
أخيراً.
يتبع
|